أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري
المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3553-8
الصفحات: ٣٦٦
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى صحبه الكرام المنتجبين.
وبعد ،
يقول الله تعالى في كتابه العزيز : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)) [الإسراء : ٩] ، ويقول تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (٨٢)) [الإسراء : ٨٢] ، ويقول تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)) [الإسراء : ٨٨] ، ويقول تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)) [القمر : ١٧ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٠].
للقرآن الكريم أكبر شأن في أمر الإسلام والمسلمين ، فهو هديهم في شريعتهم ، وهو المنار الذي يستضاء به في أساليب البلاغة العربية ، بل هو المنبع الصافي الذي ينهلون منه فلسفتهم الروحية والخلقية ، وهو بالجملة الموجّه لهم في الحياة والمعاملات وشتى مظاهر الحياة.
فلا عجب أن يكون القرآن الكريم موضع عناية المسلمين منذ القدم ، فقد تتابعت أنواع التآليف في أحكامه وفي تفسيره وفي بلاغته وفي لغته وفي إعرابه ، حتى لقد ازدهرت في الثقافة الإسلامية ضروب من العلوم والفنون حول القرآن الكريم وتحت رايته.
هذا كتاب «تأويل مشكل القرآن» للإمام أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، المتوفى سنة ٢٧٦ ه. وهو كتاب فريد في بابه ويعتبر من أوائل الكتب
التي بحثت في مشكل القرآن الكريم ، والشكوك التي تثار حوله ، والمطاعن التي تسدد نحوه.
يقول ابن قتيبة : «قد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ، ولغوا فيه وهجروا ، واتبعوا (ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول ، فحرّفوا الكلام عن مواضعه ، وعدلوه عن سبله ، ثم قضوا عليه بالتناقض ، والاستحالة في اللحن ، وفساد النظم ، والاختلاف ، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر ، والحدث الغر ، واعترضت بالشبه في القلوب ، وقدحت بالشكوك في الصدور ... فأحببت أن أنضح عن كتاب الله ، وأرمي من ورائه بالحجج النيرة ، والبراهين البينة ، وأكشف للناس ما يلبسون ، فألّفت هذا الكتاب جامعا لتأويل مشكل القرآن ، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح ، وحاملا ما أعلم فيه مقالا لإمام مطلع على لغات العرب ، لأري المعاند موضع المجاز ، وطريق الإمكان ، من غير أن أحكم فيه برأي ، أو أقضي عليه بتأويل ، ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير ، إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته. وعلى إيمائهم حتى أوضحته ، وزدت في الألفاظ ونقصت ، وقدّمت وأخّرت ، وضربت لذلك الأمثال والأشكال ، حتى يستوي في فهمه السامعون».
أما عملنا في هذا الكتاب فهو :
أولا : وضع ترجمة وافية للمؤلف.
ثانيا : حرصنا بقدر الطاقة على تنقية النص من الأخطاء المطبعية.
ثالثا : شرحنا في حواشي الكتاب ما في متنه من غريب اللغة أو صعب المتناول منها ، وذلك استنادا إلى المعاجم اللغوية المشهورة.
رابعا : وضعنا في حواشي الكتاب تعريفا وافيا ـ مع ذكر المراجع ـ لجميع الأعلام ، وما أهملناه من ذلك إما معروف مشهور ، ولم نجد ضرورة لنافل القول فيه ، وإما لم نهتد إليه فيما بين أيدينا من المصادر والمراجع. وقد أشرنا إلى ذلك أيضا.
خامسا : خرّجنا جميع الأحاديث النبوية والآثار تخريجا وافيا ، وضبطنا نص الحديث استنادا إلى كتب الحديث المعتبرة.
سادسا : خرّجنا جميع الشواهد الشعرية في مظانها.
سابعا : خرّجنا جميع الأمثال في مظانها.
ثامنا : خرّجنا جميع الآيات القرآنية الكريمة على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
وأخيرا ، نرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى ، ولله الكمال وحده ، وهو ولي التوفيق.
إبراهيم شمس الدين
ترجمة ابن قتيبة الدينوري (١)
هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة بن مسلم ، المروزي الدينوري ، أصله من أسرة فارسية كانت تقطن مدينة «مرو» ، ولد سنة ٢١٣ ه. في أواخر خلافة المأمون ، ونشأ في بغداد ، وتتلمذ على يد عدد كبير من العلماء وأعلام عصره ، منهم :
١ ـ أحمد بن سعيد اللحياني.
٢ ـ أبو عبد الله ، محمد بن سلّام الجمحي البصري ، المتوفى سنة ٢٣١ ه.
٣ ـ أبو يعقوب ، إسحاق بن إبراهيم ، المعروف بابن راهويه المتوفى سنة ٢٣٨ ه.
٤ ـ حرملة بن يحيى التجيبي ، المتوفى سنة ٢٤٣ ه.
٥ ـ القاضي يحيى بن أكتم المتوفى سنة ٢٤٢ ه.
٦ ـ أبو عبد الله ، الحسين بن الحسين بن حرب السلمي المروزي المتوفى سنة ٢٤٦ ه.
٧ ـ دعبل بن علي الخزاعي ، المتوفى سنة ٢٤٦ ه.
٨ ـ أبو عبد الله ، محمد بن محمد بن مرزوق بن بكير بن البهلول الباهلي البصري ، المتوفى سنة ٢٤٨ ه.
٩ ـ أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي ، المتوفى سنة ٢٤٩ ه.
١٠ ـ أبو حاتم ، سهل بن محمد السجستاني ، المتوفى سنة ٢٤٨ ه.
__________________
(١) انظر ترجمته في : كشف الظنون ٥ / ٤٤١ ، البداية والنهاية ١١ / ٥٢ ـ ٥٣ ، الأعلام للزركلي ٤ / ١٣٧ ، الأنساب للسمعاني ، التهذيب للأزهري ص ١٣ ، مراتب النحويين لأبي الطيب الحلبي ص ١٣٧ ، ميزان الاعتدال للذهبي ٢ / ٧٧ ، لسان الميزان ٣ / ٣٥٨ ، النجوم الزاهرة ٣ / ٧٥ ، الفهرست لابن النديم ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٣٩٢ ـ ٤٦٣ ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي ٥ / ١٠٢ ، وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٢٤٦.
١١ ـ محمد بن زياد بن عبيد الله الزيادي البصري ، المقلب ببؤبؤ ، المتوفى سنة ٢٥٢ ه.
١٢ ـ أبو يعقوب ، إسحاق بن إبراهيم بن محمد الصواف الباهلي البصري ، المتوفى سنة ٢٥٣ ه.
١٣ ـ أبو عثمان الجاحظ ، عمرو بن بحر بن محبوب ، المتوفى سنة ٢٥٤ ه.
١٤ ـ أبو طالب ، زيد بن أخزم الطائي البصري ، المتوفى سنة ٢٥٧ ه.
١٥ ـ أبو الفضل ، العباس بن الفرج الرياشي ، المتوفى سنة ٢٥٧ ه.
١٦ ـ أبو سهل الصفار ، عبدة بن عبد الله الخزاعي ، المتوفى سنة ٢٥٨ ه.
وقد تتلمذ على يدي ابن قتيبة عدد كبير من العلماء ، منهم :
١ ـ ابنه أحمد ، أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم الدينوري ، المتوفى سنة ٣٢٢ ه.
٢ ـ أحمد بن مروان المالكي ، المتوفى سنة ٢٩٨ ه.
٣ ـ أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان ، المتوفى سنة ٣٠٩ ه.
٤ ـ أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن أيوب بن بشير الصائغ ، المتوفى سنة ٣١٣ ه.
٥ ـ أبو محمد ، عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عيسى السكري ، المتوفى سنة ٣٢٣ ه.
٦ ـ أبو القاسم ، عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن بكير التميمي ، المتوفى سنة ٣٣٤ ه.
٧ ـ الهيثم بن كليب الشامي ، المتوفى سنة ٣٣٥ ه.
٨ ـ قاسم بن أصبغ الأندلسي ، المتوفى سنة ٣٤٠ ه.
٩ ـ عبد الله بن جعفر بن درستويه الفسوي ، المتوفى سنة ٣٥٥ ه.
١٠ ـ أبو القاسم ، عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد الأزدي ، المتوفى سنة ٣٤٨ ه.
١١ ـ أبو بكر ، أحمد بن الحسين بن إبراهيم الدينوري.
١٢ ـ أبو العباس محمد بن علي بن أحمد الكرجي ، المتوفى سنة ٣٤٣ ه.
١٣ ـ أبو رجاء ، محمد بن حامد بن الحارث البغدادي ، المتوفى سنة ٣٤٣ ه.
مؤلفات ابن قتيبة
ذكر أصحاب كتب التراجم لابن قتيبة الكثير من المصنفات ، وهي :
١ ـ آداب العشرة.
٢ ـ آداب القراءة.
٣ ـ أدب الكاتب.
٤ ـ اختلاف الحديث.
٥ ـ استماع الغناء بالألحان.
٦ ـ إصلاح غلط أبي عبيدة.
٧ ـ إعراب القرآن.
٨ ـ تأويل الرؤيا.
٩ ـ تأويل مختلف الحديث.
١٠ ـ تأويل مشكل القرآن (وهو الكتاب الذي بين أيدينا).
١١ ـ تقويم اللسان.
١٢ ـ تفسير القرآن.
١٣ ـ جامع الفقه.
١٤ ـ جامع النحو الكبير.
١٥ ـ جامع النحو الصغير.
١٦ ـ الجوابات الحاضرة.
١٧ ـ حكم الأمثال.
١٨ ـ خلق الإنسان.
١٩ ـ دلائل النبوّة.
٢٠ ـ ديوان الكتاب.
٢١ ـ طبقات الشعراء.
٢٢ ـ عيون الأخبار ، في الأدب والمحاضرات.
٢٣ ـ عيون الشعر ، يحتوي على عشرة كتب.
٢٤ ـ غريب الحديث.
٢٥ ـ غريب القرآن.
٢٦ ـ فرائد الدرر.
٢٧ ـ كتاب آلة الكتابة.
٢٨ ـ كتاب الاختلاف في اللفظ.
٢٩ ـ كتاب الأشربة.
٣٠ ـ كتاب الأنواء.
٣١ ـ كتاب الحكاية والمحكي.
٣٢ ـ كتاب التسوية بين العرب والعجم.
٣٣ ـ كتاب التفقيه.
٣٤ ـ كتاب الجراثيم.
٣٥ ـ كتاب الخيل.
٣٦ ـ كتاب الرد على المشبهة.
٣٧ ـ كتاب الرد على القائل بخلق القرآن.
٣٨ ـ كتاب صناعة الكتابة.
٣٩ ـ كتاب الشعر والشعراء.
٤٠ ـ كتاب الصيام.
٤١ ـ كتاب العلم.
٤٢ ـ كتاب فضل العرب والتنبيه على علومها.
٤٣ ـ كتاب القراءات.
٤٤ ـ كتاب المراتب والمناقب من عيون الشعر.
٤٥ ـ كتاب المسائل والأجوبة.
٤٦ ـ كتاب المعارف ، في التاريخ.
٤٧ ـ كتاب الميسر والقداح.
٤٨ ـ كتاب الوحش.
٤٩ ـ كتاب الوزراء.
٥٠ ـ مختلف الحديث.
٥١ ـ مشكلات القرآن.
٥٢ ـ معاني الشعر ، يحتوي اثني عشر كتابا ، ٥٣ ـ معجزات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
توفي ابن قتيبة ، فيما يقول تلميذه أبو القاسم إبراهيم الصائغ : أنه أكل هريسة ، فأصاب حرارة ، ثم صاح صيحة شديدة ، ثم أغمي عليه إلى وقت صلاة الظهر ، ثم اضطرب ساعة ، ثم هدأ ، فما زال يتشّهد إلى وقت السحر ، ثم مات ، وذلك أول ليلة من رجب سنة ٢٧٦ ه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة :
الحمد لله الذي نهج لنا سبل الرّشاد ، وهدانا بنور الكتاب ، (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١] بل نزّله قيّما مفصّلا بيّنا (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)) [فصلت : ٤٢] وشرّفه ، وكرّمه ، ورفعه وعظّمه ، وسماه روحا ورحمة ، وشفاء وهدى ، ونورا.
وقطع منه بمعجز التّأليف أطماع الكائدين ، وأبانه بعجيب النّظم عن حيل المتكلّفين ، وجعله متلوّا لا يملّ على طول التّلاوة ، ومسموعا لا تمجّه الآذان ، وغضّا لا يخلق على كثرة الرد ، وعجيبا.
لا تنقضي عجائبه ، ومفيدا لا تنقطع فوائده ، ونسخ به سالف الكتب.
وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه ، وذلك معنى قول رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أوتيت جوامع الكلم» (١).
فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر قوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)) [الأعراف : ١٩٩] كيف جمع له بهذا الكلام كل خلق عظيم ، لأن في (أخذ
__________________
(١) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في المساجد حديث ٧ ، ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٠ ، ٣١٤ ، ٤٤٢ ، ٥٠١ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٧٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٣ ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١ / ١٤ ، وسعيد بن منصور في سننه ٢٨٦٢ ، وابن أبي شيبة في مصنفه ١١ / ٤٨٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٠٦٨ ، والعجلوني في كشف الخفا ١ / ١٤ ، ٣٠٨. وأخرجه بلفظ : «بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب». البخاري ٤ / ٦٥ ، ٩ / ٤٧ ، ١١٣ ، ومسلم في المساجد حديث ٦ ، والنسائي في المجتبى ٦ / ٣ ، ٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٦٤ ، ٤٥٥ ، والشهاب في مسنده ٥٧٠ ، ٥٧١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٤٥٦ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ٤ / ٤٥٦ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ١٠٢ ، ٦ / ٤٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٣ ، وابن حجر في فتح الباري ١٢ / ٣٩١ ، ٤٠١ ، ١٣ / ٢٤٧ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٢ / ٣٦٥ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٧٤٩ ، وأبو عوانة في المسند ١ / ٣٩٥ ، وابن عبد البر في التمهيد ٥ / ٢١٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣١٨٩٩ ، والقرطبي في تفسيره ١٠ / ٤٩.
العفو) : صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين ، وإعطاء المانعين.
وفي (الأمر بالعرف) : تقوى الله وصلة الأرحام ، وصون اللّسان عن الكذب ، وغضّ الطّرف عن الحرمات.
وإنما سمّي هذا وما أشبهه (عرفا) و (معروفا) ، لأن كل نفس تعرفه ، وكل قلب يطمئنّ إليه.
وفي (الإعراض عن الجاهلين) : الصبر ، والحلم ، وتنزيه النفس عن مماراة السّفيه ، ومنازعة اللّجوج.
وقوله تعالى : إذ ذكر الأرض فقال : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)) [النازعات : ٣١] كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام ، من العشب والشجر ، والحب والثمر والحطب ، والعصف واللّباس ، والنّار والملح ، لأن النار من العيدان ، والملح من الماء.
وينبئك أنه أراد ذلك قوله : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)) [النازعات : ٣٣].
وفكّر في قوله تعالى حين ذكر جنات الأرض فقال : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] كيف دلّ على نفسه ولطفه ، ووحدانيته ، وهدّى للحجّة على من ضلّ عنه ، لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتّربة ، لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم ، ولا يقع التّفاضل في الجنس الواحد ، إذا نبت في مغرس واحد ، وسقي بماء واحد ، ولكنّه صنع اللطيف الخبير.
ونحو قوله : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢] يريد اختلاف ، اللّغات ، والمناظر ، والهيئات.
وفي قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] يريد : أنها تجمع وتسيّر ، فهي لكثرتها كأنها جامدة واقفة في رأي العين ، وهي تسير سير السحاب.
وكل جيش غصّ الفضاء به ، لكثرته ، وبعد ما بين أطرافه ، فقصر عنه البصر ـ فكأنه في حسبان الناظر واقف وهو يسير.
وإلى هذا المعنى ذهب الجعديّ في وصف جيش فقال (١) :
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص ١٨٧ ، ولسان العرب (صرد) ، وتاج العروس (صرد) والمعاني الكبير ص ٨٩١.
بأرعن مثل الطّود تحسب أنهم |
|
وقوف لحاج والرّكاب تهملج |
وفي قوله جلّ ذكره : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩] يريد أن سافك الدّم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهمّ بالقتل ، فكان في القصاص له حياة وهو قتل.
وأخذه الشاعر فقال (١) :
أبلغ أبا مالك عنّي مغلغلة |
|
وفي العتاب حياة بين أقوام |
يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب فكفّوا عن القتل ، فكان في ذلك حياة.
وأخذه المتمثّلون فقالوا : «بعض القتل إحياء للجميع» (٢).
وقالوا : «القتل أقلّ للقتل» (٣).
وتبيّن قوله في وصف خمر أهل الجنة : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)) [الواقعة : ١٩] كيف نفى عنها بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر ، وجمع بقوله : (ولا ينزفون) عدم العقل ، وذهاب المال ، ونفاد الشراب.
وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)) [يونس : ٤٢ ، ٤٣] كيف دلّ على فضل السّمع على البصر ، حين جعل مع الصمم فقدان العقل ، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان النظر.
وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) [النساء : ١٤٥ ، ١٤٦] فدلّ على أن المنافقين شرّ من كفر به ، وأولاهم بمقته ، وأبعدهم من الإنابة إليه ، لأنه شرط عليهم في التوبة : الإصلاح والاعتصام ، ولم يشرط ذلك على غيرهم.
ثم شرط الإخلاص ، لأن النّفاق ذنب القلب ، والإخلاص توبة القلب.
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو لهمام الرقاشي في مقاييس اللغة ٤ / ٣٧٧ ، والبيان والتبيين ٢ / ٣١٦ ، ٣ / ٢٠٢ ، ٤ / ٨٥ ، والخزانة ٣ / ٣٤٥ ، ولعصام بن عبيد الزماني في تاج العروس (غلل) ، ولأبي القمقام الأسدي في عيون الأخبار ١ / ٩١ ، ولهشام الرقاشي في العقد الفريد ١ / ٨٠ ، وبلا نسبة في لسان العرب (غلل).
(٢) انظر البيان والتبيين ٢ / ٣١٦ ، وفيه بلفظ : وقال بعض الحكماء : قتل البعض إحياء للجميع.
(٣) انظر كتاب الصناعتين ، وفيه بلفظ : القتل أنفى للقتل.
ثم قال : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤٦] ولم يقل : فأولئك هم المؤمنون.
ثم قال : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ١٤٦] ولم يقل وسوف يؤتيهم الله ، بغضا لهم ، وإعراضا عنهم ، وحيدا بالكلام عن ذكرهم.
وقوله في المنافقين : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] فدلّ على جبنهم ، واستشرافهم لكل ناعر ، ومرهج على الإسلام وأهله.
وأخذه الشاعر ـ وأنّى له هذا الاختصار ـ فقال (١) :
ولو أنّها عصفورة لحسبتها |
|
مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما |
يقول : لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين.
وقال الآخر (٢) :
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم |
|
خيلا تكرّ عليكم ورجالا |
وهذا في القرآن أكثر من أن نستقصيه.
وقد قال قوم بقصور العلم وسوء النظر في قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) [الكهف : ١٧] : وما في هذا الكلام من الفائدة؟.
وما في الشمس إذا مالت بالغداة والعشيّ عن الكهف من الخبر؟.
ونحن نقول : وأيّ شيء أولى بأن يكون فائدة من هذا الخبر؟ وأيّ معنى ألطف مما أودع الله هذا الكلام؟.
وإنما أراد عزوجل : أن يعرّفنا لطفه للفتية ، وحفظه إياهم في المهجع ، واختياره لهم أصلح المواضع للرّقود ، فأعلمنا أنه بوّأهم كهفا في مقنأة الجبل (٣) ، مستقبلا بنات
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٣٢٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٦٢ ، وله أو للبعيث في حماسة البحتري ص ٢٦١ ، وللعوام بن شوذب الشيباني في العقد الفريد ٥ / ١٩٥ ، ولسان العرب (زنم) ، والمعاني الكبير ص ٩٢٧ ، ومعجم الشعراء ص ٣٠٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٦٧ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٧٣ ، وجمهرة اللغة ص ٨٢٨ ، والجنى الداني ص ٢٨١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٠٣ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٧٠.
(٢) البيت من الكامل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٥٣ ، وشرح شواهد الشافعية ص ١٢٥ ، والعقد الفريد ٣ / ١٣٢ ، وكتاب الحيوان ٥ / ٢٤٠.
(٣) مقنأة الجبل : الموضع الذي لا تصيبه الشمس.
نعش ، فالشمس تزورّ عنه وتستدبره : طالعة ، وجارية ، وغاربة. ولا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتلفحهم بسمومها ، وتغيّر ألوانهم ، وتبلي ثيابهم. وأنهم كانوا في فجوة من الكهف ـ أي متّسع منه ـ ينالهم فيه نسيم الريح وبردها ، وينفي عنهم غمّة الغار وكربه.
وليس جهلهم بما في هذه الآية من لطيف المعنى ، بأعجب من هذا جهلهم بمعنى قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج : ٤٥] حتى أبدأوا في التعجّب منه وأعادوا ، حتى ضربه بعض المجّان لبارد شعره مثلا.
وهل شيء أبلغ في العبرة والعظة من هذه الآية؟ لأنه أراد : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ، فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتوّ ، وأبادهم بالمعصية ، فيروا من تلك الآثار بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها ، وبئرا كانت لشرب أهلها قد عطّل رشاؤها ، وغار معينها ، وقصرا بناه ملكه بالشّيد (١) قد خلا من السّكن ، وتداعى بالخراب ، فيتعظوا بذلك ، ويخافوا من عقوبة الله وبأسه ، مثل الذي نزل بهم.
ونحوه قوله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥] :
ولم يزل الصالحون يعتبرون بمثل هذا ، ويذكرونه في خطبهم ومقاماتهم : فكان سليمان صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذا مرّ بخراب قال : يا خرب الخربين أين أهلك الأوّلون؟.
وقال : أبو بكر رضي الله عنه ، في بعض خطبه : أين بانو المدائن ومحصّنوها بالحوائط؟ أين مشيّدو القصور ، وعامروها؟ أين جاعلو العجب فيها لمن بعدهم؟ تلك منازلهم خالية ، وهذه منازلهم في القبور خاوية ، هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟.
وهذا الأسود بن يعفر يقول (٢) :
__________________
(١) الشّيد ، بالكسر : كل ما طلي به الحائط من جص وبلاط.
(٢) الأبيات من الكامل ، وهي للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٢٦ ـ ٢٧ ، والبيت الأول في لسان العرب (برق) ، (حرق) ، وتاج العروس (سند) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٨ ، ومعجم البلدان (انقرة) ، والبيت الثاني في لسان العرب (كعب) ، (برق) ، وكتاب العين ١ / ٢٠٧ ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٢٥ ، وتاج العروس (كعب) ، (سند) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٩ ، والشعر والشعراء ص ٢٦١ ، والبيت الثالث في لسان العرب (نقر) ، وتاج العروس (نقر) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٧٠ ، والحماسة البصرية ٢ / ٤١٢ ، والبيت الرابع في لسان العرب (موم) ، وتاج العروس (موم).
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق |
|
تركوا منازلهم وبعد إياد |
أهل الخورنق والسّدير وبارق |
|
والقصر ذي الشّرفات من سنداد |
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم |
|
ماء الفرات يجيء من أطواد |
أرض تخيّرها لطيب مقيظها |
|
كعب بن مامة وابن أم دؤاد |
جرت الرياح على محلّ ديارهم |
|
فكأنهم كانوا على ميعاد |
فأرى النعيم وكلّ ما يلهى به |
|
يوما يصير إلى بلىّ ونفاد |
وهذه الشّعراء تبكي الديار ، وتصف الآثار ، وإنما تسمعهم يذكرون دمنا وأوتادا ، وأثافيّ ورمادا ، فكيف لم يعجبوا من تذكّرهم أهل الديار بمثل هذه الآثار ، وعجبوا من ذكر الله ، سبحانه أحسن ما يذكر منها وأولاه بالصّفة ، وأبلغه في الموعظة؟.
باب ذكر العرب وما خصّهم الله به
من العارضة والبيان واتّساع المجاز
وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره ، واتسع علمه ، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب ، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات ، فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة ، والبيان ، واتساع المجال ، ما أوتيته العرب خصّيصى من الله ، لما أرهصه في الرسول ، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب ، فجعله علمه ، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه :
فكان لموسى فلق البحر ، واليد ، والعصا ، وتفجّر الحجر في التّيه بالماء الرّواء ، إلى سائر أعلامه زمن السّحر.
وكان لعيسى إحياء الموتى ، وخلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص ، إلى سائر أعلامه زمن الطب.
وكان لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، لم يأتوا به ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، إلى سائر أعلامه زمن البيان.
فالخطيب من العرب ، إذا ارتجل كلاما في نكاح ، أو حمالة ، أو تحضيض ، أو صلح ، أو ما أشبه ذلك ـ لم يأت به من واد واحد ، بل يفتنّ : فيختصر تارة إرادة التخفيف ، ويطيل تارة إرادة الإفهام ، ويكرّر تارة إرادة التوكيد ، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين ، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين ، ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء.
وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال ، وقدر الحفل ، وكثرة الحشد ، وجلالة المقام.
ثمّ لا يأتي بالكلام كلّه ، مهذّبا كلّ التّهذيب ، ومصفّى كلّ التّصفية ، بل تجده يمزج ويشوب ، ليدل بالنّاقص على الوافر ، وبالغثّ على السمين. ولو جعله كلّه
نجرا (١) واحدا ، لبخسه بهاءه ، وسلبه ماءه.
ومثل ذلك الشّهاب من القبس نبرزه للشّعاع ، والكوكبان يقترنان ، فينقص النّوران ، والسّخاب (٢) ينظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان ، ولا يجعل كلّه جنسا واحدا من الرفيع الثّمين ، ولا النّفيس المصون.
وألفاظ العرب مبنية على ثمانية وعشرين حرفا ، وهي أقصى طوق اللّسان.
وألفاظ جميع الأمم قاصرة عن ثمانية وعشرين ولست واجدا في شيء من كلامهم حرفا ليس في حرفنا إلا معدولا عن مخرجه شيئا ، مثل الحرف المتوسط مخرجي القاف والكاف ، والحرف المتوسط مخرجي الفاء والباء.
فهذه حال العرب في مباني ألفاظها.
ولها الإعراب الذي جعله الله وشيا لكلامها ، وحلية لنظامها ، وفارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين ، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول ، لا يفرّق بينهما ، إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكلّ واحد منهما ـ إلا بالإعراب.
ولو أن قائلا قال : هذا قاتل أخي بالتنوين ، وقال آخر : هذا قاتل أخي بالإضافة ـ لدّل التنوين على أنه لم يقتله ، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله.
ولو أن قارئا قرأ : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)) [يس : ٧٦] وترك طريق الابتداء بإنّا ، وأعمل القول فيها بالنصب على مذهب من ينصب (أنّ) بالقول كما ينصبها بالظن ـ لقلب المعنى عن جهته ، وأزاله عن طريقته ، وجعل النبيّ ، عليهالسلام ، محزونا لقولهم : إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون. وهذا كفر ممن تعمّده ، وضرب من اللحن لا تجوز الصلاة به ، ولا يجوز للمأموين أن يتجوّزوا فيه.
وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم» (٣).
فيمن رواه «حزما» أوجب ظاهر الكلام للقرشي ألا تقتل إن ارتد ، ولا يقتصّ منه إن قتل.
__________________
(١) النجر : اللون.
(٢) السخاب ، بالخاء المعجمة : كل قلادة كانت ذات جواهر ، أو لم تكن.
(٣) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٨٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٢ ، ٤ / ٢١٣ ، والدارمي ٢ / ١٩٨ ، والبيهقي في دلائل النبوة ٥ / ٧٩ ، والحميدي في مسنده ٥٦٨ ، وابن أبي عاصم في السنة ٢ / ٦٣٨ ، وابن أبي شيبة في مصنفه ١٢ / ١٧٣ ، ١٤ / ٤٩٠ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٩٩٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٣٨٠٤ ، ٣٣٨٨٥ ، ٣٧٩٨٥.
ومن رواه «رفعا» انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش : أنه لا يرتدّ منها أحد عن الإسلام فيستحقّ القتل.
أفما ترى الإعراب كيف فرق بين هذين المعنيين.
وقد يفرقون بحركة البناء في الحرف الواحد بين المعنيين.
فيقولون : رجل لعنة ، إذا كان يلعنه الناس. فإن كان هو الذي يلعن الناس ، قالوا : رجل لعنة فحركوا العين بالفتح.
ورجل سبّة إذا كان يسبه الناس ، فإن كان هو يسبّ الناس قالوا : رجل سببة.
وكذلك : هزأة ، وهزأة وسخرة ، وسخرة وضحكة ، وضحكة وخدعة ، وخدعة.
وقد يفرقون بين المعنيين المتقاربين بتغيير حرف في الكلمة حتى يكون تقارب ما بين اللفظين ، كتقارب ما بين المعنيين.
كقولهم للماء الملح الذي لا يشرب إلا عند الضرورة : شروب ، ولما كان دونه مما قد يتجوّز به : شريب.
وكقولهم لما ارفضّ على الثوب من البول إذ كان مثل رؤوس الإبر : نضح ، ورشّ الماء عليه يجزىء من الغسل ، فإن زاد على ذلك قليلا قيل له : نضخ ولم يجزىء فيه إلا الغسل.
وكقولهم للقبض بأطراف الأصابع : قبض وبالكف : قبض وللأكل بأطراف الأسنان : قضم وبالفم : خضم.
ولما ارتفع من الأرض : حزن فإن زاد قليلا قيل : حزم.
وللذي يجد البرد : خصر فإن كان مع ذلك جوع قيل : خرص.
وللنار إذا طفئت : هامدة فإن سكن اللهب وبقي من جمرها شيء قيل : خامدة.
وللقائم من الخبل : صائم فإن كان ذلك من حفىّ أو وجى ، قيل : صائن.
وللعطاء : شكد فإن كان مكافأة قيل : شكم.
وللخطأ من غير التعمد : غلط فإن كان في الحساب قيل : غلت.
وللضيق في العين : خوص فإن كان ذلك في مؤخّرها قيل : حوص.
وقد يكتنف الشيء معان فيشتقّ لكل معنى منها اسم من اسم ذلك الشيء ، كاشتقاقهم من البطن للخميص : مبطّن وللعظيم البطن إذا كان خلقة : بطين فإذا كان من كثرة الأكل قيل مبطان وللمنهوم : بطن وللعليل البطن : مبطون.
ويقولون : وجدت الضّالة ووجدت في الغضب ، ووجدت في الحزن ، ووجدت في الاستغناء. ثم يجعلون الاسم الضّالة : وجودا ووجدانا وفي الحزن وجدا وفي الغضب موجدة وفي الاستغناء وجدا.
في أشياء كثيرة ، ليس لاستقصاء ذكرها في كتابنا هذا ، وجه.
وللعرب الشّعر الذي أقامه الله تعالى لها مقام الكتاب لغيرها ، وجعله لعلومها مستودعا ، ولآدابها حافظا ، ولأنسابها مقيّدا ، ولأخبارها ديوانا لا يرثّ على الدّهر ، ولا يبيد على مرّ الزّمان.
وحرسه بالوزن ، والقوافي ، وحسن النّظم ، وجودة التخيير ـ من التدليس والتّغيير ، فمن أراد أن يحدث فيه شيئا عسر ذلك عليه ، ولم يخف له كما يخفى في الكلام المنثور.
وقد تجد الشاعر منهم ربما زال عن سننهم شيئا ، فيقولون له : ساندت ، وأقويت ، وأكفأت ، وأوطأت.
وإنما خالف في السّناد بين ردفين ، أو حرفين قبل ردفين ، كقول عمرو بن كلثوم (١) :
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا |
|
ولا تبقي خمور الأندرينا |
وقال في بيت آخر (٢) :
كأن متونهنّ متون غدر |
|
تصفّقها الرياح إذا جرينا |
فالحاء من فأصبحينا (ردف) وهي مكسورة ، والراء من جرينا (ردف) وهي مفتوحة.
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص ٦٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٧٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٥١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١١٩ ، ولسان العرب (مدر) ، (ندر) ، (صحن).
(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص ٨٥ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٤٠٩ ، وشرح ديوان امرئ القيس ص ٣٣١ ، وشرح القصائد السبع ص ٤١٦ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٥٧ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٨٤ ، وشرح المعلقات العشر ص ٩٥ ، ولسان العرب (غرا) ، وفيه : «غرينا» بدل «جرينا». والبيت بلا نسبة في تاج العروس (سند) ، (غرا) ، وكتاب العين ٧ / ٢٢٩.