الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦
الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم. الى غير ذلك من المحامل الصحيحة ، إلى آخر كلامه (طاب ثراه).
ولقد أجاد فيما أفاد ولكنه ناقض نفسه فيما أورده من العذر للمتأخرين في عدولهم الى تجديد هذا الاصطلاح ، لأن قوله ـ : كانوا يتحرزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم. وقوله : فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح ـ يستلزم أن تكون أحاديث كتب هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين شهدوا بصحة ما رووه فيها كلها صحيحة.
(الرابع) ـ انه لو تم ما ذكروه وصح ما قرروه للزم فساد الشريعة وإبطال الدين ، لأنه متى اقتصر في العمل على هذا القسم الصحيح أو مع الحسن خاصة أو بإضافة الموثق ايضا ورمي بقسم الضعيف باصطلاحهم من البين والحال ان جل الاخبار من هذا القسم كما لا يخفى على من طالع كتاب الكافي أصولا وفروعا وكذا غيره من سائر كتب الاخبار وسائر الكتب الخالية من الأسانيد. لزم ما ذكرنا وتوجه ما طعن به علينا العامة من ان جل أحاديث شريعتنا مكذوبة مزورة ، ولذا ترى شيخنا الشهيد في الذكرى كيف تخلص من ذلك بما قدمنا نقله عنه دفعا لما طعنوا به علينا ونسبوه إلينا. ولله در المحقق (ره) في المعتبر حيث قال : أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر وما فطنوا الى ما تحته من التناقض. فان من جملة الأخبار قول النبي (صلىاللهعليهوآله) : «ستكثر بعدي القالة». الى أن قبل : واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال : كل سليم السند يعمل به. وما علم ان الكاذب قد يصدق والفاسق قد يصدق ولم يتنبه ان ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب. إذ لا مصنف إلا وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل ، الى أن قال : وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن. والتوسط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن
على صحته عمل به وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه. انتهى. وهو قوي متين بل جوهر ثمين.
(الخامس) ـ ان ما اعتمدوه من ذلك الاصطلاح غير منضبط القواعد والبنيان ولا مشيد الجوانب والأركان (أما أولا) فلاعتمادهم في التمييز بين أسماء الرواة المشتركة على الأوصاف والألقاب والنسب والراوي والمروي عنه ونحوها ، ولم لا يجوز اشتراك هذه الأشياء؟ وذلك ، لان الرواة عنهم (عليهمالسلام) ليسوا محصورين في عدد مخصوص ولا في بلدة واحدة ، وقد نقل الشيخ المفيد (ره) في إرشاده : ان الذين رووا عن الصادق (ع) خاصة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات كانوا أربعة آلاف رجل. ونحو ذلك ذكر ابن شهرآشوب في كتاب معالم العلماء. والطبرسي في كتاب اعلام الورى ، والجميع قد وصفوا هؤلاء الأربعة آلاف بالتوثيق وهو مؤيد لما ادعيناه ومشيد لما أسسناه ، فإذا كان هؤلاء الرواة عن الصادق (عليهالسلام) خاصة فما بالك بالرواة عن الباقر إلى العسكري (عليهمالسلام)؟ فأين تأثير القرائن في هذه الاعداد؟ واين الوصول الى تشخيص المطلوب منها والمراد؟ (واما ثانيا) فلان مبنى تصحيح الحديث عندهم على نقل توثيق رجاله في أحد كتب المتقدمين. ككتاب الكشي. والنجاشي. والفهرست ، والخلاصة. ونحوها ، نظرا الى ان نقلهم ذلك شهادة منهم بالتوثيق ، حتى ان المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى لم يكتف في تعديل الراوي بنقل واحد من هؤلاء بل أوجب في تصحيح الحديث نقل اثنين منهم لعدالة الراوي ، نظرا إلى انها شهادة فلا يكفي فيها الواحد.
وأنت خبير بما بين مصنفي تلك الكتب وبين رواة الاخبار من المدة والأزمنة المتطاولة فكيف اطلعوا على أحوالهم الموجب للشهادة بالعدالة أو الفسق؟ والاطلاع على ذلك ـ بنقل ناقل أو شهرة أو قرينة حال أو نحو ذلك كما هو معتمد مصنفي تلك الكتب في الواقع ـ لا يسمى شهادة. وهم قد اعتمدوا على ذلك وسموه شهادة ، وهب
ان ذلك كاف في الشهادة ، لكن لا بد في العمل بالشهادة من السماع من الشاهد لا بمجرد نقله في كتابه ، فإنه لا يكفي في كونه شهادة ، هب انا سلمنا الاكتفاء به في ذلك. فما الفرق بين هذا النقل في هذه الكتب وبين نقل أولئك ـ الأجلاء الذين هم أساطين المذهب ـ صحة كتبهم وانها مأخوذة عن الصادقين (عليهمالسلام)؟ فيعتمد عليهم في أحدهما دون الآخر (واما ثالثا) فلمخالفتهم أنفسهم فيما قرروه من ذلك الاصطلاح فحكموا بصحة أحاديث هي باصطلاحهم ضعيفة كمراسيل ابن ابي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وغيرهما. زعما منهم ان هؤلاء لا يرسلون إلا عن ثقة. ومثل أحاديث جملة من مشايخ الإجازة لم يذكروا في كتب الرجال بمدح ولا قدح. مثل احمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ، واحمد بن محمد بن يحيى العطار ، والحسين بن الحسن بن ابان ، وابي الحسين ابن ابي جيد. وأضرابهم. زعما منهم ان هؤلاء مشايخ الإجازة وهم مستغنون عن التوثيق. وأمثال ذلك كثير يظهر للمتتبع (واما رابعا) فلاضطراب كلامهم في الجرح والتعديل على وجه لا يقبل الجمع والتأويل ، فترى الواحد منهم يخالف نفسه فضلا عن غيره ، فهذا يقدم الجرح على التعديل ، وهذا يقول لا يقدم إلا مع عدم إمكان الجمع ، وهذا يقدم النجاشي على الشيخ ، وهذا ينازعه ويطالبه بالدليل. وبالجملة : فالخائض في الفن يجزم بصحة ما ادعيناه ، والبناء من أصله لما كان على غير أساس كثر الانتقاض فيه والالتباس.
(السادس) ـ ان أصحاب هذا الاصطلاح قد اتفقوا على ان مورد التقسيم إلى الأنواع الأربعة إنما هو خبر الواحد العاري عن القرائن. وقد عرفت ـ من كلام أولئك الفضلاء المتقدم نقل كلامهم ، وبذلك صرح غيرهم ايضا ـ ان اخبار كتبنا المشهورة محفوفة بالقرائن الدالة على صحتها. وحينئذ يظهر عدم وجود مورد التقسيم المذكور في اخبار هذه الكتب. وقد ذكر صاحب المنتقى : ان أكثر أنواع الحديث المذكورة في دراية الحديث بين المتأخرين من مستخرجات العامة بعد وقوع معانيها
في أحاديثهم وانه لا وجود لأكثرها في أحاديثنا. وأنت إذا تأملت بعين الحق واليقين وجدت التقسيم المذكور من هذا القبيل. الى غير ذلك من الوجوه (١) التي انهيناها في كتاب المسائل إلى اثني عشر وجها ، وطالب الحق المصنف تكفيه الإشارة والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة.
__________________
(١) ومنها ـ ان التعديل والجرح موقوف على معرفة ما يوجب الجرح ومنه الكبائر. وقد اختلفوا فيها اختلافا شديدا ، فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدل وجرحه إلا مع العلم بموافقة مذهبه لمذهب من يريد العمل ، وهذا العلم مما لا يمكن أصلا ، إذ المعدلون والجارحون من علماء الرجال ليس مذهبهم في عدد الكبائر معلوما ، قال شيخنا البهائي (قدسسره) على ما نقل عنه من المشكلات ، انا لا نعلم مذهب الشيخ الطوسي في العدالة وانه يخالف مذهب العلامة ، وكذا لا لعلم مذهب بقية أصحاب الرجال كالكشي والنجاشي ، وغيرهم ، ثم نقبل تعويل العلامة في التعديل على تعديل أولئك. وايضا كثير من الرجال ينقل عنه انه كان على خلاف المذهب ثم رجع وحسن إيمانه ، والقوم يجعلون روايته في الصحيح مع انهم غير عالمين بأن أداء الرواية متى وقع؟ بعد التوبة أم قبلها؟. وهذان المشكلان لا اعلم ان أحدا قبل تنبه لشيء منهما. انتهى.
(ومنها) ـ ان العدالة بمعنى الملكة المخصوصة عند المتأخرين مما لا يجوز إثباتها بالشهادة ، لأن الشهادة وخبر الواحد ليس حجة إلا في المحسوسات لا فيما خفي كالعصمة فلا تقبل فيها الشهادة ، فلا اعتماد على تعديل المعدلين بناء على اعتقاد المتأخرين. وهذا مما أورده المحدث الأمين (قدسسره)
(ومنها) ـ انه قد تقرر في محله ان شهادة فرع الفرع غير مسموعة ، إذ لا يقبل إلا من شاهد الأصل أو شاهد الفرع خاصة ، على ان شهادة علماء الرجال على أكثر المعدلين والمجروحين انما هو من شهادة فرع الفرع ، فان الشيخ والنجاشي ونحوهما لم يلقوا أصحاب الباقر والصادق (ع) فلا تكون شهادتهم إلا من قبيل شهادة فرع الفرع بمراتب كثيرة فكيف يجوز التعويل شرعا على شهادتهم ثم بالجرح والتعديل. وهذا ايضا مما أورده المحدث الأمين (قدسسره) الى غير ذلك من الوجوه التي لا يسع الإتيان عليها. إلا ان المحقق المنصف تكفيه الإشارة والمعاند المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة (منه ره).
(تتمة مهمة)
قد اشتهر بين أكثر متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) قصر العمل بالاخبار على ما في هذه الكتب الأربعة المشهورة ، زعما منهم ان غيرها لم يبلغ في الضبط والانتقاد على وجه يوجب الاعتماد على مثله. وقد علت ـ مما قدمنا من كلام شيخنا البهائي (رحمهالله) في الوجيزة ، ومثله ايضا شيخنا الشهيد في الذكرى مما طويناه في أثناء كلامه المتقدم ذكره ـ عدم الانحصار في الكتب المشار إليها ، وهو الحق الحقيق بالاتباع ، قال السيد المحدث السيد نعمة الله الجزائري (طيب الله مرقده) في مقدمات شرحه على التهذيب : «والحق ان هذه الأصول الأربعة لم تستوف الأحكام كلها ، بل قد وجدنا كثيرا من الأحكام في غيرها ، مثل عيون أخبار الرضا. والأمالي ، وكتاب الاحتجاج ، ونحوها. فينبغي مراجعة هذه الكتب وأخذ الأحكام منها ولا يقلد العلماء في فتاويهم ، فإن أخذ الفتوى من دليلها هو الاجتهاد الحقيقي ، وكم قد رأينا جماعة من العلماء ردوا على الفاضلين بعض فتاويهم لعدم الدليل فرأينا دلائل تلك الفتاوى في غير الأصول الأربعة ، خصوصا كتاب الفقه الرضوي الذي اتي به من بلاد الهند في هذه الأعصار إلى أصفهان وهو الآن في خزانة شيخنا المجلسي ، فإنه قد اشتمل على مدارك كثيرة للاحكام وقد خلت عنها هذه الأصول الأربعة وغيرها» انتهى كلامه زيد مقامه. ولقد أجاد فيما حرر وفصل وأشاد وطبق المفصل وعليه المعتمد والمعول. ولقد وفق الله تعالى شيخنا غواص بحار الأنوار الى استخراج كنوز تلك الآثار فجمعها في جامعه المشهور ب (البحار) بعد التقاطها من جميع الأقطار ، جزاه الله تعالى عن علماء الفرقة المحقة أفضل جزاء الأبرار. وقد جمع فيه أخبارا جمة من الأصول المندرسة وأظهر كنوزا من الأحكام كانت بمرور الأيام منطمسة. ومن جملتها كتاب الفقه الرضوي الذي ذكره السيد المتقدم ذكره. قال شيخنا المشار إليه في مقدمات كتاب البحار
في ضمن تعداد الكتب التي نقل منها ما لفظه : «كتاب فقه الرضا (عليهالسلام) أخبرني به السيد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين (طاب ثراه) بعد ما ورد أصفهان. قال : قد اتفق في بعض سني مجاورتي ببيت الله الحرام ان أتاني جماعة من أهل قم حاجين. وكان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا (عليهالسلام). وسمعت الوالد (رحمهالله) انه قال : سمعت السيد يقول : كان عليه خطه (صلوات الله عليه) وكان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء. وقال السيد : حصل لي العلم بتلك القرائن أنه تأليف الإمام (عليهالسلام) وأخذت الكتاب وكتبته وصححته. فأخذ والدي (قدس الله روحه) هذا الكتاب من السيد واستنسخه وصححه. وأكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر بن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند وما يذكره والده في رسالته اليه ، وكثير من الأحكام ـ التي ذكرها أصحابنا ولا يعلم مستندها ـ مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب العبادات» انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه.
أقول : وما ذكره (قدسسره) ـ من مطابقة كلام الصدوق في الفقيه ووالده في رسالته لما في الكتاب المذكور ـ قد وقفت عليه في غير موضع وسيمر بك ان شاء الله تعالى في كتابنا هذا ، وقد اعتمدنا في الاستدلال في كتابنا هذا على ما اعتمده شيخنا المذكور من الكتب المعدودة في كتابه ، وستمر بك اخبارها في أثناء الأبحاث ان شاء الله تعالى.
المقدمة الثالثة
في مدارك الأحكام الشرعية ، وهي عند الأصوليين أربعة : (الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل) وحيث تقدم مجمل الكلام في السنة يبقى الكلام هنا في مقامات ثلاثة :
(المقام الأول) ـ في الكتاب العزيز ، ولا خلاف بين أصحابنا الأصوليين في العمل به في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه حتى صنف جملة منهم كتبا في الآيات المتعلقة بالأحكام الفقهية وهي خمسمائة آية عندهم ، واما الأخباريون فالذي وقفنا عليه من كلام متأخريهم ما بين إفراط وتفريط. فمنهم من منع فهم شيء منه مطلقا حتى مثل قوله «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» (١) إلا بتفسير من أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم) ومنهم من جوز ذلك حتى كاد يدعي المشاركة لأهل العصمة (عليهمالسلام) في تأويل مشكلاته وحل مبهماته.
والتحقيق في المقام ان الأخبار متعارضة من الجانبين ومتصادمة من الطرفين ، إلا ان اخبار المنع (٢) أكثر عددا وأصرح دلالة.
ففي جملة منها ـ قد ورد في تفسير قوله تعالى «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا الآية» (٣) ـ دلالة على اختصاص ميراث الكتاب بهم (عليهمالسلام) وجملة في تفسير قوله تعالى : «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...» (٤) بأن
__________________
(١) قال المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قده) في بعض رسائله : انى كنت حاضرا في المسجد الجامع في شيراز ، وكان الأستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني والشيخ المحدث صاحب جوامع الكلم يتناظران في هذه المسألة ، فانجر الكلام ههنا حتى قال له الفاضل المجتهد : ما تقول في معنى «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» فهل يحتاج في فهم معناها الى الحديث؟ فقال : نعم لا نعرف معنى الاحدية ولا الفرق بين الأحد والواحد ونحو ذلك الا بذلك. انتهى.
(أقول) : ونقل عن بعض المتحذلقين ـ ممن يدعى الانتظام في سلك الأخباريين ـ انه يمنع من اللباس على غير الهيئة التي كان عليها لباس الأئمة (عليهمالسلام) وهو جهل محض (منه قدسسره).
(٢) قد عقد لها في الوسائل (الباب الثالث عشر) من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء ، وعنوانه (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة).
(٣) سورة فاطر. آية ٣٢.
(٤) سورة العنكبوت. آية ٤٩.
المراد بهم الأئمة (صلوات الله عليهم) ، وجملة في تفسير «قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» (١) قال : إيانا عنى. ومثل ذلك في تفسير قوله سبحانه : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ...» (٢). وكذا في تفسير قوله تعالى : «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ...» (٣).
وفي جملة من تلك الاخبار : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن».
وفي مناظرة الشامي لهشام بن الحكم بمحضر الصادق (عليهالسلام) المروية في الكافي (٤) وغيره : «قال هشام : فبعد رسول صلىاللهعليهوآله من الحجة؟ قال الشامي : الكتاب والسنة. فقال هشام : فهل نفعنا الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي : نعم. قال هشام : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ فسكت الشامي. فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) للشامي ما لك لا تتكلم؟ فقال الشامي : ان قلت لم نختلف كذبت وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت ، لأنهما يحتملان الوجوه ، الى ان قال الشامي : والساعة من الحجة؟ فقال هشام : هذا القاعد الذي تشد اليه الرحال ويخبرنا باخبار السماء.» الحديث. ولا يخفى ما فيه من الصراحة.
وفي بعض آخر (٥) : «قال السائل : أو ما يكفيهم القرآن؟ قال (عليهالسلام) : بلى لو وجدوا له مفسرا. قال : أو ما فسره رسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال :
__________________
(١) سورة الرعد. آية ٤٣.
(٢) سورة الزخرف. آية ٤٤.
(٣) سورة آل عمران. آية ٧.
(٤) في باب (الاضطرار إلى الحجة) من كتاب الحجة.
(٥) وهو خبر الحسن بن العباس بن جريش عن ابى جعفر الثاني (ع) المروي في الوسائل في باب «١٣» (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلخ) من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
بلى فسره لرجل واحد وفسر للأمة شأن ذلك الرجل.» الحديث.
وفي آخر (١) «انما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ولقوم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه. واما غيرهم فما أشد إشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم ، الى ان قال : وإنما أراد الله بتعميته في ذلك ان ينتهوا الى بابه وصراطه ويعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه والناطقين عن امره وان يستنبطوا ما احتاجوا اليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.». الحديث (٢).
ويدل على ذلك الحديث المتواتر بين العامة والخاصة (٣) من قوله (صلىاللهعليهوآله) «اني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». فان الظاهر ان المراد من عدم افتراقهما إنما هو باعتبار الرجوع في معاني الكتاب إليهم (صلوات الله عليهم) وإلا لو تم فهمه كلا أو بعضا بالنسبة إلى الأحكام
__________________
(١) وهو خبر المعلى بن خنيس عن ابي عبد الله (عليهالسلام) المروي في الوسائل في باب «١٣» (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلخ) من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
(٢) ومن الاخبار في ذلك ما رواه العياشي عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وان أخطأ خر أبعد من السماء». وفي الكافي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر». وعن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار». وحمل الرأي ـ على الميل الطبيعي المرتب على الأغراض الفاسدة والمطالب الكاسدة كما ذكره بعضهم ـ بعيد كما أوضحناه في كتاب الدرر النجفية (منه رحمهالله).
(٣) وقال في الوسائل في باب ٥ (تحريم الحكم بغير الكتاب والسنة ووجوب نقض الحكم مع ظهور الخطأ) من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء : وقد تواتر بين العامة والخاصة عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «انى تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما ان تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».
الشرعية والمعارف الآلهية بدونهم لصدق الافتراق ولو في الجملة.
ويؤيد ذلك ايضا قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : «القرآن كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق» (١). فلو فهم معناه بدونه (عليهالسلام) لم يكن لوصفه بكونه صامتا معنى (٢).
ولا يخفى على الفطن المنصف صراحة هذه الأدلة في المدعى ، وظني ان ما يقابلها مع تسليم التكافؤ لا صراحة له في المعارضة.
فمن ذلك ـ الأخبار الواردة بعرض الحكم المختلفة فيه الأخبار على القرآن والأخذ بما يوافقه وطرح ما يخالفه. ووجه الاستدلال انه لو لم يفهم منه شيء إلا بتفسيرهم (عليهمالسلام) انتفى فائدة العرض. والجواب انه لا منافاة ، فإن تفسيرهم (عليهمالسلام) إنما هو حكاية مراد الله تعالى فالأخذ بتفسيرهم أخذ بالكتاب ، واما ما لم يرد فيه تفسير عنهم (صلوات الله عليهم) فيجب التوقف فيه وقوفا على تلك الأخبار وتقييدا لهذه الاخبار بها.
ومن ذلك الآيات ، كقوله سبحانه : «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ...» (٣) وقوله : «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ...» (٤) وقوله : «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
__________________
(١) وقد رواه في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء هكذا : «هذا كتاب الله الصامت وانا كتاب الله الناطق».
(٢) ومن ذلك ايضا ما ورد من ان القرآن مشتمل على الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل والتقديم والتأخير والتغيير والتبديل ، واستفادة الأحكام الشرعية من مثل ذلك لا يتيسر إلا للعالم بجميع ما هنالك وليس إلا هم (عليهمالسلام) خصوصا الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية ، فإنها لا تخرج عن هذه الأقسام المذكورة (منه قدسسره).
(٣) سورة النحل. آية ٨٩.
(٤) سورة الانعام. آية ٣٨.
يَسْتَنْبِطُونَهُ ...» (١) وقوله : «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» (٢).
والجواب ان الآيتين الأوليين لا دلالة فيهما على أكثر من استكمال القرآن لجميع الأحكام وهو غير منكور ، وأما كون فهم الأحكام مشتركا بين كافة الناس كما هو المطلوب بالاستدلال فلا ، كيف؟ وجل آيات الكتاب سيما ما يتعلق بالفروع الشرعية كلها ما بين مجمل ومطلق وعام ومتشابه لا يهتدى منه ـ مع قطع النظر عن السنة ـ إلى سبيل. ولا يركن منه الى دليل. بل قد ورد من استنباطهم (عليهمالسلام) جملة من الأحكام من الآيات ما لا يجسر عليه سواهم ولا يهتدى إليه غيرهم ، وهو مصداق ما تقدم من قولهم : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن». كالأخبار الدالة على حكم الوصية بالجزء من المال ، حيث فسره (عليهمالسلام) بالعشر مستدلا بقوله سبحانه : «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ...» (٣) وكانت الجبال عشرة ، والوصية بالسهم. حيث فسره بالثمن لقوله سبحانه : «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... الآية» (٤) والنذر بمال كثير. حيث فسره (عليهالسلام) بالثمانين لقوله تعالى : «فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...» (٥) وكانت ثمانين موطنا ، وأمثال ذلك مما يطول به الكلام.
واما الآية الثالثة فظاهر سياق ما قبلها وهو قوله : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ...» يدل على كون المستنبطين هم الأئمة (عليهمالسلام) وبذلك توافرت الأخبار عنهم (عليهمالسلام) ، ففي الجوامع عن الباقر (عليهمالسلام) : «هم الأئمة المعصومون». والعياشي عن الرضا (عليهالسلام) : «يعني آل محمد وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام». وفي الإكمال عن الباقر (عليهالسلام) مثل ذلك. وقد تقدم في بعض الاخبار التي قدمناها ما يشعر
__________________
(١) سورة النساء. آية ٨٣.
(٢) سورة محمد (صلىاللهعليهوآله). آية ٢٤.
(٣) سورة البقرة. آية ٢٦٠.
(٤) سورة التوبة. آية ٦٠.
(٥) سورة التوبة. آية ٢٥.
بذلك ايضا. واما الآية الرابعة فانا ـ كما سيتضح لك ـ لا نمنع فهم شيء من القرآن بالكلية ليمتنع وجود مصداق الآية ، فإن دلالة الآيات ـ على الوعد والوعيد والزجر لمن تعدى الحدود الإلهية والتهديد ـ ظاهر لامرية فيه ، وهو المراد من التدبر في الآية كما ينادي عليه سياق الكلام.
والقول الفصل والمذهب الجزل في ذلك ما أفاده شيخ الطائفة (رضوان الله عليه) في كتاب التبيان وتلقاه بالقبول جملة من علمائنا الأعيان ، حيث قال بعد نقل جملة من اخبار الطرفين ما ملخصه : والذي نقول : ان معاني القرآن على أربعة أقسام : (أحدها) ـ ما اختص الله تعالى بالعلم به. فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه (وثانيها) ـ ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه. مثل قوله : «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالْحَقِّ ...» (١) (وثالثها) ـ ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا مثل قوله «أَقِيمُوا الصَّلاةَ ...» (٢) ثم ذكر جملة من الآيات التي من هذا القبيل وقال : انه لا يمكن استخراجها إلا ببيان من النبي (صلىاللهعليهوآله) (ورابعها) ـ ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما ويمكن ان يكون كل واحد منهما مرادا. فإنه لا ينبغي ان يقدم أحد فيقول ان مراد الله بعض ما يحتمله إلا بقول نبي أو إمام معصوم ، الى آخر كلامه «زيد في إكرامه» وعليه تجتمع الاخبار على وجه واضح المنار. ويؤيده ما رواه (٣) في الاحتجاج
__________________
(١) سورة الانعام. آية ١٥١.
(٢) سورة الانعام. آية ٧٢.
(٣) ومنه ما روى ان الحسن (عليهالسلام) تلا قوله سبحانه : «وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» فقال معاوية : اين قصة لحيتي ولحيتك في الكتاب. وقد كان الحسن (عليهالسلام) حسن اللحية وكان معاوية قبيحها ، فقال (عليهالسلام) : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً». وما روى في حديث ابى الجارود قال قال أبو جعفر (عليهالسلام) : «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله» ثم قال في بعض حديثه : «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) نهى عن القيل والقال
عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) (١) في حديث الزنديق الذي جاء اليه بآي من القرآن زاعما تناقضها. حيث قال (عليهالسلام) في أثناء الحديث : «ان الله جل ذكره لسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل. وقسما منه لا يعرفه إلا من صف ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام. وقسما لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم ، وإنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل المستولون على ميراث رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم ، وليقودهم الاضطرار الى الائتمار لمن ولاه أمرهم. الى أن قال : فاما ما علمه الجاهل والعالم من فضل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من كتاب الله. فهو قوله سبحانه : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ...» (٢) وقوله : «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (٣) ولهذه الآية ظاهر وباطن. فالظاهر هو قوله : (صَلُّوا عَلَيْهِ) والباطن (يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) اي سلموا ـ لمن وصاه واستخلفه عليكم ـ فضله وما عهد اليه تسليما. وهذا مما أخبرتك انه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه وصفا ذهنه وصح تمييزه ، وكذلك قوله «سلام على آل يس» (٤) لأن الله سمى النبي (صلى الله
__________________
وفساد المال وكثرة السؤال. فقيل له : يا ابن رسول الله! اين هذا من كتاب الله فقال : ان الله عزوجل يقول : «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ» وقال : «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً» وقال : «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ». (منه قدسسره).
(١) في احتجاجات أمير المؤمنين (عليهالسلام).
(٢) سورة النساء. آية ٨٠.
(٣) سورة الأحزاب. آية ٥٦.
(٤) سورة الصافات. آية ١٣٠.
عليه وآله) بهذا الاسم. حيث قال «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» لعلمه انهم يسقطون «سلام على آل محمد» كما أسقطوا غيره. الحديث».
(أقول) : والقسم الثاني من كلام الشيخ (قدسسره) هو الأول من كلامه (صلوات الله عليه) وهو الذي يعرفه الجاهل والعالم ، وهو ما كان محكم الدلالة. وهذا مما لا ريب في صحة الاستدلال به والمانع مكابر. والقسم الرابع من كلامه (رضوان الله عليه) هو الثاني من كلامه (صلوات الله عليه) وهو الذي لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه ، والظاهر انه أشار بذلك إلى الأئمة (عليهمالسلام) ، فإنهم هم المتصفون بتلك الصفات على الحقيقة ، وان ادعى بعض من أشرنا إليه آنفا دخوله في ذلك ، والآيات ـ التي جعلها (عليهالسلام) من هذا القسم ـ دليل على ذلك. فإنها كما أشار إليه (صلوات الله عليه) من التفسير الباطن الذي لا يمكن التهجم عليه إلا من جهتهم (لا يقال) : انه يلزم اتحاد القسم الثاني من كلامه (صلوات الله عليه) بما بعده. لكون القسم الثالث ايضا من المعلوم لهم (عليهمالسلام) (لأنا نقول) : الظاهر تخصيص القسم الثالث بعلم الشرائع الذي يحتاج الى توقيف ، وانه لا يعلمه إلا هو (جل شأنه) أو أنبياؤه بالوحي إليهم وان علمه الأئمة (عليهمالسلام) بالوراثة من الأنبياء. بخلاف الثاني. فإنه مما يستخرجونه بصفاء جواهر أذهانهم ويستنبطونه بإشراق لوامع إفهامهم ، وحينئذ فالقسم الثالث من كلام الشيخ (قدسسره) هو الثالث من كلامه (صلوات الله عليه) ولعل عدم ذكره (صلوات الله عليه) للقسم الأول من كلام الشيخ لقلة أفراده في القرآن المجيد إذ هو مخصوص بالخمسة المشهورة ، أو أن الغرض التام إنما يتعلق بذكر الأقسام التي أخفاها (جل شأنه) عن تطرق تغيير المبدلين وان ذكر معها القسم الأول استطرادا ، ومرجع هذا الجمع الذي ذكره الشيخ (قدسسره) الى حمل أدلة الجواز على القسم الثاني من كلامه (طاب ثراه) واخبار المنع على ما عداه. واما ما يفهم من كلام المحدث الكاشاني (قدسسره) ـ في المقدمة الخامسة من كتاب الصافي من الجمع بين
الاخبار بالحمل على تفاوت مراتب الناس في الاستعداد والوصول الى تحصيل المقصود منه والمراد ـ فظني بعده عن سياق الأخبار. فإن أخبار المنع ـ كما عرفت من الشطر الذي قدمناه منها ـ قد دلت على الاختصاص بالأئمة (عليهمالسلام). وادعاء مزاحمتهم (صلوات الله عليهم) في تلك المرتبة يحتاج إلى جرأة عظيمة. ومن أراد تحقيق الحال والإحاطة بأطراف المقال فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية.
(المقام الثاني) ـ في الإجماع. ومجمل الكلام فيه ما افاده المحقق (طاب ثراه) في المعتبر واقتفاه فيه جمع ممن تأخر ، قال (قدسسره) : «وأما الإجماع فهو عندنا حجة بانضمام المعصوم. فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة ، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة ، لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله (عليهالسلام). فلا تغتر إذا بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهلة قول الباقين» انتهى. وحينئذ فالحجة هو قوله (عليهالسلام) لا مجرد الاتفاق ، فيرجع الكلام ـ على تقدير ثبوت الإجماع المذكور ـ الى خبر ينسب الى المعصوم (عليهالسلام) إجمالا. وترجيحه على الاخبار المنسوبة إليه تفصيلا غير معقول. وكأنهم زعموا ان انتسابه إليه في ضمن الإجماع قطعي ولا في ضمنه ظني. وهو ممنوع. على ان تحقق هذا الإجماع في زمن الغيبة متعذر. لتعذر ظهوره (عليهالسلام) وعسر ضبط العلماء على وجه يتحقق دخول قوله في جملة أقوالهم. إلا أن ينقل ذلك بطريق التواتر والآحاد المشابه له نقلا مستندا الى الحس ، بمعاينة اعمال جميع من يتوقف انعقاد الإجماع عليه ، أو سماع أقوالهم على وجه لا يمكن حمل القول والعمل على نوع من التقية ونحوها. ودونه خرط القتاد. لما يعلم يقينا من تشتت العلماء وتفرقهم في أقطار الأرض بل انزوائهم في بلدان المخالفين وحرصهم على ان لا يطلع أحد على عقائدهم ومذاهبهم.
وما يقال ـ من انه إذا وقع إجماع الرعية على الباطل يجب على الامام ان يظهر
ويباحثهم حتى يردهم إلى الحق لئلا يضل الناس ، أو انه يجوز ان تكون هذه الأقوال ـ المنقولة في كتب الفقهاء التي لا يعرف قائلها ـ قولا للإمام (عليهالسلام) ألقاه بين أقوال العلماء حتى لا يجتمعوا على الخطأ كما ذهب اليه بعض المتأخرين ، حتى انه (قدسسره) كان يذهب الى اعتبار تلك الأقوال المجهولة القائل لذلك ـ فهو مما لا ينبغي ان يصغى اليه (١) ولا يعرج في مقام التحقيق عليه. وعلى هذا فليس في عد الإجماع في الأدلة إلا مجرد تكثير العدد واطالة الطريق ، لأنه ان علم دخوله (عليهالسلام) فلا بحث ولا مشاحة في إطلاق اسم الإجماع عليه وإسناد الحجة اليه ولو تجوزا ، وإلا فإن ظن ولو بمعاضدة خبر واحد فكذلك ، وإلا فليس نقل الإجماع بمجرده موجبا لظن دخول المعصوم (عليهالسلام) ولا كاشفا عنه كما ذكروه. نعم لو انحصر حملة الحديث في قوم معروفين أو بلدة محصورة في وقت ظهوره (عليهالسلام) كما في وقت الأئمة الماضين (صلوات الله عليهم أجمعين) اتجه القول بالحجية. ويقرب منه ايضا ما لو أفتى ـ جماعة من الصدر الذي يقرب منهم كعصر الصدوق وثقة الإسلام الكليني (عطر الله مرقدهما) ونحوهما من أرباب النصوص ـ بفتوى لم نقف فيها على خبر ولا مخالف منهم ، فإنه أيضا مما يقطع بحسب العلم العادي فيها بالحجية ودخول قول المعصوم (عليهالسلام) فيهم لوصول نص لهم في ذلك ، ومن هنا نقل جمع من أصحابنا
__________________
(١) اما الأول منهما فلما هو ظاهر لكل ناظر من تعطيل الأحكام جلها بل كلها في زمان الغيبة ، ولا سيما في مثل زماننا هذا الذي قد انطمس فيه الدين ، بل صار جملة اهله شبه المرتدين. وقد صار المعروف فيه منكرا والمنكر معروفا ، وصارت الكبائر لهم ألفا مألوفا ، واما الثاني منهما فكيف يكفي في الحجية مجرد احتمال كون ذلك هو المعصوم؟ مع انهم في الاخبار يبالغون في تنقية أسانيدها والطعن في رواتها ، ولا يحتجون إلا بصحيح السند منها ولا يكتفون بمجرد الاحتمال هناك مع توفر القرائن على الصحة فكيف هنا؟ ما هذا إلا تخريص في الدين وجمود على مجرد التخمين. وهو مما قد نهت عنه سنة سيد المرسلين (منه قدسسره).
ان المتقدمين كانوا إذا اعوزتهم النصوص في المسألة يرجعون الى فتاوى علي بن الحسين ابن بابويه.
وممن صرح بامتناع انعقاد الإجماع في زمن الغيبة المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ، حيث قال : «الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل ، إذ لا سبيل الى العلم بقول الامام (عليهالسلام) كيف؟ وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ، ليدخل في جملتهم ويكون قوله مستورا بين أقوالهم ، وهذا مما يقطع بانتفائه ، فكل إجماع ـ يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ الى زماننا هذا وليس مستندا الى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم ـ فلا بد ان يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة. واما الزمان السابق على ما ذكرناه المقارب لعصر ظهور الأئمة (عليهمالسلام) وإمكان العمل بأقوالهم ، فيمكن فيه حصول الإجماع والعلم به بطريق التتبع والى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف ، حيث قال : الإنصاف انه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمان الصحابة. حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل» انتهى كلام المحقق المذكور (منحه الله تعالى البهجة والسرور).
والتحقيق ان أساطين الإجماع كالشيخ والمرتضى وابن إدريس وأضرابهم قد كفونا مؤنة القدح فيه وإبطاله بمناقضاتهم بعضهم بعضا في دعواه. بل مناقضة الواحد منهم نفسه في ذلك كما لا يخفى على المتتبع البصير. ولا ينبئك مثل خبير. ولقد كان عندي رسالة. الظاهر انها لشيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) كتبها في الإجماعات التي ناقض الشيخ فيها نفسه. وقد ذهبت في بعض الحوادث التي جرت على جزيرتنا البحرين.
(فان قيل) : ان بعض الاخبار مما يدل على حجية الإجماع واعتباره ، كمقبولة عمر
ابن حنظلة (١) حيث قال السائل : «فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ليس يتفاضل واحد منهما على صاحبه؟ فقال (عليهالسلام) : ينظر الى ما كان ـ من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به ـ المجمع عليه أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه».
وما رواه في الكافي في باب إبطال الرؤية (٢) في الصحيح عن صفوان ، قال : «سألني أبو قرة المحدث أن ادخله على ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) الى أن قال : فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليهالسلام) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما اجمع عليه المسلمون انه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار. الحديث».
وما رواه في الكافي أيضا في الباب المذكور عن محمد بن عبيد. قال : «كتبت الى ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) اسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة ، وسألته ان يشرح لي ذلك. فكتب بخطه : اتفق الجميع لا تمانع بينهم ان المعرفة من جهة الرؤية. الحديث».
(فالجواب) عن ذلك ممكن إجمالا وتفصيلا. اما الأول فلأن المسألة من الأصول المنوطة بالقطع عندهم. والاخبار المذكورة لا تخرج عن خبر الآحاد الذي قصاراه الظن عندهم فلا يتم الاستدلال. واما الثاني فاما عن الخبر الأول (فأولا) ان غاية ما يستفاد منه كون الإجماع مرجحا لأحد الخبرين على الآخر عند التعارض وهو مما لا نزاع فيه. انما النزاع في كونه دليلا مستقلا برأسه. والخبر لا يدل عليه. (وثانيا) فان ظاهره بل صريحه كون الإجماع في الرواية وهو مما لا نزاع فيه. لا في الفتوى كما هو المطلوب
__________________
(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
(٢) من كتاب التوحيد.
بالاستدلال. واما عن الأخيرين فيمكن (أولا) الحمل على كون الاستدلال جدليا إلزاميا للخصم القائل بجواز الرؤية بالإجماع الذي يعتقد حجيته على ما ينافي مدعاه من جوازها. و (ثانيا) بأنه على تقدير دلالتهما على الحجية في الجملة فلا دلالة لهما على العموم في الأمور العقلية والنقلية ، إذ متعلق الاستدلال هنا الأمور العقلية. والجواب ـ بأنه لا قائل بالفرق ـ مردود بان اللازم من ذلك الاستدلال بفرع من فروع حجية الإجماع قبل ثبوت أصل حجيته. على ان المفهوم ـ من رسالة الصادق (عليهالسلام) التي كتبها لشيعته وأمرهم بتعاهدها والعمل بما فيها المروية في روضة الكافي (١) بأسانيد ثلاثة ـ ان أصل الإجماع من مخترعات العامة وبدعهم ، قال (عليهالسلام) : «وقد عهد إليهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قبل موته فقالوا : نحن بعد ما قبض الله تعالى رسوله يسعنا أن نأخذ ما اجتمع عليه رأي الناس بعد قبض رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الى أن قال (عليهالسلام) : فما أحد اجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم ان ذلك يسعه. الحديث».
وبالجملة : فإنه لا شبهة ولا ريب في انه لا مستند لهذا الإجماع من كتاب ولا سنة. وإنما يجري ذلك على مذاق العامة ومخترعاتهم ، ولكن جملة من أصحابنا قد تبعوهم فيه غفلة ، كما جروا على جملة من أصولهم في مواضع عديدة مع مخالفتها لما هو المستفاد من الاخبار ، كما سيظهر لك إن شاء الله في ضمن مباحث هذا الكتاب.
وقد نقل المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قدسسره) ـ عن بعض مشايخه في بيان وجه العذر لمشايخنا المتقدمين في اختلاف الإجماعات المنقولة عنهم ـ ما ملخصه : أن الأصول التي كان عليها المدار وهي التي انتخبوا منها كتب الحديث المشهورة الآن كانت بأيديهم ، وإنما حدث فيها التلف والاضمحلال من زمان ابن إدريس لأسباب
__________________
(١) في أول الكتاب.
ذكرها ، وكانوا ـ بملاحظة ما اشتملت عليه جميعها أو أكثرها من الأحكام ـ يدعون عليه الإجماع. وربما اختلفت الأخبار في ذلك الحكم بالتقية وعدمها والجواز والكراهة ونحوها ، فيدعي كل منهم الإجماع على ما يؤدي إليه نظره وفهمه من تلك الأخبار بعد اشتمال أكثر تلك الأصول أو كلها على الأخبار المتعلقة بما يختاره ويؤدي إليه نظره.
(أقول) : وعندي ان هذا الاحتمال ليس ببعيد ، فان الظاهر ان مبدأ التفريع في الأحكام والاستنباط إنما هو من زمن المرتضى والشيخ (رضوان الله عليهما) فان كتب من تقدمهما من المشايخ إنما اشتملت على جمع الاخبار وتأليفها ، وان كان بعضها قد اشتمل على مذهب واختيار في المسألة ، فإنما يشار إليه في عنوان الأبواب وينقل ما يخصه من الاخبار ، كما لا يخفى على من لاحظ الكافي والفقيه ونحوهما من كتب الصدوق وغيره وكذلك ايضا فتاويهم المحفوظة عنهم لا تخرج عن موارد الاخبار ، وحينئذ فنقل الشيخ والسيد (قدسسرهما) إجماع الطائفة على الحكم مع كون عمل الطائفة إنما هو على ما ذكرنا من الأخبار وكونهما على اثر أولئك الجماعة الذين هذه طريقتهم من غير فاصلة ، فكيف يصح حمل ما يدعونه من الإجماع على الإجماع في الفتوى وان كان من غير خبر؟ بل الظاهر إنما هو الإجماع في الاخبار. الا ترى ان الشيخ في الخلاف والمرتضى في الانتصار إنما استندا في الاستدلال الى مجرد الإجماع وجعلوه هو المعتمد والمعتبر مع كون الأخبار بمرأى منهم ومنظر ، وليس ذلك إلا لرجوعه إليها وكونه عبارة عن الإجماع فيها. وهذا أحد الوجوه التي اعتذر بها شيخنا الشهيد في الذكرى عن اختلافهم في تلك الإجماعات. وهو أظهرها وان جعله آخرها.
(المقام الثالث) ـ في دليل العقل ، وفسره بعض بالبراءة الأصلية والاستصحاب ، وآخرون قصروه على الثاني ، وثالث فسره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب ، ورابع بعد البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج