البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

النفي ، والمنفي هو القيام ، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة. والبصريون يقولون : النصب بإضمار أن ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر ، وذلك المصدر لا يصح أن يكون خبرا ، لأنه معنى والمخبر عنه جثة. ولكن الخبر محذوف ، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة. وأضمرت أن بعدها وصارت اللام كالعوض من أن المحذوفة ، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة. ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم.

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى : بشر أخبر ، وجاء بلفظ بشر على سبيل التهكم بهم نحو قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) أي القائم لهم مقام البشارة ، هو الإخبار بالعذاب كما قال : «تحية بينهم ضرب وجيع». وقال ابن عطية : جاءت البشارة هنا مصرحا بقيدها ، فلذلك حسن استعمالها في المكروه. ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب. وفي هذه الآية دليل على أنّ التي قبلها إنما هي في المنافقين. وقال الماتريدي : بشر المنافقين يدل على أنّ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (٢) في أهل النفاق والمراءاة ، لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية. ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : اليهود والنصارى ومشركي العرب أولياء أنصارا ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين ، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين وهي : موالاتهم الكفار ، واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة. والذين : نعت للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر المبتدأ. أي : هم الذين.

(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي : الغلبة والشدّة والمنعة بموالاتهم ، وقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد. وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم فكيف تبتغي منهم؟ وعلى خبث مقصدهم. وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم.

(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٤٤.

١٠١

قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (١). وقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢). وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (٣) والفاء في فإن العزة لله دخلت لما في الكلام من معنى الشرط ، والمعنى : أن تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة ، وانتصب جميعا على الحال.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق. وقيل : للمنافقين الذين تقدّم ذكرهم ، ويكون التفاتا. وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم ، فنهوا عن ذلك ، وذكروا بما نزل عليهم بمكة من قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

وقرأ الجمهور : وقد نزل مشددا مبنيا للمفعول. وقرأ عاصم : نزل مشددا مبنيا للفاعل. وقرأ أبو حيوة وحميد : نزل مخففا مبنيا للفاعل. وقرأ النخعي : أنزل بالهمزة مبنيا للمفعول ، ومحل أن رفع أو نصب على حسب العامل ، فنصب على قراءة عاصم ، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد ، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين. وإن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وتقديره : ذلك أنه إذا سمعتم. وما قدره أبو البقاء من قوله : أنكم إذا سمعتم ، ليس بجيد ، لأنها إذا خففت إن لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر ، وشأن محذوف ، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله :

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وخبر إن هي الجملة من إذا وجوابها. ومثال وقوع جملة الشرط خبرا لأن المخففة من الثقيلة قول الشاعر :

فعلمت أن من تتقوه فإنه

جزر لخامعة وفرخ عقاب

ويكفر بها في موضع نصب على الحال ، والضمير في معهم عائد على المحذوف

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢١.

(٢) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ١٠.

١٠٢

الذي دل عليه قوله : يكفر بها ويستهزأ أي : فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين ، وحتى غاية لترك القعود معهم. ومفهوم الغاية أنهم إذا خاضوا في غير الكفر والاستهزاء ارتفع النهي ، فجاز لهم أن يقعدوا معهم. والضمير عائد على ما دل عليه المعنى أي : في حديث غير حديثهم الذي هو كفر واستهزاء. ويحتمل أن يفرد الضمير ، وإن كان عائدا على الكفر وعلى الاستهزاء المفهومين من قوله : يكفر بها ويستهزأ بها ، لأنهما راجعان إلى معنى واحد ، ولأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في كونه لمفرد ، وإن كان المراد به اثنين.

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم وهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها ، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر ، لأنهم يكونون راضين بالكفر ، والرضا بالكفر كفر. والخطاب في أنكم على الخلاف السابق أهو للمنافقين؟ أم للمؤمنين؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهم مثل المشركين ، لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة ، فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى ، فهم قادرون على الإنكار ، والسامع للذم شريك للقائل ، وما أحسن ما قال الشاعر :

وسمعك صن عن سماع القبيح

كصون اللسان عن النطق به

قال ابن عطية : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة كقوله الشاعر :

عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدى

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم فحمل عليه الأدب ، وقرأ : إنكم إذا مثلهم. ومن ذهب إلى أنّ معنى قوله : إنكم إذا مثلهم ، إن خضتم كخوضهم ووافقتموهم على ذلك فأنتم كفار مثلهم ، قوله تنبو عنه دلالة الكلام. وإنما المعنى ما قدّمناه من أنكم إذا قعدتم معهم مثلهم.

وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر ، وأفرد مثل ، لأن المعنى أنّ عصيانكم مثل عصيانهم ، فالمعنى على المصدر كقوله : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) (١) وقد جمع في قوله : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٢) وفي قوله : (حُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (٣) والإفراد

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٣ / ٤٧.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ٣٨.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٢ ـ ٢٣.

١٠٣

والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان. وقرئ شاذا مثلهم بفتح اللام ، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله : لحق مثل ما أنكم تنطقون على قراءة من فتح اللام ، والكوفيون يجيزون في مثل أن ينتصب محلا وهو الظرف ، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي : في مثل حالك. فعلى قولهم يكون انتصاب مثلهم على المحل ، وهو الظرف.

(إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) لما اتخذوهم في الدنيا أولياء جمع بينهم في الآخرة في النار ، والمرء مع من أحب ، وهذا توعد منه تعالى تأكد به التحذير من مجالستهم ومخالطتهم.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم ، فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم مظاهرين. والمعنى : فاسهموا لنا بحكم إنّنا مؤمنون ، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب ، أي : نيل من المؤمنين قالوا : ألم نستحوذ عليكم ، أي : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ، وأبقينا عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم ، فاسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم ، ولا نترك أحدا يؤذيكم. قيل : المعنى أنّ الكفار واليهود هموا بالدخول في الإسلام فحذرهم المنافقون عن ذلك ، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول ، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قد أرشدوهم لهذه المصالح ، فيكون التقدير : ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم فاسهموا لنا. وقيل : المعنى ألم نخبركم بأمر محمد وأصحابه ونطلعكم على سرهم؟ وعن ابن عباس : ألم نحط من ورائكم؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون ، أو صفة للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر الابتداء محذوف. وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحا عظيما لهم ، وجعل منه تعالى فقال : فتح من الله ، وظفر الكافرين نصيبا ، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيرا لهم وتخسيسا لما نالوه من المؤمنين ، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم :

فتح تفتح أبواب السماء له

وتبرز الأرض في أثوابها القشب

وأما ظفر الكافرين فهو حظ دنيوي يصيبونه. وقرأ ابن أبي عبلة : ونمنعكم بنصب

١٠٤

العين بإضمار بعد واو الجمع ، والمعنى : ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم ، ومنعكم من المؤمنين؟ ونظيره قول الحطيئة :

ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودة والإخاء

وقال ابن عطية : ونمنعكم بفتح العين على الصرف انتهى. يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها ، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين. وقرأ أبي : ومنعناكم من المؤمنين ، وهذا معطوف على معنى التقدير : لأن المعنى إما استحوذنا عليكم ومنعناكم كقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا) (١). إذ المعنى : أما شرحنا لك صدرك ووضعنا. (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وبينهم وينصفكم من جميعهم. ويحتمل أن لا عطف ، ومعنى بينكم أي : بين الجميع منكم ومنهم ، وغلب الخطاب. وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به.

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) يعني يوم القيامة قاله : عليّ وابن عباس. وروي عن سبيع الحضرمي قال : كنت عند عليّ فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا؟ فقال عليّ : معنى ذلك يوم القيامة ، يوم الحكم. قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل. قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وإن أوهم صدر الكلام معناه لقوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة. وقيل : إنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان قال : «فإني سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا».

وقيل : المعنى أن لا يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ، فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٢). قال ابن العربي : وهذا بين جدا ، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان : حتى يكون بعضهم يهلك بعضا. وذلك أنّ حتى غاية ، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم

__________________

(١) سورة الشرح : ٩٤ / ١ ـ ٢.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٣.

١٠٥

عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضا ، وسبي بعضهم لبعض. وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكفار ، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله.

وقيل : سبيلا من جهة الشرع ، فإن وجد فبخلاف الشرع. وقيل : سبيلا حجة شرعية ولا عقلية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت. وقيل : سبيلا أي ظهورا قاله : الكلبي. ويحمل على الظهور الدائم الكلي ، فيؤول معناه إلى أنهم لا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل.

وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنونا التجنيس المغاير في : أن يصالحا بينهما صلحا ، وفي : فلا تميلوا كل الميل ، وفي : فقد ضل ضلالا ، وفي : كفروا وكفروا. والتجنيس المماثل في : ويستفتونك ويفتيكم ، وفي : صلحا والصلح ، وفي : جامع وجميعا. والتكرار في : لفظ النساء ، وفي لفظ يتامى ، واليتامى ، ورسوله ، ولفظ الكتاب ، وفي آمنوا ثم كفروا ، وفي المنافقين. والتشبيه في : كالمعلقة. واللفظ المحتمل للضدين في : ترغبون أن تنكحوهن. والاستعارة في : نشوزا ، وفي : وأحضرت الأنفس الشح ، وفي : فلا تميلوا ، وفي : قوامين ، وفي : وإن تلووا أو تعرضوا ، وفي : ازدادوا كفرا ولا ليهديهم سبيلا ، وفي : يتربصون ، وفي : فتح من الله ، وفي : ألم نستحوذ ، وفي : سبيلا. وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني. والطباق في : غنيا أو فقيرا ، وفي : فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين. والاختصاص في : بما تعملون خبيرا خص العمل. والالتفات في : وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين. والحذف في مواضع.

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ

١٠٦

تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧) لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)

١٠٧

الكسل : التثاقل ، والتثبط ، والفتور عن الشيء. ويقال : أكسل الرجل إذا جامع فأدركه الفتور ولم ينزل. الذبذبة : الاضطراب بحيث لا يبقى على حال ، قاله : ابن عرفة والتردد بين الأمرين. وقال النابغة :

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

وقال آخر :

خيال لأم السلسبيل ودونها

مسيرة شهر للبريد المذبذب

بكسر الثانية. قال ابن جني : أي القلق الذي لا يثبت. قيل : وأصله الذب ، وهو ثلاثي الأصل ضعف فقيل : ذبب ، ثم أبدل من أحد المضعفين وهي الباء الثانية ذالا فقيل ذبذب ، وهذا على أصل الكوفيين. وأما البصريون فهو عندهم رباعي كدحرج.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) تقدم تفسير يخادعون الله في أوّل البقرة. ومعنى وهو خادعهم : أي منزل الخداع بهم ، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب. فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم قاله ابن عطية. وقال الحسن ، والسدي ، وابن جريج ، وغيرهم من المفسرين : هذا الخداع هو أنه تعالى يعطي هذه الأمّة يوم القيامة نورا لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق ، ونهض المؤمنون. وذلك قول المنافقين : انظرونا نقتبس من نوركم وذلك هو الخداع الذي يجري على المنافقين.

وقال الزمخشري : وهو خادعهم ، وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ، حيث تركهم معصومين الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة ، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع من خدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه انتهى. وبعضه مسترق من كلام الزجاج. قال الزجاج : لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعا لهم بذلك. وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي : خادعهم بإسكان العين على التخفيف. استثقال الخروج من كسر إلى ضم. وهذه الجملة معطوفة على خبر إن. وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال.

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) أي متوانين لا نشاط لهم فيها ، لأنهم إنما يصلون تسترا وتكلفا ، وينبغي للمؤمن أن يتحرز من هذه الخصلة التي ذمّ المنافقون ، وأن

١٠٨

يقبل إلى صلاته بنشاط وفراغ قلب وتمهل في فعلها ، ولا يتقاعس عنها فعل المنافق الذي يصلي على كره لا عن طيب نفس ورغبة. وما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام ، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا ، وقد أشار بعض علمائنا إليهم في شعر قاله وضمن فيه بعض الآية ، فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد وأمثاله من متفلسفة الإسلام :

لأشياع الفلاسفة اعتقاد

يرون به عن الشرع انحلالا

أباحوا كل محظور حرام

وردّوه لأنفسهم حلالا

وما انتسبوا إلى الإسلام إلا

لصون دمائهم أن لا تسالا

فيأتون المناكر في نشاط

ويأتون الصلاة وهم كسالى

وقرأ الجمهور : كسالى بضم الكاف ، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ الأعرج : كسالى بفتح الكاف وهي لغة تميم وأسد. وقرأ ابن السميفع : كسلى على وزن فعلى ، وصف بما يوصف به المؤنث المفرد على مراعاة الجماعة كقراءة : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) (١).

(يُراؤُنَ النَّاسَ) أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة وأنهم مسلمون. وهي من باب المفاعلة ، يرى المرائي الناس تجمله بأفعال الطاعة ، وهم يرونه استحسان ذلك العمل. وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل ، نحو نعمة وناعمة. وروى أبو زيد : رأت المرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها. وقرئ : يرؤن بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو. وقال ابن عطية : وهي أقوى في المعنى من يراؤون ، لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق. ونسب الزمخشري هذه القراءة لابن أبي إسحاق إلا أنه قال قرأ : يرؤنهم همزة مشددة مثل : يرعونهم أي يبصرونهم أعمالهم ، ويراؤونهم كذلك.

(وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) قال الحسن : قل لأنه كان يعمل لغير الله. وقال قتادة : ما معناه إنما قل لكونه لم يقبله ، وما رده الله فكثيره قليل ، وما قبله فقليله كثير. وقال غيره : قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر. وقال الزمخشري : إلا قليلا ، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به ، وما يجاهرون به قليل ، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ، أولا يذكرون الله بالتسبيح

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢.

١٠٩

والتهليل إلا ذكرا قليلا. ويجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى. ولا يجوز أن يراد به العدم ، لأن الاستثناء يأباه ، وقد رددنا هذا القول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة. وقيل : قل لأنهم قصدوا به الدنيا وزهرتها ، وذلك فإنّ (مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) ، وقيل في الكلام حذف تقديره : ولا يذكرون عقاب الله وثوابه إلا قليلا لاستغراقهم في الدنيا ، وغلبة الغفلة على قلوبهم. والظاهر أنّ الذكر هنا هو باللسان ، وأنهم قلّ أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص ، فإنه يغلب على أحواله ذكر الله تعالى.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) أي مقلقلين. قال الزمخشري : ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر يتردّدون بينهما متحيرين ، كأنه يذب عن كلا الجانبين أي يذاد فلا يقر في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمي به الرحوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كان المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى. ونسب الذبذبة إلى الشيطان ، وأهل السنة يقولون : إنّ هذه الحياة والذبذبة إنما حصلت بإيجاد الله. وفي الحديث : «مثل المنافق مثل الشاة العابر بين الغنمين» والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان كما قال تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١) أي بين البكر والفارض.

وقال ابن عطية : وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكر الظهور لضمن الكلام له ، كما جاء : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٢) و (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٣) انتهى وليس كما ذكر ، بل تقدم ما تصح إليه الإشارة من المصدرين اللذين دل عليهما ذكر الكافرين والمؤمنين ، فهو من باب : إذا نهى السفيه جرى إليه.

وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد : مذبذبين بكسر الذال الثانية ، جعلاه اسم فاعل أي مذبذبين أنفسهم أو دينهم ، أو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى. وقرأ أبي : متذبذبين اسم فاعل من تذبذب أي اضطرب ، وكذا في مصحف عبد الله. وقرأ الحسن : مذبذبين بفتح الميم والذالين. قال ابن عطية : وهي قراءة مردودة انتهى. والحسن البصري من أفصح الناس يحتج بكلامه ، فلا ينبغي أن ترد قراءته ، ولها وجه في العربية ، وهو أنه أتبع حركة الميم بحركة الذال ، وإذا كانوا قد أتبعوا حركة الميم بحركة عين الكلمة في مثل منتن وبينهما حاجز فلان يتبعوا بغير حاجز أولى ، وكذلك اتبعوا حركة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٨.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٣٢.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٦.

١١٠

عين منفعل بحركة اللام في حالة الرفع فقالوا : منحدر ، وهذا أولى لأن حركة الإعراب ليست ثابتة خلاف حركة الذال ، وهذا كله توجيه شذوذ. وعلى تقدير صحة النقل عن الحسن أنه قرأ بفتح الميم. وقرأ أبو جعفر : مدبدبين بالدال غير معجمة ، كأن المعنى : أخذتهم تارة بدبة ، وتارة في دبة ، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة الطريقة ، وهي في حديث ابن عباس : «اتبعوا دبة قريش ، ولا تفارقوا الجماعة» ويقال : دعني ودبتي ، أي طريقتي وسجيتي. قال الشاعر :

طها هذريان قل تغميض عينه

على دبة مثل الخنيق المرعبل

وانتصاب مذبذبين على الحال من فاعل يراؤون ، أو فاعل ولا يذكرون. وقال الزمخشري : مذبذبين : إمّا حال من قوله : ولا يذكرون عن واو يراؤونهم ، أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين. أو منصوب على الذم.

(لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) والمراد بأحد المشار إليهم المؤمنون ، وبالآخر الكافرون. والمعنى : لا يعتقدون الإيمان فيعدوا من المؤمنين ، ولم يقيموا على إظهار الكفر فيعدوا مع الكافرين. ويتعلق إلى بمحذوف تقديره : ولا منسوبين إلى هؤلاء ، وهو موضع الحال.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي فلن تجد لهدايته سبيلا ، أو فلن تجد سبيلا إلى هدايته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لما كان هذا الوصف من أوصاف المنافقين ، وتقدم ذمهم بذلك ، نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا الوصف. وكان للأنصار في بني قريظة رضاع وحلف ومودة ، فقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من نتولى؟ فقال : «المهاجرون». وقال القفال : هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء انتهى. فعلى هذا هل الكافرون هنا اليهود أو المنافقون قولان؟ وقال ابن عطية : خطابه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان ، وفي اللفظ رفق بهم وهو المراد بقوله : أتريدون أن هذا التوفيق إنما هو لمن ألمّ بشيء من العقل المؤدّي إلى هذه الحال ، والمؤمنون المخلصون ما ألموا بشيء من ذلك. ويقوي هذا المنزع قوله تعالى : من دون المؤمنين ، أي : والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة ، وهذا لا يقال للمؤمنين

١١١

المخلصين بل المعنى : يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه انتهى. قيل : وفي الآية دليل على أنّ الكافر لا يستحق على المسلم ولاية بوجه ولدا كان أو غيره ، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية كقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) (١) وقد كره بعض العلماء توكيله في الشراء والبيع ، وفي دفع المال إليه مضاربة.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة ظاهرة واضحة بموالاتكم الكافرين أو المنافقين على قول القفال. والمعنى : أنه يأخذكم إن واليتم الكفار بانتقام منه ، وله عليكم في ذلك الحجة الواضحة ، إذ قد بين لكم أحوالهم ونهاكم عن موالاتهم. وقيل : السلطان هنا القهر والقدرة. والمعنى : أنه يسلط عليكم بسبب اتخاذكم الكفار أولياء والسلطان. قال الفراء : أنث وذكر ، وبعض العرب يقول : قضت به عليك السلطان ، وقد أخذت فلانا السلطان ، والتأنيث عند الفصحاء أكثر انتهى. فمن ذكر ذهب به إلى البرهان والاحتجاج ، ومن أنّث ذهب به إلى الحجة ، وإنما اختير التذكير هنا في الصفة وإن كان التأنيث أكثر ، لأنه وقع الوصف فاصلة ، فهذا هو المرجح للتذكير على التأنيث. وقال ابن عطية : والتذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع ، وهذا مخالف لما قاله الفراء. وإذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف والتقدير : ذو السلطان ، أي : ذو الحجة على الناس إذ هو مدبرهم والناظر في مصالحهم ومنافعهم. وقال الزمخشري : لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سلطان حجة بينة يعني : أنّ موالاة الكافرين بينة على المنافقين. وعن صعصعة بن صرحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر : فإنّ الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن ، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال ابن عباس : الدرك لأهل النار كالدرج لأهل الجنة ، إلا أنّ الدرجات بعضها فوق بعض ، والدركات بعضها أسفل من بعض انتهى. وقال أبو عبيدة : الدركات الطبقات : وأصلها من الإدراك أي : هي متداركة متلاحقة. وقال ابن مسعود وأبو هريرة : هي من توابيت من حديد متعلقة في قعر جهنم ، والنار سبع دركات ، قيل : أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى ، وبعض الطبقات باسم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١١٨.

١١٢

بعض ، لأن لفظ النار يجمعها. وقال ابن عمر : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. وتصديق ذلك في كتاب الله هذه الآية في المنافقين : و (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١) و (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٢) وإنما كان المنافق أشدّ عذابا من غيره من الكفار لأنه مثله في الكفر ، وضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله ، والمداجاة واطلاع الكفار على أسرار المسلمين فهو أشد غوائل من الكفار وأشد تمكينا من أذى المسلمين.

وقرأ الحرميان والعربيان : في الدرك بفتح الراء. وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب : بسكونها ، واختلف عن عاصم. وروى الأعمش والبرجمي : الفتح ، وغيرهما الإسكان. قال أبو علي : وهما لغتان كالشمع والشمع ، واختار بعضهم الفتح لقولهم : في الجمع أدراك كجمل وإجمال يعني : أنه ينقاس في فعل أفعال ، ولا ينقاس في فعل. وقال عاصم : لو كان بالفتح لقيل : السفلى. قال بعضهم : ذهب عاصم إلى أنّ الفتح إنما هو على أنه جمع دركة كبقرة وبقر انتهى. ولا يلزم ما ذكره من التأنيث ، لأن الجنس المميز مفرده بهاء التأنيث ، يؤنث في لغة الحجاز ، ويذكر في لغة تميم ونجد ، وقد جاء القرآن بهما ، إلا ما استثني لأنه يتحتم فيه التأنيث أو التذكير ، وليس دركة ودرك من ذلك ، فعلى هذا يجوز تذكير الدرك وتأنيثه.

(وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) أي مانعا من العذاب ولا شافعا يشفع.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم ، وتمسكوا بالله وكتابه ، ولم يكن لهم ملجأ ولا ملاذ إلا الله ، وأخلصوا دينهم لله أي : لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله تعالى. ولما كان المنافق متصفا بنقائص هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والاعتزاز بهم والمراءاة للمؤمنين ، شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق ، وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى. ثم فصل ما أجمل فيها ، وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية ، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي ، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي ، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٥.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٤٦.

١١٣

أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين ، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون ، ولا من المؤمنين ، وإن كانوا قد صاروا مؤمنين تنفيرا مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتعظيما لحال من كان متلبسا به. ومعنى : مع المؤمنين ، رفقاؤهم ومصاحبوهم في الدارين. والذين تابوا مستثنى من قوله : في الدرك. وقيل من قوله : فلن تجد لهم. وقيل : هو مرفوع على الابتداء ، والخبر فأولئك. وقال الخوفي : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط المتعلق بالذين.

(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) أتى بسوف ، لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة ، وهو زمان مستقبل ليس قريبا من الزمان الحاضر. وقد قالوا : إنّ سوف أبلغ في التنفيس من السين ، ولم يعد الضمير عليهم فيقال : وسوف يؤتيهم ، بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم ، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. وكتب يؤت في المصحف بغير ياء ، لمّا حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين حذفت في الخط ، ولهذا نظائر في القرآن. ووقف يعقوب عليها بالياء ، ووقف السبعة بغير ياء اتباعا لرسم المصحف. وقد روى الوقف بالياء عن : حمزة ، والكسائي ، ونافع. وقال أبو عمرو : ينبغي أن لا يوقف عليها لأنه إن وقف بغير ياء خالف النحويين ، وإن وقف بياء خالف لفظ المصحف. والأجر العظيم هو الخلود في الجنة.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) الخطاب قيل : للمؤمنين. وقيل : للكافرين ، وهو الذي يقتضيه سياق الكلام. وهذا استفهام معناه النفي أي : ما يعذبكم إن شكرتم وآمنتم. والمعنى : أنه لا منفعة له في ذلك ولا حاجة ، لأن العذاب إنما يكون لشيء يعود نفعه أو يندفع ضره عن المعذب ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وإنما عقابه المسيء لأمر قضت به حكمته تعالى ، فمن شكره وآمن به لا يعذبه.

وما استفهام كما ذكرنا في موضع نصب بفعل ، التقدير : أي شيء يفعل الله بعذابكم. والباء للسبب ، استشفاء أم إدراك ثأر ، أم جلب منفعة ، أم دفع مضرة ، فهو تعالى منزه عن ذلك. وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نافية ، قال : والمعنى : ما يعذبكم. ويلزم على قوله أن تكون الباء زائدة ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي : إن شكرتم وآمنتم فما يفعل بعذابكم.

ذكر عن ابن عباس أنّ المراد بالشكر هنا توحيد الله. وقال الزمخشري : (فإن قلت) :

١١٤

لم قدم الشكر على الإيمان؟ (قلت) : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكرا مبهما ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المؤمن به المنعم آمن به ، ثم شكر شكرا مفصلا ، فكان الشكر متقدما على الإيمان ، وكان أصل التكليف ومداره. وقال ابن عطية : الشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان ، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على جلالة موقعه انتهى. وأبعد من ذهب إلى أنه على التقديم والتأخير أي : إن آمنتم وشكرتم.

(وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) شاكرا أي : مثيبا موفيا أجوركم. وأتى بصفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل ، وينميه عليما بشكركم وإيمانكم فيجازيكم. وفي قوله : عليما ، تحذير وندب إلى الإخلاص لله تعالى. وقيل : الشكر من الله إدامة النعم على الشاكر.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) قال مجاهد : تضيف رجل قوما فأساؤوا قراه ، فاشتكاهم ، فعوتب ، فنزلت. وقال مقاتل : نال رجل من أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه والرسول عليه‌السلام ، حاضر ، فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه ، فقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر : يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئا ، حتى إذا رددت عليه قمت ، فقال : «إن ملكا كان يجيب عنك ، فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان» فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر ، وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين ، سوّغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة. وقال عليه‌السلام : «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس». وقرأ الجمهور : إلا من ظلم مبنيا للمفعول. وقال ابن عباس وغيره : إلا من ظلم ، فإنّ له أن يدعو على من ظلمه ، وكان ذلك رخصة من الله له ، وإن صبر فهو خير له. وقال الحسن : لا يدعو عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي. وقال ابن جريج : يجازيه بمثل فعله ، ولا يزيد عليه. وقيل : هو أن يبدأ بالشتم فيردّ على من شتمه ، وتقدم قول مجاهد أنها في الضيف يشكو سوء صنيع المضيف معه ، ونسب إلى الظلم لأنه مخالف للشرع والمروءة. وقال المنير : معناه إلا من أكره على أن يجهر بالسوء كفرا ونحوه فذلك مباح ، والآية في الإكراه ، وهذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي : الأجهر من ظلم. وقيل : الاستثناء منقطع والتقدير : لكنّ المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازى ظلامته قاله : السدي ، والحسن ، وغيرهما. وبالسوء

١١٥

متعلق بالجهر ، وهو مصدر معرّف بالألف واللام ، والفاعل محذوف ، وبالجهر في موضع نصب. ومن أجاز أن ينوي في المصدر بناؤه للمفعول الذي لم يسم فاعله قدّر أنّ بالسوء في موضع رفع ، التقدير : أن يجهر مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله. وجوّز بعضهم أن يكون من ظلم بدلا من ذلك الفاعل المحذوف التقدير : أن أحد إلا المظلوم ، وهذا مذهب الفراء. أجاز الفراء فيما قام إلا زيد أن يكون زيد بدلا من أحد. وأما على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فرغ له العامل ، فيكون مرفوعا على الفاعلية بالمصدر. وحسن ذلك كون الجهر في حيز النفي ، وكأنه قيل : لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ، وعطاء بن السائب ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وابن أبي إسحاق ، ومسلم بن يسار ، والحسن ، وابن المسيب ، وقتادة ، وأبو رجاء : إلا من ظلم مبنيا للفاعل ، وهو استثناء منقطع. فقدره الزمخشري : لأن الظالم راكب ما لم يحبه الله فيجهر بالسوء. وقال ابن زيد : المعنى إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله ، والتوبيخ والرد عليه. قال : وذلك أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار ، كان ذلك خبرا بسوء من القول ثم قال لهم بعد ذلك : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) (١) الآية على معنى التأسيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان ، ثم قال للمؤمنين : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) في إقامته على النفاق ، فإنه يقول له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟ ونحو هذا من الأقوال. وقال قوم : تقديره : لكنّ من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك ، فهي ثلاثة تقادير في هذا الاستثناء المنقطع : أحدها : راجع للجملة الأولى وهي لا يحب ، كأنه قيل : لكن الظالم يحب الجهر بالسوء فهو يفعله ، والثاني : راجع إلى فاعل الجهر أي : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء ، لكنّ الظالم يجهر بالسوء. والثالث : راجع إلى متعلق الجهر الفضلة المحذوفة أي : أن يجهر أحدكم لأحد بالسوء ، لكن من ظلم فاجهروا له بالسوء. قال ابن عطية : وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب ، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر انتهى. ويعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد ، وما ذكره من جواز الرفع على البدل لا يصح ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين : قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو : ما في الدار أحد إلا حمار ، فهذا فيه البدل في لغة تميم ، والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٧.

١١٦

وإنما جاز فيه البدل ، لأنك لو قلت : ما في الدار إلا حمار صح المعنى. وقسم يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيه البدل ، وهو ما لا يمكن توجه العامل عليه نحو : المال ما زاد إلا النقص. التقدير : لكن النقص حصل له ، فهذا لا يمكن أن يتوجه زاد على النقص ، لأنك لو قلت : ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى ، والآية من هذا القسم ، لأنك لو قلت : لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم ، فيفرع أن يجهر لأنّ يعمل في الظالم لم يصح المعنى. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من مرفوعا كأنه قيل : لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم ، على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو ، بمعنى : ما جاءني إلا عمرو. ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (١) انتهى.

وهذا الذي جوّزه الزمخشري لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغوا زائدا ، ولا يمكن أن يكون الظالم بدلا من الله ، ولا عمرو بدلا من زيد ، لأن البدل في هذا الباب راجع في المعنى إلى كونه بدل بعض من كل ، إما على سبيل الحقيقة نحو : ما قام القوم إلا زيد ، وإما على سبيل المجاز نحو : ما في الدار أحد إلا حمار ، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز ، لأنّ الله علم وكذا زيد هو علم ، فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم ، فيكون الظالم بدلا من الله ، وعمرو بدلا من زيد. وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإنه يتخيل فيما قبله عموم ، ولذلك صح البدل منه على طريق المحاز ، وإن لم يكن بعضا من المستثنى منه حقيقة. وأما قول الزمخشري : على لغة من يقول ما جاءني زيد إلا عمرو ، فلا نعلم هذه اللغة ، إلا أنّ في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتا من الاستثناء المنقطع آخرها قول الشاعر :

عشية لا تغني الرّماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

ما نصه وهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه ، لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها ، انتهى كلام سيبويه. ولم يصرح ولا لوح أنّ قوله : ما أتاني زيد إلا عمرو من كلام العرب. وقيل : من شرح سيبويه ، فهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو ، أي ينبغي أن يثبت هذا من كلامهم ، لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي ، كما أنّ زيدا ليس بعمرو ، وكما أن إخوة زيد ليسوا إخوانكم انتهى. وليس ما أتاني زيد إلا عمرو نظيرا للبيت ، لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز ، كأنه قيل : لا يغني

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦٥.

١١٧

السلاح مكانها إلا المشرفي ، بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو ، فإنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذا من كلام العرب وجب تأويله حتى يصح البدل ، فكان يصح ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو. كأنه يدل على حذف المعطوف وجود هذا الاستثناء ، إما أن يكون على إلغاء هذا الفاعل وزيادته ، أو على كون عمرو بدلا من زيد ، فإنه لا يجوز لما ذكرناه. وأما قول الزمخشري : ومنه قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ، فليس من باب ما ذكر ، لأنه يحتمل أن تكون من مفعولة ، والغيب بدلا من بدل اشتمال أي : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي ما يسرونه ويخفونه لا يعلمه إلا الله. وإن سلّمنا أنّ من مرفوعة ، فيجوز أن يكون الله بدلا من من على سبيل المجاز في من ، لأن من في السموات يتخيل فيه عموم ، كأنه قيل : قل لا يعلم الموجود دون الغيب إلا الله. أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى ، ولذا جاء عنه ذلك في القرآن وفي السنة كقوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) (١) وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٢) وفي الحديث أين الله؟ قالت : في السماء ، ومن كلام العرب : لا ودي. وفي السماء بيته يعنون الله تعالى. وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر ، وخص الجهر بالذكر إما إخراجا له مخرج الغائب ، وإمّا اكتفاء بالجهر عن مقابله ، أو لكونه أفحش.

(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) أي سميعا لما يجهر به من السوء ، عليما بما يسر به منه. وقيل : سميعا لكلام المظلوم ، عليما بالظالم. وقيل : سميعا بشكوى المظلوم ، عليما بعقبى الظالم ، أو عليما بما في قلب المظلوم ، فليتق الله ولا يقل إلا الحق. وهذه الجملة خبر ومعناه التهديد والتحذير.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) الظاهر أنّ الهاء في تخفوه تعود على الخير. قال ابن عباس : يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة. وقال بعضهم : في تخفوه عائد على السوء ، والمعنى : أنه تعالى لما أباح الجهر بالسوء لمن كان مظلوما قال له ولجنسه : إن تبدو خيرا ، بدل من السوء ، أو تخفوا السوء ، أو تعفوا عن سوء. فالعفو أولى وإن كان غير المعفو مباحا انتهى. وذكر إبداء الخير وإخفاءه

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٤.

١١٨

تسببا لذلك العفو ، ثم عطفه عليهما تنبيها على منزلته واعتدادا به ، وإن كان مندرجا في إبداء الخير وإخفائه ، فجعله قسما بالعطف لا قسيما اعتناء به. ولذلك أتى سبحانه وتعالى بصفة العفو والقدرة منسوبة له تعالى ليقتدى بسنته ، ويتخلق بشيء من صفاته تعالى. والمعنى : أنه يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، وكان بالصفتين على طريق المبالغة تنبيها على أنّ العبد ينبغي أن يكثر منه العفو مع كثرة القدرة على الانتقام. وفي الحديث الصحيح : «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا». وقال تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) (١). وقال الحسن : المعنى أنه تعالى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم بالعفو. وقال الكلبي : معناه أني أقدر على العفو عن ذنوبك منك على عفوك عن صاحبك. وقيل : عفوا لمن عفى قديرا على إيصال الثواب إليه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) قال الحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج : نزلت في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة وكفرت بعيسى ومحمد عليهما‌السلام ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل وكفرت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. وقيل : نزلت في اليهود خاصة ، آمنوا بموسى وعزيرا والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين ما عليه المنافقون من سوء الخليقة ومذموم الطريقة ، أخذ في الكلام على اليهود والنصارى ، جعل كفرهم ببعض الرسل كفرا بجميع الرسل ، وكفرهم بالرسل كفرا بالله تعالى.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله ، يقولون نؤمن بالله ولا نؤمن ، بفلان ، وفلان من الأنبياء.

(وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) يعني من الأنبياء. وقيل : هو تصديق اليهود بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي ، ولكن ليس إلى بني إسرائيل. ونحو هذا من تفرّقاتهم التي كانت تعنتا وروغانا.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي طريقا وسطا بين الكفر والإيمان ولا واسطة بينهما.

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) أكد بقوله : هم ، لئلا يتوهم أنّ ذلك الإيمان ينفعهم.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٤.

١١٩

وأكد بقوله : حقا ، وهو تأكيد لمضمون الجملة الخبرية ، كما تقول : هذا عبد الله حقا أي حق ذلك حقا. أو هو نعت لمصدر محذوف أي : كفرا حقا أي : ثابتا يقينا لا شك فيه. أو منصوب على الحال على مذهب سيبويه. وقد تقدم لذلك نظائر ، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه وقال : الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه ، ولا يلزم ما قال إنه لا يراد بحقا الحق الذي هو مقابل للباطل ، وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن ، وإنما كان التوكيد في ذلك ، لأنّ داعي الإيمان مشترك بين الأنبياء وهو ظهور المعجزات على أيديهم ، فكونهم فرّقوا في الإيمان بينهم دليل على كفرهم بالجميع ، إذ ليس إيمانهم ببعض ناشئا عن النظر في الدليل ، وإنما هم على سبيل التشهي والتلاعب.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) هذا وعيد لهم بالإهانة في العذاب.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) هؤلاء هم المؤمنون اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقدم الكلام على دخول بين على أحد في البقرة. في قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) فأغنى عن إعادته هنا.

(أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) صرح تعالى بوعد هؤلاء ، كما صرح بوعيد أولئك. وقرأ حفص : يؤتيهم بالياء ليعود على اسم الله قبله. وقرأ الباقون : بالنون على الالتفات ، ومقابله وأعتدنا. وقول أبي عبد الله الرازي : قراءة النون أولى من وجهين :

أحدهما : أنه أنهم ، والآخر : أنه مشاكل لقوله : وأعتدنا ، ليس بجيد ولا أولوية في ذلك ، لأن القراءتين كلتاهما متواترة ، هكذا نزلت ، وهكذا أنزلت.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) لما وعدهم تعالى بالثواب زادهم تبشيرا بالتجاوز عن السيئات وبرحمته إياهم.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) قال السدي : قالت اليهود : إن كنت صادقا فجيء بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالكتاب. وقال محمد بن كعب القرظي : قالوا : ائت بألواح فيها كتابك كما أتى موسى بألواح فيها التوراة. وقال الحسن وقتادة : سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود يأمرهم بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن جريج : قالوا : لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان وإلى فلان إنك رسول الله. فعلى قول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٥.

١٢٠