أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي
المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٤٢
بسم الله الرّحمن الرّحيم
التقديم
الحمد لله المنعم المحسن الدّيان ، الملك القدوس العزيز الرحمن ، المحمود بكل لسان ، في كل حال وسائر الزمان ، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ، ورزقه قلبا مدركا للأشياء بالحجة والبرهان ، ثم كرمه بمواهب فضله من الخلافة والعرفان ، وفضله بعرائس العقائد الحقة من محجة الإسلام والإيمان ، التي لم يطمثهن قبل أصناف الملائكة ولا طوائف الجان ، وأوضح الحق بكتابه المجيد ، وخطابه الحميد الفرقان كلاما يحق الباطل بين يديه ويزهق منه الشيطان ، وله في كشف الحقائق والتبيان شأن لا تكتنهه الأفكار والأذهان حيث لا توازيه الزبر ، ولا تساويه الكتب في الفصاحة والبيان.
ومهّد للطائعين من عباده المتقين بالجنان الجنان ، وبشرهم بأكبر من ذلك وأجل الأكوان الرضوان ، وهدد المعاندين الطاغين بالقهر والنيران ، لجهة الكفر والكفران ، وهيّأ لهم أنواع النكبة من المذلة وسوء الخسران ، وحين حدثت في الشوارع والطرائق صعاب المزالق والمضايق ، وخلطت الشرائع بأوهام مموهة وكلام زاهق ، بعث الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى أهل المغارب والمشارق بالآيات البينة ، والخوارق النيرة التي تضيء الآن كالبدر ، ولم تكسف مع تراكم ليالي العوائق من الحوائج والطوارق.
فبيّن لهم جهارا أسرار الحقائق ، وصدع بكشف القناع عن وجوه الدقائق ، من دون أن يفرق بين المخالف والموافق ، ويخصص المؤمن الصادق من الكافر والمنافق ، صلى الله البارئ الخالق عليه ، وعلى آله وصحبه المنتسبين إليه بخير العلائق ، ما أظلم الظلام ، وأشرقت المشارق ، ويميز الجيد من الزائف ، والردى من الرائق ، وما ابتسمت الأزهار بالرياح في الحدائق ، وتنسمت الرياحين والشقائق على عوالي الأعلام والشواهق.
وبعد .. فلما كان علم التفسير أحسن العلوم الإلهية كلها ، وأعز من سائر الفنون وأجلها إذ هو للعقائد الدينية أقدم الأصول وأهمها ، ولإدراك المسائل الفقيهة رأس المباني وأمها ، ولاستنباط الأحكام الظاهرة الشرعية بناء وأساس ، ولاكتساب المعارف الباطنة من الطريقة والحقيقة ، والمعرفة مصباح ونبراس ، وإلى الأول منهما قد التفت أكثر الناس قديما وحديثا ، وتوجهوا نحو التفسير على وجه الشريعة تصنيفا وتأليفا ، ولم يتعرضوا للثاني إلا قليلا ، فإنه مسلك أدق وخطب جليل ، إذ هو بحر لا يدرك ساحله ، وصراط قلّ من أن يسلم سالكه ، ولا يعبّره إلا من أتى الله بقلب سليم أو وفق من الله العظيم ، لهذا الأمر الجسيم.
كان كتاب «عرائس البيان في حقائق القرآن» أجلّ ما صنف في هذا الباب ، من مؤلفات نخبة أولي الألباب ، المستغرق في بحار الأنوار ، المشاهد للستر وسر الأسرار ، الباقي بربه والفاني عن نفسه ، العارف بالرمز الخفي والجلي ، الشيخ «أبو نصر بن روزبهان البقلي الشيرازي» ـ قدس الله سره ـ من فاز بالجاه المتكاثر والمناقب والمفاخر ، وأوتي مناصب الدنيا بحسن الأخلاق ، وخير المآثر ، المستجمع لأصناف الفرح والسرور ، المستغني عن التعرض بالاسم والرسم لغاية الظهور ، أدام الله فيضه على مر الدهور والشهور.
فإليك أيها المحب الصوفي المتعطش لنهر الحقائق المتدفق بمعاني الوجد الرائق ، فتنتهل من درر الأسرار والأنوار الفوائق.
قد قمت بتحقيقه وتخريجه والتعليق عليه ، من معين المحقيقين المتحقيقين بأسرار الذكر الحكيم ، وتلك خصوصية الغارقين الذي في بحر الشهود غارقين ، هائمين.
|
كتبه العبد الفقير الحقير إلى الله السميع البصير الرّاجي عفو الله العلي الكبير بجاه سيدنا البشير النذير صلىاللهعليهوسلم تراب أقدام أصحاب الوراثة النبوية أحمد فريد المزيدي |
ترجمة الشيخ المصنف
هو الشيخ الإمام العلامة المتكلم المفسر الفقيه الصوفي المحقق ، شطّاح فارس :
أبو محمد روزبهان بن أبى نصر البقلي ، الفسوي ، الشيرازي المصري ، المتوفى سنة ٦٠٦ هجرية.
أصله من «شيراز» زار مصر ، فقضى في القاهرة والإسكندرية زمنا ، حتى عرف باسم «روزبهان المصري» ثم عاد إلى شيراز ، واستمر بالوعظ والتذكير خمسين سنة في الجامع العتيق بمدينة شيراز ، واشتهر في هذه السنوات الخمسين الأخيرة بلقب شطاح فارس.
ويعد روزبهان من أعظم صوفية الإسلام ، واعتبره الفرس من مفاخر إقليم فارس ، ومن مقدسات شيراز!
وقد ترك الشيخ روزبهان العديد من المؤلفات ، منها :
ـ تفسير القرءان بعنوان «عرائس البيان في حقائق القرآن» ، (كتابنا هذا).
ـ منطق الأسرار في بيان الأنوار وهو «شرح الشطحيات» بالعربية والفارسية.
ـ شرح كتاب «الطواسين» للحلاج ، بالعربية والفارسية.
ـ الأنوار في كشف الأسرار.
ـ سير الأرواح ـ المصباح لمكاشفة الأرواح ـ مشرب الأرواح.
ـ كتاب القدسية.
ـ مكنون الحديث.
ـ حقائق الأخبار.
ـ تقسيم الخواطر (بتحقيقنا).
ـ الموشح في المذاهب الأربعة وترجيح قول الشافعي بالدليل.
ـ كتاب العقائد.
ـ عبر العاشقين.
ـ رباعيات من الشعر الفارسي.
ويقول الشيخ في الفصل الحادي والثلاثين من «عبر العاشقين» : بعنوان كمال
المعشوق ما نصه : إن الله سبحانه وتعالى ذاته القديمة موصوفة أزلا وأبدا بصفاته القديمة ، ومن جملة صفات الحق : (الأول ، العشق) وقد عشق ذاته بذاته ، فهو العشق والعاشق والمعشوق ، فصار العشق واحد ، صفة له قائمة به لا تغير فيها ؛ بل هو عاشق بنفسه لا يجوز له التغير الحدثاني وأعرف محبة الحق في أن يكون علمه لم يزل محبا بنفسه لنفسه ؛ كمال المحبة ، فالمحبة صفة الحق ، فلا تخطئ في الاسم ، فإن العشق والمحبة أمر! إنه لم يزل علما بنفسه وناظرا إلى نفسه بنفسه ، لا يوجد انقسام في أحديته ، ولما أراد ـ تعالى ـ أن يفتح كنز الذات بمفتاح الصفات ، تجلى على أرواح العارفين بجمال العشق ، وظهر لهم بصفات خاصة ، وأنهم حصلوا في كل صفة لباسا ، فمن العلم علما ، ومن القدرة قدرة ، ومن السمع سمعا ، ومن البصر بصرا ، ومن الكلام كلاما ، ومن الإرادة إرادة ، ومن الحياة حياة ، ومن الجمال جمالا ، ومن العظمة عظمة ، ومن البقاء بقاء ، ومن المحبة محبة ومن العشق عشقا ؛ كانت كل هذه (هو) فيهم ، وأثرت الصفات فيهم ، والصفة قائمة بالذات ، فأصبحت صفتهم قائمة من أثر ذلك ؛ لا يوجد من (الحلول) شيء في العالم : العبد عبد والربّ ربّ.
فأصل العشق قديم ، وعشاق الحق قدماء! عشقهم بالروح ، والعشق لألباب الأرض القديمة الذي التف حول شجرة روح العاشق ، والعشق سيف يقطع رأس الحدوث من العاشق ، وهو ذروة قاعدة الصفات ، فما وصلتها روح العاشق إلا واستسلمت للعشق ، وكل من صار معشوقا للحق ، وعاشقا للحق ، لا يستطيع النزول من تلك الذروة ، ويصير في العشق متحدا بالعشق ؛ ولما اتحد العاشق والمعشوق صار العاشق والمعشوق بلون واحد ، وعندئذ يصبح العاشق حاكما في إقليم الحق ، فعندما غلب عليه الحق ، أصبح قالب صورته جنانيّا ، ونفسه روحانية ، وروحه ربانية.
العشق كمال من كمال الحق ، فإذا اتصل بالعاشق ، تحول من الحدوث المحض إلى الجلال الإلهي ، ويصبح باطنه ربانيا ويطلب معدن الأصل ، ولا يتغير من حوادث الدهور وصروف الزمان وتأثير المكان ؛ فإذا بلغ عين الكمال ، تزول ستائر الربوبية! والعاشق الرباني يذهب بالمعدن الأصلي ، وليس في العشق مقصود ، فالعشق مع المقصود ليس بموجود :
العشق والمقصود كفر |
|
والعاشق برئ من روحه |
وليس للصورة مكان في العالم العشق ؛ لأن العقل والنفس ليسا معا في طريق
العشق ، فالعشق هو الطائر الطاهر للروح ـ والعشق والروح ، كالحمام والصقر :
العشق لا يقبل النفس الحية |
|
والصقر لا يصطاد الفأرة الميتة |
الأمر والنهي منسوخان في طريق العشق!
والكفر والدين حجبا عن سراي العشق!
والآفاق محترقة بإشراق العشق!
والكون مضمحل تحت حافر فرس العشق!
عند من كان العشق مرشده |
|
يكون الكفر والدين ستار بابه |
وجوهرة العشق عجنت من الأزل ، ولم يكن في ذلك العالم للروح والعقل من طريق ؛ كل من ظهر له طريق العشق ، يخطف جوهر أوصافه من هذه التربة :
أم كان في الكائنات من جزء وكل |
|
هي أطواق قناطر العشق |
العشق أرقى من العقل والروح |
|
«لي مع الله» هو وقت الرجال |
وليس في العشق مجوسية ولا كفر ، ولا شراسة ولا بلاهة ، وصفة العشاق كمال الحيرة .. والخضوع صفة المتيمن.
يجعل حمل العشق الطفل شيخا |
|
ويجعل العشق الباشق صيّاد البعوضة |
والجنة مأوى الزاهدين ، والحضرة مأوى العاشقين! ليس في العشق فجاجة ، وليس في طريقه عجز ولا ضعف.
وكل ما قلناه ليس من صفة العشق العاشق .. ونهاية العشق بداية المعرفة .. والعشق في المعرفة مبني على الكمال ؛ وإذا اتحد العاشق بالمعشوق ، بلغ مقام التوحيد. وإذا تحير في المعرفة ، فقد أحرز مقام المعرفة .. ونهاية العشق إلى هذين المقامين ؛ فإذا صار عارفا ، تبدو صفات الحق من صفاته.
ذاك الذي تكلم بالشطحيات ، إنما أراد أن يقول الحديث السبحاني (ما في الجبة) وسر (أنا الحق) وإذا لم تعرف ذلك ، فاستمع إلى قول أسد مرج التوحيد وفارس ميدان التجريد أبي بكر الشبلي ـ رحمهالله ـ فإنه وجد رمز ذلك الحديث ذات يوم في مجلس الموحدين ، وحيث إنهم بلغوا ذلك العالم ؛ صار قلبهم ربانيّا ، وقولهم أزليّا وأبديا .. كما قال أبو سعيد الخراز ـ رحمهالله تعالى ـ : للعارفين خزائن أودعوها علوما غريبة ، وأنباء عجيبة ، يتكلمون فيها بلسان الأبدية ، ويختبرون عنها بعبارات الأزلية.
من مصادر الترجمة :
ـ شذ الإزار المعروف بهزار مزار للشيرازي (٢٤٣ ، ٢٤٧).
ـ تاريخ التصوف لقاسم غانم (ص ٥٦٧).
ـ مقدمة فوائح الجمال ، يوسف زيدان (ص ٤٩).
ـ معجم المؤلفين لكحالة (٤ / ١٧٥).
* * *
مقدمة المصنف
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي كان في أزل الآزال ، موجودا بوجوده ، وذاته كنوز صفاته ، وصفاته معادن جوده ، تقدّست ذاته بذاته عن الأضداد ، وتنزّهت صفاته بصفاته عن الأنداد ، قدمه متعال عن الكون والفساد ، وأزله مسرمد إلى أبد الآباد ، تفرّد بوحدانيته عن الأماكن والأكوان ، وتوحد بجلاله عن المشابهة بالحدثان ، علم في القدم ما يبيّن بإرادته من العدم ، وأجرى بمقاديره القلم ، ورقّم على اللوح المحفوظ ما قضى وقسم ، لم يزل متكلّما بكلامه القديم ، وعالما بعلمه الأزلي الكريم ، فأوجد جوهر البسيط بقوته القدمية ، وكلماته الأزلية في فضاء القدرة ، وأبدع منه فطرة الخليقة ، وأخرج من أديان القدر المقدورات بصنع الألوهية ، ولباس العبودية ، واصطفى من تلك الجوهرة ، وطبيعة الأولية فطرة آدم عليهالسلام على جميع العالم ، وعلّمه الأسماء كلّها ، وجعله من جميع البريّة أصلها ، وأخرج من عنصر الأرواح والأشباح ، واختار منها صفوة الأنبياء والرسل والأولياء بالرسالة والولاية ، وخاطبهم بخطابه الأزلي ، وكلامه الأبدي ، ليدعو به عباده إلى خدمته ، وشوّقهم إلى مشاهدته ، واجتبى من بينهم في الأزل روح المصطفى صلىاللهعليهوسلم بأفضل الدرجات ، وأكرم المداناة ، واصطفاه المقام المحمود ، وكمال الكرم والجود ، وخاطبه بأشرف كلامه ، وأكرم فرقانه وقرآنه ، الذي فيه بيان مكنون أسرار ذاته ، وألوان صفاته ، وعجائب علومه الغيبية ، وغرائب آياته الأزلية ، وأرسله إلى كافة البريّة ؛ ليهديهم به إلى الحق والحقيقة.
ثم أعطى أزمته الظاهرة إلى يد أهل الظاهر من العلماء والحكماء ؛ حتى شرعوا في أحكامها وحدودها ورسومها وشرائعها ، وجعل خالصة أهل صفوته غيبة أسرار خطابه ، ولطائف مكنون آياته ، وتجلّى من كلامه ، بنعت الكشف والعيان والبيان لقلوبهم وأرواحهم وعقولهم وأسرارهم ، وأعلمهم علوم حقائقه ، ونوادر دقائقه ، وصفّى دروج عقولهم بكشوف أنوار جماله ، وقدّس فهومهم لسناء جلاله ، وجعلها مواضع ودائع خفي رموز خطابه ، وما أودع كتابه من غوامض أسراره ، ولطيف إشاراته من علوم المتشابهات ومشكلات الآيات ، وعرّفهم معاني ما أخفاه في القرآن بنفسه حتى عرفوا بتعريفه إياهم ، وكحّلهم بنور قربه ووصاله ، وأطلعهم على غيبيات عرائس الحكم والمعارف والكواشف ، ومعاني فهم الفهم ، وسر السر الذي ظاهره في القرآن حكم ، وفي باطنه إشارة وكشف ، الذي استأثره الحقّ
لأصفيائه ، وأكابر أوليائه ، وغرباء أحبائه من الصدّيقين والمقرّبين ، وستر هذه الأسرار والعجائب على غيرهم من علماء الظاهر ، وأهل الرسوم الذين هم في حظّ وافر من الناسخ والمنسوخ والفقه والعلم ، ومعرفة الحلال والحرام ، والحدود والأحكام.
وتلك الصفوة الصادقة الذين فتح الله على قلوبهم من لطائف دقائق كتابه ، وما كتم على أسرار غيرهم من سنيّ فضائل مكاشفاته ، نطقوا على حسب مقاماتهم بين يدي جبروته ، وقدّر سيرانهم في ميادين ملكوته بإشارات شافية ، وعبارات كافية من قلوب صافية ، وعقول راسخة ، وأرواح عاشقة ، وأسرار مقدسة ، وهم في إدراك إشارات القرآن بالتفاوت ، كتفاوتهم في درجات المعاينات ، والمكاشفات ، والحالات ، والمداناة ، ورؤية المغيّبات ، وما لاح لأسرارهم من أنوار الأزليات والأبديات ، وما بلغوا فيما نطقوا ، وأخبروا قعر بحار القرآن ؛ لأنه صفات الرحمن ، ولا يدرك جميع حقائقه أهل الحدثان.
وصلى الله على سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم السفير الأعلى ، وسيد أهل الآخرة والأولى ، وشفيع الورى الذي سافر بيداء الآزال والآباد ، ودنا من القدم حتى لم يبق بينه وبين الحق ؛ إلا قاب قوسين أو أدنى ، عليه التحية الأسنى والبركات الأنمى ، وعلى آله نجوم الهدى ، وأصحابه مصابيح الدّجى.
أما بعد ...
فإن أطيار أسراري لمّا فرغت من الطيران في المقامات والحالات ، وارتفعت من ميادين المجاهدات والمراقبات ، ووصلت إلى بساتين المكاشفات والمشاهدات ، وجلست على أغصان ورد المداناة ، وشربت شراب الوصال ، وسكرت برؤية الجمال ، وولهت في أنوار الجلال ، وصحت من مقام القدس بذوق الأنس ، وتلقفت من فلق الغيب شقائق دقائق القرآن ، ولطائف حقائق العرفان ، فطارت بأجنحة العرفان ، وترنّمت بألحان الجنان في أحسن البيان بهذا اللسان في رموز الحق التي أخفاها على فهوم أهل الرسوم.
وما تصدّيت لهذا الأمر إلا بعد خاطري بالمعرفة والحكمة الربانية ، واقتديت بالصدر الأول من المشايخ الكرام في تفسير حقائق الكلام ، ولمّا وجدت أن كلامه الأزلي لا نهاية له في الظاهر والباطن ، ولم يبلغ أحد من خلق الله إلى كماله ، وغاية معانيه ؛ لأن تحت كل حرف من حروفه بحرا من بحار الأسرار ؛ ونهرا من أنهار الأنوار ؛ لأنه وصف القدم.
وكما لا نهاية لذاته ، لا نهاية لصفاته ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] ، وقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [الكهف :
١٩].
وعن أبي جحيفة ، قال : سألت عليّا رضي الله عنه وكرّم الله وجهه : هل عندكم من رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيء من الوحي سوى القرآن! قال : لا فالذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه (١).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن القرآن سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر وبطن ، ولكلّ حرف حدّ ومطلع» (٢).
وقال جعفر بن محمد : كتاب الله على أربعة أشياء : العبارة ، والإشارة ، واللطائف ، والحقائق ؛ فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء.
وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه : ما من آية إلا ولها أربعة معان : ظاهر ، وباطن ، وحد ، ومطلع ؛ فالظاهر : التلاوة ، والباطن : الفهم ، والحدّ : هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو : مراد الله من العبد بها.
قيل : القرآن عبارة ، وإشارة ، ولطائف ، وحقائق ، فالعبارة للسمع ، والإشارة للعقل ، واللطائف للمشاهدة ، والحقائق للاستسلام.
وقال الجنيد : كلام الله على أربعة معان : ظاهر ، وباطن ، وحق ، وحقيقة.
وقال جعفر الصادق : يقرأ القرآن على تسعة أوجه : الحق ، والحقيقة ، والتحقّق ، والحقائق ، والعقود ، والعهود ، والحدود ، وقطع العلائق ، وإجلال المعبود.
وقال الجريري : كلام الله متصل بعبده ، والعبد متوقع المزيد من ربه في كل حال.
وقال جعفر الصادق : أنزل القرآن على سبعة أنواع : على التعريف ، والتكليف ، والتعطيف ، والتشريف ، والتأليف ، والتخويف ، والتكفيف ، ثم نزّل أمرا ونهيا ، ووعدا ووعيدا ، ورخصا وتأسيسا ، وتمحيصا ، ثم نزّل داعيّا ، وراعيّا ، وشاهدا ، وحافظا ، وشافيّا ، ودافعا ، ونافعا ، فتعرّضت أن أغرف من هذه البحور الأزلية غرفات من حكم الأزليات ، والإشارات الأبديات التي تقصر عنها أفهام العلماء ، وعقول الحكماء ، اقتداء بالأولياء ، وأسوة بالخلفاء ، وسنة للأصفياء ، وصنّفت في حقائق القرآن كتابا موجزا مخففا لا إطالة فيه ولا إملال ، وذكرت ما سنح لي من حقيقة القرآن ، ولطائف البيان ، وإشارة الرحمن في القرآن بألفاظ لطيفة ، وعبارة شريفة ، وربّما ذكرت تفسير آية لم يفسرها المشايخ ، ثم أردفت بعد قولي
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٧١) ، والنسائي (١٤ / ٣٧٣) ، والطبراني في «الأوسط» (٦ / ١١٠).
(٢) رواه ابن حبان في صحيحه (١ / ٢٧٦) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (٣ / ٣٥٨) ، والطبراني في «الأوسط» (١ / ٢٣٦).
أقوال مشايخي مما عبارتها ألطف ، وإشارتها أظرف ببركاتهم ، وتركت كثيرا منها ؛ ليكون كتابي أخفّ محملا ، وأحسن تفصيلا ، واستخرت الله تعالى في ذلك ، واستعنت به ؛ ليكون موافقا لمراده ، ومواظبا لسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه وأولياء أمته ، وهو حسبي وحسب كل ضعيف ، وسمّيتها : ب «عرائس البيان في حقائق القرآن».
وما أصبت ذلك ؛ فهو بتأييد الله ونصرته ، وما أخطأت فيه ؛ فهو لازم لي ، وأنا أستغفر الله تعالى من ذلك ، إنه غفور حليم ، جوّاد كريم ، رءوف رحيم.
سورة فاتحة الكتاب
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))
سمّيت الفاتحة فاتحة ؛ لأنها مفتاح أبواب خزائن أسرار الكتاب ؛ ولأنها مفتاح كنوز لطائف الخطاب ، بانجلائها ينكشف جميع القرآن لأهل البيان ؛ لأن من عرف معانيها يفتح بها أقفال المتشابهات ، ويقتبس بسنائها أنوار الآيات.
(بِسْمِ) : «الباء» : كشف البقاء لأهل الفناء ، و «السين» : كشف سناء القدس لأهل الأنس ، و «الميم» : كشف الملكوت لأهل النعوت ، و «الباء» : برّه للعموم ، و «السين» : سرّه للخصوص ، و «الميم» : محبته لخصوص الخصوص ، و «الباء» : بدء العبودية ، و «السين» : سرّ الربوبية ، و «الميم» : منة في أزلية على أهل الصفوة.
و «الباء» من بسم أي : ببهائي بقاء أرواح العارفين في بحار العظمة.
و «السين» من بسم أي : بسنائي سمت أسرار السابقين في هواء الهوية.
و «الميم» من بسم أي : بمجدي وردت المواجيد قلوب الواجدين من أنوار المشاهدة.
وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن الباء بهاؤه ، والسين سناؤه ، والميم مجده» (١).
وقيل في (بِسْمِ اللهِ) : بالله ظهرت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجلّيه حسنت المحاسن ، وباستناره فتحت المفاتح.
وحكي عن الجنيد أنه قال : إن أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كلّ شيء سوى الله ، فقال : لهم قولوا : (بِسْمِ اللهِ) أي : بي فتسمّوا ، ودعوا انتسابكم إلى آدم عليهالسلام.
وقيل : إن «بسم» يبقى به كل الخلق ، فلو افتتح كتابه باسمه ؛ لذابت تحته حقيقة الخلائق ، إلا من كان محفوظا من نبيّ ، أو وليّ.
وروى علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد قال : «بسم» : «الباء» بقاؤه ، و «السين» أسماؤه ، و «الميم» ملكه ، فإيمان المؤمن ذكره ببقائه ، وخدمة المريد ذكره بأسمائه ، والعارف فناؤه عن المملكة بالمالك لها.
وأما «الله» : فإنه اسم الجمع لا ينكشف إلا لأهل الجمع ، وكل اسم يتعلق بصفة من صفاته إلا الله ؛ فإنه يتعلق بذاته وجميع صفاته لأجل ذلك ، وهو اسم الجمع أخبر الحق عن
__________________
(١) رواه الطبري في التفسير (١ / ٨٨).
نفسه باسمه الله ، فما يعرفه إلا هو ، ولا يسمعه إلا هو ، ولا يتكلم به إلا هو ؛ لأن الألف إشارة إلى الأنانية والوحدانية ، ولا سبيل للخلق إلى معرفتها إلا الحق تعالى.
وفي اسمه «الله» لامان : الأولى : إشارة إلى الجمال ، والثانية : إشارة إلى الجلال ، والصفتان لا يعرفها إلا صاحب الصفات ، و «الهاء» : إشارة إلى هويته ، وهويته لا يعرفها إلا هو ، والخلق معزولون عن حقائقه ، فيحتجبون بحروفه عن معرفته «بالألف» : تجلّي الحق من أنانيته لقلوب الموحدين ، فتوحدوا به ، و «باللام الأولى» : تجلّي الحق من أزليته لأرواح العارفين ، فانفردوا بانفراده ، و «باللام الثانية» : تجلّى الحق من جمال مشاهدته لأسرار المحبين ، فغابوا في بحار حبّه ، و «بالهاء» : تجلّى الحق من هويته لفؤاد المقرّبين ، فتاهوا في بيداء التحيّر من سطوات عظمته.
قال الشبليّ : ما قال الله أحد سوى الله ، فإن كان من قاله بحظّ ، وأنّى يدرك الحقائق بالحظوظ.
وقال الشبليّ : الله ، فقيل له : لم لا تقول : لا إله إلا الله؟ فقال : لا أبقي به ضدّا.
وقيل في قوله : «الله» : هو المانع الذي يمنع الوصول إليه ، كما امتنع هذا الاسم عن الوصول إليه حقيقة ، كأن الذات أشد امتناعا ، عجزهم في إظهار اسمه لهم ؛ ليعلموا بذلك عجزهم عن درك ذاته.
وقيل في قوله : (اللهِ) : «الألف» : إشارة إلى الوحدانية ، و «اللام الأولى» : إشارة إلى محو الإشارات ، و «اللام الثاني» : إشارة إلى محو المحو في كشف الهاء.
وقيل : الإشارة في «الألف» هي قيام الحق بنفسه ، وانفصاله عن جميع خلقه ، فلا اتصال له بشيء من خلقه ؛ كامتناع «الألف» أن تتصل بشيء من الحروف ابتداء ، بل تتصل الحروف بها على حدّ الاحتياج إليها ، واستغنائها عنهم.
وقيل : ليس من أسماء الله اسم يبقى على إسقاط كل حرف منه إلا الله ، فإنه الله ، فإذا أسقطت منه «الألف» يكون «لله» ، فإذا أسقطت أحد لاميه يكون «له» ، فإذا أسقطت اللامين بقيت الهاء ، وهو غاية الإشارة.
وقال بعضهم : «الباء» : باب خزانة الله ، و «السين» : سين الرسالة ، و «الميم» : ملك الولاية.
وقال بعضهم : بالله سلمت قلوب أولياء الله من عذاب الله ، وبشفقته تطرّقت أسرار أصفياء الله إلى حضرته ، وبرحمته تفرّدت أفئدة خواص عباده معه.
وقال بعضهم : بالله تحيّرت قلوب العارفين في علم ذات الله ، وبشفقته توصلت علوم
العالمين في صفات الله ، وبرحمته أدركت عقول المؤمنين شواهد ما أشهدهم الله من بيان الله.
وقيل بإلهيته تفرّدت قلوب عباد الله ، وبتعطّفه صفت أرواح محبيه ، وبرحمته ذكرت نفوس عابديه.
وقيل : (بِسْمِ اللهِ) : ترياق أعطى للمؤمنين ، يدفع الله به عنهم سمّ الدنيا وضررها.
وقال جعفر الصادق : «بسم» : للعامة ، و «الله» : لخاص الخاص.
وقال سهل : «الله» : هو اسم الله الأعظم الذي حوى الأسماء والأسامي كلها ، وبين الألف واللام منه حرف مكنّي غيب من غيب إلى غيبه ، وسرّ من سرّ إلى سرّه ، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقته ، لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس ، الآخذ من الحلال قواما لضرورة الإيمان.
وقيل : من قال بالحروف ، فإنه لم يقل الله ؛ لأنه خارج عن الحروف والحسوس ، والأوهام ، والأفهام ، ولكن رضي منّا بذلك ؛ لأنه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال.
وحكي أن أبا الحسن النوري بقي في منزله سبعة أيام لم يأكل ، ولم يشرب ، ولم ينم ، ويقول في ولهة ودهشة : الله الله ، وهو قائم يدور ؛ فأخبر الجنيد ، قال : انظروا محفوظا عليه أوقاته ، فقيل : إنه يصلي الفرائض ، فقال : الحمد لله الذي لم يجعل للشيطان له سبيلا ، ثم قال : قوموا حتى نزوره إما أن نستفيد منه ، أو نفيده ، فدخل عليه وهو في ولهه ، فقال : يا أبا الحسن ، ما الذي ولهك؟ قال : أقول : الله ، الله ، زيدوا عليّ ؛ فقال له الجنيد : انظر هل قولك الله الله ، أم قولك : إن كان كنت القائل الله الله ، فلست القائل له ، وإن كنت تقوله بنفسك ، وأنت مع نفسك ، فما معنى الوله؟ قال : نعم المؤدب كنت ، وسكن من ولهه.
أما قوله : (الرَّحْمنِ) رحم على أوليائه باسمه الرحمن ، بتعريف نفسه لهم ؛ حتى عرفوا به أسماءه ، وصفاته ، وجلاله ، وجماله ، وبه خرجت جميع الكرامات للأبدال والصدّيقين ، وبه تهيأت أسرار المقامات للأصفياء والمقرّبين ، وبه تجلّت أنوار المعارف للأتقياء والعارفين ؛ لأن اسم (الرَّحْمنِ) مخبر عن خلق الخلق ، وكرمه على جميع الخلق ، وفي اسمه (الرَّحْمنِ) ترويح أرواح الموحدين ، ومزيد أفراح العارفين ، وتربية أشباح العالمين ، وفيه نزهة المحبين ، وبهجة الشائقين ، وفرحة العاشقين ، وأمان المذنبين ، ورجاء الخائفين.
وقال بعضهم : اسمه (الرَّحْمنِ) حلاوة المنّة ، ومشاهدة القربة ، ومحافظة الحرمة.
وقال ابن عطاء : في اسمه (الرَّحْمنِ) عونه ونصرته.
وقوله (الرَّحِيمِ) : موهبة الخاص لأهل الخاص ، وهو مستند لذوي العثرات ،
ومسرة لأهل القربات.
و (الرَّحْمنِ) : مطيّة السالكين ، تسير بهم إلى معدن العناية ، و (الرَّحِيمِ) : حبل الحق للمجذوبين تجذبهم به إلى حجال الوصلة.
باسمه (الرَّحْمنِ) أمنهم من العقاب ، وباسمه (الرَّحِيمِ) أتاهم من نفائس الثواب ؛ الأول : مفتاح المكاشفة ، والآخر : مرقاة المشاهدة.
باسمه (الرَّحْمنِ) : فتح لهم الغيوب ، وباسمه (الرَّحِيمِ) : غفر لهم الذنوب.
وقال ابن عطاء : في اسمه (الرَّحِيمِ) مودة ومحبة.
وعن جعفر بن محمد في قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إنه قال : هو واقع على المريدين والمرادين ؛ فاسم (الرَّحْمنِ) : للمرادين ؛ لاستغراقهم في أنوار الحقائق ، و (الرَّحِيمِ) : للمريدين ؛ لبقائهم مع أنفسهم ، واشتغالهم بالظاهر.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) شكر نفسه للعباد ؛ لأنه علم عجزهم عن شكره ، وأيضا : أدّب الخلق بتقدم حمده امتنانه عليهم على حمدهم نفسه.
ولسان الحمد ثلاثة : لسان الإنسانيّ ، ولسان الروحانيّ ، ولسان الربانيّ ، أما «اللسان الإنسانيّ» : فهو للعوام ، وشكره بالتحدث بإنعام الله وإكرامه ، مع تصديق القلب بأداء الشكر.
__________________
(١) لم يقل تعالى : الحمد لرب العالمين الله ؛ لكون الربوبية تلو الألوهية دون العكس ؛ فإن الألوهية كالسلطنة ، والربوبية كالوزارة ، فالسلطان مظهر الاسم الله ؛ لكمال جمعيته ، والوزير مظهر الاسم الرب ؛ لكونه في مقام التربية للعالمين ؛ كالروح والعقل ، فإن القوى والأعضاء إنما تقومان بهما ، وبهما كمال ترتبيهما ، فكما أن تعيّن الروح قبل تعيّن ما دونه ؛ فكذا تعيّن الألوهية ، ونظير ذلك الشمس مع القمر ، فإن الشمس أقدم في الوجود ؛ كتقدّم الأب على الابن.
والحاصل : إن الألوهية باطن الربوبية ، فالأولى مظهر الاسم الباطن ، والثانية مظهر الاسم الظاهر ، وكذا الحق باطن الخلق ، والشمس باطن القمر ، والأب باطن الابن ، والروح باطن الجسم ، فالظاهر مرآة الباطن في كل ذلك ؛ وإنما جعلوا الرب الاسم الأعظم أيضا ، وفي مرتبة الجلال من حيث جمعيته ؛ لأن الألوهية والربوبية لا تختصان بألوهية بعض دون بعض ، وبربوبية بعض دون بعض ، وباسم دون اسم ، وبلطف دون قهر وبالعكس ، فللسلطان الجمال والجلال ، وللوزير التربية بكل من اللطف والقهر ، فجمعية السلطان إنما تظهر في المراتب التي دون السلطنة فاعرف ذلك.
وأما «اللسان الروحانيّ» : فهو للخواص ، وهو ذكر القلب لطائف اصطناع الحق في تربية الأحوال ، وتزكية الأفعال.
وأما «اللسان الربانيّ» : فهو للعارفين ، وهو حركة السرّ ، يصدق شكر الحق جلّ جلاله بعد إدراك لطائف المعارف ، وغرائب الكواشف بنعت المشاهدة والغيبة في قربه ، واجتناء ثمرة الأنس ، وخوض الروح في بحر القدس ، وذوق الأسرار مع مباينة الأنوار.
والحامدون في حمدهم لله ، بتفاوت لسانهم في مقاماتهم ومقاصدهم ، وأهل الإرادة حمدوه بما نالوا من صفاء المعاملات ، مقرونا بنور القرب ، وأهل المحبة حمدوه بما نالوا من أنوار المكاشفات ، مقرونة بنور صرف الصفات ، وأهل المعرفة حمدوه بما نالوا من جمال المشاهدات ، ممزوجا بعلم الربوبية ، وأهل التوحيد حمدوه بما نالوا من سناء خصائص الصفات ، وجلال قدم الذات ، مشوبا بنعت البقاء ، وأهل شهود الأزل بنعت الأنس حمدوه بما لاح في قلوبهم من نور القدس ، وقدس القدس ، وبما أودع الله أرواحهم من أسرار علوم القدم ، وما أفرد مواطن أسرارهم من غصن الأبصار في تعرض الحدثان عند حقائقها ، وما خصها بكشف الكشاف ، فحمدهم بالبسط والرجاء والانبساط شطح ، وحمده في الاصطلام والمحو خرس.
كما قال عليهالسلام : «لا أحصي ثناء عليك» (١) في قبضه عن تحصيل شكر رؤية القدم ، فلسان التحميد لأهل التفرقة ، ولسان الحمد في رؤية المحمود صفات أهل الجمع.
وقيل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : ما قضى وقدّر بإدراك ، على ما هدى وحفظ ، وعلى ما أرشدوا ، وعلى ما اختاروا.
وقال أبو الوزير الركبي في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : عن الله ، قال : لو عرّفت ذلك عبدي ، لما شكرت غيري.
وقال أبو بكر بن أبي طاهر : ما خلق الله شيئا من خلقه ؛ إلا وألهمه الحمد ، ثم جعل فاتحة كتابه ، وفرضها عليهم في صلاته.
وقال ابن عطاء : «الحمد لله» معناها الشكر لله إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إيّاه حتى حمدنا.
وقيل : معنى «الحمد لله» أي : أنت المحمود جميع صفاتك وأفعالك.
وقيل : «الحمد لله» أي : لا جامد لله إلا الله.
وذكر عن جعفر الصادق في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، قال : من حمده ، فقال : من حمد
__________________
(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).
بصفاته كما وصف نفسه فقد حمده ؛ لأن الحمد حاء ، وميم ، ودال ؛ «فالحاء» من الوحدانية ، و «الميم» من الملك ، و «الدال» من الديمومية ، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك ؛ فقد عرفه.
وقال رجل بين يدي الجنيد : «الحمد لله» ، فقال له : أتممها كما قال الله ، قل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فقال له الرجل : ومن العالمون حتى يذكروا مع الحق؟! فقال : قله يا أخي ، فإن الحادث إذا قارن بالقديم لا يبقى له أثر.
قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ لأنه أظهر نفسه عليهم حتى نالوا من بركاتهم ما هداهم إلى معرفته ، فربّاهم بها على قدر مذاقهم ، فربّى المريدين بشعشعة أنواره ، ولوائح أسراره ، وربّى المحبين بحلاوة مناجاته ، ولذة خطابه ، وربّى المشتاقين بحسن وصاله ، وربّى العاشقين بكشف جماله ، وربّى العارفين بمشاهدة بقائه ، ودوام أنسه ، وحقائق انبساطه ، وربّى الموحدين برؤية الوحدانية والأنانية في عين الجمع ، وجمع الجمع.
وقيل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : منطقهم بحمده.
وذكر عن ابن عطاء : (رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : مربي أنفس العارفين بنور التوفيق ، وقلوب المؤمنين بالصبر والإخلاص ، وقلوب المريدين بالصدق والوفاء ، وقلوب العارفين بالفكرة والعبرة.
وقال محمد بن عليّ الترمذي : علم الله تواتر نعمه على عباده ، وغفلتهم عن القيام بشكره ، فأوجب عليهم في العبادة التي تكرر عليهم في اليوم والليلة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فيكون ذلك قياما لشكره ، وألا يغفلوا عنه ، فأبوا ذلك.
وقال بعضهم : ذكر (بِسْمِ اللهِ) ، ثم قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أعلم أن منه المبتدأ ، وإليه المنتهى.
وقال الحارث المحاسبي : إنّ الله بدأ بحمد نفسه ، فأوجب للمؤمنين تقديم (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في أول كل كتاب ، وكل خطبة ، وكل قول حسن ، وهو أحسن ما ابتدأ به المبتدئ ، وافتتح مقالته.
وقال بعضهم : من قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ فقد قام بحق العبودية ، وشكر النعمة.
وقال بعضهم : ظهر فضل آدم على الكلّ ، بقوله حين عطس : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).
وقال الأستاذ : مربّي الأشباح بوجود النعم ، ومربّي الأرواح بشهود الكرم.