محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

تكون اختيارية كما في مثل قولنا : ضرب زيد ، وقام عمرو وما شاكلهما. وقد تكون غير اختيارية كما في مثل قولنا : تحقق موت زيد ، وأسرع النبض ، وجرى الدم في العروق ، ونحو ذلك. فالنتيجة : أنّه لا أساس لأخذ الاختيار في الأفعال لا مادّةً ولا هيئةً.

ولكن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) قد ادّعى في المقام أنّ صيغة الأمر أو ما شاكلها ظاهرة في الاختيار ، لا من ناحية دعوى الانصراف ، فانّها ممنوعة ، بل لخصوصية فيها ، واستدلّ على ذلك بوجهين :

الأوّل : أنّ الغرض من الأمر الصادر من المولى إلى العبد هو بعثه وإيجاد الداعي له لتحريك عضلاته نحو إيجاد المأمور به ، ومن الطبيعي أنّ هذا يستلزم كون المتعلق مقدوراً له وإلاّ لكان طلبه لغواً محضاً ، لعدم ترتب الغرض المذكور عليه ، وصدور اللغو من المولى الحكيم مستحيل.

وعلى هذا فبطبيعة الحال يكون المطلوب في باب الأوامر حصّة خاصّة من الفعل وهي الحصّة المقدورة ، وتلك الحصّة هي الواجبة على المكلف دون غيرها ، ولا يسقط الواجب عنه إلاّباتيان تلك الحصّة. وعليه فإذا شككنا في سقوط واجب بمجرد تحققه في الخارج ولو بلا اختيار ولا إرادة ، فمقتضى إطلاق الأمر عدم سقوطه ، لأنّ إجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل. فالنتيجة :

أنّا لا نقول بأنّ الاختيار جزء مدلول المادة أو الهيئة ، أو أنّها عند الاطلاق منصرفة إلى هذا ، وذلك لأنّ هذه الدعوى ساقطة لا واقع لها أصلاً ، بل نقول : إنّه كان من خصوصيات الطلب والبعث المستفاد من الصيغة أو ما شاكلها ومن شؤونه ، فإذن تمتاز صيغة الأمر أو ما شابهها عن بقية الأفعال في هذه النقطة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٣.

٥٠١

والخصوصية.

الثاني : أنّه لا يكفي في صحّة الواجب حسنه الفعلي واشتماله على مصلحة ملزمة ، بل يعتبر فيها زائداً على ذلك الحسن الفاعلي ، بمعنى أن يكون صدور الفعل على وجه حسن ، ومن هنا التزم قدس‌سره ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة حتّى على القول بالجواز ، نظراً إلى أنّ صدور الصلاة في تلك الدار ليس بوجه حسن يستحق أن يمدح عليه ، وإن كانت الصلاة في نفسها حسنة.

وحيث إنّ الفعل الصادر من المكلف بلا اختيار وإرادة لايتصف بالحسن الفاعلي ، فلا يعقل أن يكون من أفراد الواجب ، وعليه فسقوط الواجب به يحتاج إلى دليل ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدم سقوطه.

فالنتيجة على ضوء هذين الوجهين : هي أنّ مقتضى إطلاق الأمر عدم سقوط الواجب بما إذا صدر بغير إرادة واختيار ، فالسقوط يحتاج إلى دليل.

هذا إذا كان هنا إطلاق ، وإلاّ فالأصل العملي أيضاً يقتضي ذلك.

ولنأخذ بالمناقشة في هذين الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فهو مورد للمؤاخذة من جهتين : الاولى : أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هو بحكم العقل لا بمقتضى الخطاب كما فصّلنا الحديث من هذه الناحية في بحث الضد (١) فلا نعيد. الثانية : أنّ اعتبار القدرة فيه سواء أكان بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب ليس إلاّمن ناحية أنّ التكليف بغير المقدور لغو ، ومن الطبيعي أنّ ذلك لا يقتضي إلاّ استحالة تعلّق التكليف بغير المقدور خاصّة ، وأمّا تعلّقه بخصوص الحصّة المقدورة فحسب فلا ، ضرورة أنّ غاية ما يقتضي ذلك كون متعلقه مقدوراً ، ومن المعلوم أنّ الجامع بين المقدور

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٥٦.

٥٠٢

وغيره مقدور فلا مانع من تعلّقه به ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون اعتبار القدرة بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب ، أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّ الطلب المتعلق بشيء لا يقتضي أزيد من كون ذلك الشيء مقدوراً.

وبكلمة اخرى : أنّ المصلحة في الواقع لا تخلو من أن تقوم بخصوص الحصّة المقدورة ، أو تقوم بالجامع بينها وبين غير المقدورة. فعلى الأوّل لا معنى لاعتبار الجامع. وعلى الثاني لا مناص من اعتباره ولا يكون لغواً بعد إمكان تحقق تلك الحصّة في الخارج. فالنتيجة أنّ استحالة تعلّق الطلب بالجامع واعتباره إنّما تقوم على أساس أحد أمرين : الأوّل : أن لا يكون للجامع ملاك يدعو المولى إلى اعتباره. الثاني : أن تكون الحصّة غير المقدورة مستحيلة الوقوع في الخارج.

وأمّا في غير هذين الموردين فلا مانع من اعتباره على ذمّة المكلف أصلاً.

ولا يقاس هذه المسألة بالمسألة الاولى ، حيث قلنا في تلك المسألة بعدم إمكان تعلّق التكيف بالجامع بين فعل المكلف نفسه وبين فعل غيره ، والوجه في ذلك : هو أنّ اعتبار ذلك الجامع في ذمّة المكلف لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل ، بداهة أنّه لا معنى لاعتبار فعل غير المكلف في ذمّته ، وهذا بخلاف مسألتنا هذه فان اعتبار فعل المكلف على ذمّته الجامع بين المقدورة وغيرها بمكان من الامكان بلا لزوم أيّ محذور كما عرفت ، هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات ، فان كان هناك إطلاق كشف ذلك عن الاطلاق في مقام الثبوت ، يعني أنّ الواجب هو الجامع دون خصوص حصّة خاصّة ، فعندئذ إن كان المولى في مقام البيان ولم يقم قرينة على التقييد ، تعيّن التمسك بالاطلاق لاثبات صحّة الفعل لو جيء به في ضمن حصّة غير مقدورة.

٥٠٣

فالنتيجة : أنّه لا مانع من التمسك بالاطلاق في هذه المسألة إن كان ، ومقتضاه سقوط الواجب عن المكلف إذا تحقق في الخارج ولو بلا إرادة واختيار. وهذا بخلاف المسألة الاولى ، حيث إنّ الاطلاق فيها غير ممكن في مقام الثبوت فلا إطلاق في مقام الاثبات ليتمسك به ، ومن ثمة قلنا بالاشتغال هناك وعدم السقوط ، هذا بناءً على نظريتنا من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل التضاد ، فاستحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق لا استحالته ، كما سيأتي بيانه في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى (١).

وأمّا بناءً على نظريّة شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، فإذا أمكن أحدهما أمكن الآخر ، وإذا استحال استحال ، فلا يعقل الاطلاق في المقام حتّى يمكن التمسك به ، وذلك لاستحالة التقييد هنا ، أي تقييد الواجب في الواقع بخصوص الحصّة غير المقدورة ، فإذا استحال استحال الاطلاق.

وقد تحصّل من ذلك نقطة الامتياز بين نظريتنا ونظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره في المسألة ، وهي إمكان التمسك بالاطلاق على الأوّل وعدم إمكانه على الثاني ، هذا إذا كان إطلاق.

وأمّا إذا لم يكن ، فالأصل العملي يقتضي البراءة ، وذلك لأنّ تعلق الوجوب بالجامع معلوم وإنّما الشك في تعلّقه بخصوص الحصّة المقدورة ، ومن الطبيعي أنّ المرجع في ذلك هو أصالة البراءة عن وجوب خصوص تلك الحصّة ، وعليه فلو تحقق الواجب في ضمن فرد غير مقدور سقط.

وأمّا الوجه الثاني : فترد عليه المناقشة من جهتين :

__________________

(١) في ص ٥٢٨.

٥٠٤

الاولى : أنّ اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب زائداً على الحسن الفعلي والملاك القائم فيه لا دليل عليه أصلاً ، والدليل إنّما قام على اعتبار الحسن الفعلي وهو المصلحة القائمة في الفعل التي تدعو المولى إلى إيجابه.

الثانية : أنّنا لو اعتبرنا الحسن الفاعلي في الواجب إضافةً إلى الحسن الفعلي لزم من ذلك محذور آخر ، لا إثبات ما هو المقصود هنا ، وذلك المحذور هو عدم كفاية الاتيان بالواجب عندئذ عن إرادة واختيار أيضاً في سقوطه ، بل لا بدّ من الاتيان به بقصد القربة ، بداهة أنّ الحسن الفاعلي لا يتحقق بدونه ، ومن الطبيعي أنّ الالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار الواجبات التوصلية ، وانحصارها بالواجبات التعبّدية ، وذلك لأنّ كل واجب عندئذ يفتقر إلى الحسن الفاعلي ولا يصح بدونه ، والمفروض أنّه يحتاج إلى قصد القربة ، وهذا لا يتمشى مع تقسيمه قدس‌سره في بداية البحث الواجب إلى تعبدي وتوصلي.

فالنتيجة : أنّ اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب رغم أنّه لا دليل عليه ، يستلزم محذوراً لا يمكن أن يلتزم به أحد حتّى هو قدس‌سره فإذن لا مناص من الالتزام بعدم اعتباره وكفاية الحسن الفعلي. نعم ، هنا شيء آخر وهو أن لا يكون مصداق الواجب قبيحاً كما إذا أتى به في ضمن فرد محرّم ، وذلك لأنّ الحرام لا يعقل أن يقع مصداقاً للواجب.

وقد تحصّل من ذلك عدّة امور :

الأوّل : خطأ الوجوه المتقدمة التي اقيمت لاثبات كون الواجب هو خصوص الحصّة الاختيارية.

الثاني : إمكان كون الواجب في الواقع هو الجامع بين الحصّة المقدورة وغيرها.

الثالث : أنّ المولى إذا كان في مقام البيان فلا مانع من التمسك بالاطلاق ، وإن

٥٠٥

لم يكن فالمرجع هو أصالة البراءة. وبهذين الوجهين يعني الوجه الثاني والثالث تمتاز هذه المسألة عن المسألة الاولى.

الثالثة : ما إذا شكّ في سقوط واجب في ضمن فرد محرّم ، وهذا يتصور على نحوين :

الأوّل : أن يكون المأتي به في الخارج مصداقاً للحرام حقيقةً ، كغسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب أو نحوه.

الثاني : أن لا يكون المأتي به مصداقاً له كذلك ، بل يكون ملازماً له وجوداً ، وذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوها بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه في مورد الاجتماع والتصادق.

أمّا الكلام في القسم الأوّل : فتارةً نعلم بأنّ الاتيان بالواجب في ضمن فرد محرّم مسقط له ، وسقوطه من ناحية سقوط موضوعه وعدم تعقل بقائه حتّى يؤتى به ثانياً في ضمن فرد غير محرّم ، وذلك كازالة النجاسة عن المسجد مثلاً ، فانّها تسقط عن المكلف ولو كانت بالماء المغصوب فلايبقى موضوع لها ، وكغسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب حيث يسقط عن ذمّته بانتفاء موضوعه وحصول غرضه وما شاكل ذلك ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ مردّ سقوط الواجب في ضمن الفرد المحرّم ليس إلى أنّ الواجب هو الجامع بينهما ، بل مردّه إلى حصول الغرض به الداعي إلى إيجابه ، حيث إنّه مترتب على مطلق وجوده ولو كان في ضمن فرد محرّم ، وعدم موضوع لاتيانه ثانياً في ضمن فرد آخر ، لا أنّ الواجب هو الجامع.

وتارةً اخرى نشك في أنّه يسقط لو جيء به في ضمن فرد محرّم أو لا ، وذلك كغسل الميت وتحنيطه وتكفينه ودفنه وما شاكل ذلك ، فلو غسّل الميت

٥٠٦

بالماء المغصوب ، أو دفن في أرض مغصوبة أو حنّط بالحنوط المغصوب ، أو غير ذلك ، وشككنا في سقوط التكليف بذلك وعدم سقوطه فنقول :

لا إشكال ولا شبهة في أنّ مقتضى إطلاق الواجب عدم السقوط ، بداهة أنّ الفرد المحرّم لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب ، لاستحالة انطباق ما هو محبوب للمولى على ما هو مبغوض له. فعدم السقوط من هذه الناحية لا من ناحية استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وذلك لأنّ هذه الناحية تقوم على أساس

أنّ الأمر يسري من الجامع إلى أفراده ، ولكنّه خاطئ لا واقع موضوعي له ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ متعلق الأمر هو الطبيعي الجامع ، ولا يسري الأمر منه إلى شيء من أفراده العرضية والطولية ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : بعد ما عرفت استحالة انطباق الواجب على الفرد المحرّم فبطبيعة الحال يتقيد الواجب بغيره.

وعلى ضوء هذا البيان فإذا شككنا في سقوط الواجب في ضمن فرد محرّم فلا محالة يرجع إلى الشك في الاطلاق والاشتراط ، بمعنى أنّ وجوبه مطلق فلا يسقط عن ذمّته باتيانه في ضمن فرد محرّم أو مشروط بعدم إتيانه في ضمنه ، وقد تقدّم أنّ مقتضى الاطلاق عدم الاشتراط إن كان ، وإلاّ فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة ، وذلك لأنّ المسألة على هذا الضوء تكون من صغريات كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وقد اخترنا في تلك المسألة القول بجريان البراءة فيها عقلاً وشرعاً. هذا بناءً على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وإلاّ فلا مانع من الرجوع إليه ويأتي بيانه في مورده إن شاء الله تعالى.

وأمّا الكلام في القسم الثاني : فلا ينبغي الشك في سقوط الواجب به إذا كان توصلياً ، لأنّ المفروض أنّه فرد حقيقي للواجب غاية الأمر أنّ وجوده في

٥٠٧

الخارج ملازم لوجود الحرام ، ومن الطبيعي أنّ هذا لا يمنع من انطباق الواجب عليه.

وأمّا إذا كان تعبدياً فالظاهر أنّ الأمر أيضاً كذلك ، والسبب في هذا : هو أنّ المعتبر في صحّة العبادة الاتيان بها بكافّة أجزائها وشرائطها مع قصد القربة ، ولا دليل على اعتبار شيء زائد على ذلك ، ومن المعلوم أنّ مجرد مقارنتها خارجاً وملازمتها كذلك لوجود الحرام لا يمنع عن صحّتها وقصد القربة بها ، فانّ المانع منه ما إذا كانت العبادة محرّمة ، لا في مثل المقام.

ومن هنا قلنا بصحّة العبادة في مورد الاجتماع بناءً على القول بالجواز ، حيث إنّ ما ينطبق عليه الواجب غير ما هو الحرام فلا يتحدان خارجاً كي يكون مانعاً عن الانطباق وقصد التقرب ، بل يمكن الحكم بالصحّة فيه حتّى على القول باعتبار الحسن الفاعلي ، وذلك لأنّ صدور العبادة بما هي عبادة حسن منه ، وإنّما القبيح صدور الحرام ، ومن الواضح أنّ قبح هذا لا يرتبط بحسن ذاك ، فهما فعلان صادران من الفاعل ، غاية الأمر كان صدور أحدهما منه حسناً وصدور الآخر قبيحاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الواجب التوصلي على أنواع ، منها : ما يسقط عن ذمّة المكلف بصرف وجوده في الخارج ، سواء أكان بفعل نفسه أم كان بفعل غيره ، وسواء أكان في ضمن فرد مباح أم كان في ضمن فرد محرّم. ومنها : ما لا يسقط إلاّبفعل المكلف نفسه. ومنها : ما لا يسقط إلاّفي ضمن فرد مباح فلا يسقط في ضمن فرد حرام. نعم ، يشترك الجميع في نقطة واحدة وهي عدم اعتبار قصد القربة في صحّتها ، ومن هنا يظهر أنّه لا أصل لما اشتهر في الألسنة من أنّ الواجب التوصلي ما يسقط عن المكلف ويحصل الغرض منه بمجرّد وجوده وتحققه في الخارج. هذا آخر ما أوردناه في المقام الأوّل.

٥٠٨

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فلا شبهة في أنّ الواجب في الشريعة المقدّسة بل في كافّة الشرائع على نوعين : تعبدي وتوصلي. والأوّل ما يتوقف حصول الغرض منه على قصد التقرب ، وذلك كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس وما شاكل ذلك. والثاني ما لايتوقف حصوله على ذلك كما عرفت ، ومنه وجوب الوفاء بالدين ، وردّ السلام ، ونفقة الزوجة ، وهذا القسم هو الكثير في الشريعة المقدّسة ، وجعله من الشارع رغم أنّه لا يعتبر فيه قصد التقرب إنّما هو لأجل حفظ النظام وإبقاء النوع ، ولولاه لاختلّت نظم الحياة المادية والمعنوية ، وبعد ذلك نقول : مرّةً يعلم المكلف بأنّ هذا الواجب توصلي وذاك تعبدي ، ولا كلام فيه. ومرّةً اخرى لا يعلم به ويشك ، الكلام في المقام إنّما هو في ذلك ، وهو يقع في مقامين :

الأوّل : في مقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق.

الثاني : في مقتضى الأصل العملي.

[ مقتضى الأصل اللفظي ]

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو أنّه لا إطلاق في المقام حتّى يمكن التمسك به لاثبات كون الواجب توصلياً ، ولكن هذه الدعوى منهم ترتكز على أمرين :

الأوّل : دعوى استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم إمكانه.

الثاني : دعوى أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، فينبغي لنا التكلّم عندئذ في هاتين الدعويين :

أمّا الدعوى الاولى : فقد ذكروا في وجه استحالة التقييد وجوهاً :

٥٠٩

أحسنها : ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ كل قيد في القضايا الحقيقية إذا اخذ مفروض الوجود في الخارج ـ سواء أكان اختيارياً أم كان غير اختياري ـ يستحيل تعلّق التكليف به ، والسبب في ذلك : أنّ القضايا الحقيقية ترجع إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.

مثلاً قولنا : المستطيع يجب عليه الحج ، قضيّة حقيقية ترجع إلى قضيّة شرطية ، وهي قولنا : إذا وجد في الخارج شخص وصدق عليه أنّه مستطيع وجب عليه الحج ، فيكون وجوب الحج مشروطاً بوجود الاستطاعة في الخارج ، فتدور فعليته مدار فعليتها ، لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه.

وعليه فلا يمكن أن يقع مثل هذا القيد مورداً للتكليف ، بداهة أنّ المشروط لا يقتضي وجود شرطه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك القيد اختيارياً أو غير اختياري. والأوّل : كالعقد والعهد والنذر والاستطاعة ، وما شاكل ذلك.

فانّ مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) أو نحوه ، يرجع إلى أنّه إذا فرض وجود عقد في الخارج يجب الوفاء به ، لا أنّه يجب على المكلف إيجاد عقد في الخارج والوفاء به. والثاني : كالوقت والبلوغ والعقل ، حيث إنّها خارجة عن اختيار المكلف فلا تكون مقدورةً له ، ومن الطبيعي أنّ مثل هذه القيود إذا اخذت في مقام الجعل فلا محالة اخذت مفروضة الوجود في الخارج ، يعني أنّ المولى فرض وجودها أوّلاً ثمّ جعل الحكم عليها ، ومردّ ذلك إلى أنّه متى تحقق وقت الزوال مثلاً فالصلاة واجبة ، ومتى تحقق البلوغ في مادة المكلف فالتكليف فعلي في حقّه ، وهكذا. وليس معنى إذا زالت الشمس فصلّ وجوب الصلاة ووجوب تحصيل الوقت ، حيث إنّه تكليف بغير مقدور ، بل معناه ما ذكرناه ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٠ وما بعدها.

(٢) المائدة ٥ : ١.

٥١٠

فانّ ما هو مقدور للمكلف هو ذات الصلاة ، وإيقاعها في الوقت عند تحققه ، وأمّا تحصيل نفس الوقت فهو غير مقدور له فلا يعقل تعلّق التكليف به.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ كل قيد إذا اخذ في مقام الجعل مفروض الوجود فلا يعقل تعلّق التكليف به سواء أكان اختيارياً أم لم يكن ، غاية الأمر أنّ القيد إذا كان غير اختياري فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ، ولا يعقل أخذه في متعلق التكليف بغير ذلك.

ومقامنا من هذا القبيل ، فان قصد الأمر إذا اخذ في متعلقه فلا محالة يكون الأمر موضوعاً للتكليف ومفروض الوجود في مقام الانشاء ، لما عرفت من أنّ كل قيد إذا اخذ متعلقاً لمتعلق التكليف فبطبيعة الحال كان وجود التكليف مشروطاً بفرض وجوده فرضاً مطابقاً للواقع الموضوعي ، وحيث إنّ متعلق المتعلق فيما نحن فيه هو نفس الأمر ، فيكون وجوده مشروطاً بفرض وجود نفسه فرضاً مطابقاً للخارج ، فيلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه وهذا خلف ، ضرورة أنّ ما لا يوجد إلاّبنفس إنشائه كيف يعقل أخذه مفروض الوجود في موضوع نفسه ، فانّ مرجعه إلى اتحاد الحكم والموضوع.

وإن شئت قلت : إنّ أخذ قصد الأمر في متعلقه يستلزم بطبيعة الحال أخذ الأمر مفروض الوجود ، لكونه خارجاً عن الاختيار ، وعليه فيلزم محذور الدور ، وذلك لأنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه ، وحيث إنّ الموضوع على الفرض هو نفس الأمر وهو متعلق لمتعلقه ، فطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه ، وهو محال.

فالنتيجة : أنّ أخذ داعي الأمر في متعلقه كالصلاة مثلاً يستلزم اتحاد الحكم والموضوع في مقام الجعل ، وتوقف الشيء على نفسه في مقام الفعلية ، وكلاهما مستحيل.

٥١١

وقد خفي على بعض الأساطين (١) حيث قد أورد على شيخنا الاستاذ قدس‌سره بما حاصله : هو أنّ ما يؤخذ مفروض الوجود في مقام الجعل إنّما هو موضوعات التكاليف وقيودها ، لا قيود الواجب ، لوضوح أنّ قيود الواجب كالطهارة في الصلاة مثلاً واستقبال القبلة وما شاكلهما ، يجب تحصيلها على المكلف ، وذلك لأنّ الأمر المتعلق بالصلاة قد تعلّق بها مقيدةً بهذه القيود ، فكما يجب على المكلف تحصيل أجزائها يجب عليه تحصيل قيودها وشرائطها أيضاً.

وهذا بخلاف موضوعات التكاليف حيث إنّها قد اخذت مفروضة الوجود في الخارج فلايجب على المكلف تحصيلها ولو كانت اختيارية كالاستطاعة بالاضافة إلى وجوب الحج وما شاكلها.

وبعد ذلك قال : إنّ قصد الأمر ليس من قيود الموضوع حتّى يؤخذ مفروض الوجود خارجاً ، بل هو قيد الواجب وكان المكلف قادراً عليه ، فعندئذ حاله حال بقيّة قيود الواجب كالطهارة ونحوها فيجب تحصيله ولا معنى لأخذه مفروض الوجود.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره أمّا ما أفاده من حيث الكبرى من أنّ قيود الواجب يجب تحصيلها دون قيود الموضوع ففي غاية الصحّة والمتانة ، إلاّ أنّ المناقشة في كلامه إنّما هي في تطبيق تلك الكبرى على ما نحن فيه ، وذلك لأنّ المحقق النائيني قدس‌سره لم يدّع أنّ قصد الأمر من قيود الموضوع وأ نّه لابدّ من أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل حتّى يرد عليه الاشكال المزبور ، بل إنّما يدّعي ذلك بالاضافة إلى نفس الأمر المتعلق للقصد ، والمفروض أنّ الأمر خارج عن اختيار المكلف حيث إنّه فعل اختياري للمولى ، له أن يأمر

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٢٣٧.

٥١٢

بشيء ، وله أن لا يأمر ، وقد تقدّم أنّ ما هو خارج عن الاختيار لا يعقل أن يؤخذ قيداً للواجب ، لاستلزامه التكليف بغير المقدور ، فلو اخذ فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ، فإذن عاد المحذور المتقدم.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الاشكال يقوم على أساس أن يكون قصد الأمر مأخوذاً مفروض الوجود ، ولكن عرفت أنّه لا واقع موضوعي له.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ لزوم أخذ القيد مفروض الوجود في القضيّة في مقام الانشاء إنّما يقوم على أساس أحد أمرين :

الأوّل : الظهور العرفي كما في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) فانّ المستفاد منه عرفاً هو لزوم الوفاء بالعقد على تقدير تحققه ووجوده في الخارج رغم كون العقد مقدوراً للمكلف. ومن هذا القبيل وجوب الوفاء بالنذر والشرط والعهد واليمين ، ووجوب الانفاق على الزوجة ، وما شاكل ذلك ، حيث إنّ القيود المأخوذة في موضوعات هذه الأحكام رغم كونها اختيارية اخذت مفروضة الوجود في مقام جعلها بمقتضى المتفاهم العرفي ، فانّ العرف يفهم أنّ النذر الذي هو موضوع لوجوب الوفاء قد اخذ مفروض الوجود فلا يجب تحصيله ، وهكذا الحال في غيره وهذا هو الغالب في القضايا الحقيقية.

الثاني : الحكم العقلي ، ومن الطبيعي أنّ العقل إنّما يحكم فيما إذا كان القيد خارجاً عن الاختيار ، حيث إنّ عدم أخذه مفروض الوجود يستلزم التكليف بالمحال كما في مثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(٢) فان دخول الوقت حيث إنّه خارج عن قدرة المكلف واختياره ، لا مناص من

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

٥١٣

أخذه مفروض الوجود في مقام الانشاء والخطاب ، وإلاّ لزم التكليف بغير المقدور ، وهو مستحيل.

فالنتيجة : أنّ أخذ القيد مفروض الوجود في مرحلة الجعل والانشاء إنّما يقوم على أساس أحد هذين الأمرين فلا ثالث لهما ، وأمّا في غير هذين الموردين فلا موجب لأخذه مفروض الوجود أصلاً ، ولا دليل على أنّ التكليف لا يكون فعلياً إلاّبعد فرض وجوده في الخارج. ومن هنا قد التزمنا بفعلية الخطابات التحريمية قبل وجودات موضوعاتها بتمام القيود والشرائط فيما إذا كان المكلف قادراً على إيجادها. مثلاً التحريم الوارد على شرب الخمر فعلي وإن لم يوجد الخمر في الخارج إذا كان المكلف قادراً على إيجاده بايجاد مقدّماته ، فلا تتوقف فعليته على وجود موضوعه.

والسرّ في ذلك : ما عرفت من أنّ الموجب لأخذ القيد مفروض الوجود إمّا الظهور العرفي ، أو الحكم العقلي ، وكلاهما منتف في أمثال المقام.

أمّا الأوّل ، فلأنّ العرف لا يفهم من مثل « لا تشرب الخمر » أنّ الخمر اخذ مفروض الوجود في الخطاب بحيث تتوقف فعلية حرمة شربه على وجوده في الخارج فلا حرمة قبل وجوده ، بل المتفاهم العرفي من أمثال هذه القضايا هو فعلية حرمة الشرب مطلقاً وإن لم يكن الخمر موجوداً إذا كان المكلف قادراً على إيجاده بما له من المقدّمات ، وهذا بخلاف المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) كما عرفت.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض تمكن المكلف من إيجاده ، وفي مثله لا يحكم العقل بأخذه مفروض الوجود.

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٥١٤

فالنتيجة : أنّ المناط في فعلية الخطابات التحريمية إنّما هو فعلية قدرة المكلف على متعلقاتها إيجاداً وتركاً ولو بالقدرة على موضوعاتها كذلك ، فمن كان متمكناً من شرب الخمر ولو بايجاده ، كانت حرمته فعلية في حقّه ، ومن كان متمكناً من تنجيس المسجد مثلاً ولو بايجاد النجاسة ، كانت حرمته كذلك فلا تتوقف على وجود موضوعه في الخارج ، ومن هنا لا ترجع تلك القضايا في أمثال هذه الموارد إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، حيث إنّ ترتب الأحكام فيها على موضوعاتها ليس كترتب الجزاء على الشرط.

وعلى ذلك تترتب ثمرة مهمّة في عدّة موارد وفروع وستأتي الاشارة إلى بعضها في ضمن البحوث الآتية (١).

وبعد ذلك نقول : إنّ القيد فيما نحن فيه ـ وهو نفس الأمر ـ وإن كان خارجاً عن الاختيار ، إلاّ أنّ مجرد ذلك لا يوجب أخذه مفروض الوجود ، لما عرفت من الملاك الموجب لأخذ قيدٍ كذلك إمّا الظهور العرفي أو الحكم العقلي ، وعندئذ فهل نرى أنّ الملاك لأخذه كذلك موجود هنا أم لا؟

والتحقيق عدم وجوده ، أمّا الظهور العرفي فواضح ، حيث لا موضوع له فيما نحن فيه ، فانّ الكلام هنا إنّما هو في إمكان أخذ قصد الأمر في متعلقه بدون أخذه مفروض الوجود وعدم إمكانه ، ومن الطبيعي أنّه لا صلة للعرف بهذه الناحية.

وأمّا الحكم العقلي فأيضاً كذلك ، فلأنّ ملاكه هو أنّ القيد لو لم يؤخذ مفروض الوجود في مقام الانشاء لزم التكليف بما لا يطاق ، ومن المعلوم أنّه لا يلزم من

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ١٨٥.

٥١٥

عدم أخذ الأمر مفروض الوجود ذلك ، والسبب فيه : أنّ الأمر الذي هو متعلق للداعي والقصد يتحقق بمجرد جعله وإنشائه ، ومن الطبيعي أنّ الأمر إذا تحقق ووجد أمكن للمكلف الاتيان بالمأمور به بقصد هذا الأمر وبداعيه ، ولا حاجة بعد ذلك إلى أخذه مفروض الوجود في مقام الانشاء.

وبكلمة واضحة : أنّ الأمر وإن كان خارجاً عن قدرة المكلف واختياره ، حيث إنّه فعل اختياري للمولى ، كما أنّه لا يمكن للمكلف الاتيان بشيء بقصده بدون فرض تحققه ووجوده ، إلاّ أنّ كل ذلك لايستدعي أخذه مفروض الوجود ، والوجه في ذلك : هو أنّ المعتبر في صحّة التكاليف إنّما هو قدرة المكلف على الاتيان بمتعلقاتها بكافّة الأجزاء والشرائط في مرحلة الامتثال ، وإن كان عاجزاً وغير قادر في مرحلة الجعل.

وعلى هذا الضوء فالمكلف وإن لم يكن قادراً على الاتيان بالصلاة مثلاً بداعي أمرها وبقصده قبل إنشائه وجعله ، ولكنّه قادر على الاتيان بها كذلك بعد جعله وانشائه ، وقد عرفت كفاية ذلك وعدم المقتضي لاعتبار القدرة من حين الجعل ، وعليه فلا مانع من تعلّق التكليف بالصلاة مع قصد أمرها ، لفرض تمكن المكلف من الاتيان بها كذلك في مقام الامتثال ، فإذن لا ملزم لأخذه مفروض الوجود ، فانّ الملزم لأخذه كذلك هو لزوم التكليف بالمحال وهو غير لازم في المقام.

ومن هنا يظهر أنّ الأمر يمتاز عن بقية القيود غير الاختيارية في نقطة ، وهي أنّه يوجد بنفس الانشاء والجعل دون غيره ، ولأجله لا موجب لأخذه مفروض الوجود.

فالنتيجة : هي أنّه لايلزم من أخذ قصد الأمر في متعلقه شيء من المحذورين السابقين ، حيث إنّ كليهما يرتكز على نقطة واحدة وهي أخذ الأمر مفروض

٥١٦

الوجود في مقام الانشاء ، وبانتفاء تلك النقطة انتفى المحذوران.

الوجه الثاني : ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أيضاً من أنّ قصد الأمر والامتثال لو كان مأخوذاً في متعلق نفسه لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو مستحيل ، وذلك لأنّ القصد المزبور متأخر رتبة عن إتيان تمام أجزاء المأمور به وقيوده ، حيث إنّ قصد الأمر إنّما يكون بهما ، وبما أنّنا فرضنا من جملة تلك الأجزاء والقيود نفس ذلك القصد الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذاك الأمر ، فلا بدّ وأن يكون المكلف في مقام امتثاله قاصداً للامتثال قبل قصد امتثاله ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه.

وإن شئت قلت : إنّ معنى قصد الامتثال هو الاتيان بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه الذي تعلّق التكليف به كذلك بقصد امتثال أمره ، فلو اخذ قصد الامتثال متعلقاً للتكليف لزم تقدّمه على نفسه ، فانّه باعتبار أخذه في متعلق التكليف لا بدّ أن يكون في مرتبة سابقة وهي مرتبة الأجزاء ، وباعتبار أنّه لا بدّ من الاتيان بتمام الأجزاء والشرائط بقصد الامتثال لا بدّ أن يكون في مرتبة متأخرة عنها ، وهذا معنى تقدّم الشيء على نفسه.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نصّه :

إنّ التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره كان ممّا يعتبر في الطاعة عقلاً ، لا ممّا اخذ في نفس العبادة شرعاً ، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلاّمن قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً ، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها. وتوهم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٢.

٥١٧

الأمر وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي ، ضرورة إمكان تصور الأمر بها مقيدة والتمكن من إتيانها كذلك بعد تعلّق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر ، واضح الفساد ، ضرورة أنّه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ، إلاّ أنّه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها ، لعدم الأمر بها ، فانّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيدةً بداعي الأمر ، ولا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره.

إن قلت : نعم ، ولكن نفس الصلاة أيضاً صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة.

قلت : كلا ، لأنّ ذات المقيد لاتكون مأموراً بها ، فانّ الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلاً ، فانّه ليس إلاّوجود واحد واجب بالوجوب النفسي كما ربّما يأتي في باب المقدّمة.

إن قلت : نعم ، لكنّه إذا اخذ قصد الامتثال شرطاً ، وأمّا إذا اخذ شطراً فلا محالة نفس الفعل الذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلقاً للوجوب ، إذ المركب ليس إلاّنفس الأجزاء بالأسر ويكون تعلّقه بكلٍّ بعين تعلّقه بالكل ، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب ، ضرورة صحّة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

قلت : مع امتناع اعتباره كذلك ، فانّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري ، فانّ الفعل وإن كان بالارادة اختيارياً إلاّ أنّ إرادته حيث لا تكون بارادة اخرى وإلاّ لتسلسلت ليست باختيارية كما لا يخفى ، إنّما يصحّ الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢.

٥١٨

ملخّص ما أفاده ( قدس‌سره ): أنّ قصد الأمر حيث إنّه يكون متفرعاً على الأمر ومتأخراً عنه رتبةً فلا يعقل أخذه في متعلّقه ، لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه ، وذلك لأنّ أخذه في متعلّقه مع فرض كونه ناشئاً عن حكمه معناه تقدّمه على نفسه وهو مستحيل. فإذن لا يمكن أخذه فيه شرعاً ، بل لا بدّ أن يكون اعتباره في العبادات بحكم العقل.

الوجه الرابع : ما ذكره شيخنا المحقق قدس‌سره من أنّ لازم تقييد المأمور به بداعي الأمر هو محذور لزوم عدمه من وجوده ، وذلك لأنّ أخذ الاتيان بداعي الأمر في متعلّق الأمر يقتضي اختصاص ما عداه بالأمر ، لما سمعت من أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به ، وهو مساوق لعدم أخذه فيه ، إذ لا معنى لأخذه فيه إلاّتعلّق الأمر بالمجموع من الصلاة والاتيان بداعي الأمر ، فيلزم من أخذه فيه عدم أخذه فيه ، وما يلزم من وجوده عدمه محال (١).

الوجه الخامس : ما ذكره قدس‌سره أيضاً وإليك نصّه : إنّ الأجزاء بالأسر ليس لها إلاّ أمر واحد ، ولا لأمر واحد إلاّدعوة واحدة ، فلا يكون الأمر داعياً إلى الجزء إلاّبعين دعوته إلى الكل ، وحيث إنّ جعل الأمر داعياً إلى الصلاة مأخوذ في متعلق الأمر في عرض الصلاة ، فجعل الأمر المتعلق بالمجموع داعياً إلى الصلاة بجعل الأمر بالمجموع داعياً إلى المجموع ، ليتحقق الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة إلى المجموع ، مع أنّ من المجموع الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة إلى المجموع ، فيلزم دعوة الأمر إلى جعل نفسه داعياً ضمناً إلى الصلاة ومحركية الأمر لمحركية نفسه إلى الصلاة عين عليته لعلية نفسه ، ولا فرق بين علية الشيء لنفسه وعليته لعليته (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣٢٧.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٣٣١.

٥١٩

توضيحه : هو أنّ الأمر المتعلق بالمركب حيث إنّه واحد فبطبيعة الحال كانت له دعوة واحدة ، فليست دعوته إلى الاتيان بكل جزء إلاّفي ضمن دعوته إلى الكل لا على نحو الاستقلال ، وعلى هذا فإذا افترضنا أنّ دعوة الأمر قد اخذت في متعلق نفسه ، يعني أنّ المتعلق مركب من أمرين : الفعل الخارجي كالصلاة مثلاً ، ودعوة أمرها ، فلا محالة الأمر المتعلق بالمجموع يدعو إلى كل جزء في ضمن دعوته إلى المجموع ، مثلاً دعوته إلى الصلاة في ضمن دعوته إلى المجموع وكذا دعوته إلى الجزء الآخر ، وبما أنّ الجزء الأخر هو دعوة شخص ذلك الأمر فيلزم من ذلك دعوة الأمر إلى دعوة نفسه إلى الصلاة ضمناً ، أي في ضمن الدعوة إلى المجموع ، وهذا معنى داعوية الأمر لداعوية نفسه المساوقة لعلية الشيء لعلية نفسه.

ولكن تندفع تلك الوجوه بأجمعها ببيان نكتة واحدة ، وتفصيل ذلك قد تقدّم في صدر المبحث (١) أنّ الواجب على قسمين : تعبّدي وهو ما يعتبر فيه قصد القربة فلا يصح بدونه. وتوصلي وهو ما لا يعتبر فيه قصد القربة فيصح بدونه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : يمكن تصوير الواجب التبعدي على أنحاء :

الأوّل : أن يكون تعبدياً بكافة أجزائه وشرائطه.

الثاني : أن يكون تعبدياً بأجزائه مع بعض شرائطه.

الثالث : أن يكون تعبدياً ببعض أجزائه دون بعضها الآخر.

أمّا النحو الأوّل ، فالظاهر أنّه لا مصداق له خارجاً ولا يتعدى عن مرحلة

__________________

(١) في ص ٥٠٩.

٥٢٠