تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١)

____________________________________

المدن أعرابا ، وإنما يسمون عربا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن السفر معك يا رسول الله (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) اطلب الغفران من الله على تخلفنا ، فإنهم تخلفوا خوفا ، ولما رجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منتصرا ندموا وجاءوا يعتذرون ، لكن كلامهم في اعتذارهم ، أولا ، وفي طلب استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ثانيا ، كان كذبا (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فعدم نفرهم أولا : كان خوفا ، وطلب استغفارهم ثانيا : كان لأجل أن يمحوا عن أنفسهم وصمة العار التي لحقت بهم عند المؤمنين (قُلْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) هل هناك من يقدر على منع نفوذ قضاء الله فيكم (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) بالقتل وإغارة قبيلة على قبيلة أو ما أشبه ذلك فأنتم كان فراركم خوفا ، بينما لا ينفع الفرار من بأس الله إن كان مقدرا أن ينزل بكم (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) والآن أنتم جئتم معتذرين لتحصلوا من اعتذاركم على نفع المستقبل من الجاه عند المؤمنين والغنيمة في المستقبل ، بينما النفع بيد الله ، لا أن اعتذاركم يجر إليكم نفعا ، والحاصل أنهم كانت أعمالهم وعدم نفرهم ، واعتذارهم ، تابعة لخوفهم ورجائهم ، بينما الضرر والنفع بيد الله ، لا بحسب أعمالهم (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فعلم سبب تخلفكم وسبب اعتذاركم «على خلاف ما أظهرتم».

١٨١

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ

____________________________________

[١٣] ثم بين الله سبحانه كذبهم في دعواهم «شغلتنا أموالنا وأهلونا» بقوله (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) لأن كفار مكة يقتلونهم (وَزُيِّنَ ذلِكَ) الظن (فِي قُلُوبِكُمْ) فإن الإنسان يرتاب أولا ثم يشك ثم يظن ، ثم يقوى ظنه إلى حد أنه الذي يزين له فيصرفه عن العمل بخلاف ذلك (وَ) قد كان الظن باطلا إذ (ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) لم يكن يستحق أن يزين في قلوبكم ، إذ ما كنتم تعلمون من خطط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكيمة ، ومن نصرة الله له كان ينبغي أن يصرفكم عن ظنكم (وَكُنْتُمْ) بانصرافكم عن النصر مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قَوْماً بُوراً) جمع بائر ، أي هالكين ، هلكت دنياكم لأنكم فضحتم ، وآخرتكم لما أعده الله لكم من العقاب.

[١٤] لقد كنتم قوما بورا في الدنيا كما وضح ذلك للجميع (وَ) أما أنكم بور في الآخرة فلوضوح أن (مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) كما ظهر ذلك من تخلفكم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الساعة الحرجة (فَإِنَّا أَعْتَدْنا) هيئنا (لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) نارا تستعر.

[١٥] (وَ) الله سبحانه قادر على عذابهم إذ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يتمكن الحروب عن إرادته ولكن إذا رجع هؤلاء إلى التوبة والطاعة فلعله سبحانه يغفر لهم إذ هو تعالى (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ

١٨٢

وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا

____________________________________

وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) وليست مشيئته اعتباطية بل تابعة لعمل الإنسان فيشاء غفران التائب وعذاب المصر (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يستر ذنب التائب (رَحِيماً) يرحمه بأن يبدل سيئاته حسنات.

[١٦] وإذ بين سبحانه أن عذرهم كان كذبا ، أراد أن يبين أن طلبهم للتوبة والاستغفار أيضا كذب (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الذين تخلفوا عن النصر مع الرسول إلى الحديبية (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى) حرب جديد مما فيه (مَغانِمَ) جمع مغنم بمعنى الغنيمة (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا) أي دعونا (نَتَّبِعْكُمْ) فحيث كان الخوف من أهل مكة لم يسافروا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما حيث حرب طفيفة ، يريدون الكون معكم ليحصلوا على الغنائم (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) فإن المسلمين استعدوا لقتال أهل مكة في الحديبية ليعلوا الإسلام ، لكن كان رأيهم خطأ ، إذ ما كان بالإمكان فتح مكة ، مع علم أهلها أن الرسول يريد محاربتهم ، بل أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحها في حالة غفلتهم لئلا تراق دماء ، وكان كما أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصلح ، ولما ثقل على المسلمين ، حيث لم يحاربوا ولم يحصلوا على مغانم من أهل مكة ، وعدهم الله أن يعوضهم عن مغانم مكة بمغانم خيبر ، فكانت مغانم خيبر لأهل الحديبية ـ حسب وعد الله سبحانه ـ فإذا تبع المخلفون المسلمين في فتح خيبر كان ذلك تبديلا لكلام الله تعالى ، ولذا ف (قُلْ) يا رسول الله للمخلفين (لَنْ تَتَّبِعُونا) إنشاء في صورة إخبار ، لبيان أنه محقق

١٨٣

كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا

____________________________________

الوقوع (كَذلِكُمْ) أي هكذا و «كم» أداة خطاب (قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن نتهيأ لخيبر ، وهو في الحديبية (فَسَيَقُولُونَ) أي المخلفون (بَلْ تَحْسُدُونَنا) أن نشارككم في الغنائم ، وهذا نفي لكلام المؤمنين حيث قالوا للمخلفين «إن الله وعد الغنائم لأهل حديبية» (بَلْ) ليس كما يقول المخلفون إذ أنهم (كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) فهم لا يفهموا حتى موازين الدنيا ، فإن من عليه الغرم فله الغنم ، لا أن يكون الخوف والصعوبة للمؤمنين ، ثم يشاركهم المخلفون في الغنائم.

[١٧] (قُلْ) يا رسول الله (لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في ذمهم وإشعارا بشناعة تخلفهم (سَتُدْعَوْنَ إِلى) قتال (قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) حيث يكون فيه الخوف والغنم معا ، فإنكم حيث لم تتحملوا خوف الحديبية لا تأخذون من غنائم خيبر. أما في المستقبل لنا حرب مع قوم أولي بأس شديد ، كأهل مكة «حين نريد فتحها» و «كحرب حنين» و «كحرب الطائف» وغيرها ، فلكم أن تأتوا معنا لتنالوا قسطكم من صعوبة الحرب ، وقسطكم من غنائمها (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) فإما القتال حتى النصر ، أو أن يسلموا بدون قتال ، ولعله إشارة إلى أن أهل مكة استسلموا بدون قتال ، وأن أهل حنين قوتلوا إلى أن انتصر المسلمون (فَإِنْ تُطِيعُوا) باستجابة الذهاب

١٨٤

يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)

____________________________________

مع المسلمين إلى قتال هؤلاء (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) بتوسعة التجارة مع أهل مكة ، وبالغنائم في حنين بالإضافة إلى ثواب الله في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) ولم تحضروا القتال (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) في الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما لتضاعف جرمكم ، بإصراركم على مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١٨] نعم لا يجب حضور الجهاد على الكل فالمتخلف في الحديبية وفي غير الحديبية لا يشمله التهديد والوعيد ف (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) أي لا نشتد عليه بإلزامه حضور الحرب (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) لأنه لا يتمكن من اللحاق بالمجاهدين الماشين ، ولا يقدر على ركوب الفرس ، لعدم وصول رجله إلى الركاب (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) إذا كان مرضه يمنعه من السير (وَ) إذا أطعتم أيها المخلفون ، في المستقبل إذا دعاكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحرب فإن (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فلا يذوق حر الصحراء ، لأنه في جنة ، ولا عطش شح الماء ، لأنه عند الأنهار الجارية (وَمَنْ يَتَوَلَ) منكم (يُعَذِّبْهُ) الله (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما ، وقد كرر سبحانه التهديد ليكون أبلغ في التخويف وليهيئ نفوسهم لقبول الأوامر.

١٨٥

لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)

____________________________________

[١٩] ثم جاء الكلام لينقل قصة الحديبية لتكون بشارة للمؤمنين الذين شهدوا الحديبية ، وتعريضا بالمتخلفين لزيادة تحذيرهم عن التخلف ثانية فقال سبحانه (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) كانت في الحديبية شجرة جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحتها ، وأخذ البيعة من المسلمين الذين كانوا معه لمحاربة قريش ، حين أشيع بأنهم قتلوا رسول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، وهذه البيعة سميت ببيعة الرضوان ، لقوله تعالى «لقد رضي الله» والمراد برضي زيادة الرضا ، لأن الله كان راضيا عنهم قبل ذلك ، أو رضاه ببيعتهم (فَعَلِمَ) الله بسبب بيعتهم (ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإيمان والإخلاص ، والمراد رفع علمه سبحانه على المعلوم حين وجد المعلوم في الخارج ، فالمراد ظهر ما في قلوبهم ، وهذا الظهور كان معلوما لله تعالى ، وعلى هذا «فالفاء» في فعلم ، للترتيب الكلامي لا الترتيب الخارجي (فَأَنْزَلَ) الله جزاء لبيعتهم (السَّكِينَةَ) سكون النفس (عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ) وأعطاهم ثوابا لذلك (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتحهم لخيبر بعد انصرافهم من الحديبية.

[٢٠] (وَ) أثابهم (مَغانِمَ) غنائم (كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) من خيبر (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) غالبا على أمره (حَكِيماً) يفعل الأشياء حسب المصلحة والحكمة ، فحركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحديبية ، أفادت طغى القبائل في أهل مكة حيث منعوا عن الحرم ، كما فتحت الطريق أمام فتح مكة حيث أن نقض المشركين للعهد أعطى الزمام بيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهاجم

١٨٦

وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها

____________________________________

مكة دفاعا ، وكذلك كرس ـ منعهم عن الحج ـ نفوسهم إلى التصميم على فتح خيبر.

[٢١] (وَعَدَكُمُ اللهُ) أيها المسلمون (مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) وهي المغانم التي حصل ويحصل عليها المسلمون منذ الحديبية إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) مغانم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أيدي أهل خيبر فلم يقدروا على محاربتكم ، إذ أنهم ذهلوا وسقط في أيديهم فلم يحاربوا بقدر قواهم الواقعية (وَلِتَكُونَ) هذه الغنائم ، وكف أيدي الناس (آيَةً) علامة (لِلْمُؤْمِنِينَ) فظهر صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أخبرهم قبل خيبر أنهم سيغلبون ويغنمون غنائم كثيرة ، والظاهر أن «لتكون» عطف على مقدر يفهم من الكلام السابق فكأنه قال «عجل الغنيمة وكف الأعداء» لتنتفعوا ماديا ، ولتكون آية لتنتفعوا معنويا (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) عطف على «لتكون» إذ المعونة المادية والمعنوية تزيد الإنسان صلابة للاستقامة في الطريق ، فقد تقدم أن كل خطوة في الحياة ، إما مستقيمة أو منحرفة.

[٢٢] (وَأُخْرى) عطف على «هذه» أي عجل لكم غنائم خيبر وادخر لكم غنائم أخرى هي غنائم هوازن (لَمْ تَقْدِرُوا) بعد (عَلَيْها) لأنه لم تقع حرب هوازن بعد (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي استولى عليها بالعلم والقدرة

١٨٧

وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ

____________________________________

مثل الدائرة المحيطة بالشيء حيث لا يقدر ذلك الشيء التخلص من تلك الدائرة (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) فسيرشدكم على كيفية التسلط على تلك الغنائم ، وهذا إما إخبار بالغيب أو أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرفه بتجسس تجمع المشركين للقضاء على المسلمين ، فإن للحرب أرصادا في الغالب.

[٢٣] إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح في الحديبية ، وحارب مع أهل خيبر ، وقد اجتمع لمناصرة خيبر حلفاؤهم ، لكنهم لما رأوا قوة الرسول انهزموا (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من حلفاء خيبر (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) وانهزموا وانكسروا في القتال ، وذلك لوضوح أنه لو انهزمت القوة الأقوى لانهزمت القوة الأضعف (ثُمَّ لا يَجِدُونَ) أولئك الحلفاء (وَلِيًّا) يلي أمورهم بالتوسط إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإعطائهم المعلومات ونحوها كما يفعل أولياء كل جماعة بهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم في حربهم مع الرسول.

[٢٤] هذه هي (سُنَّةَ اللهِ) طريقته حيث ينصر أوليائه على أعدائه ، ويعطي الأولياء غنائم الأعداء (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلُ) في سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، وإن قلت فكيف كان يقتل الكفار الأنبياء ، قلت كانوا يتسلطون عليهم حيث لا يكون للنبي جماعة مدافعة ، أما إذا كانت فسنة الله نصرة الأنبياء ، لا يقال إذا لا فرق بين الأنبياء عليهم‌السلام وبين غيرهم ، لأنه يقال الفرق إن الأنبياء ينتصرون ولو بدون مكافئة القوى بخلاف

١٨٨

وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

غير الأنبياء عليهم‌السلام. إن قلت وكذلك بعض الأمم الضعيفة تغلب على الأمم القوية قلت : إذا أخذت الغلبة بالمعنى المادي أي تبديل أناس في الحكم بأناس آخرين فقط بدون تغيير النظام فهي موجودة في أي فئة قليلة مصممة تغلب فئة كثيرة غير مصممة ، أما إذا أخذت بالمعنى المادي والمعنوي فتلك خاصة بأهل الله تعالى (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) إذ إن قوانين الله في الحياة لا تتغير ، فهي جارية إلى زوال الحياة عن الأرض.

[٢٥] ثم بين سبحانه فلسفة الصلح في الحديبية ، ولتوضيح أن النصرة كانت هناك للمؤمنين ـ حسب سنة الله ـ وإنما يقاتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا لخوف الانهزام بل لمصلحة أخرى (وَهُوَ) الله سبحانه (الَّذِي كَفَ) منع (أَيْدِيَهُمْ) أيدي الكفار (عَنْكُمْ) فلم يتجرءوا على قتالكم (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) فقبلتم الصلح وتركتم الحرب (بِبَطْنِ مَكَّةَ) مركز العداوة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم تقع الحرب في بطن مكة (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) فبعد أن كانوا يغزونكم في المدينة طلبوا منكم الصلح في الحديبية وهذا ظفر معنوي (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) حيث أطعتم الرسول بعدم الحرب ، مع أن رأيكم كان الحرب ، وكنتم ترون عدم الحرب انهزاما.

[٢٦] وقد كان أهل مكة مستحقين للحرب لأنهم (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله

١٨٩

وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ

____________________________________

ورسوله (وَصَدُّوكُمْ) منعوكم (عَنِ) زيارة (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حيث كان المسلمون يريدون العمرة (وَ) منعوا عن (الْهَدْيَ) الإبل التي ساقها المسلمون لعمرتهم (مَعْكُوفاً) من عكف إذا حبس لأن الإبل كان محبوسا على الهدي لينحر بعد قضاء العمرة ، فقد منع المشركون (أَنْ يَبْلُغَ) الهدي (مَحِلَّهُ) المكان الذي ينحر فيه بمكة ، وبهذا قد استحقوا القتال مرة لكفرهم ، ومرة لصدهم عن المسجد ، ومرة لمنعهم الهدي ، ومع ذلك فقد كف الله تعالى أيديكم عنهم (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) في مكة مختلطين بالكفار (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) بأشخاصهم ، لتتجنبوا قتالهم عند قتالكم مع المشركين (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل اشتمال من «رجال مؤمنون ...» أي لو لا خوف سحقكم «ووطئكم» في حالة حرب المشركين ، لرجال ونساء مسلمين فإذا وطأتموهم تصيبكم (مِنْهُمْ) من جهة أولئك المسحوقين (مَعَرَّةٌ) أي مكروه إذ يحزن المسلم أن يقتل المسلم ، إذا وقع القتل اشتباها ، بالإضافة إلى تعيير المشركين للمسلمين بأنهم قتلوا حتى إخوانهم في الدين ، إلى غير ذلك (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منكم المسلم من غير المسلم ، فقوله «لم تعلموهم» لبيان أنهم لا يعرفون أولئك المسلمين ، وقوله «بغير علم» لبيان أن سحقهم بغير علم ، فلا تكرار ، وجواب «لو لا» محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي لو لا خوف سحقكم للمؤمنين المجهولين ، لما كف الله أيديكم عن المشركين ، وإنما كنا نجيز لكم

١٩٠

لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ

____________________________________

في حرب أهل مكة لو لا خوف سحق المؤمنين (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من الذين يحاربون ، فظاهر «ليدخل» أنه تعليل للجواب المحذوف ، ففي الآية معلولان «الحرب» و «الكف» وعلتان «الإدخال في الرحمة للأول» و «خوف السحق للثاني» لكن لما كان الثاني أهم ، رجحه سبحانه على الأول ، ثم أكد سبحانه أن الكف عن الحرب كان لخوف سحق المؤمنين بقوله (لَوْ تَزَيَّلُوا) تفرقوا وتميز المسلم عن الكافر ـ في أهل مكة ـ (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من أهل مكة ـ في قبال الذين آمنوا منهم ـ (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما ، بالقتل والأسر وغنيمة الأموال.

[٢٧] وقد كان كف الله أيديكم عنهم وحتى لا تقع الحرب (إِذْ) في زمان (جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) أي الكبر والأنفة (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) فإن «الحمية» مشتقة الحمى ، وقد تستعمل لحمية الخير ، وقد تستعمل لحمية الشر ، ولذا بينه سبحانه ، بأنها كانت حمية الجاهلية ، إذ الجاهل يحمي عن الباطل ، وذلك لأنه بعد أن تقرر الصلح بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين رسول المشركين «في الحديبية» قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة ... فقال سهيل بن عمر «رسول المشركين» بل اكتب «باسمك اللهم» ـ وذلك لأنهم كانوا يكرهون اسم الرحمن لجهلهم ـ ولا تكتب رسول الله ، لأنا لو عرفناه

١٩١

فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)

____________________________________

رسولا ما حاربناه ... فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام أن يكتب كما قال سهيل ، ولو لا مسامحة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاشتعلت نار الحرب (١) فقد جعل رسول المشركين في قلبه حمية الجاهلية لكن (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) سكونه (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلم يصروا على كيفية كتابة كتاب الصلح (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) فجنحوا إلى الخوف من الله في أن لا ينساقوا وراء الكبر فتقع الحرب ، ويسحق المؤمنون المجهولون الذين كانوا بمكة ، و «السكينة» هي حلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون ، في حال قدرتهم على الحرب والمراد بالكلمة «الشعار» فإن المؤمنين جعلوا شعارهم التقوى ، فكلما وقعت مشكلة ، التفوا حول هذا الشعار (وَكانُوا) الرسول والمؤمنون (أَحَقَّ بِها) من المشركين ، لأن المؤمن أحق بتجنيب المزالق من غير المؤمن (وَ) كانوا (أَهْلَها) أهل التقوى ، من قبيل قولنا : أهل الرجل أحق باتباع الرجل (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعلم ما يفعله المؤمنون من جهة تقواهم ، فيثيبهم عليه ، كما يعلم ما يفعله الكفار من جهة حميتهم فيعاقبهم عليه.

[٢٨] كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل خروجه إلى الحديبية رأى في المنام أنه والمؤمنين معه دخلوا المسجد الحرام ، فنقل رؤياه للمؤمنين ، ولما

__________________

(١) راجع وقعة صفين : ص ٥٠٩.

١٩٢

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ

____________________________________

قبل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلح في الحديبية ولم يدخل المسجد الحرام ، تساءل المؤمنون عن مدى صحة الرؤيا ، وهل كانت أضغاث أحلام؟ وإذا كانت صادقة فلما ذا لم تتحقق؟ وأجاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الرؤيا صحيحة وأنهم يدخلون المسجد ، ولكن ما ظنه المسلمون من أن تحقق الرؤيا يكون في هذه السنة «سنة الحديبية» كان غير صحيح ف (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) فكان ما أراه الله في المنام صدق (بِالْحَقِ) الصدق هو مطابقة الخبر للواقع ، والحق هو مطابقة الواقع للخبر ، وقد يجتمعان للتأكيد ، أو المراد أن ما أراه تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان صدقا «يقع في المستقبل» متلبسا «بالحق» أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، فأنتم أيها المؤمنون (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) مؤكدا «باللام» و «نون الثقيلة» (إِنْ شاءَ اللهُ) إن شاء الله إما كلمة تبرك ، فليس لها معنى الشرط ، أو هي مثل لفظ «لعل» الذي يستعمله القرآن الحكيم المراد به أن الكلام محل «لعل» أو محل «إن شاء الله» وإن كان سبحانه لا يرجو شيئا ولا شك له حتى يعلق على المشيئة ، فهو كاستعمال الأمر بقصد التهديد أو ما أشبه ، وكذلك في كل إنشاء وإخبار ، قد يستعملان بقصد آخر ، في حال كونهم (آمِنِينَ) عن محاربة الكفار لكم ، وفي حال كونكم (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) من أظفاركم وغيرهما ، والظاهر أن المراد أن قسما محلق وقسما مقصر (لا تَخافُونَ) بعد ذلك ، فالآمن حين الدخول ، وعدم الخوف بعد ذلك فلمجرد الترتيب في الكلام علم الله

١٩٣

ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨)

____________________________________

(ما لَمْ تَعْلَمُوا) من كون المصلحة تأخير دخول المسجد الحرام ، وقد تقدم أن المصلحة ظهرت بعد ذلك (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) من قبل دخولكم المسجد الحرام (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر ، وبذلك قوي الإسلام واطمأن المسلمون بالنصر والغنائم ، إلى أن تيسر وقت فتح مكة ، تصديقا لرؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢٩] وكيف زعم بعض المسلمين في الحديبية أنهم انهزموا ، حتى قال قائلهم ما شككت في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل شكي يوم الحديبية والحال أن الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) يصحبه الهدى ، لهداية الناس إلى الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة (وَدِينِ الْحَقِ) الدين هي الطريقة ، والحق هو الواقع «لأن لكل شيء واقعا صحيحا» فالدين الحق هو الطريقة ، والهدى عبارة عن الهداية إليه ، كما يقال هديته إلى الطريق ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بأن يهدي الناس ، وكأن معه خريطة دين الحق ، وإنما أرسله الله سبحانه (لِيُظْهِرَهُ) ليغلبه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) كل الأديان ، سواء كانت سماوية منسوخة أو غير سماوية (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) فالله يشهد بأنه رسوله وأن ما أتى به هو الدين الحق ، وشهادته سبحانه عبارة عن جعله تعالى الفطرة البشرية موافقة له ، وجعل الحجة له ، أو المراد جعل المعجزة المصدقة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه ، ثم إنه كما يحق لمخترع الطائرة أن يقول ستعم الطائرة كل البلاد ، وسينسخ السفر بالدواب «لأنه يعلم ذلك بالمقايسة بين المركوبين ، وبفهم طبيعة البشر المائلة إلى

١٩٤

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ

____________________________________

الراحة» كذلك ظهور الإسلام على الأديان كلها ، شيء موافق للمنطق ، بعد فهم طبيعة الإنسان المائلة إلى الأخذ بالمنهج الصحيح ، وفهم طبيعة الإسلام ومقايسة بسائر الأديان ليظهر أنه الألأم بطبيعة الإنسان.

[٣٠] وإذ تقدم الكلام عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن المؤمنين به وعن المنافقين ذكر الله تعالى صفاتهم الظاهرة ليعرف بها المؤمن عن المنافق (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ظاهر الآية أنه مبتدأ وخبر (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) لأن الكافر مبدأه فاسد مفسد فإذا لم يؤخذ بالشدة لإيقافه عند حده فسد وأفسد ، لكن المراد بالشدة الشدة العقلائية «كما هو المتبادر منه» لا الشدة بمعنى القساوة والإفراط (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) يرحم بعضهم بعضا ، فإن أرواحهم تتلاقى بالإيمان ، مما يوجب رحم بعضهم بعضا (تَراهُمْ) أيها الرائي (رُكَّعاً سُجَّداً) لكثرة صلاتهم (يَبْتَغُونَ) أي يلتمسون بكثرة الصلاة (فَضْلاً) وزيادة (مِنَ اللهِ) ثوابا (وَرِضْواناً) يطلبون مرضاته فهؤلاء (سِيماهُمْ) علامة إيمانهم (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) كالسمة التي تحدث في جباههم من كثرة سجودهم ، فهذه ثلاث صفات لهم ، صفة مع الأعداء ، وصفة مع المؤمنين ، وصفة مع الله (ذلِكَ) الوصف الذي ذكر لهم (مَثَلُهُمْ) أي وصفهم (فِي التَّوْراةِ) المنزلة على موسى عليه‌السلام (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) المنزلة على عيسى عليه‌السلام فقد وصف المؤمنون في الكتابين ، بالأوصاف الثلاثة المتقدمة ، ثم بين سبحانه حالة نموهم

١٩٥

كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)

____________________________________

وتكاثرهم ، من جراء تلك الأوصاف الثلاثة السابقة ، فهم (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي فراخه (فَآزَرَهُ) فقواه ، أي قوى الزرع فراخه ، إذ الفراخ يقوي قليلا قليلا (فَاسْتَغْلَظَ) ذلك الزرع أي صار من الدقة إلى الغلظة (فَاسْتَوى) واستقام ذلك الزرع بعد الغلظة (عَلى سُوقِهِ) جمع ساق ، فإنه كان في بدو أمره ، بدون فراخ ، وبدون غلظة الساق ، وبدون الاستقامة ، فإذا هبت به ريح أمالته وربما قلعته (يُعْجِبُ) ذلك الزرع (الزُّرَّاعَ) من منظره وفراخه وغلظته وقوته وكذلك بدأ المؤمنون قليلين ، ثم أفرخوا فألحقوا بأنفسهم أناسا آخرين ، فهم كالفراخ بالنسبة إلى المؤمنين الأولين ، وبذلك حصل مؤازرة السابقين للاحقين ، وبذلك صار الأولون أقوياء كأنهم استغلظوا ، لأن من وجد الأعوان يقوى ، وحينذاك قاموا بأنفسهم أشداء ، لا تخوفهم رياح الكفر ، ولا يمثل بهم أعاصير الباطل (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) اللام للعاقبة ، مثل فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، أي كان عاقبة كونهم كالزرع الكذائي غيظ الكفار ، ولعل الإتيان بهذه الصفة «غيظ الكافرين» لأجل بيان أنهم لغيظهم يكيدون للمؤمنين ، مما يعطي المؤمنين تبرير قتالهم واستئصال شأفتهم ، وبذلك «يظهره على الدين كله» (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) إشارة إلى أن كل هذه الكثرة التي التفت حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما هم كالزرع ، ليسوا من أصحاب الجنة بل المؤمنون منهم فقط كذلك (مَغْفِرَةً) غفرانا لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) في الآخرة ، فدنيا المؤمنين كزرع كذا ، وآخرتهم غفران وأجر.

١٩٦

(٤٩)

سورة الحجرات

مدنية / آياتها (١٩)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحجرات» وهي كباقي السور المدنية مشتملة على قضايا الشريعة. ولما ختمت سورة الفتح بصفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين معه ابتدأت هذه السورة ببعض وظائف المؤمنين اتجاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين في أمورنا كلها بالله ، ليكون الله عونا لنا وليكون اسمه شعارنا ، ولنوحي إلى أنفسنا أن نلتف حوله سبحانه ، لينقذنا من مشاكلنا ، وليمنح لنا ما نحتاجه في ديننا ودنيانا وآخرتنا ، فهو الرحمن الرحيم في الدنيا والآخرة.

١٩٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) أي لا تتقدموا ، كما يقال مقدمة الجيش لمن تقدم منهم ولعل المجيء من باب التفعيل ، من باب أن النفس تقدم الإنسان ، ولذا يأتي أحيانا بصيغة المجهول ـ في مثل هذه الأفعال ـ قال تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١) لأن نفسهم أجبرتهم على ألسجود (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) كناية عن عدم سبق الإنسان بأن يحكم بحكم قبل أن يكون الله أنزله وقبل أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّنه ، وإلا فليس لله سبحانه يد ، وإنما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، ولا يبعد أن يكون لفظ «لا تقدموا» يشمل حتى في تقدم المشي أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوا منه فلا تخالفوا أوامره ونواهيه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأعمالكم ، وعن تفسير القمي أن وفد بني تميم إذا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقفوا على باب حجرته فنادوا يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرج إلينا وكانوا إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدموه في المشي وكانوا إذا كلموه رفعوا أصواتهم فوق صوته ، يقولون يا محمد ما تقول في كذا؟ كما يكلم بعضهم بعضا فأنزل هذه الآيات (٢).

[٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) فلا تكن

__________________

(١) الشعراء : ٤٧.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣١٨.

١٩٨

وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)

____________________________________

درجة رفع صوتكم أكثر من درجة رفع النبي صوته ، مثلا يصل صوت النبي إلى ذراع ويصل صوتكم إلى ذراعين بل اللازم أن يكون صوتكم أخفض من صوته أو مساويا له (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكأنه جيء ب «له» لبيان أن إجهارهم كان لأجله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يسمع كلامهم ـ بزعمهم ـ (بِالْقَوْلِ) عند التكلم (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) عند ما يكلم بعضكم بعضا فإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساكتا فأردتم أن تكلموه تكلموا بأدب وخضوع وخفض صوت ، لا كما يكلم بعضكم بعضا من الجهر ورفع الصوت الخارجين عن أدب التكلم مع الكبار ، وإنما لا تفعلوا ذلك ل (أَنْ) لا (تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) فإن سوء الأدب مع الرسول يوجب حبط العمل (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أنها محبطة.

[٤] (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) يخفضونها ولا يرفعونها ، بقدر صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أكثر من صوته ، سواء كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال التكلم ، أو كان ساكتا (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) سواء تكلموا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مع إنسان آخر من الذين عنده (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) جرّبها لها ومرّنها عليها ، أي ظهرت تقوى قلوبهم لأن أعمال الجوارح تابعة للقلب (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) غفران لذنوبهم لتأدبهم بهذا الأدب الرفيع عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ثواب جزيل ،

١٩٩

إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

____________________________________

فلهم جزاءان محو الذنب ورفع الدرجة.

[٥] (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ) يا رسول الله (مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) من خلف حجراته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كان لكل امرأة له حجرة خاصة بها (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إذ العقل يقتضي حسن الأدب فلا ينادي الشخص الإنسان الكبير من وراء الحجرة ، بل إما أن يدق الباب دقا خفيفا ، أو أن يشير بكلام يدل على أنه حضر لحاجة ، أو أن يصبر حتى يخرج الإنسان الرفيع بنفسه وإنما قال «أكثرهم» مع أن كل من فعل ذلك لا يعقل ، تأدبا ، حتى يمكن أن يزعم أن من فعل ذلك أنه ليس داخلا في «أكثرهم» فلا يتأذى ، وهذا باب من أبواب البلاغة ، حيث يفهم المتكلم ، من فعل السيئ ، قبح فعله ، مع تجنب أن يؤذيه.

[٦] (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من الاستعجال والنداء (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تأدب بعد ذلك وسمع الأمر (رَحِيمٌ) يعطي للمتأدب الأجر والثواب ، وهذه الآيات لم ينته فحواها ، بل الأدب يقتضي كل ذلك مع الكبار ، فإن كل آيات القرآن تنفع الإنسان عبرة أو حكما ، حتى آية النجوى التي نسخت في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفادت طبيعة الإنسان وأنها بخيلة لا تصرف المال وإن فاته الخير بسبب صرف المال ، حتى يعلم الإنسان أن اللازم عليه محاربة شحه ، إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر منها ابتداء أنها خاصة ، ثم إن الجهر عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإنسان الرفيع الشأن لا يكون مذموما إذا كان

٢٠٠