أحمد بن محمّد مهدي النّراقي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-014-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٩٢
فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟ قال : « إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم ، اخرج منها الخمس لله تعالى وللرسول ، وقسّم بينهم ثلاثة أخماس ، وإن لم يكن قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعل حيث أحبّ » (١).
ولا يخفى أنّها تدلّ فيما إذا كانت الغنيمة بغير قتال ، وهي غير محلّ الكلام ، ويأتي حكمه في كتاب الجهاد إن شاء الله ، مع ما في الرواية من الوهن من جهة قوله : « ثلاثة أخماس ».
واستجود في المدارك كونها كالغنيمة المأخوذة بإذن الإمام (٢) ، وقوّاه في المنتهى (٣) ، وتردّد في النافع (٤).
لإطلاق الآية الكريمة (٥).
وصحيحة الحلبي : في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم ، فيكون معهم ، فيصيب غنيمة ، قال : « يؤدّي خمسها ويطيب له » (٦).
وقوله في صحيحة عليّ بن مهزيار الطويلة في تعداد ما يجب فيه الخمس : « ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله » (٧).
والآية لإطلاقها تقيّد ـ للمرسلة ـ بما إذا كان الغزو بإذن الإمام ، كما هو
__________________
(١) الكافي ٥ : ٤٣ ـ ١ ، الوسائل ٩ : ٥٢٤ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ١ ح ٣.
(٢) المدارك ٥ : ٤١٨.
(٣) المنتهى ١ : ٥٥٤.
(٤) المختصر النافع : ٦٤.
(٥) الأنفال : ٤١.
(٦) التهذيب ٤ : ١٣٤ ـ ٣٥٧ ، الوسائل ٩ : ٤٨٨ أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٢ ح ٨.
(٧) التهذيب ٤ : ١٤١ ـ ٣٩٨ ، الاستبصار ٢ : ٦٠ ـ ١٩٨ ، الوسائل ٩ : ٥٠١ أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٨ ح ٥.
المتبادر من حال المخاطبين المشافهين بها ، ولأجل ذلك يحصل الضعف في إطلاقها أيضا.
وكذلك الصحيحان ، لإطلاقهما بالنسبة إلى حصول الغنيمة بالغزو وغيره ، مع أنّ الأولى محتملة لكونها من باب التحليل ، حيث إنّ الرجل من الشيعة.
ثمَّ إنّه لا فرق في ذلك بين ما إذا كان الإمام حاضرا أو غائبا ، كما صرّح به في الروضة (١) ، لإطلاق المرسلة. ولا فيما إذا كان الغزو للدعاء إلى الإسلام أو الملك والسلطنة في دار الحرب أو دار الإسلام ، لما ذكر.
نعم ، لو كان فيما إذا كان يخاف من الكفّار على بيضة الإسلام تكون الغنيمة كما إذا كان الغزو بإذنه ، للإذن العام حينئذ.
وتمام الكلام فيه يأتي في كتاب الجهاد.
التاسع : ميراث من لا وارث له ، ويأتي تحقيقه في بحث الميراث.
العاشر : المعادن ، وهي من الأنفال على الأظهر ، وفاقا لجماعة من أعيان القدماء ، كالكليني والقمّي والشيخين والقاضي والديلمي والفاضل في خمس التحرير ، واختاره صاحب الحدائق (٢) ، وهو مذهب ابن أبي عمير (٣).
للمرويّين في تفسيري القمّي والعيّاشي المتقدّمين (٤).
ورواية جابر المرويّة في الكافي : « خلق الله تعالى آدم ، وأقطعه الدنيا
__________________
(١) الروضة ٢ : ٨٥.
(٢) الكافي ١ : ٥٣٨ ، تفسير القمي ١ : ٢٥٤ ، المقنعة : ٢٧٨ ، التهذيب ٤ : ١٣٢ ، والقاضي في المهذب ١ : ١٨٦ ، والديلمي في المراسم : ١٤٠ ، التحرير ١ : ٧٤ ، الحدائق ١٢ : ٤٧٩.
(٣) الكافي ١ : ٤٠٩ ـ ٨ ، مستدرك الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب الأنفال ب ٥ ح ٢.
(٤) في ص ١٤٠ ، ١٤١.
قطيعة ، فما كان لآدم فلرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وما كان لرسول الله فهو للأئمّة عليهمالسلام من آل محمّد » (١).
ورواية محمّد بن ريّان : « إنّ الدنيا وما عليها لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم » (٢).
ومرسلة أحمد بن محمّد بن عبد الله : « الدنيا وما فيها لله ولرسوله ولنا » الحديث (٣) ، دلّت على أنّ الدنيا وما فيها ـ ومنه المعادن ـ للإمام ، خرج منها ما خرج فيبقى الباقي.
وبعد دلالة تلك الأخبار الكثيرة ـ التي أكثرها مذكورة في الكافي وعمل قدماء الطائفة عليها ـ لا يضرّ ضعف سندها ، ولا ضعف دلالة الاولى من جهة اختلاف النسخ بتبديل لفظة : « منها » في بعضها « فيها » فلا تدلّ إلاّ على المعادن التي في أرضه ـ كما هو مذهب جمهور المتأخّرين (٤) ـ بل وكذلك على نسخة : « منها » ، لاحتمال رجوع الضمير إلى الأرض لا الأنفال ، سيّما مع قرب المرجع ، وإيجاب الرجوع إلى الأنفال استئناف الواو مع أنّ الأصل فيها العطف ، سيّما مع كونه مغنيا عن قوله : « منها ».
ولا ينافي كون المعادن من الأنفال ما دلّ على وجوب الخمس فيها ـ حيث إنّه لا معنى لوجوبه في ماله على الغير ـ لجواز أن يكون الحكم في المعادن : أنّ من أخرجه بإذنه يكون خمسه له والباقي له ، كما صرّح به الكليني والديلمي (٥).
__________________
(١) الكافي ١ : ٤٠٩ ـ ٧.
(٢) الكافي ١ : ٤٠٩ ـ ٦.
(٣) الكافي ١ : ٤٠٨ ـ ٢.
(٤) منهم الشهيد الثاني في الروضة ٢ : ٨٥ ، والسبزواري في الكفاية : ٤٤ ، وصاحب الرياض ١ : ٢٩٨.
(٥) الكافي ١ : ٥٣٨ ، المراسم : ١٤٠.
ومعنى كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم مالكا للمجموع : أنّ له التصرّف في المجموع بالإذن والمنع ، فمعنى أخبار وجوب الخمس : أنّ من أخرجها على الوجه الشرعي كان عليه الخمس ، وهو إنّما يكون مع إذنه عليهالسلام.
الحادي عشر : البحار ، وهي على الأظهر من الأنفال ، وفاقا لصريح الكليني (١) ، وظاهر ابن أبي عمير ، والمحكي عن المفيد بل الديلمي (٢) ، للعمومات المتقدّمة (٣).
وحسنة البختري : « إنّ جبرئيل كرى برجله خمسة أنهار ولسان الماء يتبعه : الفرات ، ودجلة ، ونيل مصر ، ومهران ، ونهر بلخ ، فما سقت أو سقي منها فللإمام ، والبحر المطيف بالدنيا » (٤).
وتؤيده ـ بل تدلّ عليه أيضا ـ صحيحة عمر بن يزيد ، وفيها : إنّي كنت وليت البحرين الغوص ، فأصبت أربعمائة ألف درهم ، وقد جئتك بخمسها ثمانين ألف درهم ـ إلى أن قال : ـ فقال عليهالسلام : « أو ما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلاّ الخمس يا أبا سيّار؟! إنّ الأرض كلّها لنا ، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا » فقلت له : وأنا أحمل إليك المال كلّه؟ فقال : « يا أبا سيّار ، قد طيّبناه لك ، وأحللناك منه ، فضمّ إليك مالك ، وكلّ ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون ، يحلّ ذلك لهم حتى يقوم قائمنا » الحديث (٥).
__________________
(١) الكافي ١ : ٥٣٨.
(٢) المقنعة : ٢٧٨ ، المراسم : ١٤٠.
(٣) راجع ص : ١٣٩ ـ ١٤١.
(٤) الكافي ١ : ٤٠٩ ـ ٨ ، الفقيه ٢ : ٢٤ ـ ٩١ ، الوسائل ٩ : ٥٣٠ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ١ ح ١٨.
(٥) الكافي ١ : ٤٠٨ ـ ٣ ، التهذيب ٤ : ١٤٤ ـ ٤٠٣ ، الوسائل ٩ : ٥٤٨ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ٤ ح ١٢.
وجه الدلالة : أنّ المال الحاصل للسائل ، وسؤاله كان عن الغوص ، ومنه يفهم أن مراده عليهالسلام من الأرض وما أخرج منها ما يشمل أرض البحار أيضا.
المسألة الثانية : ليس علينا بيان حكم الأنفال في حال حضور الإمام ، فإنّه المرجع في جميع الأحكام ، وأمّا في زمان الغيبة فالمشهور بين أصحابنا ـ كما في الروضة (١) ـ إباحتها للشيعة ، ومنهم من ذكر إباحة بعضها كالمناكح والمساكن والمتاجر (٢) ، وعن الحلبي والإسكافي : عدم إباحة شيء منها (٣).
أقول : قد مرّ حكم الرابع منها ، وهو المال المجهول مالكه.
وأمّا الثالث والخامس ، فيأتي حكمهما مشروحا في بحث إحياء الموات ، وقد ذكرنا ها هنا بعض ما يتعلّق بهما أيضا.
وأمّا السادس ، فهو ـ كما عرفت ـ غير خارج من الثلاثة المذكورة.
ويأتي حكم التاسع أيضا في كتاب المواريث.
بقيت ستّة أخرى ، والأصل فيها : إباحتها للشيعة وتحليلها بعد أداء ما فيه الخمس.
لقوله عليهالسلام في رواية يونس بن ظبيان أو المعلّى : « وما كان لنا فهو لشيعتنا » (٤).
وفي رواية النصري المتقدّمة : « اللهمّ إنّا أحللنا ذلك لشيعتنا » (٥).
__________________
(١) الروضة ٢ : ٨٥.
(٢) كالشيخ في المبسوط ١ : ٢٦٣.
(٣) الحلبي في الكافي في الفقه : ١٧٤ ، ونقله عن الإسكافي في المختلف : ٢٠٧.
(٤) الكافي ١ : ٤٠٩ ـ ٥ ، الوسائل ٩ : ٥٥٠ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ٤ ح ١٧.
(٥) التهذيب ٤ : ١٤٥ ـ ٤٠٥ ، الوسائل ٩ : ٥٤٩ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ٤ ح ١٤.
وفي صحيحة الفضلاء : « ألا وإنّ من شيعتنا وآبائهم في ذلك من حلّ » (١).
وفي رواية ابن حمزة : « ما خلا شيعتنا » (٢) ، ورواية سالم (٣).
الخالية جميعا عن معارضة ما يعارض هذه الأخبار في أمر الخمس ، والله العالم بحقائق أحكامه.
قد تمَّ كتاب الخمس من مستند الشيعة في أحكام الشريعة
في محق يوم السبت ، الثامن والعشرين من
جمادى الثاني سنة ١٢٣٧.
__________________
(١) التهذيب ٤ : ١٣٧ ـ ٣٨٦ ، الاستبصار ٢ : ٥٨ ـ ١٩١ ، الوسائل ٩ : ٥٤٣ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ٤ ح ١.
(٢) الكافي ٨ : ٢٨٥ ـ ٤٣١ ، الوسائل ٩ : ٥٥٢ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ٤ ح ١٩.
(٣) التهذيب ٤ : ١٣٧ ـ ٣٨٤ ، الاستبصار ٢ : ٥٨ ـ ١٨٩ ، الوسائل ٩ : ٥٤٤ أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ب ٤ ح ٤.
كتاب الصوم
ويلحقه الاعتكاف ، وفيه أربعة مقاصد :
المقصد الأول
في بيان ماهيّته وما يتحقّق به
وهو في اللغة : الإمساك بقول مطلق ، كما صرّح به جماعة (١) ، أو إمساك الإنسان (٢) ، أو كلّ حيوان عن الطعام كما قيل (٣).
وشرعا : الإمساك بالنّية والقصد عن تناول أشياء مخصوصة ، عمدا ، في وقت مخصوص ، من شخص خاصّ ، أي من يصحّ الصوم عنه.
فلا بدّ لنا في كشف ماهيّته الشرعيّة من شرح أمور خمسة في فصول خمسة :
__________________
(١) حكاه في المصباح المنير : ٣٥٢ ، لسان العرب ١٢ : ٣٥١.
(٢) المغرب في ترتيب المعرب ١ : ٣١١.
(٣) كما في الصحاح ٥ : ١٩٧٠ ومجمل اللغة ٣ : ٢٥٠.
الفصل الأول
في النيّة
ولا خلاف في اعتبارها ، ولا ريب في وجوبها وبطلان الصوم بتركها عمدا أو سهوا ، إذ لا عمل إلاّ بنيّة ، ولا فائدة بعد ذلك في الكلام في كونها شرطا أو شطرا ركنا.
وهنا هنا مسائل :
المسألة الأولى : يعتبر في النيّة القصد إلى الفعل مع القربة ، واعتبارهما فيها قطعي إجماعي ، كما مرّ في بحث الوضوء ، ولا يعتبر غيرهما ممّا اعتبره بعضهم ، كنيّة الوجه والأداء والقضاء وغير ذلك.
نعم ، يعتبر قصد المعيّن والمميّز ، حيث يمكن إيقاع الفعل على وجوه متعدّدة شرعا ولم تتداخل الوجوه ، كالنذر المطلق ، والنافلة والإجارة ، والقضاء ، إذا اجتمعت كلاّ أو بعضا ، إجماعا محقّقا ، ومحكيّا عن ظاهر المعتبر والمنتهى والتنقيح وصريح التحرير (١) ، وقد مرّ وجهه مستوفى.
وأمّا لو لم يمكن الإيقاع كذلك شرعا ، أو كان ولكن أمكن تداخل الوجوه ، لم يعتبر ذلك أيضا.
وتفصيل الكلام في ذلك المقام : أنّ المكلّف إمّا يكون بحيث يمكن له إيقاع الصوم على وجوه عديدة شرعا ـ بأن تكون عليه صيام متعدّدة ، وجوبا أو ندبا ، أو وجوبا وندبا ، ويكون الوقت صالحا لجمعيها ، ولا تتداخل تلك الوجوه ، أي لا يكفي الواحد للجميع ـ أو ليس كذلك.
والأول : ما ذكرنا من اعتبار قصد المعيّن والمميّز فيه ـ أي في نوعه
__________________
(١) المعتبر ٢ : ٦٤٣ ، المنتهى ٢ : ٥٥٧ ، التنقيح ١ : ٣٤٩ ، التحرير ١ : ٧٦.
لا في أصنافه أو أفراده ، إذا لم تختلف آثارها ـ فلو نذر صوم يوم ثمَّ نذر صوم يوم آخر لا يلزم تعيين النذر الأول أو الثاني إذا لم يختلف النذران من حيث الأثر ، وكذا قضاء اليوم الأول أو الثاني ، أو نحو ذلك.
والثاني : على قسمين ، لأنّه إمّا لا يمكن له إيقاع الصوم على وجوه متعدّدة ، أو يمكن ولكن يمكن تداخل تلك الوجوه.
والقسم الأول على نوعين ، لأنّ عدم الإمكان إمّا لأجل عدم صلاحيّة الوقت لغير صوم واحد ، أو لأجل عدم اشتغال الذمّة وجوبا أو ندبا بغير واحد.
والنوع الأول على ثلاثة أصناف : صوم شهر رمضان ، والنذر المعيّن ، وغيرهما كالإجارة المعيّنة أو القضاء المضيّق.
والجميع خمسة مواضع ، لا بدّ من البحث عن كلّ منها على حدة :
الموضع الأول : صوم شهر رمضان.
المشهور عدم اشتراط تعيين السبب ـ وهو كونه صوم رمضان ـ وكفاية قصد الصوم مع القربة ، بل عن الغنية والتنقيح وظاهر المختلف والتذكرة والمنتهى : الإجماع عليه (١) ، للأصل ، وعدم دليل على اشتراط التعيين في مثل المقام ، فإنّه لم يثبت إلاّ وجوب صوم هذا الشهر وقد تحقّق.
ويلوح إلى ذلك قوله عليهالسلام في رواية الزهري : « لأنّ الفرض إنّما وقع على اليوم بعينه » (٢).
وإن زدنا عليه نقول : بشرط أن لا يكون الصوم صوما آخر ، وهو
__________________
(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٧١ ، التنقيح ١ : ٣٤٨ ، المختلف : ٢١١ ، التذكرة ١ : ٢٥٥ ، المنتهى ٢ : ٥٥٧.
(٢) الكافي ٤ : ٨٣ ـ ١ ، الفقيه ٢ : ٤٦ ـ ٢٠٨ ، التهذيب ٤ : ٢٩٤ ـ ٨٩٥ ، الوسائل ١٠ : ٢٢ أبواب وجوب الصوم ونيته ب ٥ ح ٨.
أيضا متحقّق ، لاستحالة وقوع صوم آخر فيه ، ولأنّ اعتباره إنّما كان لدفع اشتراك الفعل حتى يطابق أحد الأمرين معيّنا وتتحقّق الصحّة ، ولا اشتراك هنا ، فيكون الوقت كالمميّز الخارجي الموجب لانطباق الفعل على واحد معيّن.
وفي الذخيرة حكاية الخلاف عن نادر ، فاعتبر تعيين السبب ، لتوقّف الامتثال على الإتيان بالفعل المأمور به من جهة أنّه مأمور به للسبب الذي أمر به (١).
وفيه : منع التوقّف على الجزء الأخير.
هذا ، والتحقيق أن يقال : إنّ على ما هو التحقيق في أمر النيّة من أنّها هي مجرّد الداعي المخطور بالبال ، وكون شهر رمضان معروفا ، ووجوب صومه ضروريّا ، لا يمكن فرض المسألة إلاّ بتعمّد الخلاف على الله تعالى ، وعدم قصد صوم رمضان ، أو بالذهول والغفلة عن الشهر ، أو عن وجوب صومه.
والأول لا يمكن القول بصحّته ، لانتفاء قصد التقرّب معه قطعا.
والثاني على قسمين ، لأنّه إمّا يكون مع الالتفات والشعور إلى صوم غير رمضان وينوي ذلك الغير ، أو يكون مع الذهول عنه أيضا.
والأول غير مفروض المسألة ، بل هو المسألة الآتية المتضمّنة لحكم من نوى صوم غير رمضان فيه.
فبقي الثاني ، ولا شكّ أنّه فرض غير متحقّق الوقوع أو نادر جدّا ، ومع ذلك فهو على قسمين ، لأنّ الغفلة والذهول إمّا يكون عن وجوب مطلق الصوم أيضا ، أو يكون عن مجرّد الشهر أو وجوب صومه بخصوصه.
__________________
(١) الذخيرة : ٤٩٥.
فعلى الأول أيضا لا معنى لصحة الصوم ، لأنّ الصحة موافقة المأمور به ، ولا أمر حينئذ بصوم رمضان ، لامتناع تكليف الغافل ، ولا بصوم ، لذهوله عنه ، بل قصد التقرّب حينئذ أيضا غير متصوّر غالبا ، ولكن لا تترتّب عليه فائدة بعد انتفاء التكليف.
نعم ، تظهر الفائدة حينئذ في القضاء ، وتحقيقه أيضا مشكل ، من حيث إنّ القضاء بأمر جديد ، وشمول أوامر القضاء لمثل ذلك الشخص الآتي بالصوم غير معلوم ، ومن حيث إنّ صومه لعدم موافقته لأمر لا يتّصف بالصحّة فيكون كغير الصائم ، فتشمله أدلّة القضاء.
وعلى الثاني يكون صومه صحيحا ، ولا يضرّ عدم قصد التعيين ، لما ذكر أولا ، وشعوره لأصل وجوب الصوم يكفي للتكليف والصحّة ولو كان ذاهلا عن خصوصيّة الشهر.
هذا كلّه إذا لم يكن عدم تعيين السبب للجهل برؤية الهلال ، وأمّا معه فهو مسألة أخرى يأتي بيانها.
والموضع الثاني : النذر المعيّن.
والأقوى فيه أيضا عدم اشتراط قصد السبب ، وفاقا لجمل السيّد والحلّي والمنتهى والقواعد والتذكرة والإرشاد والتبصرة والروضة والمدارك (١) ، لما مرّ بعينه من عدم الاشتراك ، والأصل ، فإنّ بالنذر في يوم لم يثبت إلاّ وجوب صوم هذا اليوم ، وأمّا وجوب صومه بقصد أنّه منذور فلا.
__________________
(١) جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٥٣ ، الحلي في السرائر ١ : ٣٧٠ ، المنتهى ٢ : ٥٥٧ ، القواعد ١ : ٦٣ ، التذكرة ١ : ٢٥٥ ، الإرشاد ١ : ٢٩٩ ، التبصرة : ٥٢ ، الروضة ٢ : ١٠٨ ، المدارك ٦ : ١٨.
وخلافا لجمل الشيخ وخلافه ومبسوطه والشرائع والنافع والمختلف والدروس واللمعة والبيان (١) ، لأنّ الأصل وجوب تعيين المنويّ وإن لم يكن على المكلّف غيره إذا احتمل الزمان لغيره ولو بالنسبة إلى غيره من المكلّفين ، إذ الأفعال إنّما تقع على الوجوه المقصودة ، خولف في شهر رمضان بالإجماع ، فيبقى الباقي ، ولصلاحيّة الزمان بحسب الأصل له ولغيره فلا يجدي التعيّن بالعرض (٢).
وردّ الأول : بمنع الأصل ، مع أنّ الوجه في ترك العمل به في شهر رمضان ليس الإجماع فقط ، بل عدم إمكان وقوع غيره فيه شرعا ، حيث إنّه موجب لانطباق الفعل على الأمر به ، وهو ثابت فيما نحن فيه أيضا.
فإن قيل : على التحقيق في أمر النيّة لا ينفكّ قصد السبب إلاّ مع السهو أو الذهول عن النذر أو اليوم ، ومع أحدهما لا بدّ من قصد سبب آخر ليتحقّق قصد القربة ، وحينئذ فيبطل الصوم ، لأنّه لا يمكن انطباقه على المنذور ، لقصد غيره ، ولا على الغير ، لعدم صلاحيّة الزمان.
قلنا : ـ مضافا إلى أنّ عدم صلاحيّة الزمان لغيره مختصّ بما لا يتداخل معه ـ إنّ الانطباق بالقصد إنّما هو إذا لم يكن مرجّح آخر للانطباق بغير المقصود وإلاّ فينطبق عليه.
بيان ذلك : أنّه إذا تعلّق أمران بصومين غير متداخلين ـ مثلا ـ وأتى المكلّف بصوم من غير تعيين بالقصد ولا : بمميّز خارجي ، نقول : إنّه
__________________
(١) الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢١١ ، الخلاف ٢ : ١٦٤ ، المبسوط ١ : ٢٧٧ ، الشرائع ١ : ١٨٧ ، المختصر النافع ١ : ٦٥ ، المختلف : ٢١١ ، الدروس ١ : ٢٦٧ ، اللمعة ( الروضة ٢ ) : ١٠٨ ، البيان : ٣٥٧.
(٢) قال في المسالك ١ : ٦٩ : إنّ الزمان بأصل الشرع غير معيّن بالنذر وإنّما يتعيّن بالعارض ، وما بالأصل لا يزيله ما بالعارض ، فلا بدّ من نيّة التعيين.
لا يوافق الأمرين ، لعدم التداخل ، ولا واحدا غير معيّن ، لعدم معقوليّة البراءة عن واحد غير معيّن من الأمرين المختلفين آثارا وتوابع ، ولا واحدا معيّنا ، لبطلان الترجيح بلا مرجّح فيبطل العمل.
وأمّا مع وجود مرجّح كعدم صلاحيّة الوقت إلاّ لواحد فينطبق عليه قطعا فيكون صحيحا ، على أنّ المأمور به ليس إلاّ الصوم الواقع في يوم النذر ، وقد تحقّق ، فيحصل الانطباق قطعا ، وقصد الزائد الغير الممكن التحقّق غير مؤثّر.
نعم ، لو كان المأمور به الصوم المنذور ـ بحيث يكون القيد جزءا له أو قيدا ـ لجاء الإشكال ، وهو ممنوع.
فإن قيل : الانطباق عليه إنّما يكون لو لم يعارضه قصد الآخر.
قلنا : القصد إنّما يفيد في الانطباق مع الإمكان ، وأمّا بدونه فلا يفيد ، بل يتحقّق قصد الزائد لغوا ، غير مؤثّر في صحّة ولا بطلان.
فإنّ قيل : لا شكّ أنّ الامتثال موقوف على القصد ، فإذا لم يقصد المكلّف إطاعة ذلك الأمر ـ بل قصد إطاعة أمر آخر غير ممكن التحقّق في ذلك اليوم ـ لم يتحقّق امتثال ، أمّا الأمر الأول فلعدم قصد امتثاله ، وأمّا الثاني فلاستحالة وقوعه إذا لم يتداخل مع الصوم المنذور.
قلنا : الامتثال يتوقّف على قصد امتثال مطلق الأمر الحاصل بقصد القربة ، ولا يتوقّف على قصد امتثال كلّ أمر بخصوصه ، فإنّه إذا أمر المولى عبده بإعطاء درهم لزيد ودرهم لعمرو ، وهو أعطى زيدا درهما بقصد إطاعة المولى ولكن يظنّ أنّه عمرو ، يمتثل أمر الإعطاء لزيد قطعا ، ولا يكلّف إعطاء الدرهم لزيد ثانيا قطعا.
ثمَّ التفصيل والتحقيق في هذا الموضع أيضا يعلم ممّا سبق في
الموضع الأول.
الموضع الثالث : غير المذكورين ، ممّا يتعيّن وقته ولا يصلح الزمان لغيره ، كالإجارة المعيّنة ، والقضاء المضيّق.
والحقّ فيه : اشتراط تعيين السبب ، كما عن الشيخ وابن حمزة والفاضلين وفخر المحقّقين (١) ، بل لم أجد فيه خلافا ، فيبطل الصوم لو لم يعيّن السبب وقصد الصوم ذاهلا عن كونه بالنيابة أو للقضاء ـ مثلا ـ وعن نيّة غير هذا الصوم أيضا ، وأمّا معها فهي مسألة أخرى تأتي.
وإنّما قلنا : إنّه يبطل الصوم ، لعدم كون هذا الصوم المعيّن مشروعا ومقصودا ، فلا وجه لانطباق الفعل بالأمر بالغير ، ولأصالة عدم تحقّق هذا المعيّن واستصحاب الاشتغال به.
والفرق بين ذلك وبين المذكورين : أنّ الثابت شرعا فيهما ليس إلاّ وجوب الإتيان بالصوم وكونه في اليوم المعيّن ـ أي ظرفيّته له ـ وقد تحقّق الأمران ، والأصل عدم الاشتغال بغيره.
بخلاف ذلك ، فإنّ المستأجر لم يرد من الأجير صوم الأيام المعيّنة مطلقا ، ولم يستأجره للصوم مطلقا ـ ولو كان كذلك لقلنا بعدم اشتراط تعيين السبب ـ بل استأجره للصوم عن شخص معيّن ، فالثابت شرعا أمور ثلاثة : الصوم ، والنيابة عن الغير ، وكونه في أيّام معيّنة ، ولا يحصل الثاني إلاّ بالقصد ، فيكون شرطا.
وكذا القضاء المضيّق ، فإنّه لا دليل شرعا على وجوب الصوم
__________________
(١) الشيخ في المبسوط ١ : ٢٧٨ ، والخلاف ٢ : ١٦٤ ، ابن حمزة في الوسيلة : ١٣٩ ، المحقّق في الشرائع ١ : ١٨٧ ، العلاّمة في التحرير ١ : ٧٦ ، فخر المحققين في الإيضاح ١ : ٢٢٠.
بالإطلاق في أيّام تضيّق القضاء حتى تبرأ الذمّة بالإتيان به ويجري الأصل في الزائد ، بل الثابت شرعا هو وجوب الصوم قضاء فيها ، ووقع أمر الشارع بالقضاء بمثل قوله : « اقض » أو : « تقضي » أو : « صم قضاء » ولا تعلم صيرورته قضاء إلاّ بقصده.
فإن قيل : كما أنّ اليوم المعيّن في شهر رمضان والنذر المعيّن ظرف للصوم ، كذلك القضاء والنيابة وصف له ، فما الفرق في لزوم تعيين ذلك في النيّة دونه؟
قلنا : الفرق أنّ المطلوب حصول ذلك الظرف والوصف ، والأول حاصل في الخارج من غير احتياج إلى النيّة ، بخلاف الثاني ، فإنّه لا تحقّق له إلاّ بالقصد ، وعلى هذا فلك أن تجعل مناط ما يجب تعيينه بالقصد وما لا يجب : قيد المأمور به ، الذي لا وجود له إلاّ بالقصد ، وماله وجود بنفسه ، فما كان من الأول يجب قصده ، وما كان من الثاني لا يجب.
وممّا ذكرنا علم المناط والضابط فيما يعتبر فيه قصد التعيين وما لا يعتبر فيه.
الموضع الرابع : ما لم يتعلّق بذمّة المكلّف غير صوم واحد واجب أو ندب.
ولا تعتبر فيه أيضا نية التعيين وقصد السبب ، إلاّ إذا كان السبب قيدا للمأمور به أو جزءا له ولم يتعيّن إلاّ بالقصد ، كما مرّ في الموضع السابق.
الموضع الخامس : ما تعدّدت وجوه الصوم ولكن أمكن تداخلها.
ولا يعتبر فيه التعيين ، بل يكفي قصد الصوم مطلقا عن الجميع ، لما أثبتناه من أصالة تداخل الأسباب ، بل يكفي قصد واحد معيّن عن الجميع أيضا ، لما أثبتناه في موضعه من التداخل القهري فيما يمكن فيه التداخل ،
وأصالة عدم اشتراط التعيين ، إلاّ فيما كان أحد المتداخلين أو كلاهما ممّا كان قصد السبب جزءا للمأمور به فيه ، فيجب قصده.
وعلى هذا ، فلو نذر صوم أيّام البيض من كلّ شهر ، وصوم يوم قدوم مسافرة ، واتّفق قدومه في أحد أيّام البيض ، يكفي صوم واحد للأمرين ، لأصالة التداخل.
ولا يشترط قصد التعيين ، للأصل ، فإنّ الثابت ليس إلاّ وجوب الصوم في هذا اليوم وقد تحقّق ، غاية الأمر أنّه يكون لوجوبه سببان ، وذلك لا يقتضي التعدّد ولا قصد السبب.
وكذا لو نذر صوم يوم قدوم مسافرة ، وقدم أحد أيّام البيض ، فيكفي صوم لواجبه ومستحبّه ، وهكذا في اجتماع المندوبين.
فرعان :
أ : عن الشهيد في البيان : إلحاق الندب المعيّن ـ كأيام البيض ـ بشهر رمضان في عدم افتقاره إلى التعيين (١) ، للتعيين هناك بأصل الشرع.
بل عنه في بعض تحقيقاته : إلحاق مطلق المندوب به ، لتعيينه شرعا في جميع الأيام إلاّ ما استثني (٢) ، واستحسنه جماعة كما قيل (٣) ، وتنظّر فيه أخرى.
أقول : التعيين بأصل الشرع إنّما يفيد في التعيين لو امتنع وقوع غيره فيه ، وذلك مختصّ بالواجب ، وأمّا المندوب فليس كذلك ، فإنّ أيّام البيض
__________________
(١) البيان : ٣٥٧.
(٢) حكاه عنه في المدارك ٥ : ٢٠.
(٣) انظر الرياض ١ : ٣٠١.
لم تتعيّن للصوم المندوب فيها. وكذلك مطلق الأيّام لمطلق المندوب ، لجواز وقوع غيرهما فيهما ، بل وقوعه كثيرا ، فالانصراف إليهما موقوف على صارف.
والتحقيق : أنّ التعيّن الندبي غير مفيد في ذلك ، بل ليس تعيّنا ندبيّا أيضا ، لأنّ التعيّن الندبي أن يكون غيره فيه مرجوحا ، وليس كذلك ، بل اللازم فيه أيضا الإناطة بما مرّ ، من عدم الاشتراك والتداخل وجزئيّة السبب ، فإن لم يكن على المكلّف غير الصوم المندوب في كلّ يوم إلاّ ما استثني تكفي فيه نيّة مطلق الصوم.
وكذا إذا اجتمعت أصوام متداخلة مندوبة أو مندوبة وواجبة ، تكفي نيّة المطلق إذا لم يكن تعيين السبب جزء المأمور به ، ويجب التعيين في غير ذلك ، فلو كان عليه قضاء وكفّارة ونيابة ومستحبّ ، ونوى مطلق الصوم متردّدا بين هذه الأمور ، بطل.
نعم ، لو كان ذاهلا عن الأمور المذكورة ونوى الصوم ، فالظاهر صحّته للمستحبّ ، لأنّ قصده القربة لا يكون إلاّ مع الالتفات إليه ، ولو فرض إمكان تحقّق الذهول عن الجميع وقصد القربة فيبطل ، ولكنه فرض غير متحقّق.
وكذا لو كان على أحد صوم عن غيره مندوبا ـ كأن يطلب منه أحد ليصوم عن والده مثلا وقبل ذلك رجحانا لقضاء مطلوب أخيه المؤمن ، أو أراد قضاء صيام محتمل الفوات أو مظنونه وقلنا باستحبابه ـ لا ينصرف إلى أحدهما إلاّ بقصد السبب. وتكفي نيّة مطلق الصوم في أيّام البيض عن صومها ولو كان عليه الصوم المستحبّ في كلّ يوم ، للتداخل ، وهكذا.
ثمَّ إنّه قد تحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّه إذا كان المأمور به متعدّدا غير متداخلة ولا متميّزة بمميّز خارجي ، وكانت مختلفة الآثار ، أو كان له قيد