جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

هو الحق جل شأنه ، ونحن أعدام وليس وجودنا الاّ وجوده.

ما عدمائيم وهستيهانما

تو وجود مطلق وهستى ما

كه همه اوست ونيست جز او

وحده لا اله الا هو

وقد تفنّن هؤلاء العرفاء في تقريب هذه النظرية الى الاذهان ، وسبّحوا سبحاً طويلاً في بحر هذا الخيال ، وضربوا له الامثال ( فصوّروه ) ثارة بالبحر وهذه العوالم والكائنات كامواج البحر فانها ليست غير البحر وتطوراته ؛ وليست الامواج شيء سوى البحر فاذا تحرك ظهرت ، واذا سكن عدمت واندحرت ، وهو معنى الفناء المشار اليه بقوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * ويَبْقى وَجْهَ رَبِّكَ (١) يفنى وجه الممكن ويبقى وجه الواجب.

چه ممكن گرد امكان برفشاند

بجز واجب ديگر چيزى نماند

نعم الاموات تطورات البحر لا شيء موجود غير وجود البحر.

چه درياى است وحدت ليك پر خون

كز او خيزد هزاران موج مجنون

هزاران موج خيزد مردم از وى

نگردد قطره هرگز كم از وى

قالوا : الوجه واحد والمرايا متعددة.

وما الوجه الا واحد غير أنه

اذا انت عدّدت المرايا تعددا

وكذلك العدد ليس الا تكرار الواحد الى ما لا نهاية له :

وجود اندر كمال خويش سارى است

تعينها أمور اعتبارى است

أمور اعتبارى نيست موجود

عدد بسيار ويك چيز است معدود

چه واحد گشته در اعداد سارى

__________________

(١) سورة الرحمن ، آية ٢٦ ـ ٢٧.

٣٢١

ومن هذا القبيل التمثيل بالشعلة الجوّالة التي ترسّم دائرة نارية من سرعة حركتها وليست هي الا تلك الشعلة الصغيرة.

همه از وهم تو اين صورت غير

چه نقطه دائره است از سرعت سير

والوجود واحد والموجود واحد له ظهورات وتطورات ، يترآئي أنها كثرات وليس الا الذات ومظاهرات الاسماء والصفات وشؤون الجمال والجلال والقهر واللطف ؛ وقد رفع لكثير منهم حجب الاستار عن هذه الاسرار حتى أنّ محي الدين العربي (١) عبّر عن كل هذا بتغيير كلمة في بيت المشهور.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنّه واحد

فقال : ( تدل على أنّه عينه ) ثم تحامل وتقحم الى ما هو اصرح واعظم حيث قال :

سبحان من حجّب ناسوته

نور سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه بارزا

بصورة الآكل والشارب

ومشى على السبيل المتوعر كثير من شعراء العرب وعرفائهم في القرون الوسطى يحمل رأيتهم ويفرضها ابن الفارض (٢) في اكثر شعره ولا سيما تائيته الصغرى والكبرى التي يقول فيها :

هو الواحد الفرد الكثير بنفسه

وليس سواه ان نظرت بدقة

بدا ظاهرا للكل في الكل بيننا

نشاهده بالعين في كل ذرّة

فكل مشاهد محسوس من الذرة الى الذرى ومن العرش الى الثرى هي اطواره

__________________

(١) ابوعبدالله محمّد بن علي الحاتمي الطائي الاندلسي المكي الشامي صاحب كتاب الفتوحات المكية المعروف بين العرفاء ب‍ ( الشيخ الاكبر ) توفى سنة ( ٦٣٨ ه‍ ).

(٢) شرف الدين ابوالقاسم عمر بن علي الحموي المصري العارف المهشور صاحب القصيدة التائية المعروفة توفى سنة ( ٦٣٢ ه‍ ) ، بالقاهرة.

٣٢٢

وانواره ومظاهره وتجلياته وهو الوجود الحق المطلق ولا شيء غيره فاذا قلت لهم فالاصنام والاوثان يقول لك العارف الشبستري.

مسلمان گر بدانستي كه بت چيست

بدانستي كه دين در بت پرستى است

واذا قلت فالقاذورات قالوا نور الشمس اذا وقع على النجاسة هو ذلك النور الطاهر ولا تؤثر عليه النجاسة شيئاً.

نور خورشيد أر بيفتد بر حدث

نور همان نور است نپذيرد خبث

وما اكتفوا بهذه التمثيلات والتقريبات حتى أخضعوا هذه النظريّة المتمردة على العقول لسلطان البرهان الساطع والدليل القاطع وبيانه بتنقيح وتوضيح منّا بعد مقدمتين وجيزتين « الاولى » أنّ الوجود والعدم نقيضان والنقيضان لا يجتمعان ولا يقبل أحدهما الاخر بالضرورّة فالوجود لا يقبل العدم والعدم لا يقبل الوجود يعنى أنّ الموجود يستحيل أن يكون معدوما والمعدوم يستحيل أن يكون موجوداً والاّ لزم أن يقبل الشيء ضده ونقيضه وهو محال بالبداهة ، ( الثانية ) أنّ قلب الحقائق مستحيل ، فحقيقة الانسان يستحيل أن تكون حجراً ، وحقيقة الحجر تستحيل أن تكون انساناً ، وهذا لمن تدبّره من أوضح الواضحات ، فالعدم يستحيل أن يكون وجوداً ، والوجود يستحيل أن يكون عدماً ، وبعد وضوح هاتين المقدمتين نقول : لو كان لهذه الكائنات المحسوسة وجود بنفسها لاستحال عليها العدم لأنّ الوجود لا يقبل العدم وهو منافر له وضد له بطبيعته ، مع أننّا نراها بالعيان توجد وتعدم وتظهر وتفنى فلا محيص من الالتزام بانّها غير موجودة وليس الموجود الا وجود واجب الوجود الازلي الحق الذي يستحيل عليه العدم بطبيعة ذاته المقدسة وكل ما نراه من هذه الكائنات التي نحسبها بالوهم موجودة هي اطواره ومظاهره يفيضها ويقبضها يبقيها ويفنيها ويأخذها ويعطيها وهو المانع

٣٢٣

والمعطى والقابض والباسط وهو على كلّ شيء قدير وكل شيء هالك الا وجهه ، وكلّ الاشياء تجلياته وظهوراته واشراقاته وانواره وكل الكائنات والممكنات كلها مضافة اليه بالاضافة الا شراقية الا المقلولية اطرافها اثنان لا ثلاثة وسواء قلنا بأنّ هذا البرهان صخرة صماء لا تمسه اظافر الخدشة أو أنّ للمناقشة فيه مجال فهو برهان منطقي على أصول الحكمة والمنطق هذا عدا ما يدعونه من الشهود والمكاشفة والعيان الذي هو اسمى من الدليل والبرهان اذ يقولون انّ الدليل عكازة الاعمى :

پاى استدلاليان چوبين بود

پاى چوبين سخت بى‌تمكين بود

* * *

زهى احمق كه او خورشيد تابان

بنور شمع جويد در بيابان

در آن جائى كه نور حق دليل است

چه جاى گفتگوى جبرئيل است

سبحانك أنك لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك ، ومتى بعدك حتى تحتاج الى ما يوصلنا اليك ، عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيبا.

ومع هذا كله فانّ علماء الظاهر وامناء الشرع يقولون ان سالك هذا الطريق كافر زنديق وهذه الطريقة أعني وحدة الوجود عندهم زندقة والحاد ، تضاد عامّة الشرائع والأديان مهما قام عليها الدليل والبرهان ، اذ حينئذ اين الربّ والمربوب ، أين الخالق والمخلوق ، وما معنى الشرائع والتكاليف ، وما هو الثواب والعقاب ، وما الجنة والنار ، وما المؤمن والكافر ، والشقي والسعيد ، الى آخر ما هنالك من المحاذير واللوازم الفاسدة ، ولعلّ هذا هو مدرك ما ذكره السيد الاستاذ قدس‌سره « في العروة الوثقى » ما نصّه (١) ( القائلين بوحدة الوجود من الصوفيّة اذا

__________________

(١) في فصل النجاسات وان منها الكافر باقسامه مسألة : ٢.

٣٢٤

التزموا باحكام الاسلام فالاقوى عدم نجاستهم ) واذا أحطت خبراً بما ذكرنا تعرف ما في هذا وأمثاله من كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم ، واني لا ارى من العدل.

والانصاف ، ولا من الورع والسداد ، المبادرة الى تكفير من يريد المبالغة في التوحيد وعدم جعل الشريك لله تعلى في كل كمال والكمال والوجود كله لله وحده لا شريك له ، ومع ذلك فهم يؤمنون بالشرائع ، والنبوات والحساب ، والعقاب ، والثواب ، والتكاليف ، بأجمعها على ظواهرها فالحقيقة لا تصح عندهم ولا تنفع بدون الطريقة والطريقة لا تجدى بدون الشريعة والشريعة هي الاساس وبها يتوصل ملازم العبادة ، الى أقصى منازل السعادة وعندهم في هذه المسائل مراحل ومنازل وتحقيقات أنيقة وتطبيقات رشيقة ومعارج يرتقى السالك بها الى اسمى المناهج ومؤلفات مختصرة ومطوّلة فوق حد الاحصاء نظما ونثرا واذكار سرّاً وجهراً ورياضات ومجاهدات لتهذيب النفس وتصفيتها كي تستعد للحوق بالملاء الاعلى والمبد الاول وهناك من البهجة والمسرة والجمال والجلال ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهيهنا أسرار عميقة ومباحث دقيقة لا تحيط بها العبارة ولا تدركها الاشارة فلنتركها لاهلها ، ونسأله تعالى أن يفيض علينا من فضله بفضلها ، نعم لا ريب انّ كل طائفة اندس فيها من ليس من أهلها من الدخلاء وأهل الاهواء حتى يكاد أن يغلبوا على أربابها الاصحاء ، فلا ينبغي ضرب الجميع بسهم واحد وأخذهم أو نبذهم على سواء كما أنّ بعض المتطرفين المتوغّلين في الغرام والهيام والشوق الى ذلك المقام الاسمى قد توقدت شعلة المعرفة في قلوبهم فلم يستطيعوا ضبط عقولهم والسنتهم فصدرت منهم شطحات لا تليق بمقام العبودية مثل قول بعضهم ( أنا الحق ) ( وما في جبتي الا الحق ) وأعظم منها في الجرأة والغلط والشطط قول بعضهم ( سبحاني ما اعظم شأني ) وهذه الكلمات قد حملها الثابتون منهم على أنها صدرت من البعض حالة المحولا حالة الصحو ، وفي

٣٢٥

مقام الفناء في الذات ، لا في مقام الاستقلال والثبات ، ولو صدرت في غير هذه الحال لكانت كفراً على انّ المنقول عن الحلاّج (١) انه قال للذين اجتمعوا على قتله اقتلوني فان دمي لكم مباح لاني قد تجاوزت الحدود ومن تجاوز الحدود ( أقيمت عليه الحدود ) ولكن العارف الشبستري (٢) التمس العذر لهذه الشطحات وحملها على احسن وجه حيث قال :

انا الحق كشف آن اسرار مطلق

بجز حق كيست تا گويد أنا الحق

روا باشد انا الحق از درختى

چرا نبود روا از نيك بختى

يقول من ذا يستطيع غير الحق أن يقول انا الحق واذا صح وحسن من الشجرة ان تقول انا الله فلماذا لا يحسن ذلك من العارف الحسن الحظ وحقاً أقول انّ من أجال فكره وأمعن النظر في جملة من آيات القرآن العزيز وكلمات النبي والائمة المعصومين سلام الله عليهم وادعيتهم واورادهم سيجد في الكثير منها الاشارة الى تلك النظرية العبقرية ، وقد شاعت كلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي قوله سلام الله عليه : ( اصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد ). (٣)

__________________

(١) ابو معتب الحسين بن منصور الحلاج الصوفي الشهير قتل في سنة ( ٣٠٩ ه‍ ) ببغداد اختلف الناس حتى الصوفية في حقه. انظر الفهرست لابن النديم ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ ط مصر. تنقيح المقال ، ج ١ ، ص ٣٤٥ ط نجف. الكنى والالقاب ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ط صيدا.

(٢) سعد الدين محمود بن أمين الدين التبريزي الشبستري من اكابر العرفاء والحكماء صاحب كتاب ( گلشن راز ) الذي ناهز شروحه عن احد عشر شرحا توفى سنة ( ٧٢٠ ه‍ ) ولم يتجاوز عمره عن (٣٣) سنة وقد عد في كشف الظنون بعض مؤلفاته من كتب الشيعة وكذا شيخنا البحاثة المحقق في الذريعة انظر ، ج ٤ ، ص ١٥٨ وج ٧ ، ص ٤٢ ط طهران.

(٣) لبيد بن ربيعة العامري الانصاري من الشعراء الخضرمين يقال انه مات في زمن معاوية وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة ولم يقل شعرا في الاسلام الا بيتاً واحداً وهو قوله :

الحمد لله اذ لم يأتني أجلي

حتى كساني من الاسلام سربالا

٣٢٦

( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ) (١)

وقد تضمنت هذه الكلمة في طيّاتها كل ما قاله العرفاء الشامخون من أنّ الاشياء أعدام اذ ليس الباطل الاّ العدم وليس الحق الاّ الوجود فالاشياء كلّها باطلة وأعدام وليس الحي والموجود الاّ واجب الوجود وهذا كل ما يقوله ويعتقده اولئك القوم أفاض الله سبحانه هذه الكلمة على لسان ذلك الشاعر العربي الذي عاش أكثر عمره في الجاهلية وأدرك في أخريات حياته شرف الاسلام فاسلم وقد صدق تلك الجوهرة الثمينة الصادق الامين ومثلها كلمة ولده صادق أهل البيت سلام الله عليه ( العبودية جوهرة كنهها الربوبية ) بل لو أمعنت النظر في جملة من مفردات القرآن المجيد تجدها وافية بذلك الغرض واضحة جلية مثل قوله تعالى : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانْ (٢) و كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (٣) فان المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدء حالاً فكلّ شيء فان فعلاً وهالك حالاً لا أنّه سوف يهلك ويفنى.

ومهما أحاول أن أوضح الحقيقة أجدها عني أبعد من الشمس بيد أنّها أجلى منها وأنّى لهذا اليراع القصير والعقل الصغير أن يجرء فيتناول جرعة من ذلك البحر الغزير يا من بعد في دنوه ، ودنى في علوه ، ربنّا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير ، سبحانك لا احصى ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون وانا لله وانا اليه راجعون.

__________________

وقال له عمر أنشدني من شعرك فقراء سورة البقرة وقال : ما كنت لاقول شعراً بعد اذ علمني الله سورة البقرة. الشعر والشعراء لابن قتيبة ، ص ٥٠ ط ١ مصر سنة ( ١٣٢٢ ه‍ ).

(١) والمصرع الثاني قوله : ( وكل نعيم لامحالة زائل ) وبعده هذا البيت.

سوى جنة الفردوس ان نعميها

يدوم وان الموت لابد نازل

(٢) سورة الرحمن ، آية ٢٦.

(٣) سورة القصص ، آية ٨٨.

٣٢٧
٣٢٨



٦٩

المعاد الجسماني

المهمّ والأعضال في هذا الموضوع هو تصوّر كيف يعود هذا الجسم العنصري التي تعتور عليه الاطوار والادوار المختلفة المتنوعة التي ينتقل فيها من دور الى دور لا يدخل في واحد الا بعد مفارقة ماقبله ولا يتشكّل الا بشكل يباينه ما بعده ينشأ جنيناً ، ثم طفلاً رضيعاً ثم صبيّاً وغلاماً ، ثم شباباً وكهلاً ، ثم شيخاً وهرماً ، فبايّ صورة من هذه الصور يبعث وأيّ جسم من هذه الأجسام يعود ؟ ثم كيف يعود ؟ وقد تفرّق ورجع كلّ شيء الى أصله غازاً وتراباً ، وكل ما فيه من عناصر ، ولو جمعت كلها واعيدت فهو خلق جديد وجسد حادث ، غايته أنّه مثل الاوّل لا عين الأوّل ، مضافاً الى الشبهات الكثيرة ، كاستحالة أعادة المعدوم ، شبهة الآكل والمأكول وغير ذلك ، وحيث أنّ الاعتقاد بالمعاد روحاً وجسماً يعدّ من اصول الدين الخمسة ، أو من دعائم الاسلام الثلاثة : التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، ومهما كان فلا مجال للشّك بانّ المعاد الجسمانى على الاجمال من ضروريّات دين الاسلام ، وهل الضروري من الدّين الاّ ما يكون التدين بذلك الدين مستلزماً للاعتقاد والتدين به مثلاً وجوب الصلاة من ضروريات دين الاسلام فهل يعقل الالتزام

٣٢٩

بدين الاسلام مع عدم الالتزام بوجوب الصلاة ؟ والتصديق بنبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عبارة عن التصديق بانّ كلّ ما جاء به حق وهو من الله جلّ شأنه وهذا القدر يكفى في الاعتقاد بالمعاد ولا حاجة الى أكثر من هذا للخروج من عهده التكليف الشرعي أو العقل ولا يلزم معرفة كيف يعود ؟ ومتى يعود ؟ وأين يعود ؟

فانّ التكليف بمعرفتها تكليف شاقٌّ على الخواص فكيف بغيرهم فانه يكاد يكون تكليفاً بما لا يطاق والعلم اللازم في أصول الدين لا يقدح فيه الاجمال ولا يلزم فيه أن يكن قادراً على البرهنة والاستدلال بل يكفي فيه حصوله من أيّ سبب كان وعدم جواز التقليد في أصول الدين يراد منه عدم كفاية الظن ولزوم القطع واليقين لا لزوم اقامة الحجج والبراهين ، والغاية من هذا البيان والغرض الاقصى به أنه لا يجب على الكلفين ولا سيّما العوام البحث عن كيفية المعاد الجسماني بل قد لا يجوز لهم ذلك كسائر قضايا القواعد النظرية والمباحث الحكمية مثل قضية القضاء والقدر والخير والشر والاختيار والجبر ما الى ذلك من المعضلات العويصة اذ قد تعلق الشبهة بذهن أحدهم (١) ولا يقدر على التخلّص منها فيكون من الهالكين كما هلك ابليس اللعين بشبهة خلقتني من نار وخلقته من طين ، فالاولى بل الاسلم هو الالتجاء الى العلم الحاصل من النقل من كتاب وسنّة واعتبارات يستفاد من مجموعها اليقين بأنّ المعاد الجسماني مثلاً من اصول الدين ويلتزم به ويقف عند هذا

__________________

(١) فان الشبهة قد تثبت بالخاطر وتعلق به ويضل فهم احدهم عن ذكر الجواب اذا لشبهة قد تكون جلية واضحة ولكن الجواب عنها يكون دقيقاً علمياً غامضاً لا يحتمله عقله فيتورط في الهلكة كما صرح به الامام المحقق نصير الدين الطوسي قدس‌سره أيضاً في كلام أجاب به عن بعض من سأله عن ايمان الجاهل بادلة المعارف الخمسة وصدع قدس‌سره بايمانه وان كان جاهلا بأدلتها تفصيلا ونقل تلك الرسالة الوجيزة بتمامها العلامة ابن ابي جمهور الاحسائي قدس‌سره في كتابه ( معين المعين ) المخطوط ـ ونقلها ايضاً القاضي نورالله الشهيد رحمه‌الله في مجالس المؤمنين رحمه‌الله والعلامة الفيض القاشاني رحمه‌الله في كتابه محجة البيضاء ولكن بتغيير في بعض العبارات والظاهر أن الرسالة المذكورة هي التي اشار اليها الشيخ الانصاري قدس‌سره في ( الرسائل ) ـ في الكلام في اعتبار الظن في اصول الدين.

٣٣٠

الحد وعلى هذه الجملة والاجمال لا يتجاوزه الى تفاصيل الاحوال ، اما الاستدلال عليه كما قد يقل ، بأنّه ممكن عقلاً وقد أخبر به الصادق الامين فيجب تصديقه فهو دليل لا مناعة فيه لدفع الاشكال فانّ المانع يمنع الصغرى ويدعى أنّه ممتنع عقلاً امّا لاستحالة أعادة المعدوم أو لغير ذلك من المحاذير المعروفة وحينئذ ، فاذا ورد ما يدل عليه بظاهر الشرع فاللازم تأويله كي لا يعارض النقل دليل العقل كما في سائر الظواهر القرآنية مثل يد الله فوق أيديهم والرحمن على العرش الى كثير من امثالها مما هو ظاهر في التجسيم المستحيل عقلاً اذاً أليس الاسد والاسعد للانسان القناعة بالسنّة والقرآن وترك البحث والتعمق وطلب التفصيل في كل ما هو من هذا القبيل ؟ ولعلّ هذا المراد من الكلمة المأثورة (١) « عليكم بدين العجائز » أي اعتقاد

__________________

(١) مراد شيخنا الامام رحمه‌الله من كون تلك الكلمة مأثورة هو كونها مأثورة عن بعض السلف لا انها مأثوره بهذه العبادة عن أحد المعصومين عليهم‌السلام لانها ليست من المأثورات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أهل بيته عليهم‌السلام ولم يروها أحد من المحدثين بطرق اصحابنا الامامية أو بطرق أهل السنة في الجوامع الحديثية عنهم صلوات الله عليهم كما حققنا ذلك تفصيلا في بعض مجاميعنا. وقال الحافظ ابوالفضل محمّد بن طاهر بن أحمد المقدسي في كتابه ( تذكرة الموضوعات ) ، ص ٤٠ ط ٢ مصر سنة ١٣٥٤ ( عليكم بدين العجائز ليس له أصل من رواية صحيحة ولا سقيمه الا لمحمد بن عبدالرحمن اليلماني بغير هذه العبارة له نسخة كان يتهم ). وذهب جماعة من العلماء كالشيخ البهائي وتلميذه الفاضل الجواد والفاضل المازندراني الى ان تلك الكلمة من كلام سفيان الثوري من متصوفة العامة وقال القوشجي في شرح التجريد ان عمرو بن عبيدة لما اثبت منزلة بين الكفر والايمان فقالت عجوزة قال الله تعالى هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن فلم يجعل الله من عباده الا الكافر والمؤمن فقال سفيان عليكم بدين العجائز وقال المحقق القمي قدس‌سره صاحب القوانين ( المذكور في الالسنة والمستفاد من كلام المحقق البهائي قدس‌سره في حاشية الزبدة ان هذا هو حكاية دولابها وكف اليد عن تحريكها لاظهار اعتقادها بوجود الصانع المحرك للافلاك المدبر للعالم ) وحكى سيد الحكماء السيد الداماد قدس‌سره في ( الرواشح المساوية ) ، ص ٢٠٢ ط طهران ، عن بعض العلماء ان ( عليكم بدين العجائز ) من الموضوعات وعن كتاب ( البدر المنير ) انه لا اصل له بهذا اللفظ.

ولكن روى الديلمي مرفوعاً اذا كان في آخر الزمان واختلفت الاهواء فعليكم بدين اهل البادية والنساء قفوا على ظواهر الشريعة وايّاكم التعمق الى المعاني الدقيقة اي فانه ليس هناك من يفهمها انتهى.

٣٣١

الطاعنين أو الطاعنات في السنّ من نشأ على عقيدة وشب وشاب عليها تكون في أقصى مراتب الرسوخ والقوة ، ولا تزيله كلّ الشبهات والتشكيكات عنها ، وان كانت العقيدة عنده مجردة عن كل دليل بل تلقاها من الآباء والامهات انّا وجدنا آبائنا على امة وانّا على آثارهم مقتدون ، ولعلّ في الكلمة ( العجائز ) تلميحاً أيضاً الى العجز عن اقامة الدليل ، فان أهل الاستدلال والصناعات العلمية غالبا اقرب الى التشكيك من اولئك البسطاء المتصلبين في عقائدهم غلطاً كانت في الواقع أو صواباً ولذلك كانت الانبياء سلام الله عليهم يقاسون أنواع البلاء وأشدّ العناء في اقناع أمتّهم بفساد عقائدهم واقلاعهم عنها من عبادة الاصنام أو غيرها ، والبساطة في كل شيء أقرب الى البقاء والدوام من التركيب والانضمام ، والبسائط أثبت من المركباب ، لقبول الاجزاء الانحلال والتفكك ، ولعل هذا هو السبب في جعل الاعتماد في الاعتقاد بالمعاد والجسماني منه خاصة على ظواهر الشرع والادلة النقلية دون العقلية من بعض أكابر الحكماء كالشيخ الرئيس ابن سينا قدس‌سره حيث قال في المقالة التاسعة من الهيات الشفاء ( فصل في المعاد ) وبالحرى أن نحقق ههنا احوال النفس الانسانية اذا فارقت أبدانها وانّها الى اي حالة تعود فنقول : يجب أن يعلم ان المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ولا سبيل الى اثباته الا من طريق الشريعة وتصديق خبر النّبوة وهو الذي البدن عند البعث وخيرات البدن وشروره معلومة وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها سيّدنا ونبينا ومولانا محمّدبن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ، ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني وقد صدقته النبوة وهما العادة او الشقاوة التي للأنفس النتهى محل الحاجة منه. وعليه فمن حصل له الاعتقاد بالمعاد من الادلة السمعية ولم تعرض له فيه شبهة توجب تشكيكه لرسوخ عقيدته وقوتها فقد وفق وأصاب ، وبلغ النصاب ، ولا ينبغي بل قد لا يجوز له الخوض في الادلة العقلية والاصول

٣٣٢

النظرية ولكن من عرضته الشبهة واعتقد بالاستحالة والامتناع عقلاً وأنّه لابد من تأويل الظواهر الشرعيّة كي لا يتنافي الشرع مع العقل ويسقط عنده قول المستدل : انّه ممكن وأخبر به الصادق الامين لاندفاعه عنده بما أشرنا اليه قريباً فلابد حينئذ من رفع هذه الدعوى أعني دعوى الاستحالة والامتناع واثبات انّه ممكن عقلاً بل واقع فاللازم اثبات امانه الذاتي وامكانه الوقوعي ابقاء للادلة الشرعية على ظواهرها ، وقطع أيدي التأويل عن منيع مقامها.

وحيث أنّ الحاجة الى النظر في هذه القضية لابد أن يكون من غير الظواهر النقلية بل من المبادء العقلية ، فاعلم اوّلا أنّ الاقوال في المعاد أربعة : ( احدها ) انكاره مطلقاً لا جسماً ولا روحاً ، وهو قول جميع الملاحدة والطبيعيين الذين ينكرون المبدأ ، فكيف المعاد وهما متلازمان في المفاد وبينهما أقوى مراتب الاتحاد واثبات المبدأ يكفي في ابطال هذا القول. راجع الجزء الاول من ( الدين والاسلام ) تجد فيه لا ثبات الصانع ما يغنيك عن غيره ، باجلي بيان وأقوى برهان.

( ثانيها ) اثبات المعاد الروحاني فقط نظراً الى أنّ الارواح مجّردة والمجرد باق ، والجسم مركب من عناصر شتى ، واذا فارقته الروح ، ودخلت في عالم المفارقات انحل هذا المركب ولحق كل عنصر باصله. وانعدم وتلاشى ذلك المركب ، وانعدمت تلك الصورة ، والمعدوم يستحيل عوده والروح باقية ، وهي التي تعاد للحساب وانجاز عملية الثواب والعقاب ، ولعل الى هذا الرأي المثالي أو الخيالي بشير المعلم الثاني ابو نصر الفارابي قدس‌سره (١) في ارجوزته التي يقول فيها.

__________________

(١) محمّد بن محمّد بن طرخان ابو نصر الفارابي ويعرف بالمعلم الثاني من اكبر حكماء المسلمين وفلا سفتهم المشاهير. وهو تركي الاصل مستعرب ولد في ( فاراب ) « ٢٦٠ ه‍ » وانتقل الى بغداد فنشأ فيها ورحل الى الشام واتصل بسيف الدولة الهمدانى وتوفي في دمشق سنة ٣٣٩ ه‍ وصلى عليه سيف الدوله

٣٣٣

__________________

في اربعة من خواصه متستراً. وكان مقدما في كل الفنون لم يشاركه في التعليم أحد الا المعلم الاول ( أرسطو ) وله نحو مائة تصنيف وبكتبه تخرج الشيخ الرئيس ابو علي سينا ولولاه لم يكن أبو علي رئيساً لحكماء الاسلام كما نقل عن ابن سينا نفسه وكان يحسن أكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره. وكان ازهد الناس في الدنيا والاعراض عنها. ولا شك في تشيعه وحسن عقيدته ولكنه أيضاً كامثاله من الاكابر وقع هدفا لسهام اللوم والتكفير والطعن والتفنيد. وقد تقدم منا أنه لا وقع في التاريخ الصحيح بهذه التهم والافاتك لان اغلب الاكابر لم يسلموا عن هذه السهام المسمومة ولم يشذ أحد منهم عن القذف بالمروق والشذوذ وما شابه ذلك ولم يسلم أكثرهم سواء في حياتهم أو بعد مماتهم عن الكلمات الخاطئة والتحامل عليهم بالقول الزور وبكل أفيكة. ولذا لا ينبغي التسرع الى تلقى تلك الكلمات الشائنة في حقهم بالقبول والاصغاء اليها كما صرح به العلامة الوحيد البهبهاني قدس‌سره وغيره لان للرمي بالتكفير والتفسيق وما شابههما جهات واسباب مختلفة لا يسعنا المقام ذكرها منها الجهل وقصور الفهم وعدم القابلية والاستعداد لدرك الحقائق ونقصان الغريزة عن فهم المكالب الغامضة والمعاني الدقيقة التي دبجوا الاكابر تضاعيف عباراتهم المعضلة وكلماتهم المتشابهة بها وهي ودائع منهم لاهلها ولمن نال استعداد فهمها وحفظها فصلوات الله وتسليماته على من تكلم بهذه الكلمة النيرة ان ( هذه القلوب اوعيه وخيرها اوعاها ). ومن الواجب على رواد العلم وحملة الفضيلة أن ينعموا النظر في تلك الكلمات والعبارات والمطالب الغوامض ويحملوها على الصحة والسداد لا على الاعوجاج والفساد مع الذهول عن المقصود والغفلة عن المراد ، ويتركوا الجمود والخمود ، مع التجنب عن الاضطهاد والتباعد عن البغضاء والعناد ونبذ المعادات والتهمات ، والى غيرها من الصفات والموبقات. وأن يحملوا كلمات كل طائفة على ما هو ظاهر عندهم ومعلوم لديهم مع رعاية مصطلحاتهم ومعرفة اصطلاحاتهم واياهم والتداخل في العلوم التي لم يحوموا حولها ولم يدرسوها بالدراسة التحليلية عند اساتذتها ما أشار بذلك شيخنا وأستاذنا الامام العلامة ادام الله ايامه فيما تقدم من ترجمة كلماته الشريفة ، ص ٤١ ـ ٤٣ فانهم ان لم يراعوا هذه الطريقة المثلى والشرعة الوسطى ، ولم يرفضوا المشاغبات والمضاربات من جميع الجهات ، ولم يتركوا المطاعنات والمشاحنات من كافة نواحيها ، فلا محالة يتورطون في المهالك والمسالك الوعرة ، والغياهب المدهشة ، وأخزى تلك النكبات والهلكات تكفير قوم بغير حق وهذه هلكة هلكاء وشقة سوداء. ولذا لم يكد يسلم اكثر الاكابر في كل الاعصار وحتى اليوم عن طعن الطاعنين ورمي المغرضين وغمز الجاهلين وتكفير القاصرين.

أليس مثل الشيخ الرئيس ابن سينا والفقيه الحر المتضلع ابن ادريس الحلي صاحب السرائر وآية الله العلامة الحلي والشيخ ابن أبي جمهور الاحسائي صاحب غوالى اللئالي وشيخنا البهائي وتلميذه صدر المتألهين صاحب كتاب الاسفار الذي هو من جلائل كتب الامامية ومن أنفس آثارهم العلمية

٣٣٤

__________________

والحكيم الالهي المولى رجب على التبريزي وتلميذه القاضي سعيد القمي والمحقق الثاني صاحب جامع المقاصد والفيض القاشاني صاحب الوافي والمحقق السبزواري صاحب الكفاية والذخيرة ونظرائهم من حماة الحق وذادته. واعضاد الدين وقادته ، لقوا ما لقاه أمثالهم من الطعن والتشنيع ؟ بل جم غفير من علمائنا قبل هؤلاء العظماء لم يسلموا من الرمي بالغلو والتكفير ، والتصوف البغيض ، أليس القميين رموا جمعاً من علمائنا بالغو والتكفير وأخرجوا رجالا من ( قم ) بأدنى غمز فيهم وكانوا ينسبون اليهم الانحراف في العقائد الدينية بمجرد رؤية رواية في كتابهم أو نسبة أحد ذلك اليهم حتى أفرطوا في الجمود وطعنوا في مثل يونس بن عبدالرحمن الثقة الكبير الذي كان من أكابر رجال الشيعة وعلامة زمانه ؟ وقد وبخ سيدنا مفخرة الامامية السيد المرتضى علم الهدى قدس‌سره في بعض رسائله ( وتشرفت بمطالعة هذه الرسالة وهي مخطوطة ) القميين بسبب جمودهم على الظواهر وافراطهم في التمسك بها واستثنى منهم رئيس المحدثين الشيخ الصدوق قدس‌سره حيث أن الافراط في الجمود على ظواهر عدة من أخبار الاحاد ـ التي لابد من تأويلها ورفع اليد عن ظاهرها ـ يفضى الى بعض المحظورات والاخطار من الجبر والتشبيه وأمثال ذلك ولذا وبخهم سيد الامامية وحذرهم من ذلك ولم يكن مقصود السيدان القميين كانوا يعتقدون بعض العقائد الفاسدة. حاشا سيد الامامية من نسبة العقائد السخيفة اليهم وحاشاهم أيضاً أن يعتقدوا العقائد الباطلة كما هو معلوم بالضرورة وقد ذهل العلامة المولى ابي الحسن العاملي قدس‌سره تلميذ العلامة المجلسي قدس‌سره عن مقصود سيد الامامية وزعيمها ولم يصل الى مغزى مرامه فصنف رسالته ( تنزيه القميين ) المطبوعة « بقم » سنة (١٣٦٨) حيث تخيل ان مراد السيد قدس‌سره أن القميين يعتقدون بعض العقائد السخيفة حقيقة فتصدى في تلك الرسالة للذب عنهم واثبات نزاهة ساحتهم المقدسة عنها مع أن جلالة السيد قدس‌سره الاسمى أجل وأسنى من أن ينسب اليهم بعض الاعتقادات الممقونة فما نسبه المولى العاملي قدس‌سره الى السيد قدس‌سره وتصدى للجواب عنه فلعله ذهول منه قدس‌سره ولكن هو أبصر وأعرف بما جادت به يراعته فلو جمعنا ما ضبطه التأريخ من الطعون على الاكابر لصار كتابه مستقلا وسفراً لطيفاً. وقال الوحيد البهبهاني قدس‌سره : ( الذى نراه في زماننا انه لم يسلم جليل مقدس وان كان في غاية التقدس عن قدح جليل فاضل متدين فما ظنك بغيرهم ومن غيرهم حتى آل الامر الى انه لو سمعوا من احد لفظ « الرياضة » وامثال ذلك اتهموه بالتصوف وجمع منهم يكفرون معظم فقهائنا بانهم يجعلون لاهل السنة نصيبا من الاسلام ).

فالتكفير الذي تفوه به بعض في حق الحكيم الفارابي وأمثاله انما هو من هذا القبيل وناش من عدم تأمل وتحليل وقال بعض الاعلام قدس‌سره ( اعلم أن بعض العلماء تسرع في تكفير الفارابي حيث وجد في كتبه مايدل على قدم العالم وانكار المعاد وأمثال ذلك ولم يلتفت أن هذا كله ترجمة بالعربي لكتب بعض الفلاسفة لا أنّه كتاب عقيدة لابي نصر الفارابي أو ليس في رسالة النصوص المنسوبة اليه خلاف هذه

٣٣٥

أصبح في بلابلي وامسى

أمسى كيومي وكيومي أمسى

يا حبذا يوم حلال رمسى

مطلع سعدي ومغيب نحسى

من عرض يبقى بدار الحس

وجوهر يرقى لدار القدس

وكل جنس لاحق لجنس

ويعنى بالعرض الجسم التعليمى ، ذا الابعاد الثلاثة ، والكيفيات الخاصة وهو الذي تتفرق بالموت اجزاؤه ، ويلحق كل جزء بأصله من العناصر ولم يعلم رأيه انما تعود أو لا تعود وكيف تعود ، وعلى كل فبطلان هذا القول يبتني على منع صيرورة البدن معدوماً بالموت أو بعد الموت كما سيأتي قريباً ان شاء الله تعالى.

( ثالثها ) القول بالمعاد الجسماني فقط ، وهو مذهب جميع أهل الظاهر من المسلمين وبعض المتكلمين ، وهو لازم كل من أنكر وجود النفس والروح المجردة ، بل أنكر وجود كل مجرد سوى الله ( فلا مجرد الا الله ) أمّا الملائكة ، والعقول ، والنفوس والارواح ، فكلّها اجسام ، غايته انّها تختلف من حيث اللطافة والكثافة والعنصرية والمثالية ، يظهر هذا من كلمات عدة من العلماء ولكنّي اجلهم عن ذلك ؛ وكلماتهم محمولة على غير ما يترائى منها ، ومغزاها معاني أخرى جليلة. (١)

( رابعها ) وهو أحقها وأصدقها اثبات المعاندين الجسماني والروحاني أي معاد

__________________

الكلمات ؟ وبالجملة لا ينبغي التسرع في مثل هؤلاء الاعاظم المعلوم بالضرورة اسلامهم وايمانهم بمجرد السواد على البياض الذي لم يتحقق موضوعه ولا حقيقة نسبته ولا صاحب قيله نعوذ بالله من سوء الرأي في الاعاظم ). ونسأل الله تعالى أن يحفظنا من الاعوجاج وأن يجمع كلمتنا على الخير والهدى وامانة المطاعنات وهو مجيب الدعوات وغافر الخطايا والسيئات.

(١) ولعل من معاني كلامهم أنه اذا أعيدت الاجسام لزمت اعادة الارواح أيضاً باعتبار المشاركة للطافتها وسريانها فيها كما حمل قولهم على ذلك بعض العلماء اذ لا معنى لحشر الاجساد فقط فانها حينئذ جمادات ولا يقول بذلك عاقل فهذا القول يرجع أيضاً الى القول بالمعادين الجسماني والروحاني معاً وحمله على الجسماني فقط بديهي البطلان ولذا قال شيخنا الامام دام ظله : ( ولكني اجلهم عن ذلك ).

٣٣٦

هذا الجسد الذي كان في الدنيا بروحه وجسمه ! فيعود للنشر يوم الحشر كما كان ، ويقف للدينونة بين يدي الملك الديان كما هو ظاهر جميع ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على رجوع الخلائق الى الله عزّ شأنه والرد على منكري البعث والمعاذ لمحض لعناد ، او الاستبعاد أو اخذاً بقضية استحالة اعادة المعدوم المرتكزة في الاذهان ، وقد رد عليهم الفرقان المحمدي بانحاء من الاساليب البليغة البالغة ، الى أقصى مراتب البلاغة والقوة ، يعرفها من يتلو القرآن يتدبر وامعان ، وحيث أنّ غرضنا المهم من تحرير هذه الكلمات هو اثبات الامكان ، ودفع الاستحالة ؛ كي تبقى ظواهر الأدلة على حالها ، لذلك لم نتعرض لسرد تلك الآيات النيّرات واتجهنا الى تلك الوجهة ، ودحض تلك الشبهة ، بأوضح بيان ، وأصحّ برهان ، ومنه تعالى نستمد وعلى فضل فيضه نعتمد ، ونقول : حيث أنّ من الواضح المعلوم بل المحسوس لكل ذي حس ، أنّ كل شخص من البشر مركب من جزئين ، الجزء المحسوس وهو البدن العنصري الذي يشاهد بعين الباصرة ويشغل حيزاً من الفضاء ، وجزء آخر يحسّ بعين البصيرة ولا تراه عين الباصرة ، ولكن يقطع كل أحد بوجود شيء في الانسان ، بل والحيوان غير هذا البدن ، بل هو المصرف والمتصرّف في البدن ، ولولاه لكان هذا البدن جماداً لأحس فيه ولا حركة ولا شعور ولا ارادة ؛ اذاً فيلزمنا للوصول الى الحقيقة والغاية المتوخّاة البحث عن هذين الجزئين فاذا عرفناهما حق المعرفة فقد عرفنا كل شيء واندفع كل اشكال ان شاء الله.

( واليك البيان ) يشهد العيان والوجدان وهما فوق كل دليل وبرهان واليهما منتهى أكثر الادلة أن هذا البدن المحسوس الحي المتحرك بالارادة لا يزال يلبس صورة ويخلعها وتفاض عليه أخرى وهكذا لا تزال تعتور عليه الصور منذ كان نطفة فعلقة فعظاماً فجنيناً فمولوداً فرضيعاً فغلاماً فشاباً فكهلاً فشيخاً فميتاً فتراباً ،

٣٣٧

تكونت النطفة من تراب ، ثم عادت الى التراب فهو لا يزال بعد أن انشأه باريه من أمشاج ليبتليه فجعله سميعاً بصيراً ، اما شاكراً أو كفوراً ، في خلع ولبس ، افعيينا بالخلق الاوّل بل هم في لبس من خلق جديد يخلع صورة ويلبس أخرى وينتقل من حال الى حال ومن شكل الى آخر مريضاً تارة وصحيحاً وهزيلاً وسميناً وابيضاً واسمراً وهكذا تعتوره الحالات المختلفة ، والاطوار المتبائنة ، وفي كلّ ذلك هو هو لم تتغير ذاته وان تبدلت احوله وصفاته فهو يوم كان رضيعاً هو يوم صار شيخاً هرماً لم تتبدل هويته ولم تتغير شخصيته بل هناك أصل محفوظ يحمل كل تلك الأطوار والصور ، وليس عروضها عليه وزوالها عنه من باب الانقلاب فان انقلاب الحقائق مستحيل فصورة المنوّية لم تنقلب دموّية أو علفية ولكن زالت صورة المني وتبدلت بصورة الدم وهكذا فالصور متعاقبة متبادلة لا متعاقبة منقلبة ( اذ صورة لصورة لا تنقلب ) وهذه الصور كلها متعاقبة في الزمان لضيق وعائه مجتمعة في وعاء الدهر لسعته والمتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر ولابدّ من محل حامل وقابل لتلك الصور المتعاقبة ماشئت فسمه مادّة أو هيولى أو الأجزاء الاصلية كما فى الخبر الآتي ان شاء الله وكما أن المادة ثابتة لا تزول فكذلك الصور كلها ثابتة في محلها في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى ولا يغادر صغيرة ولاكبيرة الا احصاها وقد عرفت في ما مرّ عليك من المباحث انّ الشيء لا يقبل ضده والموجود لا يصير معدوماً والمعدوم لا يصير موجوداً وانقلاب الحقائق مستحيل.

ثم انّ هذا البدن المحسوس العنصري لا ريب في أنّه يتحصّل من الغذاء وأنّ أجزائه تتحلل وتتبدل فهذا الهيكل الجسماني بقوّة الحرارة الغريزية التي فيه المحرّكة للقوى الحيوانية العاملة في بنائه وحفظه وتخريبه وتجديده كالجاذبة والهاضمة والدافعة والماسكة وغيرها لايزال في هدم وبناء واتلاف وتعويض كما قال شاعرنا الحكيم في بيته المشهور :

٣٣٨

والمتلف الشيء غارمه

وقاعدة : ( المتلف ضامن )

وفي بيان أوضح أنّ علماء ( الفزيولوجيا ) علم اعضاء الحيوان قد ثبت عندهم تحقيقاً أنّ كل حركة تصدر من الانسان بل ومن الحيوان يلزمها يعني تستوجب احتراق جزء من المادة العضلية والخلايا الجسمية وكلّ فعل اراديّ أو عمل فكري لابد وأن يحصل منه فناء في الاعصاب واتلاف من قلايا الدماغ بحيث لا يمكن لذرّة واحدة من المادّة أن تصلح مرّتين للحياة ومهما يبدو من الانسان بل مطلق الحيوان عمل عضلي أو فكري فالجزء من المادّة الحية التي صرفت لصدور هذا العمل تتلاشى تماماً ثمّ تأتي مادة جديدة تأخذ محل التالفة وتقوم مقامها في صدور ذلك العمل مرة ثانية وحفظ ذلك الهيكل من الانهيار والدمار وهكذا كلما ذهب جزء خلفه آخر خلع ولبس كما قال عزّ شأنه أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١) ويكون قدر هذا الاتلاف بمقدار قوة الظهورات الحيويّة والاعمال البدنية فكلّما اشتدّ ظهور الحياة وتكثرت مزاولة الاعمال الخارجية ازداد تلف المادّة وتعويضها وتجديدها ومن هنا تجد أرباب الاعمال اليدويّة كالبنّائين والفلاّحين واضرابهم أقوى أجساماً وأعظم أبداناً بخلاف ذوي الاعمال الفكرية الذين تقل حركاتهم وتسكن عضلاتهم ثم انّ هذا التلف الدائم لا يزال يعتوره التعويض المتصل من المادة الحديثة الداخلة في الدم المتكونة من ثلاث دعائم هي دعائم الحياة وأسسها الجوهرية الهواء ، والماء ، والغذاء ، ولو فقد الانسان واحداً منها ولو بمدة قصيرة هلك وفقدت حياته.

وهذا العمل التجديدي عمل باطني سرّي لا يظهر في الخارج الاّ بعد دقّة في الفكر ، وتعمق في النظر ، ولكن عوامل الاتلاف ظاهرة للعيان يقال عنها انّها

__________________

(١) سورة ق ، آية ١٥.

٣٣٩

ظواهر الحياة ، وماهى في الحقيقة الاّ عوامل الموت ، لانّها لاتتم الاّ باتلاف أجزاء من أنسجتنا البدنية واليافنا العضويّة فنحن في كلّ ساعة نموت ونحيا ونقبر وننشر ، حتى تأتينا الموتة الكبرى ، ونحيا الحياة الاخرى ، اذاً فنحن بناء على ما ذكر في وسط تنازع هذين العاملين. عامل الاتلاف ، وعامل التعويض ، يفنى جسمنا ، ويتجدّد في مدار الحياة عدة مرات ، بمعنى أن جسمنا الذي نعيش به من بدء ولادتنا الى منتهى أجلنا في هذه الحياة تفنى جميع اجزائه في كلّ برهة وتتحصل أجزاء يتقوم بها هذا الهيكل ليس فيها جزء من الاجزاء السابقة ، ولا يمكن تقدير هذه البرهة على التحقيق يعني أي مقدار به تتلاشى تلك الاجزاء جميعاً وتتجد غيرها بموضعها نعم لا نعلم ذلك ولكن ينسب الى الفي لوجي ( موليشت ) (١) انّ مدة بقائها ثلاثين يوماً ثم تفنى جميعاً ونقل عن ( فلورنس ) (٢) انّ المدة سبع سنين وقد أجرى العلماء المحققون في هذه الاعصار الامتحانات الدقيقة في بعض الحيوانات كالأرانب وغيرها فأثبت لهم البحث والتشريح تجدد كلّ انسجتها بل وحتى عظامها ذرّة في مدة معينة ، فكيف يتفق هذا مع ما يرتأيه الماديون ومنكر والنفس المجردة في زعمهم انّ الذاكرة قوة تنشأ من اهتزازات فسفورية تخزن في القلية العصبية من الدماغ عند وصول التأثيرات الخارجية اليها ، نعم كيف يجتمع هذا مع ما تقرر في الفنّ وشهد به الاختيار والاعتبار من انّ كلّ ما فينا من الانسجة والعظام والقلالي العصبية تتلاشى ثم تجدد بمدة معلومة أقصى ما تجدد به السبع سنوات ، ولو كانت

__________________

(١) مولشت : عالم في علم وظائف الاعضاء ولد في هولندا ( ١٨٢٢ ـ ١٨٩٣ م ) وكان مادياً في تعاليمه وكتبه. انظر مبادى الفلسفة تعريب الاستاذ احمد امين ، ص ٢٦٨ ط ٤ قاهرة.

(٢) فلورانس : عالم فرنسي من اشهر علماء وظائف الاعضاء وله تأليفات كثيرة في هذا الفن ولد سنة ١٧٩٤ م ، وتوفى سنة ١٨٦٧ م ، انظر قاموس الاعلام ، ج ٥ ط اسلامبول لمؤلفه شمس الدين سامي بك المتوفى سنة ١٩٠٤ م.

٣٤٠