رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٦

١
٢

سورة الحج

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي خمس وسبعون آية في العدد البصري ، وثمان وسبعون في العدد الكوفي.

قال ابن عباس : هي مكية غير آيات : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) والتي تليها ، و (هذانِ خَصْمانِ) واللتان بعدها (١).

قال الثعلبي (٢) (هذانِ خَصْمانِ) إلى (صِراطِ الْحَمِيدِ) مدني.

وقال أبو سليمان الدمشقي : أولها مدني إلى قوله : (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ، وسائرها مكي (٣).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢)

أمر الله سبحانه وتعالى الناس بالتقوى ، ثم عقّبه بذكر الساعة [وأهوالها](٤) مبالغة في إثارة دواعيهم إلى التمسك بأسباب التقوى ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).

__________________

(١) انظر : الإتقان (١ / ٤٢ ـ ٤٣).

(٢) ذكره الثعلبي في تفسيره (٧ / ٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٠٢).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٠٢).

(٤) في الأصل : وأهولها. والتصويب من ب.

٣

اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة ؛ فقال الحسن : يوم القيامة (١).

وقد روي عن (٢) عمران بن حصين : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وقال : تدرون أي يوم ذلك؟ فإنه يوم ينادي الرب عزوجل آدم [عليه‌السلام](٣) : ابعث بعثا إلى النار ... فذكر الحديث» (٤) ، وهو :

ما أخبرنا به الشيخ أبو المجد محمد بن الحسين القزويني بقراءتي عليه قال : أخبرنا الإمام أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي قراءة عليه ، قال : حدثنا الإمام أبو محمد [الحسين](٥) بن مسعود البغوي ، أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي (٦) ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر التاجر ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الكوفي العبسي ، أخبرنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم! قم فابعث بعث النار ، قال : فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، وما بعث النار يا رب (٧)؟ قال : فيقول : من كل ألف ، تسعمائة

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٥٧).

(٢) ساقط من ب.

(٣) زيادة من ب.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٢٣ ح ٣١٦٩).

(٥) في الأصل : الحسن. وهو خطأ. والتصويب من ب.

(٦) محمد بن محمد بن محمش بن علي بن داود ، أبو طاهر الزيادي ، ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، وتوفي بعد سنة أربعمائة ، وكان أبوه من أعيان العبّاد الذين يتبرّك بهم وبدعائهم (تهذيب الأسماء ٢ / ٥٢٥).

(٧) في ب : يا رب وما بعث النار.

٤

وتسعة وتسعين ، قال : فحينئذ يشيب المولود ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد. قال : فيقولون : وأيّنا ذلك الواحد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ، ومنكم واحد ، قال : فقال الناس : الله أكبر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، قال : فكبر الناس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، والشعرة السوداء في الثور الأبيض» (١). هذا حديث متفق على صحته ، أخرجه البخاري عن إسحاق بن [نصر](٢) ، عن أبي أسامة ، عن الأعمش. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع وعن أبي كريب ، عن [أبي](٣) معاوية ، كلاهما عن الأعمش.

وقال علقمة والشعبي : هذه الزلزلة تكون قبل القيامة (٤) ، وهي من أشراط الساعة (٥).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ١٢٢١ ح ٣١٧٠) ، ومسلم (١ / ٢٠٢ ح ٢٢٢).

(٢) في الأصل : منصور ، والتصويب من البخاري (٣ / ١٢٢١). وانظر ترجمته في : التقريب (ص : ٩٩) ، وتهذيب الكمال (٢ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩).

(٣) زيادة من ب.

(٤) قال الطبري (١٧ / ١١١) : وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبي ، قول لو لا مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلافه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم بمعاني وحي الله وتنزيله ، والصواب من القول في ذلك ما صح به الخبر عنه.

(٥) أخرجه الطبري (١٧ / ١٠٩) ، وابن أبي شيبة (٧ / ١٥١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علقمة ، ومن طريق آخر عن ـ

٥

وقد روى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال : ست آيات قبل القيامة ، بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ، ففزع الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير [والوحش](١) ، فماج بعضهم في بعض ، فقالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحور فإذا هي نار تأجج ، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة ، والسماء إلى السماء السابعة ، فينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فماتوا (٢).

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها) منصوب ب (تَذْهَلُ) ، والضمير للزلزلة (٣) ، يقال : ذهل عن كذا يذهل ذهولا ؛ إذا تركه أو شغله عنه شاغل (٤) ، ومنه قول عبد الله بن رواحة :

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله (٥)

وقرأ أبو عمران الجوني : " تذهل" بضم التاء وكسر الهاء. كل بالنصب (٦).

__________________

ـ الشعبي وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(١) في الأصل : والجن. والمثبت من الطبري (٣٠ / ٦٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٢).

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٣ ـ ٦٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٢ ـ ٣٤٠٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٧) وعزاه لابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٣) انظر : التبيان (٢ / ١٣٩) ، والدر المصون (٥ / ١٢١).

(٤) انظر : اللسان (مادة : ذهل).

(٥) انظر البيت في : القرطبي (١٢ / ٤ ، ١٣ ، ١٥١) ، وسير أعلام النبلاء (١ / ٢٣٥) ، والاستيعاب (٣ / ١١٣٩) ، والإصابة (٤ / ٨٥) ، والماوردي (٤ / ٦).

(٦) انظر : البحر المحيط (٦ / ٣٢٥) ، والدر المصون (٥ / ١٢١).

٦

قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام ، وهو قوله : (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها).(١)

[قال صاحب الكشاف (٢)](٣) : فإن قلت : لم قيل : مرضعة دون مرضع؟

قلت : المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ، فقيل : مرضعة ، ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من (٤) فيه لما يلحقها من الدهشة.

قوله تعالى : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي : عن إرضاعها ، أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل.

قال المفسرون : وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا ؛ لأن يوم البعث لا حبلى فيه ولا مرضعة (٥).

قلت : ومعنى الكلام على القول الآخر : يوم ترون أماراتها وتشاهدون علامتها ، تذهل المراضع وتضع الحوامل ، أو يكون ذلك خارجا مخرج التمثيل ، على معنى : لو وجد في ذلك اليوم مرضعة لذهلت ، أو حامل لوضعت.

قوله تعالى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) أي : تراهم لما عراهم من أهوال القيامة

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٧ / ١١٤). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧) وعزاه لابن جرير.

(٢) الكشاف (٣ / ١٤٣).

(٣) زيادة من ب.

(٤) في ب : عن.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٥٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٠٤).

٧

وشدائدها ، كأنهم سكارى لشدة اضطرابهم وقلقهم ، (وَما هُمْ بِسُكارى) على التحقيق.

وقال ابن جريج : وترى الناس سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب (١).

وقرأ عكرمة : " وترى الناس" بضم التاء (٢) ، على معنى : تظنّهم.

قال الفراء (٣) : لهذه القراءة وجه جيد.

وقرأ حمزة والكسائي : " سكرى وما هم بسكرى" (٤).

قال أبو علي (٥) : يجوز أن تجمع سكران على" سكرى".

قال (٦) : حكى سيبويه (٧) : رجل سكر ، وقد جمعوا هذا البناء على فعلى ، فقالوا : هرم وهرمى ، وزمن وزمنى ، وضمن وضمنى ؛ لأنه من باب الأدواء والأمراض التي يصاب بها ، ففعلى من هذا الجمع ، وإن كان كعطشى فليس يراد بها المفرد ، إنما يراد بها تأنيث الجمع.

ومن قرأ : " سكارى" فحجته : أنه لفظ يختص به الجمع ، وليس بمشترك

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٧ / ١١٥). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٨) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٢) انظر : البحر المحيط (٦ / ٣٢٥) ، والدر المصون (٥ / ١٢٢).

(٣) معاني الفراء (٢ / ٢١٥).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ١٦٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٧٢) ، والكشف (٢ / ١١٦) ، والنشر (٢ / ٣٢٥) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣١٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤٣٤).

(٥) الحجة (٣ / ١٦٤).

(٦) أي : أبو علي الفارسي ، الموضع السابق.

(٧) انظر : الكتاب (٣ / ٦٤٩).

٨

للجمع والواحد ، كقولهم : سكرى ، ونظيره قولهم : أسارى وكسالى ، فجاء الأول منه مضموما ، وإن كان الأكثر من هذا الجمع مفتوح الأول ، نحو : حذارى.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ، وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤)

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال ابن عباس وغيره : نزلت في النضر بن الحارث (١) ، وكان جدلا يكذب بالقرآن (٢) ، ويقول : الملائكة بنات الله (٣) ، ويزعم أن الله لا يقدر على إحياء الموتى (٤).

وروى عطاء عن ابن عباس أيضا : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، وعتبة بن ربيعة (٥).

وفي قوله : (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) إشارة إلى أن جداله لا يستند إلى برهان عقلي ، ولا بيان نقلي ، وإنما هو جدال شيطاني ، فهو لعناده يتّبع ما تسوّل له شياطينه.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٧ / ١١٥) عن ابن جريج ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٤٧٤) عن أبي مالك. وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٨) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي مالك ، ومن طريق آخر عن ابن جريج وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٢) هو قول ابن عباس.

(٣) وهذا هو قول مقاتل.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٥٨) بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٠٥) عن أبي سليمان الدمشقي.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٥٨).

٩

وقد سبق ذكر المريد في سورة النساء (١).

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي : قضي على الشيطان (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) أي : جعله وليا له ، (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) عن طريق الجنة (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ، وهذه الآية وإن نزلت على سبب خاص فإنها عامة في كل مجادل في الله ؛ في صفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، بغير كتاب ناطق ولا سنّة واضحة ، بل يخبط بآرائه الغائلة [المختلّة](٢) وأهوائه المردية المضلّة.

فإن قيل : الضمير في" أنه" فأنه" إلى أي شيء يرجع؟

قلت : الظاهر اتحاد الضمائر ، وأنّ الضمير فيهما يرجع إلى الشيطان. وقد جوّز بعضهم أن يكون ضمير الشأن ، على معنى : كتب على الشيطان أن الأمر والشأن من تولى الشيطان ، فالشأن أن الشيطان يضلّه.

فإن قيل : ما وجه الفتح في" أنه" فأنه" ، ووجه قراءة أبي مجلز وأبي العالية بالكسر فيهما؟

قلت : من فتحهما جعل الأولى فاعل" كتب" ، والثاني عطف عليه (٣). ومن كسر هما فعلى حكاية المكتوب ، كما تقول : كتبت أن الله هو الغني الحميد ، أو على تقدير : قيل له ، أو على أن" كتب" فيه معنى القول (٤).

__________________

(١). عند آية رقم : ١١٧.

(٢) في الأصل : المختلفة. والتصويب من ب.

(٣) قال أبو حيان في البحر (٦ / ٣٢٦) : وهذا لا يجوز ؛ لأنك إذا جعلت" فأنه" عطفا على" أنه" بقيت «أنه» بلا استيفاء خبر ؛ لأن" من تولاه" من فيه مبتدأة ، فإنه قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبر لأنه ، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها ، إذ جعلت" فأنه" عطفا على" أنه".

(٤) ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف (٣ / ١٤٥).

١٠

فإن قيل : " من" هاهنا شرطية ، أو [بمعنى](١) الذي؟

قلت : جائز أن تكون بمعنى الذي ، وقوله : " تولاه" في صلة" من". وقوله : (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) مبتدأ ، تقديره : الشأن أنه يضله ، والمبتدأ مع أنّه واسمه وخبره خبر" من" ، ودخلت الفاء ؛ لأن الموصول يتضمن معنى الشرط والجزاء. وجائز أن تكون شرطية ، و" تولاه" في موضع الجزم ب" من" ، والفاء مع" أنّ" وما بعده في موضع الجواب والشرط ، والجواب خبر" أنّ" الأولى (٢).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي : إن كنتم في شكّ من صحته وكونه ، فانظروا ببصائركم في دلائل قدرتي ومبتدأ خلقكم لتستدلوا بالابتداء السابق على الإيجاد اللاحق.

وقوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) معناه : خلقنا أصلكم آدم من تراب ، (ثُمَ

__________________

(١) في الأصل : معنى. والتصويب من ب.

(٢) انظر : التبيان (٢ / ١٣٩) ، والدر المصون (٥ / ١٢٣ ـ ١٢٤).

١١

مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهي دم عبيط جامد ، تنقلب عين النطفة إليه إذا استقرت في الرحم أربعين يوما.

وفي طهارتها عن الإمام أحمد روايتان : مثارهما التردد بين كونها دما وبدؤ خلق آدمي.

(ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وهي اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ ، (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).

قال ابن مسعود : المخلقة : ما خلق سويا ، وغير المخلقة : ما ألقته الأرحام من النطف قبل أن يكون خلقا (١).

وقال الحسن : مصورة وغير مصورة (٢).

وقال ابن عباس : المخلقة : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه ، وهو الذي يولد حيا لتمام ، وغير المخلقة : ما سقط غير حي لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه (٣).

قال صاحب الكشاف (٤) : المخلقة : المسواة الملساء من النقصان والعيب ، يقال : خلق السواك والعود ؛ إذا سواه [وملسه](٥) ، من قولهم : صخرة خلقاء ؛ إذا كانت ملساء(٦).

__________________

(١) ذكره الطبري (١٧ / ١١٦) ، والماوردي (٤ / ٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٠٦).

(٢) ذكره الطبري (١٧ / ١١٦) ، والماوردي (٤ / ٧) من قول مجاهد ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٠٧).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ مقارب (٨ / ٢٤٧٥). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٠٦) ، والسيوطي في الدر (٦ / ١٠) وعزاه لا بن أبي حاتم وصححه.

(٤) الكشاف (٣ / ١٤٥).

(٥) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٦) انظر : اللسان (مائدة : خلق).

١٢

قوله تعالى : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي : لنظهر لكم ونوضح بهذا التدريج والتنقل من حال إلى حال كمال قدرتنا وبليغ حكمتنا ، وأن من قدر على خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ، مع ما بين التراب والماء والدم من المباينة ، ثم جعل العلقة مضغة والمضغة عظاما ، قادر على إنشائكم بعد فنائكم.

قوله تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) كلام مستأنف ، أي : نثبت فيها ما نشاء فلا يكون سقطا ، وما لم نشأ إقراره تمجه الأرحام وتسقطه.

والأجل المسمى : أجل الو لا دة والوضع.

وقرأت على الشيخين أبي البقاء عبد الله بن الحسين اللغوي وأبي عمرو عثمان بن مقبل الياسري : " ونقر" بالنصب (١) ، عطفا على" لنبين". وضعفها الزجاج (٢).

(ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) قال الزجاج (٣) : " طفلا" في معنى أطفال ، ودل عليه ذكر الجماعة.

وقال غيره : المعنى : ثم نخرج كل واحد منكم طفلا.

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) فيه إضمار ، تقديره : ثم نعمركم لتبلغوا كمال قوتكم ، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل بلوغ الأشد ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أخسه وأدونه ، وهو سن الخرف والهرم.

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٥ / ١٢٥) ، والبحر (٦ / ٣٢٧).

(٢) انظر : معاني الزجاج (٣ / ٤١٢).

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٤١٢).

١٣

(لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) مفسر في النحل (١).

ثم أوضح لهم طريق الاستدلال بذكر المثال ليعتبروا الغائب بالشاهد فقال : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي : ميتة يابسة كالنار إذا طفئت ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) انتفخت.

قال الزجاج (٢) : هو من ربا يربو ؛ إذا زاد على أي الجهات زاد.

وقال المبرد : أراد : اهتز نباتها وربا ، فحذف المضاف (٣).

وقرأت لأبي جعفر : " وربأت" بهمزة مفتوحة بعد الباء (٤).

قال الفراء (٥) : إن كان ذهب إلى الربيئة الذي يحرس القوم [فهذا مذهب](٦) ، أي : أنه يرتفع ، وإلا فهو غلط.

وقال الزجاج (٧) : معنى [ربأت](٨) : ارتفعت.

(وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) قال ابن عباس : من كل صنف حسن (٩).

__________________

(١) عند الآية رقم : ٧٠.

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٤١٣).

(٣) انظر قول المبرد في : الوسيط (٣ / ٢٦٠) ، وزاد المسير (٥ / ٤٠٨).

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣١٣) ، والنشر (٢ / ٣٢٥).

(٥) معاني الفراء (٢ / ٢١٦).

(٦) زيادة من معاني الفراء ، الموضع السابق.

(٧) معاني الزجاج (٣ / ٤١٣).

(٨) في الأصل : رأيات. والتصويب من ب.

(٩) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٤٧٥). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٦٠) ، والسيوطي في الدر (٦ / ١١) وعزاه لا بن أبي حاتم.

١٤

والبهجة : حسن الشيء [ونضارته](١).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧)

قوله تعالى : (ذلِكَ) أي : ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض وما في ضمن ذلك من أنواع الحكم حاصل بهذا السبب ، وهو أن الله تعالى (هُوَ الْحَقُ) أي : الثابت [الوجود](٢) القادر على إيجاد المعدوم وإعدام الموجود ، (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ) أي : وليعلموا أن الساعة (آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) في نفس الأمر ، [أو هو](٣) نفي في معنى النهي.

وفي قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) دلالة على إن شاء الأجساد البالية يوم النشور.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠)

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ

__________________

(١) في الأصل : ونظارته. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : الموجود. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : وهو. والتصويب من ب.

١٥

مُنِيرٍ) سبق من قبل ذكر سبب نزولها.

قوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ) نصب على الحال من الضمير في" يجادل" (١) ، والتقدير : ثانيا عطفه ـ بالتنوين ـ ، لكنه أضاف اسم الفاعل وإن أراد به الحال ؛ لأنه في تقدير الانفصال ، ومثله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ، و (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) [الأحقاف : ٢٤].

والعطف : الجانب ، وعطفا الرجل جانباه عن يمين وشمال (٢) ، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان ، أي : يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء.

قال الزجاج (٣) : وجاء في التفسير : لاويا عنقه.

وقال غيره : ثني العطف مجاز عن الكبر والخيلاء ، والتقدير : ومن الناس من يجادل في الله متكبرا آنفا من اتباع الحق.

(لِيُضِلَ) وقرئ : " ليضل" وقد سبق ذكره (٤) ، واللام في" ليضل" ـ بفتح الياء وضمها ـ : لام الصيرورة والعاقبة.

(لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ذل وهوان ، فإنه أسر يوم بدر (٥) [وقتل](٦) صبرا

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ١٤٠) ، والدر المصون (٥ / ١٢٨).

(٢) انظر : اللسان ، مائدة : (عطف).

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٤١٤).

(٤) في سورة يونس عند الآية رقم : ٨٨.

(٥) العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ولقد روى ابن جرير الطبري هذا الخبر عن ابن جريج بدون تحديد لشخص معين (١٧ / ١٢٢).

(٦) في الأصل : وقيل. والتصويب من ب.

١٦

بالصفراء. وقد تقدم ذكره في الكتاب (١).

وقيل : نزلت هذه الآية في أبي جهل (٢) ، ولقد شاهد اللعين يوم بدر من أنواع الهوان ما أسخن عينه ، ولقد وطئ ابن مسعود بأخمصه صفحة عنقه يوم بدر وهو في آخر رمق ، فقال : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويع الغنم (٣).

(وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) منضما إلى الخزي الذي أصابه في الدنيا ، (عَذابَ الْحَرِيقِ) وهو عذاب النار.

(ذلِكَ) الخزي والعذاب (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) من الكبر والكفر ، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) سبق تفسيره.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ ، وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣)

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قال مجاهد وقتادة : على شك (٤).

__________________

(١) في سورة الأنفال عند الآية رقم : ٣١.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٦١).

(٣) ذكره ابن حبان في الثقات (١ / ١٧٢).

(٤) أخرجه الطبري (١٧ / ١٢٣) ، ومجاهد (ص : ٤٢٠). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٤) وعزاه ـ

١٧

وأصله من حرف الشيء وهو طرفه (١) ، كأنه لشدة قلقه واضطرابه وعدم استقراره وتمكنه في الدين على حرف منه.

(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) رخاء وعافية (اطْمَأَنَّ بِهِ) وسكن وثبت على الدين بذلك الخير ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) ابتلاء واختبار بقلة مال وجدب ومرض ، (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) ارتد إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر ، (خَسِرَ الدُّنْيا) حيث لم يظفر بسؤله ، (وَالْآخِرَةَ) بكفره بالله وبرسوله.

وقرأت ليعقوب من روآية زيد عنه : " خاسر الدنيا" بألف والنصب على الحال ، " والآخرة" بالجر (٢).

(ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الظاهر لمن له أدنى مسكة من درآية وهدآية.

قال المفسرون : نزلت في أعاريب كانوا يقدمون المدينة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان أحدهم إذا صح جسمه ، ونتجت فرسه ، وكثرت ماشيته ، وولدت امرأته غلاما سويا ، اطمأن وقال : ما أصبت منذ دخلت في دين هذا إلا خيرا ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرا ، وانقلب (٣).

قوله تعالى : (يَدْعُوا) أي : يعبد (مِنْ دُونِ اللهِ) هذا المرتد المنقلب على

__________________

ـ لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.

(١) انظر : اللسان ، مائدة : (حرف).

(٢) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٣ ـ ٤١٤) ، والنشر (٢ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٦٨) ، والطبري (١٧ / ١٢٢ ـ ١٢٣). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٣ ـ ١٤) وعزاه للبخاري وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الحسن وعزاه لعبد بن حميد.

١٨

وجهه (١) (ما لا يَضُرُّهُ) إن لم يعبده ، (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن عبده ، وهي الأصنام ، (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن سنن الرشاد.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) قال السدي : المعنى : يدعو لمن ضره في الآخرة بعبادته أقرب من نفعه (٢).

قال المفسرون : هو الصنم لا [نفع](٣) عنده أصلا ، وإنما جاء هذا على لغة العرب ، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون : هذا بعيد (٤). ومنه قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٣] ، فلهذا قال : (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، وهذا اختيار الزجاج (٥).

وقال صاحب الكشاف (٦) : إن قلت : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين ، وهذا تناقض؟

قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا ، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به. ثم قال : يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أو كرر يدعو ، كأنه قال :

__________________

(١) في ب : أخر قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) إلى هنا.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٤٧٧). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٥) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) في الأصل : ينفع. والتصويب من ب.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٦١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤١٢).

(٥) معاني الزجاج : (٣ / ٤١٥).

(٦) الكشاف (٣ / ١٤٨).

١٩

يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا : لبئس المولى.

[فإن](١) قيل : لا شبهة أنه لا يجوز : ضربت لزيدا ، ولا دعوت لزيدا ، فإنها لام الابتداء ، ولا تسوغ هاهنا ، فما وجه قوله : "(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ)

قلت : هذه الآية كثر فيها نزاع الكوفيين والبصريين ، وأنا أشير لك إلى مقاصدهم بطريق الاختصار فأقول : زعم الفراء (٢) أن التقدير : من لضرّه أقرب من نفعه ، اللام داخلة على قوله : " ضرّه" ؛ لأن ضرّه مبتدأ ، قال : ولكن اللام قدّمت كما يقدم أشياء في كلامهم ، وأوردوا على الفراء إشكالا لازما ، فقالوا : يلزم على هذا أن تكون اللام في صلة" من" ، وقد علم أن الصلة أو شيئا منها لا يتقدم على الموصول ؛ لأن الصلة مع الموصول كالكلمة الواحدة ، ولا يجوز أن يتقدم بعض الكلمة على بعض [كالدال](٣) مثلا على الزاي من زيد (٤).

وقال البصريون : الوجه في الآية : أن يكون في" يدعو" ضمير عائ د" إلى ذلك" ، تقديره : ذلك هو الضلال البعيد يدعو ، والجملة في موضع النصب على الحال ، أي : ذلك هو الضلال البعيد [مدعوّا](٥) ، ويكون قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) مبتدأ ، والخبر قوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ، ف" ضره" مبتدأ و" أقرب" خبره ، والجملة صلة" من" ،

__________________

(١) في الأصل : فا. وهو تصحيف. والتصويب من ب.

(٢) معاني الفراء (٢ / ٢١٧).

(٣) في الأصل : كالذال. والتصويب من ب.

(٤) انظر : الدر المصون (٥ / ١٣٠).

(٥) في الأصل : يدعو. والتصويب من ب.

٢٠