المحقق: السيد محمد علي الحلو
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: قسم الشؤون الفكريّة والثقافيّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩
قبل البدء ..
أولا : اننا لم ندرج الروايات التي لم تصرّح في أسانيدها بذكر الإمام الحسين عليهالسلام وذلك بسبب التزامنا لخطة عمل الكتاب وبشكل فني لم نرغب من خلاله في إثارة تساؤلات الكثير الذين ـ ربما ـ يتساءلون عن صحة نسبة الرواية للإمام الحسين عليهالسلام حينما لم يرد اسمه الشريف ، بل تركنا كمّا هائلا من هذه الروايات ونحن جازمون من صدورها عن الإمام الحسين عليهالسلام ، ولو أدرجت لكان التفسير ضعف ما هو في أيدينا .. مع أن محاولتنا لهذا الاختصار إدانة واضحة لأنظمة الإلغاء والمطاردة والتهميش التي تزعمها بنو أمية وبنو العباس ومن سار على نهجهم.
ثانيا : لم يكن العمل مشروعا متكاملا ، بل هو بوابة للولوج إلى عالم رحب من التفسير الحسيني.
ثالثا : أطلقنا على تفسير الحسين عليهالسلام «بالتفسير الشهيد» لما عاناه من تغييب الا أنه يبقى تفسيرا يعيش بحيوية سيد الشهداء ..
رابعا : يرجى قراءة المقدمة قبل البدء في خضمّ التفسير.
الإهداء
على عتباتك سيد الشهداء أنه مسيرة دائبة تستحثّ الخطى لتبلغ الكلمات شأوها ...
وتستنفر كل طاقاتها وما هي ببالغته ... ففي لجج التغييب يختفي الحديث ...
ومن مكامن النور تنبع الآثار ... وبين التغييب والحقيقة تسطع نفحاتك القدسية
لتلد تفسيرك الشهيد ... لأنك سيد الشهداء ...
فأرجوا القبول في الختام ... كما رجوت الاعتذار في البدء ... وبينهما راجيا الشفاعة .. والدعاء ...
ولدكم محمد علي
المقدمة
هذه بعض الآيات القرآنية التي فسرها الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام ، وهي في الحقيقة أقرب إلى الأنموذج منها إلى العمل المتكامل ، إلّا أننا لا ندعي أن ا لتفسير هذا قد وقف على جميع ما رواه الإمام الحسين وما فسره من الآيات القرآنية ، بل أن معوقات العمل تقف حائلا دون كمالية هذا المشروع ، وسيجد القارئ الكريم تبريرا لهذا الجهد غير المتكامل في البحث التالي ، وأهمه أن حالة التقية والحذر الّتي عاشها الإمام الحسين عليهالسلام وأصحابه ورواة حديثه جعلت من فرص الوصول إلى الحديث الحسيني ضئيلة جدا ، حتى ارتكز لدى الكثير أن الإمام الحسين عليهالسلام أقل الأئمّة رواية وإنا وإن كنا غير راضين بهذه القناعة إلا أننا من جهة أخرى لو تنزلنا وقلنا بصحة هذا الرأي فإن ذلك يشير بوضوح إلى مظلومية الإمام الحسين عليهالسلام ومحاولة التغييب الفكري ، فضلا عن التغييب الجسدي الذي عاناه الإمام الحسين إبّان الفترة الأموية وما تابعها من تعسف عباسي مقيت فرض الحظر على الرواية الحسينية من التداول والتحديث.
خطة البحث
كما أننا التزمنا بالأصول الفنية للعمل ؛ إذ لم ننقل روايات الأئمّة عليهمالسلام التي لم يرد في أسانيدها الإمام الحسين عليهالسلام بل ذكرت مثلا : عن الإمام الرضا عن آبائه قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبالتأكيد أن «عن آبائه» يشمل الإمام الحسين عليهالسلام لأنه من ضمن وسائط السند الذين يروون عن النبي أو عن الإمام أمير المؤمنين عليهماالسلام ، فقد راعينا الروايات التي ذكرت في أسانيدها الإمام الحسين عليهالسلام ، ليتسنى لنا الاقتصار على موارد الرواية المصّرح بها ذكره الشريف ولنكون قد أنجزنا ما وعدنا القارئ إنجازه.
التفسير الأثري التطبيقي
والجدير بالذكر أن هذا التفسير عنون بالتفسير الأثري التطبيقي ، والعنوان حاك عن حقيقة هذا التفسير ، فاعتماده على الأثر الحسيني ، وكون هذه الآثار والأحاديث هي تطبيقية للواقع ، لذا فقد ارتأينا إثبات هذا العنوان تعريفا ، على أننا نشعر بعدم استيفائنا لهذا المشروع بشكله المتكامل ، إلا أن أهميّته تبقى كون هذا التفسير هو التفسير الأوّل في هذا المجال ، وسيسهم في رفد الثقافة الحسينية التي عانت من التغييب والإلغاء ، راجين من الله التسديد ومن الإمام الحسين القبول والاعتذار.
|
محمد علي السيد يحيى الحلو النجف الأشرف ـ ٨ / ربيع الأول / ١٤٣٠ هـ شهادة الإمام العسكري عليهالسلام |
التفسير الأثري التطبيقي .. إشراقة جديدة في عالم المعرفة
في محاولة منها لإرباك الفكر الإسلامي الأصيل ، تحاول الدوائر السلفية إثارة حرب إعلامية أكثر من كونها حربا فكرية ، وتسعى لعرقلة بناء الشخصية الإسلامية السوية ، بل تركيبة العقلية الإسلامية المعطاء ، وذلك من خلال بث «إثاراتها الإعلامية» التي تموّه لأتباعها على أنها شبهات فكرية واقعية ، وكم قلنا في أكثر من مناسبة وأشرنا في العديد من بحوثنا إلى أن شبهات هؤلاء ما هي إلا موروث ورثه المهتمون بإثارة النزاعات الفكرية وصياغة تلك الشبهات القديمة الموروثة بقوالب جديدة ، يظن البعض أنها فعلا شبهات يحرج بها الآخر ، وبالفعل فقد حاول أولئك «المشاغبون إعلاميا» خلق ضجة جديدة ألقوها في منتدياتهم وأو عزوا إلى الآخرين بأن هناك ظاهرة في الحديث الشيعي تتسم بقلة ما روته السيدة الزهراء عليهاالسلام والإمامان الحسن والحسين عليهماالسلام ، ويوعزون ذلك إلى احتمالين :
أولهما : أنهم كانوا لا يروون فعلا ، ولا يملكون رصيدا روائيا كباقي الصحابة الذين نروي عنهم وتعج برواياتهم صحاحنا وموسوعاتنا الحديثية.
وثانيهما : أننا لو فرضنا أن هناك تراثا روائيا واسعا إلا أن الشيعة الإمامية لم يهتموا بهذه المرويات وتغافلوها ، كما هو الحال الذي نراه في الكافي وغيره ، إذ لم يرو الكافي إلا القليل جدا من مروياتهم.
رؤيتنا في ذلك :
ولنا من أجل تقديم رؤية واضحة حول هذه المزاعم والإجابة عنها بمقدمات :
المقدمة الأولى
إننا لو سلمنا مع هؤلاء ، على أساس الاحتمال الأول ـ قلة مرويات السيدة الزهراء والحسنين عليهمالسلام ـ فان ذلك مورد إدانة للأنظمة الحاكمة آنذاك ، وأحسب أن تثبيت هذه الشبهة هي حالة من حالات إبراز مظلومياتهم عليهمالسلام والتأكيد على ما عاناه أهل البيت عليهمالسلام من أولئك المتسلطين على القرار السياسي الإسلامي آنذاك.
فالسيدة الزهراء عليهاالسلام مع وجود النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا ترى ضرورة الرواية بما يضمن الحفاظ على مقام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومراعاة قدسيته ، فلا يمكن أن تكون السيدة الزهراء عليهاالسلام راوية في عرض رواية
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو ديدن أهل البيت عليهمالسلام ، إذ لم تجد في العهد النبوي رواية للإمام علي عليهالسلام رواها في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وفي حضرته بل هناك لو وجد ، فانه لا يتعدى عن مورد الضرورة ، فضلا عن أن المسلمين يجعلون مرجعهم في الأحكام والتشريع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا حاجة بعد ذلك لتصدي أحد من المسلمين لرواية الحديث إلا على أساس موارد الاستثناء.
وهذا الأمر ينطبق تماما على سيرة الإمامين الحسنين عليهماالسلام.
ولعلنا نستطيع القول بعد ذلك : إن عصر ما بعد النبوة سيشهد رواية الحديث الفاطمي بكل تفاصيله ودقائقه إلا أن ذلك ـ وللأسف ـ لم يتم ؛ إذ الفترة التي عاشتها السيدة الزهراء ، عليهاالسلام من القصر لا يسمح لها أن تحدّث وتتصدى لرواية ما سمعته عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو ما تفقهته هي صلوات الله عليها لتبثه رواية وأحكاما ، فالأحداث المؤسفة التي أودت بحياة السيدة الزهراء عليهاالسلام كانت شاهدة على إدانة تلك الفترة الحالكة من الدسائس والمؤامرات التي كانت ضحيتها السيدة الزهراء وهي في عمر الثامنة عشرة حيث لم تمهلها هذه المدة القصيرة ، لكي تروي ما ادخرته من علوم فخسرتها الأمة.
والكلام يجري في مرويات الإمام الحسن عليهالسلام ، فان الفترة الحرجة التي عاشها الإمام وهو في خضم صراعه مع معاوية ، حتى أودت به محاولة
الاغتيال والتصفية التي اتبعها معاوية مع معارضيه ، وبذلك تفقد الأمة أحد أبرز رواتها للحديث ومفسري أحكامها من أهل البيت.
وإذا كان الاغتيال والتصفية قد طالت الإمام الحسن عليهالسلام في فترة ما من حكم معاوية ، فان الإمام الحسين عليهالسلام يعاني من «الاغتيال السياسي» والتصفية الفكرية التي اتبعها معاوية بن أبي سفيان طيلة حكمه ، إذ عمد إلى تراث أهل البيت فداهمه مداهمة لم تبق إلا على القليل القليل وكان نصيب الإمام الحسين عليهالسلام الأكبر من هذا التغييب والإلغاء ـ وسيأتي الكلام فيه لا حقا ـ إذن فان الفترة السياسية التي عاشها حديث الزهراء ، وابنيها عليهمالسلام كانت فترة فتك وإلغاء وتشطيب على هذا التراث الثلاثي ، وهذا لا يعني أن حديث الزهراء والحسن والحسين كان مستهدفا وحده ، بل كان تراث الإمام علي عليهالسلام كذلك ، أي عرضة للعبث الأموي المتسلط والعباسي الجائر ، وهكذا أكثر تراث أهل البيت عليهمالسلام حيث تعرض للتجهيل والمصادرة ومن ثمّ للإلغاء ، والشطب.
المقدمة الثانية
إن حالة التقية التي كان يعيشها أهل البيت عليهمالسلام وأصحابهم أسهمت في إيقاف نشر هذا الحديث وعلى مستوى واسع ، فضلا عن تجنبهم عليهمالسلام عن الإدلاء بأي حديث من شأنه أن يجعل سبيلا للأنظمة السياسية
لمطاردتهم وتصفيتهم وجميع قواعدهم كذلك ، وبالفعل التزم الأئمة عليهمالسلام منهج التقية في الحديث وروايته.
المقدمة الثالثة
ـ وهي متفرعة عن المقدمة الثانية ـ ، فان مقتضى التقية التي مارسها أهل البيت عليهمالسلام في التعاطي مع الحديث لا يعني إلغاء دورهم في الرواية ولا يعني تعطيلهم عن رواية الحديث بل أخذ منحى الحديث عندهم ـ وعلى ما يبدو ـ منحى التحفظ والحذر والالتزام بموارد الحيطة والتوجس من بثه في أي وقت ولأي شخص ، بل كانوا عليهمالسلام يتوخون في رواياتهم موارد الثقة لدى الراوي أو حامل الحديث ، فهم بعد أن يتأكدوا من سلامة هذا الراوي في دينه ، وحتى في مدى مسؤوليته لتحمل الحديث بما في ذلك وعيه وتفقهه وأدائه وأمانته ، فانهم لا يترددون في تحميله حديثا ما لينقله إلى غيره من شيعتهم ، وبثه في أوساطهم بالشكل الذي يجنبه ويجنبهم عليهمالسلام الوقوع في مساءلة السلطان لهم ، ومطاردة رواة حديثهم ، ومعنى هذا تبقى الأحاديث موكولة إلى هذا الراوي أو ذاك ومدى إمكانية توصيل المفردة المعرفية من خلال مروياته دون ملاحقة النظام له.
إذا عرفنا ذلك ، عرفنا مدى إمكانية الحفاظ على هذه المرويات ، فالأمر يتعلق بسلامة الراوي وعدم مطاردته من قبل النظام ، وإلا فالكثير من الروايات
اختفت باختفاء رواتها ، ولا أدل على ذلك من محاولة سليم بن قيس الهلالي حينما طورد من قبل الأمويين وحاول الحفاظ على ما لديه من مرويات ، وان كلفه ذلك بالانتقال من الكوفة إلى أقاصي بلاد فارس ، حتى أودعه عند من يثق به لسلامة إيصاله إلى الرواة والمحدثين.
إذن فموارد التقية التي كان يستعملها أهل البيت عليهمالسلام في مروياتهم كثيرة ، وبالتأكيد فان ذلك سيكون مرده على سلامة الرواية من الوصول إلى حملتها ومتلقيها دون مطاردة الأنظمة آنذاك ، وهذا الأمر يشمل حتى من عاش من الأئمّة عليهمالسلام في فترة من حياتهم بمنأى عن مطاردة الحكام كالإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام ، فما بالك بالسيدة الزهراء التي كانت تمثّل المعارضة بل المواجهة للنظام وبكل تحدياتها ومواقفها؟!.
وما بالك بالإمام الحسن عليهالسلام الذي ألجأته الظروف السياسية غير العادلة إلى الهدنة والتنازل عن الأمر ، مقابل حفظ البقية الباقية من شيعته وشيعة أبيه؟!.
بل ما بالك بالإمام الحسين عليهالسلام الذي عرّى بثورته زيف النظام الأموي ، وهدّ عروش الحكم المبني على القهر والغلبة والتسلط؟ أي أن الإمام الحسين عليهالسلام لم يتعرض إلى التصفية الجسدية هو وأهل بيته فحسب ، بل تعرض إلى التصفية والتغييب الفكري الذي حاول الأمويون اتباعه في مطاردة حديثه وطمس معالم مروياته ، وما وصل إلينا إلا القليل النادر.
ولعل بعض الآراء تتجه إلى أن الإمام الحسين عليهالسلام كان أقل الأئمّة رواية ، لما كان يعيشه من اضطهاد بني أمية وتعسفات معاوية وتهديداته مما حدا بالإمام الحسين عليهالسلام أن يقلل من رواياته ... وهذا الرأي لا يمكن أن يستقيم إذا ما عرفنا أن مهمة الإمام تبليغية وروايات الصمت والسكوت ـ التي أشارت إلى أن بعض الأئمّة صمتوا ـ لا يعني سكوتهم مطلقا عن تبليغ رسالاتهم بقدر ما كان الصامت منهم ينحو منحى التقية والحذر في بث الأحكام وتبليغها ، والإمام الحسين عليهالسلام كباقي الأئمّة فقد كان يتقي تربصات معاوية ونظامه ، فلذلك كان يبث مروياته بثا لا يثير انتباه النظام ، لكن ـ كما ذكرنا ـ أن الرواية تبقى في ذمة الراوي وذمة الظرف الذي يعيشه ، بين الحذر والخوف والمطاردة ، ليبث حديثهم الذي تحمّله عنهم عليهمالسلام ، وبين السكوت والاحتفاظ بالحديث ليندثر كما اندثر رواته.
ولا ننسى ما بذله معاوية من جهد استثنائي من أجل إيقاف المد الروائي لفضائل علي عليهالسلام وتهديد من روى له منقبة ، وبالمقابل أعلن عن مكافأته لرواة فضائل أعدائه ومناوئيه ، فاختفت بين خوف أصحابه وبين تحريف أعدائه الكثير من المرويات التي كان من الممكن أن تشكّل كما هائلا لعله لا يحصى من الأحاديث.
وليس ذلك على سبيل المبالغة والتنظير ، بل يتعدى الأمر إلى أن محدثي أهل السنة قد اعترفوا بحقيقة الأمر ، ورووا ما لا يمكن إنكاره في هذا المجال ،
فالمحدّث أحمد بن محمّد المكي الخوارزمي من أعلام القرن السادس ومن محدّثي علماء الحنفية وأجلتهم ، الذي احتل اسمه صيتا واسعا وذكرا حسنا في جميع الأوساط ، روى بسنده عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو أن الغياض أقلام ، والبحر مداد ، والجن حسّاب ، والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب عليهالسلام ، ثم روى بسنده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده قال : قال رجل لابن عباس في فضائل علي بن أبي طالب : أو لا تقول إنها إلى ثلاثين ألفا أقرب.
قال رضي الله عنه [والكلام للخوارزمي] ويدلك ذلك أيضا ما يروى عن الإمام الحافظ أحمد بن حنبل ، وهو كما عرف أصحاب الحديث في علم الحديث قريع أقرانه ، وإمام زمانه ، والمقتدى به في هذا الفن في إبّانه ، والقارئ الذي يكبو فرسان الحفاظ في ميدانه ، وروايته (رض) فيه مقبولة ، وعلى كاهل التصديق محمولة ، لما علم أن الإمام أحمد بن حنبل ومن احتذى على مثاله ، ونسج على منواله ، وحطب في حبله ، وانضوى إلى حفله مالوا إلى تفضيل الشيخين رضي الله عنهما وأرضاهما وأظلنا يوم القيامة بظل رضاهما ، فجاءت روايته فيه [أي في علي ابن أبي طالب] كعمود الصباح لا يمكن ستره بالراح وهو ما.
ثم يردف كلامه هذا ليستشهد بما رواه أحمد بن حنبل حيث يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن
أبي طالب عليهالسلام (١) ، وروى الحديث بعينه بعضهم كابن عبد البر في الاستيعاب وابن حجر في الصواعق المحرقة وغيرها من مدونات الحديث.
ولم يكن الحافظ النسائي من أعلام القرن الثالث الهجري قد اكتفى بالكتابة عن فضائل الإمام علي عليهالسلام ، بل عمل «ميدانيا» على نشر فضائل علي بن أبي طالب بعد أن رآها قد انطمست ، فصعد المنبر في دمشق بعد عودته من مصر ، فوجد الناس منكفئين عن فضائله عليهالسلام ، وألقى خطبه ومروياته على أهل دمشق ، إلا أن الناس سألوه عن معاوية وفضائله فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل؟ وفي رواية أخرى قال : لا أعرف له فضيلة «إلا لا أشبع الله بطنه ، فهجموا عليه يضربون بأرجلهم في خصييه حتى أخرجوه من المسجد فقال : احملوني إلى مكة ، فحمل إليها وبقي بها حتى مات بسبب ذلك الدوس» (٢).
والحافظ الكنجي الشافعي الذي قتل عام ٦٥٨ للهجرة في سبيل نشر فضائل أمير المؤمنين ، فألف كتابا باسم «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب ، وكتابا آخر باسم البيان في أخبار صاحب الزمان» فنشرهما في دمشق الشام ، فقتل في جامعه بلا مبرر ولا مسوّغ سوى أنه قام بواجبه في نشر فضائل
__________________
(١) المناقب للخوارزمي ، تحقيق مالك المحمودي مؤسسة النشر الإسلامي قم ١٤١٧ ه.
(٢) عن خصائص النسائي طبع النجف كما أفاده المحقق الشيخ جعفر السبحاني في مقدمته على المناقب للخوارزمي.
الوصي. قال في أول كتابه «لما جلست يوم الخميس لست بقين من جمادي الآخرة سنة ٦٤٧ بالمشهد الشريف بالحصباء من مدينة الموصل ودار الحديث المهاجرية ، حضر المجلس صدور البلد من النقباء والمدرسين والفقهاء وأرباب الحديث فذكرت بعد الدرس أحاديث وختمت المجلس بفضل في مناقب أهل البيت ، فطعن بعض الحاضرين لعدم معرفته بعلم النقل في حديث زيد بن أرقم في غدير خم ، وفي حديث عمار في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : طوبى لمن أحبك وصدق فيك ، فدعتني الحمية لمحبتهم على إملاء كتاب يشتمل على بعض ما رويناه من مشايخنا في البلدان من أحاديث صحيحة من كتب الأئمّة والحفاظ في مناقب أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه (١).
هذا هو حال رواة فضائل الإمام علي وأهل بيته ، إذ كان مصيرهم القتل والفتك بل بعضهم نال تهمة التسفيه كالحاكم النيسابوري بسبب كتابه شواهد التنزيل ، هذا حال رواة أهل السنة الذين رووا في علي وأهل بيته ، فما بالك بالرواة المنتسبين إليهم من شيعتهم ومقربيهم ، بل فما حسبك أن يكون مصيرهم؟!! وكلمة معاوية بن أبي سفيان ما زال يتذكرها كل من تعرض إلى حياته ومغامراته في ملاحقة الرواية والرواة ، بل تمادى إلى أكثر من ذلك حيث دعا إلى وضع أخبار الطعن في الإمام علي عليهالسلام وكافأهم ورغّبهم على ذلك.
__________________
(١) نفس المصدر.
قال الشيخ أبو جعفر الإسكافي : إن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليهالسلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما ارتضاه منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.
وقال أبو جعفر الإسكافي في كلامه : وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي هذه الآية أنها نزلت في علي بن أبي طالب :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.
وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهوقوله تعالى :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) البقرة : ٢٠٧.
فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك (١).
هذه هي محاولات معاوية في طمس معالم الحديث والفضائل ، فما حسبك بحديث الإمام الحسين عليهالسلام الذي دخل في مواجهة عنيفة مع الأمويين وعمل على كشف مخططاتهم التي يستهدفون بها الإسلام والمسلمين؟.
__________________
(١) تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النص ونص السلطة للمؤلف : ٢٤٤.
وبمعنى آخر فقد تعرض حديث الإمام الحسين وروايته كما تعرّض له حديث الإمام علي عليهالسلام إلى مطاردة وإلغاء ، وهكذا يبقى الحديث الحسيني مطاردا بين تعرّض رواته إلى التنكيل وبين إخفاء هذه الأحاديث من قبل رواتها خوفا من بطش النظام. ومن أجل ذلك تجد أن أحاديث الإمام الحسين عليهالسلام قليلة مقارنة بأحاديث الأئمّة الآخرين ، والكلام نفسه يأتي في أحاديث الإمام الحسن عليهالسلام ، بل وحتى أحاديث الإمام علي عليهالسلام ؛ إذا ما قيست إلى فترة حكمه التي كانت له حرية التحديث ، فضلا عن الفترة السابقة نجد الأحاديث التي بين أيدينا قليلة جدا.
وبمعنى آخر أن الأئمّة الذين دخلوا مع بني أمية في مواجهة عسكرية حوصرت أحاديثهم إلى الحد الذي كادت أن تنتهي وتضمحل ، بل وبمعنى أوضح :
أن الأئمّة الذين عاصروا عهد معاوية بن أبي سفيان واجهت أحاديثهم مصير المطاردة والإخفاء لما عمله معاوية من التنكيل بالرواة ومطاردتهم بشكل أجبرهم على عدم التحديث وإظهار الرواية.
وهذا لا يعني أن تسلم أحاديث الأئمّة الباقين من الإلغاء والمطاردة ، بل هي كانت كذلك واختفى منها الكثير تبعا لمطاردة رواتها وتقتيلهم ، إلا أن آلية التنكيل والمطاردة التي استخدمها معاوية كانت أكبر وأكثر مما استخدمه الآخرون من الملاحقة والمتابعة للرواة ومروياتهم ، وبهذا وقفنا على بعض أسباب قلة الرواية