النبيين في أعلى عليين في الجنة ، فقد أعلمتك يا بني بمجملات جميع ما سمعت من مشايخي متفرقا في هذا الباب ، فأقبل الآن على ما قصدتني (١) له أو دع ، فهالني قوله ، فسكتّ متفكرا ، وأطرقت متأدبا ، فلما رأى ذاك مني قال : وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه ، يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارّ ساكن لا تحتاج إلى بعد الأسفار ، ووطء الديار ، وركوب البحار ، وهو ذا ثمرة الحديث ، وليس ثواب الفقيه دون ثواب المحدّث في الآخرة ، ولا عزه بأقلّ من عز المحدث ، فلما سمعت ذلك نقص عزمي (٢) في طلب الحديث ، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدما ، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته ، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لهذا الصبي يا أبا إبراهيم ، فقال له أبو إبراهيم : إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك ، انتهى.
وجاء أبو حيان إلى ابن تيمية والمجلس غاصّ فقال يمدحه ارتجالا : [بحر البسيط]
لما أتينا تقيّ الدين لاح لنا |
| داع إلى الله فرد ما له وزر |
على محياه من سيما الألى صحبوا |
| خير البرية نور دونه القمر |
حبر تسربل منه دهره حبرا |
| بحر تقاذف من أمواجه الدرر (٣) |
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا |
| مقام سيد تيم إذ عصت مصر (٤) |
فأظهر الحقّ إذ آثاره درست |
| وأخمد الشر إذ طارت له الشرر |
كنا نحدث عن حبر يجيء فها |
| أنت الإمام الذي قد كان ينتظر |
ثم انحرف أبو حيان فيما بعد عن ابن تيمية ، ومات وهو على انحرافه ، ولذلك أسباب : منها أنه قال له يوما : كذا قال سيبويه ، فقال : يكذب سيبويه ، فانحرف عنه ، رحم الله تعالى الجميع!
وحضر الشيخ أبو حيان مع ابن بنت الأعز في الروضة فكتب إلى أبي حيان ووجّهه مع بعض غلمانه : [بحر المنسرح]
__________________
(١) في ب ، ه : «فأقبل الآن إلى ما قصدتني له أو دع».
(٢) في ب : «نقض عزمي».
(٣) الحبر : العالم. والحبر : جمع حبرة ، وهي نوع من الثياب المخططة التي اشتهرت اليمن بصناعتها.
(٤) سيد تيم : أبو بكر الصديق رضي الله عنه وفي ب «عصت مضر».