غريب القرآن في شعر العرب

غريب القرآن في شعر العرب

المؤلف:


المحقق: محمّد عبدالرحيم وأحمد نصر الله
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

١

٢

٣
٤

الإهداء

يا آل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

يكفيكم من عظيم الفخر أنكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له

الإمام الشافعي

* إلى الحبيب الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيّد المرسلين

* وإلى أهل بيته الطاهرين

*وإلى أصحابه الطّيّبين

نهدي هذا العمل

المحققان

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

صدق الله العظيم

[سورة آل عمران]

الآية (٧)

٧
٨

عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال :

ضمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال :

«اللهمّ علّمه الكتاب»

ـ أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عكرمة في كتاب العلم باب (١٧ ـ ١٩) رقم (٧٥) و (١٤٣) و (٣٥٤٦) و (٦٨٤٢). وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب : فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رقم (٣٤٧٧).

وأخرجه الإمام الترمذي في سننه كتاب المناقب باب (٤٢). وأخرجه الإمام بن ماجة في سننه في المقدمة باب (١١). وأخرجه ابن سعد في طبقاته ج ٢ ق ٢ ص ١١٩ و ١٢٣. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ج ١ ص ٢١٤ و ٢٦٦ و ٢٦٩ و ٣٢٧ و ٣٢٨ و ٣٣٠ و ٢٣٥ و ٣٥٩.

٩
١٠

المقدّمة

الحمد لله خالق المصنوعات ، وبارئ البريات ، ومدبّر الكائنات ، ومعرّف الألسن الناطقات ، مفضّل لغة العرب على سائر اللغات ، المنزل كتابه ، والمرسل رسوله وحبيبه محمدا صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين بها تنويها بشأنها ، وتعريفا بعظم محلها وارتفاع مكانها.

أحمده أبلغ الحمد وأكمله وأزكاه وأشمله ، وأشهد أن لا إله إلا الله اللطيف الكريم ، الرؤوف الرحيم ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته وعلى سائر النبيين وآل كلّ وسائر الصالحين.

أما بعد :

فإن لغة العرب كان ولم يزل لها المكانة الأعلى ، والمقام الأسمى ، ذلك لأن بها يعرف كتاب ربّ العالمين ، وسنّة خير الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين.

صلوات الله عليه وعلى سائر النبيين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اجتهد أولو البصائر والأنفس الزاكيات ، والهمم المهذبة العاليات في الاعتناء باللغة العربية ، والتمكن من إتقانها بحفظ أشعار العرب وخطبهم ونثرهم ، وغير ذلك من أمرهم ، وكان هذا الاعتناء في زمن الصحابة الأجلّاء رضي الله عنهم ، مع فصاحتهم ومعرفتهم في أمور اللغة وأصولها. فلقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يحفظ من الأشعار والأقوال ما لا يحصى ، وما ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأولاده إلا لتفريطهم في حفظ العربية ، وأما ثناء الإمام الجليل الشافعي رحمه‌الله ،

١١

وحثه على تعلم العربية في أول رسالته ، فهو مقتضى منصبه وعظم جلالته ، ولا حاجة إلى الإطالة في الحث عليها. فالعلماء مجمعون على الدعاء إليها ، بل شرّطوها في كتبهم واتفقوا على تعلمها وتعليمها من فروض الكفايات.

لم يشتهر بالتفسير من الصحابة سوى عدد قليل ، عدّهم السّيوطي وسمّاهم ، وهم الخلفاء الأربعة ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء ما سوى الإمام عليّ ، فقد قلّ ما نقل عنهم ، لانشغالهم بمهام الخلافة ، وتقدم وفاتهم ، ثم لوجودهم في وسط أغلبه عالمون بكتاب الله عزوجل ، عارفون بمعانيه وأحكامه ، عرب تقل لديهم الحاجة إلى الرجوع في التفسير إلى غيرهم.

أما الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، فكان أكثر الخلفاء رواية ، فتأخّر الخلافة عنه مدة خلافة الثلاثة منحه فرصة يتفرغ بها للعلم والتعليم. ثم إن تأخر وفاته أوصله إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر القرآن ويشرح الأحكام ، وكادت فيه تضيع خصائص اللغة العربية بدخول الأعاجم في الإسلام ، واختلاطهم بالعرب.

أما ابن عباس (١) فبإجماع معاصريه ، كان مفسر القرآن الأول. ولنعم ما وصفه

__________________

(١) ابن عباس : هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ، أبو العباس ، حبر الأمة ، الصحابي الجليل ، ولد بمكة سنة (٣) ق. ه. ونشأ في بدء عصر النبوّة ، فلازم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى عنه الأحاديث الصحيحة. وشهد مع الإمام علي كرم الله وجهه الجمل وصفين ، وكفّ بصره في آخر عمره ، فسكن الطائف وتوفي بها سنة (٦٨) ه الموافق (٦٨٧) م. له في الصحيحين ١٦٦٠ حديثا. قال ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وقال عمرو بن دينار : ما رأيت مجلسا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس ، الحلال ، والحرام ، والعربية ، والأنساب ، والشعر. وقال عطاء : كان ناس يأتون ابن عباس في الشعر والأنساب ، وناس يأتونه لأيام العرب ووقائعهم ، وناس يأتونه للفقه والعلم ، فما منهم صنف إلا يقبل عليهم بما يشاءون وكان كثيرا ما يجعل أيامه يوما للفقه ، ويوما للتأويل ، ويوما للمغازي ، ويوما للشعر ، ويوما لوقائع العرب. وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أعضلت عليه قضية دعا ابن عباس وقال له : أنت لها ولأمثالها. ثم يأخذ بقوله ولا يدعو لذلك أحد سواه. وكان آية في الحفظ ، فكان إذا سمع النوادب سد أذنيه بأصابعه مخافة أن يحفظ أقوالهن. (انظر :

١٢

به ابن عمر إذ قال :

(ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد).

وابن عباس رجل أمسك بالمجد من أطرافه. فقد نال شرف صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرف القرابة من الحبيب المصطفى : فهو ابن عمه العباس بن عبد المطلب. وفي الإمارة : فقد أمّره علي بن أبي طالب على البصرة ، وفي الورع والتقى : كان صوّام النهار ، قوّام الليل ، متضرعا بكّاء من خشية الله تبارك وتعالى. وفي العلم : كان حبر الأمة الإسلامية ، وترجمان القرآن العظيم ، وذلك كان لقبه ، وحقّا كان يستحقه. فهو ذو المعارف الواسعة ، والقلب الذكي ، والعقل المستنير. أحب العلم واندفع إليه ، وأحسّ أنه للعلم مخلوق. فمنذ أن أدناه منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وربّت على كتفه وقال داعيا : «اللهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التأويل» (١) بعدها انطلق ابن عباس بقلبه الواعي ، وذهنه الصافي ، وحافظته الخارقة ، سالكا طريق العلم ، فلم يضع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحفظ أقواله ، ما جعله في يوم من الأيام رباني الأمة الإسلامية ، وأعلمها بكتاب الله ، وأفقهها بتأويل آياته ، وأقدر المفسرين على النفوذ إلى أغواره ، وفهم مراميه وأسراره ، مما بوأه بين الصحابة مكانا مرموقا ، فكان أكثرهم تفسيرا. ولأن معرفته وحكمته كانتا أسرع نموا من عمره. فقد نال في شبابه الغض حكمة الشيوخ وأناتهم ، وعقل الخبراء وحصافتهم مما جعله موضع احترام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي كان حريصا على مشورته في كبير الأمور وعظيمها ، وكان يلقبه ب (فتى الكهول).

__________________

الإصابة : ٤٧٧٢. وصفة الصفوة : ١ / ٣١٤. وحلية الأولياء : ١ / ٣١٤. وتاريخ الخميس : ١ / ١٦٧. والأعلام : ٤ / ٩٥).

(١) أخرجه الإمام البخاري في كتاب العلم رقم ٧٥ و ١٤٣ و ٣٥٤٦ و ٦٨٤٢. وأخرجه الإمام مسلم في فضائل الصحابة رقم ٢٤٧٧. وأخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب ٤٢. وأخرجه ابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأخرجه ابن سعد في طبقاته الجزء ٢ صفحة ١١٩ و ١٢٣. وأخرجه الإمام أحمد في الجزء ١ صفحة ٢١٤ و ٢٦٦ و ٢٦٩ و ٣١٤ و ٣٢٧ و ٣٢٨ و ٣٣٠ و ٣٣٥ و ٣٥٩.

١٣

يروي ابن عباس فيقول : كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر ، فكان بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله تعالى (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (٣)؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي عمر : أكذلك تقول يا ابن عباس؟.

فقلت : لا. فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه له وقال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (٤) فذلك علامة أجلك. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٥).

فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول.

وكان إعجاب عمر بن الخطاب بابن عباس يزداد كل يوم. حتى إنه كان يقول عنه : ذاكم فتى الكهول إن له لسانا سئولا وقلبا عقولا.

وباللسان السؤول ، وبالقلب العقول ، وبتواضع ابن عباس ودماثة خلقه صار حبر الأمة أو بحر الأمة (٦) وموسوعتها الحيّة. فهو الذي يحدّث عن نفسه فيقول : إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن حرصه على حيازة العلم وأدبه في تعلمه.

يقول : لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت لفتى من الأنصار : هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير. فقال : لا .. يا عجبا لك يا ابن عباس ، أترى الناس يفتقرون إليك وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى؟ فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي إليه وهو قائل في الظهيرة ، فأتوسد ردائي على بابه ، يسفي الريح عليّ من التراب حتى ينتهي من

__________________

(٣) سورة النصر ، الآية : ١.

(٤) المرجع السابق.

(٥) المرجع السابق الآية : ٣.

(٦) انظر : طبقات ابن سعد : الجزء ٢ القسم ٢ صفحة ١٢٠.

١٤

مقيله ، ويخرج فيراني فيقول : يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول : لا أنت أحق بأن أسعى إليك. فأسأله عن الحديث وأتعلم منه. وجدّ في طلبه للعلم. حتى أدهش بما بلغه فحول عصره.

فقال عنه محمد بن الحنفية : كان ابن عباس حبر هذه الأمة.

أما الإمام الحسن رضي الله عنه فكان يقول : إن ابن عباس كان من القرآن بمنزل.

وكان التابعون يرون فيه الأستاذ المثل والعالم الكامل ، فكان أحد كبار التابعين مسروق بن الأجدع يقول : كنت إذا رأيت ابن عباس قلت : أجمل الناس. فإذا نطق قلت : أفصح الناس ، فإذا تحدث قلت : أعلم الناس.

بل إن تنوّع ثقافته وشمول معرفته لمّا يأخذ بألباب معاصريه ، فهو المتمكن من كل علم : في الفقه والتاريخ ، وفي تفسير القرآن وتأويله ، وفي لغة العرب وآدابهم. يقول عبيد الله بن عتبة : ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابن عباس ، ولا رأيت أحدا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم منه ولا أفقه في رأي منه ، ولا أعلم بشعر ولا عربية ، ولا تفسير للقرآن ولا بحساب وفريضة منه.

ولما حاز ابن عباس ما قصد إليه من العلم تحوّل إلى معلم يعلم الناس ، فيعظ العامة ، ويعلم الخاصة ، فكان بيته جامعة ، فيها تلقى كل العلوم لكن ليس فيها إلا أستاذ واحد ، أستاذ موسوعي يجد عنده الطالب كل ما يريد. يقول عبيد الله بن عتبة : .. ولقد كان يجلس يوما للفقه ، ويوما للتأويل ، ويوما للمغازي ، ويوما للشعر ، ويوما لأيام العرب وأخبارهم ، وما رأيت عالما جلس إليه إلا خضع له ولا سائلا سأله إلا وجد عنده علما.

لقد كان لا بد لابن عباس من تخصيص أيام الأسبوع كل يوم بعلم ، فقد كان مقصد الباحثين والطالبين ، يأتيه الناس من أقطار الإسلام أفواجا لينهلوا من بحر علمه ، ويستغلوا فرصة وجوده (٧).

__________________

(٧) المرجع السابق.

١٥

ولم يكن ابن عباس ذا ذاكرة قوية خارقة فقط ، بل وذا ذكاء نافذ وفطنة بالغة ، كانت حجته إذا حاجج كما الشمس في رابعة النهار ـ بهجة ووضوحا وألقا ـ وما كان يحاور ويحاجج زهوا بعلمه ولا إظهارا لقوة منطقة وصلابة موقفه ، بل كان يرى ذلك سبيلا لإظهار الحق ومعرفة الصواب.

عرف له ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فوجهه إلى الخوارج فحاورهم حوارا رائعا ، بيّن فيه الحق ، وساق الحجة بشكل يبهر الألباب ، فما كاد ينتهي النقاش حتى نهض منهم عشرون ألفا راجعين عن خروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، معلنين أحقّيّة الإمام علي فيما يسير إليه.

وما نسوقه في هذا الكتاب من مسائل ، مظهر آخر من مظاهرة قوة الرجل في علمه وحجته ، وما كان لابن عباس من الثروة العلمية بأقل مما له من ثروة الخلق والكرم ، وسخاؤه بالمال لم يكن بأقل من سخائه بالعلم.

يقول عنه أحد معاصريه : ما رأيت بيتا أكثر طعاما ولا شرابا ولا فاكهة ولا علما من بيت ابن عباس.

تخلّق ابن عباس بأخلاق الإسلام ، وتمثّل آداب العلماء ، فكان طاهر القلب ، نقي النفس لا يحمل ضغنا لإنسان ، يتمنى الخير لكل مخلوق. يقول عن نفسه : إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم ، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط. فأفرح به ، وأدعو له ، ومالي عنده قضية ، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به ، وما لي بتلك الأرض سائمة (٨).

ولئن قال الله جلّ جلاله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٩) ، فإن ابن عباس لمن أشد الناس خشية لله ، وأكثرهم تعبدا وتضرعا ، بكّاء إذا صلى أو قرأ القرآن ، فأبدا لم يكن من الذين يقولون ما لا يفعلون ، وإنما صوّاما لنهاره ، قوّاما ليله. حدّث عبد الله بن مليكة فقال : صحبت ابن عباس رضي الله عنه من مكة إلى

__________________

(٨) السائمة : الإبل أو الماشية ترسل للرعي ولا تعلف. الجمع : سوائم.

(٩) سورة فاطر ، الآية : ٢٨.

١٦

المدينة ، فكنا إذا نزلنا منزلا قام شطر الليل والناس نيام ، ولقد رأيته ذات ليلة يقرأ : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٠). فظل يكررها وينشج حتى طلع عليه الفجر.

أما بالنسبة لذكاء ابن عباس فحدّث ولا حرج. روى الأصبهاني في الأغاني قال :

بينا ابن عباس في المسجد الحرام ، وعنده نافع بن الأزرق (١١) ، وناس من

__________________

(١٠) سورة ق ، الآية : ١٩.

(١١) نافع بن الأزرق : بن قيس الحنفي البكري الوائلي الحروري ، أبو راشد ، رأس الأزارقة وإليه نسبتهم كان أمير قومه وفقيههم ، من أهل البصرة ، صحب في أول أمره عبد الله بن عباس ، قال الذهبي له أسئلة في جزء ، أخرج الطبراني بعضها في مسند ابن عباس من المعجم الكبير. وأورد السيوطي بعضها في الإتقان ـ وقد جئنا بجميع هذه الأسئلة في كتابنا الذي بين يديك ـ وكان نافع وأصحاب له من أنصار الثورة على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ووالوا عليا كرم الله وجهه. إلى أن كانت قضية التحكيم بين الإمام علي رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان ، فاجتمعوا في حروراء ـ وهي قرية من ضواحي الكوفة ـ ونادوا بالخروج على الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعرفوا لذلك ، هم ومن تبع رأيهم بالخوارج. وكان نافع بن الأزرق يذهب إلى سوق الأهواز ويعترض الناس بما يحيّر العقل ـ كما يقول الذهبي ـ ولما ولي عبيد الله بن زياد إمارة البصرة سنة (٥٥) ه في عهد معاوية اشتد على (الحروريين) وقتل سنة (٦١) ه زعيمهم أبا بلال مرداس بن حدير ، وعلموا بثورة عبد الله بن الزبير على الأمويين بمكة ، فتوجهوا إليه مع نافع ، وقاتلوا عسكر الشام في جيش ابن الزبير إلى أن مات يزيد بن معاوية سنة (٦٤) ه وانصرف الشاميون ، وبويع ابن الزبير للخلافة ، وأراد نافع وأصحابه أن يعملوا رأي ابن الزبير في عثمان فقال لهم : قد فهمت الذي ذكرت به عثمان. وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني كنت معه حيث نقم عليه ، واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم ، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم. فقال لهم : ما كتبته. فإن شئتم فهاتوا بيّنتكم ، فإن لم تكن حلفت لكم ؛ فو الله ما جاءوا ببينة ولا استحلفوه. ووثبوا عليه فقتلوه ، وقد سمعت ما عبته به ، فليس كذلك ، بل هو لكم خير أهل ، وأنا أشهدكم ومن حضرني أني ولي عثمان بن عفان وعدوّ لأعدائه ، ولم يرض هذا نافعا وأصحابه ، فانفضوا من حوله ، وعاد نافع ببعضهم إلى البصرة ، فتذاكروا فضيلة الجهاد ـ كما يقول ابن الأثير ـ وخرج بثلاثمائة وافقوه على الخروج ، وتخلف عبد الله بن إباض وآخرون فتبرأوا منهم ، وكان نافع جبارا فتاكا ، قاتله المهلب بن أبي صفرة ولقي الأهوال في حربه. وقتل نافع يوم دولاب على مقربة من الأهواز سنة (٦٥) ه الموافق (٦٨٥) م. (انظر :

الكامل للمبرد : ٢ / ١٧٢ ـ ١٨١. ورغبة الآمل : ٧ / ١٠٣ ـ ١٥٦ و ٢٢٠ و ٢٢٩ و ٢٣٦

١٧

الخوارج يسألونه ، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين حتى دخل وجلس ، فأقبل عليه ابن عباس فقال : أنشدنا فأنشده :

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجّر (١٢)

حتى أتى على آخر القصيدة ، فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال له : الله يا ابن عباس! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد ، نسألك عن الحلال والحرام ، فتتثاقل عنا ، ويأتيك غلام مترف من مترفي قريش فينشدك :

رأيت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت

فيخزى وأما بالعشيّ فيخسر

فقال ابن عباس : ليس هكذا قال :

قال نافع : فكيف؟ قال :

رأيت رجلا أما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر (١٣)

قال نافع : ما أراك إلا وقد حفظت البيت؟

قال : نعم ، وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها (١٤).

قال : فإني أشاء. فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها ، وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحا (١٥).

ولقد بلغ ابن عباس من مجد العلم مبلغا سارت بحديثه الركبان. فقد روي أن عبد الله بن عباس الذي ليس له صولة ولا إمارة ، خرج حاجا في سنة خرج فيها للحج خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان. فكان لمعاوية موكب من رجال دولته ، أما ابن عباس فقد كان له موكب من طلاب العلم يفوق موكب الخليفة.

ولعل من أهم أسباب تفوق ابن عباس نشأته في بيت النبوّة لعظيم الأثر فيما بلغه

__________________

ولسان الميزان للذهبي : ٦ / ١٤٤. وجمهرة الأنساب : ٢٩٣. وتاريخ الطبري : ٧ / ٦٥. والأعلام للزركلي : ٧ / ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(١٢) هجر : سار في الهاجرة ، والهاجرة : شدة الحر.

(١٣) يضحى : يظهر للشمس ، عارضت : قابلت. يخصر : يبرد.

(١٤) انظر : الأغاني : ١ / ٧٢. وقصص العرب : ١ / ٣٥٨.

(١٥) صفحا : مرورا.

١٨

من العلم والفهم ، فنشأته تلك تعني ملازمة دائمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يضاف إلى ذلك ملازمة ابن عباس لأكابر الصحابة بعد وفاة المصطفى يتعلم منهم ، ويعرّفونه من أسباب النزول وتواريخ التشريع ما لم يعرفه لصغره.

وابن عباس عالم العربية الذي لا يدرك شأوه ، عرف اللغة ، وحفظ غريبها ، وتعمق بخصائصها وآدابها ، وأدرك أساليبها ، حتى إنه كان له طريقة مميزة في التفسير ، فكان كثيرا ما يرجع إلى الشعر الجاهلي إذا سئل عن غريب القرآن.

يروي الأنباري عنه أنه قال : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب. ولعل أستاذه في هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد كان عمر يسأل أصحابه عن معنى قول الله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) (١٦). فيقوم له شيخ من هذيل فيقول له : هذه لغتنا. التخوف :

التنقص. فيقول له عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها. فيقول له نعم ، ويروي له قول الشاعر :

تخوّف الرحل منها نامكا قردا

كما تخوّف عود النبعة السّفن

فيقول عمر لأصحابه : عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا : وما ديواننا؟ قال :

شعر الجاهلية فإنّ فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم (١٧).

وكما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان يرى ابن عباس أن الرجوع إلى الشعر الجاهلي ضروري للاستعانة به على فهم غريب القرآن فيقول :

الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه.

وسار التابعون من تلامذة ابن عباس على طريقته اللغوية في التفسير ، حتى قامت الخصومة بين بعض الفقهاء واللغويين ومن فسّر بهذه الطريقة فاتهموهم أنهم بذلك يجعلون الشعر الجاهلي المذموم حديثا وقرآنا أصلا للقرآن ، والحقيقة والواقع

__________________

(١٦) سورة النحل ، الآية : ٤٧.

(١٧) الموافقات : الجزء ٢ صفحة ٨٨.

١٩

ليسا كذلك ، فما الأمر إلا بيان للحرف الغريب من القرآن بالشعر. والله العلي القدير يقول : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١٨). ويقول : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩).

آثرنا أن ننشر سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن عباس لمكانتها التاريخية في علم التفسير من جهة ، ولمكانتها الأدبية من جهة أخرى. وقد أضفنا إلى العنوان الرئيسي عنوانا جديدا وضروريا وهو : غريب القرآن في شعر العرب كي يقع هذا العنوان على نظر القارئ ويتفهم المراد منه. وقد نشر الكثير منها الإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة (٩١١ ه‍) في كتابه : الإتقان في علوم القرآن من صفحة ١٢٠ حتى ١٣٣. طبعة المكتبة الثقافية في بيروت عام (١٩٧٣ م) مصورة عن طبعة سابقة. بحجم ١٩* ٢٧. وتشتمل الصفحة على ٣٤ سطرا. ولكن نسخ (الإتقان) على طبعاتها الكثيرة مشحونة بالخطإ.

كذلك أعاد الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي نشر هذه المسائل في نهاية كتابه (معجم غريب القرآن) طبعة دار المعرفة في بيروت مصورة عن طبعة القاهرة عام (١٩٥٠). اعتمد الأستاذ الفاضل محمد عبد الباقي الترتيب الألف بائي في ترتيب المسائل.

من أجل ذلك عمدنا إلى نشر هذه المسائل كما وردت في الأصل المخطوط المحفوظ في دار الكتب المصرية تحت رقم ١١٦ مجاميع م. والأصل المخطوط يمتاز بخطه النسخي الجميل لكنه خال من تاريخ النسخ واسم الناسخ ، ومقاس الورقة ٢٦* ١٥. وتشتمل الصفحة على ٢٩ سطرا.

وكان عملنا في نشر هذا الأثر منصبا على ضبط النص ، وتحقيقه مستعينين بكتب الأدب واللغة والتفسير والدواوين. مع تعريف كامل وشامل للشعراء المستشهد بشعرهم وشرح غريب اللغة.

كذلك اعتمدنا الفهارس المكثفة في نهاية عملنا لتعم الفائدة والمنفعة ، ولنسهل

__________________

(١٨) سورة الزخرف ، الآية : ٣.

(١٩) سورة الشعراء ، الآية : ١٩٥.

٢٠