نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

عتقه ما لا يجب (١) عتقه يستحيل بأن يحكم عليه بعدم وجوب عتقه ، نظير الماهية بالإضافة إلى حمل الوجود أو العدم عليها فإن الماهية المحمول عليها الوجود أو العدم لا بشرط من حيث الوجود والعدم.

غاية الأمر أن الإطلاق : إن كان من حيث لوازم الموضوع فالغرض دفع القيدية لعروض الحكم على الموضوع.

وإن كان من حيث نفس المحمول ، فالغرض إثبات الصلاحيّة لعروض المحمول عليه نفيا واثباتا ، فليحفظ كل ذلك ، فإنه حقيق به.

إذا عرفت هذه الجملة ، فاعلم أن الحكم على شرب التتن المجهول حكمه بحكمين أحدهما على ذات الشرب وأخرى عليه بما هو مجهول الحكم (٢) محال ، فإن الشيء في لحاظ واحد لا يعقل أن يلاحظ بما هو وبنحو اللابشرط القسمي وأن يلاحظ بما هو مجهول الحكم وبنحو اللابشرط شيء أو بشرط لا فانهما تعيّنان متقابلان واجتماعهما في واحد محال.

ولذا قلنا خلافا لشيخنا الأستاد العلامة « أعلى الله مقامه » إن قوله كل شيء طاهر لا يعقل أن يكون دليلا على الطهارة الواقعيّة للأشياء بعناوينها الأوليّة وعلى الطهارة الظاهرية لها بما هي مشكوكة الطهارة.

وأما إذا كان إنشاء الحرمة لشرب التتن من حيث نفسه غير إنشاء الحلية له بما هو مشكوك الحرمة ، فلا يلزم منه اجتماع لحاظين متباينين.

وليس اللحاظ اللابشرطي دخيلا في موضوعيّته للحكم بل لتسرية

__________________

(١) والصحيح : وما لا يجب.

(٢) لا يصح الاتيان بكلمة أخرى في قبال أحدهما وإنما الصحيح ثانيهما وعلى فرض العدول عن الطريقة المألوفة كان اللازم هو الاتيان بقوله وآخر فاستعمال أخرى غلط قطعا. نعم لو كان الكلام هكذا فتارة على ذات الشرب كان يصح الاتيان بكلمة أخرى لكن المفروض أن الموجود في العبارة هو أحدهما.

١٦١

الحكم إلى جميع أفراد الموضوع وحصصه بلحاظ عوارضه المتأخرة عن الحكم ، فذات المحكوم بالحرمة محفوظة في ضمن المجهول على الفرض ، فيلزم اجتماع الحكمين في شرب التتن المجهول حكمه ، فافهم واستقم.

٧٠ ـ قوله « قده » : إلا أنه يكون في مرتبته أيضا ... الخ (١).

ينبغي حمله على المعيّة الوجوديّة لا المرتبة الاصطلاحيّة ، إذ لا يعقل اجتماع المتقدم والمتأخر فيما هو ملاك التقدم والتأخر ، بداهة أن المتقدم والمتأخر متضايفان ، وملاك التقدم بالطبع والتأخر بالطبع ما عرفت ، فكيف يعقل اجتماع المتأخر مع المتقدم في المرتبة التي بها يكون متقدما طبعا ، فلا محيص عن حمل اجتماع الظاهري في بعض مراتب الواقعي معه على الاجتماع في مرتبة الوجود الخارجي الزماني ، وهو ملاك الاستحالة.

في تأسيس الأصل عند الشك في حجية الأمارة.

٧١ ـ قوله « قده » : أن الأصل فيما لم يعلم اعتباره بالخصوص ... الخ (٢).

ما أفاده « قدس سره » بناء على ما اختاره في معنى الحجية في غاية الوضوح.

وكذا على ما ينسب إلى المشهور من التعبّد بالمماثل للحكم الواقعي بعد التأمل ، وذلك لأن التعبد بالمماثل للواقع ليس أجنبيا عن الواقع بل بلسان أنه الواقع وبداعي التحفظ على الواقع بالتعبد به بعنوان آخر ، فالحكم المماثل وإن لم يكن طريقيا حيث إنه لا ينجز الواقع على تقدير الإصابة ، لكنه إيصال للواقع بعنوان آخر لا أنه في عرض الواقع.

ومن الواضح أن هذه الآثار أيضا لا يترتب على التعبد الواقعي ، بل على

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٩.

(٢) كفاية الأصول / ٢٧٩.

١٦٢

التعبد الواصل حتى يكون إيصالا للواقع بالعناية وموجبا لحفظ الأغراض الواقعيّة ، فيترتب العقوبة على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، لأنه الواصل في الحقيقة دون الواقع.

فان قلت : إذا لم يكن مجال لأصالة عدم الحجية وكفاية الشك فيها في الحكم الجزمي بعدمها لم يكن مجال أيضا لاستصحابها ضرورة أن ما لم يكن بيد الشارع نفيه لم يكن بيده إثباته مع أنه لا شبهة في استصحاب حجّية ما ثبت حجّيته وشك في بقائها.

قلت : ما بيد الشارع جعل الحجية واعتبارها بأحد المعاني والوجوه المتقدمة غير مرة ، وترتب الآثار على هذا الجعل الشرعي موقوف على إحرازه ولو بالأصل.

فما يكون أمره بيد الشارع إثباتا ونفيا نفس الجعل الواقعي ، وما هو الجعل الفعلي بالحمل الشائع هو الواقعي المحرز ، ومن أنحاء إحرازه التعبد ببقائه فيترتب عليه أثره.

وأما عدم الأثر ، فيكفي فيه عدم الإحراز لانتفاء الموضوع المقيد حقيقة بانتفاء قيده.

ومنه ظهر الفرق بين استصحابها واستصحاب عدمها.

لا يقال : غاية الأمر عدم الحاجة إلى استصحاب عدمها لا عدم الصحة.

لأنا نقول : إثبات عدمها الواقعي ظاهرا لإثبات عدم الفعليّة ظاهرا ، إذ لا أثر للواقع بما هو وإن كان مقتضيا له.

ومع القطع بعدم الفعليّة واقعا لا مجال لإثبات عدم الفعلية ظاهرا ، فتدبر جيّدا.

والتحقيق : أن عدم الصحة لعدم الأثر إنما يتم إذا لم يكن المستصحب أثرا مجعولا ، والمفروض أن الحجّية المجعولة سواء كان معناها أمرا وضعيّا أو بعثا

١٦٣

بداعي تنجيز الواقع وكلاهما في الحقيقة منشأ للعقوبة على المخالفة قابل للشك ، فأركان الاستصحاب تامة.

وأما مع عدم الحاجة إليه بعد حكم العقل ، فيلغو التعبّد بعدم الحجّية.

فمدفوع بأنه لا بقاء لحكم العقل مع مثله ، لأن العقل إنما يحكم بالفعليّة للوصول وبعدمها بعدم الوصول ، فكما أنه لو وصل الجعل من الشارع يكون واردا على حكم العقل كذلك لو وصل عدمه ولو ظاهرا وحكم العقل حينئذ بعدم الفعليّة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ لا حكم حينئذ حتى يقال : بأنه فعلي أو غير فعلي.

وقد عرفت في بعض (١) الحواشي السابقة أن حكم الشارع بالإباحة في مورد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حكم مولوي لحكمة داعية إليه ، وليست الإباحة ضروري الثبوت لإمكان الحكم بالاحتياط مولويا ، فكذلك هنا ، إذ عدم الحجية فعلا ليس ضروري الثبوت بل ما لم يصل ولو بعنوان الأمر بالاحتياط ، فتدبر جيّدا.

٧٢ ـ قوله « قده » : وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الأحكام ... الخ (٢).

توضيحه أن تحريم العمل بالظن من حيث الاستناد قلبا والإسناد قولا : إما بملاحظة أن جواز الاستناد والإسناد من مقتضيات الحجّية وآثارها ، فيستكشف بطريق الإنّ عدم الحجية بعدم آثارها.

وإما بملاحظة أن وجوب العمل بالظن ليس إلا وجوب الالتزام بمؤدى الظن ، ومع عدم الدليل عليه يحرم الالتزام بالحكم بالأدلة الأربعة.

__________________

(١) مبحث حجية القطع ، التعليقة : ٣٩.

(٢) كفاية الأصول / ٢٨٠.

١٦٤

فان كان بملاحظة الأول ، ففيه أن الحجية : إن كانت بمعنى تنجيز الواقع على تقدير ثبوته ، فليس هنا حكم شرعي يحرز حتى يكون القطع بالحجية موجبا لترتب جواز الإسناد والاستناد كي يستكشف عدمها بعدمهما عند الشك فيها.

وإن كانت بمعنى إنشاء الحكم المماثل ، فمن البين أن الواصل نفس الحكم المماثل دون الواقع ، فإنه بالحقيقة غير واصل ، فلا يترتب جواز الإسناد والاستناد بالنسبة إلى الواقع على القطع بالتعبد به حتى يستكشف عدمه من عدمهما في صورة الشك.

مع أن جواز الإسناد والاستناد ليسا من آثار الواقع المعلوم ومقتضياته ، بل الإسناد في صورة القطع بالواقع صدق ، وهو جائز ، وفي صورة القطع بعدمه كذب ، وهو حرام وفي صورة الشك فيه افتراء ، وهو حرام أيضا.

فكون القطع به محققا للصدق وبعدمه محقّقا للكذب وعدمه مطلقا محققا للافتراء أمر ، وترتب أحكام هذه الأمور على الواقع بلحاظ حالاته المزبورة أمر آخر.

وكذا الاستناد في صورة القطع به نحو من الانقياد ، وفي صورة عدمه مطلقا تشريع لا أن جوازه تارة وحرمته أخرى من مقتضيات الواقع وآثاره بلحاظ شئونه وأطواره.

وإن كان بملاحظة الثاني ، ففيه أن الحجية ليست بمعنى وجوب الالتزام بمؤدى الخبر مثلا.

بل إما بمعنى تنجيز الواقعيات بالخبر ، أو جعل الحكم المماثل على طبق مؤدّاه إيصالا له بعنوان آخر ، إذ ليست الحجية إلا لأجل التحفظ على الواقعيات بأحد وجهين.

ومن الواضح أن تنجيز الواقع على تقدير ثبوته لا ربط له بالأمر بالالتزام بمؤدى الخبر ، وجعل الحكم المماثل ليس إلا كنفس الحكم الواقعي حكما عمليا

١٦٥

يطلب منه العمل وإن وجب الالتزام به كسائر الأحكام عقلا أو نقلا ، إلا أنه لا دخل له باقتضاء حكم العمل حتى يكون الحكم المماثل المجعول أمرا بالالتزام أو بالعمل بعنوان الالتزام بحكمه.

فلو فرض دلالة دليل الحجية على الأمر بالالتزام لكان أمرا بالعمل بنحو الكناية ، فإن البناء على ثبوت الحكم كناية عن ثبوته.

مضافا إلى أن الالتزام بمؤدى الخبر جدا محال ، لفرض عدم إحرازه وعدم جعل حكم مماثل ليكون الالتزام الجدي متعلقا به ، لأن المفروض أن معنى الحجية هو الأمر بالالتزام جدا لا جعل الحكم المماثل.

والأمر بالالتزام بمؤدى الخبر بناء لا جدا أمر بالتشريع ، والأمر به لا يخرج المورد عن كونه تشريعا ، لأن المفروض عدم جعل الحكم المماثل ، ولا يعقل أن يعم الأمر بالالتزام بمؤدى الخبر نفسه ليكون أمرا بالالتزام بنفس هذا الأمر ، فصح أن يقال : حينئذ أن الالتزام بمؤدى الخبر واقعا باق على حرمته وإن وجب لإتيان بما تعلق به الحكم المماثل المجعول.

وأما وجوب الالتزام بالحكم المماثل المجعول ـ وإن كان مفاد دليل الحجّية وجوب الالتزام بالمؤدّى من باب دلالة الاقتضاء لما مر من استحالة الالتزام لجدّي بالواقع وعدم صحة الأمر بالالتزام بناء لكونه أمرا بالتشريع وعدم ثبوت حكم ظاهري قابل للالتزام به ، فصونا للكلام عن اللغوية يقال : بجعل الحكم المماثل على طبق المؤدى ، فيكون الأمر بالالتزام متوجها إليه ، حيث إنه الواقع تنزيلا وجعلا ـ ، فهو على فرض صحته لا ينافي حرمة الالتزام بمؤدّى الخبر أي بالحكم الواقعي الذي هو المطلوب من تأسيس الأصل.

مضافا إلى أن مناط ثبوت الواقع تنزيلا الذي هو مقتضى الحجّيّة جعل

١٦٦

الحكم المماثل لا إيجاب الالتزام به فتفسير الحجّية به وكشف جعل الحكم المماثل به بدلالة الاقتضاء كالأكل من القفا.

وأما ما أورد عليه شيخنا الأستاد في تعليقته (١) الأنيقة من أن الفعل بواسطة الالتزام بحكم الله والبناء عليه لا يتغير عما هو عليه بل هو إثم قلبي لأنه بهذا البناء والالتزام تصرف في ما هو سلطان المولى من تشريع الأحكام.

فتقريبه وتوضيحه أن ما هو شأن المولى وتحت سلطانه تشريع الأحكام بالبعث والزجر لا فعل المبعوث إليه أو ترك المزجور عنه ، فالتشريع إنما يتصور من العبد إذا بعث وزجر غيره بعنوان أنه شارع وبعنوان أنه بعثه وزجره منه ، فحينئذ قد تزيّا بزيّ المولى وتشأنّ بشأنه وتصرف في سلطانه.

وأما الفعل بل وكذا مجرد البناء على صدور أمر من المولى ، فليس شيء منهما من شئون المولى ليكون هتكا لحرمته بالتلبس به.

وعليه فكما لا إثم بحسب فعل الجوارح كذلك لا إثم بحسب فعل القلب أيضا لما عرفت من أن فعل المولى المختص به هو البعث والزجر لا الفعل ولا فرض صدورهما.

ويمكن دفعه بما مر (٢) منا في مسألة النهي في العبادات محصله أن بعثه وزجره تعالى إيجاد تسبيبي منه لفعل العبد وإعدام تسبيبي منه لفعله بحيث لو تمّت الدعوة وأثّرت العلة وانتهت إلى معلولها كان الفعل الخارجي فعلا مباشريا من العبد وفعلا تسبيبيّا من المولى ، فإذا فعل بعنوان أنه موجود تسبيبيّ منه تعالى ، فقد شرع في جعله تسبيبا منه تعالى ، حيث إن الإيجاد التسبيبي شأنه وداخل

__________________

(١) التعليقة على الرسائل ص ٤٠.

(٢) نهاية الدراية ٢ : التعليقة ٢٣٩.

١٦٧

تحت سلطانه ، فبهذا الاعتبار يصح جعل الفعل الخارجي معنونا بعنوان التشريع المحرم عقلا.

هذا ، وأما اتصافه بالافتراء والكذب عليه تعالى ، فهو إنما يكون إذا كان في مقام الحكاية عن إيجاب فعله المأتي به بعنوان أنه واجب ، فإن الحاكي يتصف بالصدق والكذب والافتراء قولا كان أو فعلا وباعتبار قيامه بالقائل والفاعل يوصف الشخص بأنه صادق أو كاذب.

٧٣ ـ قوله « قده » : فلو فرض صحتهما شرعا ... الخ (١).

لا يعقل فرض صحتهما إلا : بالتوسعة في دائرة الصدق الجائز شرعا بإلحاق الشبهة الموضوعية من حيث الصدق والكذب بالصدق حكما.

وبالتضييق في دائرة التشريع المحرم بتخصيصه بما علم أنه ليس من الدين.

وإلا فمع عدم التوسعة والتضييق لا يعقل الترخيص في النسبة والالتزام ، إلا مع جعل الحكم المماثل للمؤدى ليكون ترخيصا في نسبة المؤدّى التنزيلي والالتزام به ، حيث لا يعقل تعلقهما بالواقع الحقيقي على أي حال.

وبالجملة لا يقاس عدم صحتهما الغير الملازم لعدم الحجّية بصحّتهما التي لا يمكن فرضهما على وجه صحيح إلا مع الكشف عن الحجّية بمعنى جعل الحكم المماثل ، وإلا فالحجية بمعنى تنجيز الواقع أيضا غير نافع.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٠.

١٦٨

في حجية الظواهر

٧٤ ـ قوله « قده » : ولا لعدم (١) الظن كذلك على خلافها ... الخ (٢).

إذ عدم الظن بالخلاف إنما يعتبر إما من حيث إنه جزء المقتضى ، أو من حيث إن الظن بالخلاف مانع :

لا مجال للأول ، إذ الظاهر إنما يكون حجة من حيث الكاشفية عن المراد ، والمعتبر من الكشف إما هو الكشف الفعلي أو الكشف الذاتي ، ولا يعتبر عدم الظن بالخلاف في الكشف الذاتي قطعا ، لتحققه معه ، وكذا في الكشف النوعي ، واعتباره في الكشف الفعلي الشخصي راجع إلى اعتبار الظن الفعلي بالوفاق ، والكلام في عدم الظن بالخلاف لا في الظن بالوفاق.

ويمكن تقريب المنع بوجه آخر ، وهو أن عدم الظن بالخلاف إما هو بنفسه جزء المقتضى أو لازم الجزء.

والأول محال ، إذ المقتضى لا يعقل أن يكون عدميّا ، فلا يعقل أن يتقوم بالعدمي.

والثاني خلف ، إذ عدم الظن بالخلاف إنما يكون لازما لأمر ثبوتي وهو الظن بالوفاق حيث يستحيل اجتماع الظنين ، مع أن الكلام في اعتبار عدم الظن بالخلاف لا في اعتبار الظن بالوفاق.

ولا مجال للثاني ، إذ الظن بالخلاف إنما يعقل أن يكون مانعا إذا كان حجة حيث لا يعقل مزاحمة ما ليس بحجة للحجّة.

ومع فرض الحجّية فالظن بالخلاف إنما يعتبر عدمه حيث إنه حجة على

__________________

(١) في المصدر : بعدم.

(٢) كفاية الأصول / ٢٨١.

١٦٩

خلاف الظاهر ، وسقوط الظاهر عن الحجّية مع قيام الحجة على خلافه أمر مسلم بين الطرفين.

غاية الأمر أن الظن على الفرض حجة مطلقا عند العقلاء ، فيسقط معه الظاهر عن الحجية ، وحيث إنه ليس شرعا كذلك ، فلا يسقط معه عن الحجية.

وفيه أنه خلط بين المقتضى في مقام الثبوت والمقتضى في مقام الإثبات ، وكذا بين المانع في مقام الثبوت والمانع في مقام الإثبات ، فعدم الظن بالخلاف لا يصح أن يكون جزء المقتضى في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات ، كما أنه لا يصح أن يكون مانعا في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت.

بيانه أن المقتضى لحجية الظهور إثباتا بناء العقلاء عملا ، ويمكن أن يكون بناء العقلاء على العمل بالظاهر الذي لا ظن على خلافه ، فيكون البناء العملي على اتباع الظهور متقيدا بعدم الظن على الخلاف ، وإن كان المقتضى لبنائهم كون اللفظ كاشفا نوعيا عن المراد من دون اعتبار شيء آخر فيما يدعوهم إلى العمل بالظاهر ، فإن الجهة الجامعة بين جميع موارد اتباع الظهور هو الكشف النوعي.

وأما المانع عن حجّية الظهور إثباتا فإنما يتصور إذا كان المقتضى للحجّية للإثبات تاما ، وهو إنّما يصح إذا كان للعقلاء بناءان بنحو العموم والخصوص بأن يكون بنائهم على اتباع الظهور مطلقا وبنائهم الآخر على اتباع الظن بالخلاف ، فيقدم الخاص على العام من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما ، كما في حجية الخبر بالدليل اللفظي مطلقا وحجية خبر الأعدل في مقام التعارض بالخصوص ، فمع تمامية المقتضى في مقام الإثبات في كلا الطرفين يتصور المانعيّة لأحد الطرفين عن الآخر.

وأما إذا لم يعقل العموم والخصوص في البناء العملي ، بل العمل إمّا على طبق الظاهر الذي لا ظن على خلافه أو كان وإن ظن على خلافه.

١٧٠

فالمقتضى في مقام الإثبات : إما متقيد فلا اقتضاء لما كان ظن على خلافه أصلا.

وإما مطلق فما كان ظن على خلافه مع ما لم يكن على خلافه ظن على حد سواء ، فلا مانعيّة في مقام الإثبات أصلا حتى يقال : إن رفع اليد عن الحجة بقيام الحجّة على خلافه أمر مسلم بين الطرفين.

وأما المانعيّة في مقام الثبوت فمعقولة ، لإمكان أن يكون للظن بالخلاف خصوصيّة مانعة عن تأثير الكشف النوعي وصيرورته داعيا للعقلاء على العمل بالظاهر سواء كان المانع في مقام الثبوت حجة في نفسه ، أو لم يكن حجة ولكن كان فيه خصوصية مانعة عن تأثير مقتضي البناء العملي من العقلاء.

فعدم الظن بالخلاف يمكن أن يكون جزء المقتضي في مقام الإثبات ، كما يمكن أن يكون مانعا عن المقتضي في مقام الثبوت ، وما لا يعقل كونه جزء المقتضي في مقام الثبوت ، كما أن ما لا يضر بحجية الظاهر مانعيّته في مقام الإثبات ، فإنه يؤكد تماميّة المقتضي في مقام الإثبات.

وعليه فلو فرض كون الأمارة المفيدة للظن بالخلاف حجة عند العقلاء ، فلا محالة بنائهم العملي على عدم اتباع الظاهر الذي قامت الحجة عندهم على خلافه ، وعدم حجية الأمارة المزبورة شرعا لا يجدي ، لأن عدم المانع إنما يفيد مع وجود المقتضى. وحيث لا بناء من العقلاء على اتباع مثل هذا الظاهر ، فلا مقتضي لحجّيّته ، لما عرفت من عدم معقوليّة بناءين منهم بنحو العموم والخصوص ، والمتيقن من عدم اعتناء العقلاء بالظن بالخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن هناك أمارة معتبرة عندهم. ففي مثل هذه الصورة يشكل الأمر ، إلا أن يجعل المنع عن اتباع مثل ذلك الظن شرعا منعا عن ترتيب كل أثر عليه حتى رفع اليد به عن الظهور ، فإنه أمر بالملازمة باتباع الظهور ، فمثل هذا الظاهر حجة شرعا لا ببناء العقلاء وإطلاق دليل المنع لمثل هذا الأثر مشكل ، فتدبر.

١٧١

٧٥ ـ قوله « قده » : كما أن الظاهر عدم اختصاص ... الخ (١).

يمكن تقريب الاختصاص بأن المتكلم إذا اعتمد في إرادة خلاف الظاهر من كلامه على قرينة حالية بينه وبين المخاطب الذي قصد إفهامه لم يكن مخلا بمرامه ، بخلاف ما إذا لم يكن قرينة أصلا ، فإنه يكون ناقضا لغرضه وهو إفهامه بكلامه.

وأما غير المخاطب الذي لم يقصد إفهامه فإنه لم يلزم منه نقض للغرض إذا لم يكن بينه وبين من لم يقصد إفهامه قرينة معهودة ، إذ المفروض أنه لم يتعلق الغرض بإفهامه حتى يلزم نقض الغرض من عدم إيصال القرينة إليه.

والجواب يبتني على مقدمة هي أن الإرادة استعماليّة وتفهيميّة وجديّة ، فمجرد إيجاد المعنى باللفظ بنحو الوجود العرضي متقوم بالإرادة الاستعمالية سواء قصد بهذا الإيجاد إحضار المعنى في ذهن أحد أم لا ، فإذا قصد بهذا المعنى كانت الإرادة تفهيميّة.

وهذا المعنى الموجود المقصود به الإحضار ربما يكون مرادا جدّيا ، وربما يكون لانتقال المخاطب مثلا إلى لازمه المراد جدا أو ملزومه كما في باب الكناية ، والملاك في كل واحدة غير الملاك في الأخرى ، والكاشف عن كل واحدة غير الكاشف عن الأخرى.

فالجري على قانون الوضع يقتضي إيجاد المعنى بلفظه ، وهو وجه بناء العرف عملا على حمل اللفظ على الاستعمال في معناه.

ولزوم نقض الغرض لو لم يكن الكلام الصادر وافيا بالمرام يقتضي عدم قصد الإفهام ، إلا بما يكون وافيا بالمرام.

وكون جدّ الشيء كأنه لا يزيد على نفس الشيء يقتضى حمل كلّية

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨١.

١٧٢

الأقوال والأفعال على الجدّ حتى يظهر خلافه.

وعليه نقول بناء العقلاء عملا على حمل الكلام على ما يوافق قانون الوضع بعد كشفه النوعي عن المعنى هو معنى حجّية الظهور.

وحكم العقل بقبح نقض الغرض الذي هو غير مربوط ببناء أهل المحاورة هو الدليل على أن المعنى المختص باللفظ هو الذي قصد إفهامه.

وبناء العقلاء العام لجميع الأقوال والأفعال هو الدليل على حمل كليّة الأفعال والأقوال على الجد.

فالفرق المعلوم بين الظاهر الملقى إلى من قصد إفهامه ومن لم يقصد إفهامه لوجه مخصوص لا يقتضي الفرق في المقام الأول. وحجية الظاهر بحمله على مقتضاه من كشفه النوعي من معناه الوضعي ، والخلط بين المقامين أوهم الفرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد إفهامه هذا كله.

مع أن قصر الخطاب على شخص لا يقتضي قصد إفهامه ، بل ربما يقصد إفهام غيره كما في إياك أعني واسمعي يا جارة فضلا عن اقتضاء قصر قصد الإفهام على المخاطب.

مضافا إلى أن الكلام إذا كان متضمنا لتكليف عمومي فمقام عموم التكليف بهذا الكلام يقتضي وصول التكليف العمومي نفسا ومتعلقا وموضوعا بشخص هذا الكلام ، فلا يمكن التعويل على ما يختص بالمخاطب من القرينة الحالية.

وعلى فرض كون المخاطب واسطة في التبليغ ، فاللازم عليه في إيصال التكليف العمومي بحدّه التنبيه على ما يقتضي توسعته وتضييقه ، فعدم التنبيه منه دليل على عدمه. بل الكلام المقصور على المخاطب إذا كان متكفلا لتكليف خصوصي وكان عمومه لغيره بقاعدة الاشتراك أيضا كذلك ، إذ الطريق إليه نقله رواية أو كتابة ، ومقتضى عدم الخيانة في نقله بأحد الطريقين هو التنبيه على

١٧٣

القرينة الحالية الموسّعة لدائرة التكليف والمضيّقة لها ، ومع عدم نصب الدال عليها يحكم بعدمها ، فتدبر جيدا.

٧٦ ـ قوله « قده » : فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه ... الخ (١).

لا يخفى عليك أنه لا يمكن إثبات المانعية بظهور لفظ المتشابه فيما يعم الظاهر فضلا عن احتمال شموله إلا بنحو الجدل وإلا لزم من إثباته نفيه ، لأن لفظ المتشابه من جملة الظواهر القرآنيّة ، فتدخل تحت المتشابه الذي لا يجوز التمسك به. وأما مع مجرد احتمال شمول المتشابه للظاهر ، فلا يجوز المنع من باب الجدل ، بل لا بد من الأخذ بالمتيقن منه وهو المجمل.

نعم لو كانت الدعوى كون لفظ المتشابه محكما في معناه الشامل للظاهر والمجمل لصح الاستدلال حقيقة لا من باب الجدل ، ولا منافاة بين كون الشيء متشابها بالحمل الأولي ومحكما بالحمل الشائع.

فان قلت : إنما لا يصح الاستدلال بدليل المنع عن العمل بالمتشابه بناء على ظهوره فيما يعم الظاهر إلا جدلا إذا اعتقد المستدل عدم حجية ظواهر الكتاب حتّى هذا الظاهر.

وأما إذا قال بعدم حجية سائر الظواهر بهذا الدليل الذي لا يعقل شموله لنفسه ، فلا يكون الاستدلال حينئذ من باب الجدل ، ولا يلزم من نفي حجية الظواهر بخصوص هذا الظاهر ثبوتها ليكون محالا.

قلت : أما الخصم ، فلا فرق عنده بين ظواهر الكتاب ، وإنما لا يمكنه القول بعدم حجية هذا الظاهر لمكان الاستدلال به.

فالقول بعدم حجية هذا الظاهر بنفسه يلزم من عدمه وجوده ، فلا محالة يستدل به جدلا وإلزاما علينا بما نعتقد حجّيته ببناء العقلاء.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٣.

١٧٤

بل التحقيق أنه لا يصح الاستدلال به حتى من باب الجدل ، إذ الغرض : إن كان نفي حجية جميع الظواهر حتى نفس هذا الظاهر ، فيلزم من وجوده عدمه فانه مقتضى شموله لنفسه.

وإن كان الغرض نفي حجية سائر الظواهر بهذا الظاهر الذي بنى العقلاء على حجيته ، فهو وإن لم يلزم منه المحال من حيث شموله لنفسه بمدلوله اللفظي.

إلا أنه لما كان نفي حجية سائر الظواهر بملاك التشابه الشامل للظاهر ، فيلزم من نفي حجية الغير بهذا الملاك نفي حجية نفسه.

وحيث لا يعقل نفي حجية الغير إلا بنفي حجية نفسه لاتحاد الملاك ، فيسقط هو عن الحجية لعدم معقولية حجيته في مدلوله بالملاك المأخوذ في مدلوله ، وبغير هذا الملاك لا دلالة له أيضا ، فيبقى سائر الظواهر بلا مانع.

ولا بد من التصرف في هذا الظاهر ، لأنه وإن كان لا يعم نفسه بمدلوله ، لكنه يعمه بملاكه المأخوذ في مدلوله ، فيلزم من حجيته في مدلوله عدم حجيته في مدلوله ، فلا مناص إلا عن دعوى كونه محكما في مدلوله كما أشرنا إليه.

٧٧ ـ قوله « قده » : فيما إذا لم ينحل بالظفر بالروايات (١) ... الخ (٢).

سيجيء إن شاء الله تعالى في محله (٣) أن الانحلال : تارة بصيرورة المجمل مفصلا حقيقة ، كما إذا علم الواجب أو الحرام بعينه.

وأخرى بصيرورته كذلك حكما ، كما إذا علمنا بنجاسة إناء زيد واشتبه بين إناءين فان البينة إذا قامت على تعيّن إناء زيد فلازمه نفي النجاسة عن غيرها.

__________________

(١) في نسخة المصنف : في الروايات.

(٢) كفاية الأصول / ٢٨٣.

(٣) نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٣٥.

١٧٥

ومن الواضح أن مجرد جعل الحكم المماثل أو تنجيز الواقع لا ينفي الواقع عن غير موردهما.

وأما دعوى احتمال الانطباق قهرا بتقريب أن الواقع المعلوم إجمالا لا تعين له من ناحية العلم ، فلا مانع من انطباق مؤدّى الطريق على الواقع ، المعلوم ، ومع احتمال الانطباق لا علم إجمالا بتكاليف أخر في موارد الأمارات أو غيرها ، بل مجرد احتمال.

فهي فاسدة ، فان احتمال الانطباق : إن كان بلحاظ مدلول الأمارة فهو موجود بمجرد قيامها سواء كانت الأمارة حجة أم لا ، وهذا لا يوجب زوال العلم ولا زوال أثره.

وإن كان بلحاظ حكمها وهو جعل الحكم المماثل ، فلا انطباق قطعا ، فان الحكم المماثل مغاير للحكم الواقعي وجودا وإن كان مماثلا له ماهية.

بل التحقيق في الانحلال كما سيجيء إن شاء الله تعالى في محله (١) أن الحجية : إن كانت بمعنى جعل الحكم المماثل ، فالحكم الفعلي المماثل على طبق مؤدى الأمارة موجود قطعا ، ويستحيل أن يكون في موردها حكم فعلي آخر واقعا ، لاستحالة اجتماع الحكمين الفعليّين ، فلا علم إجمالي بحكم فعليّ على أي تقدير ، بل مجرد احتمال الحكم في غير مورد الأمارة ، والأصل حينئذ سليم عن المعارض.

وإن كانت بمعنى تنجيز الواقع بالأمارة ، فلا أثر للعلم حينئذ ، فإن المنجّز لا يقبل التّنجّز ، فيستحيل أن يؤثر العلم الإجمالي في تنجيز الواقع على أي تقدير.

ولا فرق بناء على الوجهين من الحجّية بين سبق العلم الإجمالي على الظفر بالحجة وعدمه ، فان الحجة الواقعيّة إذا كانت بحيث لو تفحص عنها لظفر بها كانت موجبة لفعليّة التكليف وتنجّزه ، وإنما السبق واللحوق في الظفر بها.

__________________

(١) نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٣٥.

١٧٦

فالعلم الاجمالي قد تعلق بما في أحد طرفيه تكليف فعلي بالأمارة أو الواقع المنجز بها وتمام الكلام في محله.

٧٨ ـ قوله « قده » : إما باسقاط أو بتصحيف ... الخ (١).

لا يخفى عليك وضوح الفرق بينهما ، إذ التصحيف سواء كان بتغيّر في هيئة الكلام أو مادته يوجب خروجه عن الكلام المنزل ، وليس في صورة احتماله كلام صادر من المولى حتى يتبع ظهوره الفعلي أو الذاتي.

بخلاف الإسقاط ، فإن الساقط سواء كان منفصلا عن الظاهر أو متصلا به لا يخل بظهوره الفعلي على الأول ، وبظهوره الذاتي على الثاني ، كالقرينة المنفصلة أو المتصلة ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

٧٩ ـ قوله « قده » : لعدم حجية ظاهر سائر الآيات ... الخ (٢).

لخروجها عن محل ابتلاء المكلف كما في تعليقته (٣) المباركة على الرسائل. ولعل المراد منه أن الكلام الغير المتضمن للتكليف لا معنى لحجية ظاهره على المكلف ، حيث لا معنى للحجية إلا كون الشيء بحيث يحتج به في مورد المؤاخذة بالذم والعقاب ، ولا معنى لذلك إلا فيما يشتمل على التكليف ، والآيات المتضمنة للقصص وشبهها لا حجية لظهورها ، بل الآيات المتضمنة للعقائد والمعارف لا حجية لظهورها أيضا وإن كانت متضمنة للتكليف بالأصول ، إذ المطلوب فيها الاعتقاد لا التعبد والعمل كي يتصور فيه حجية الظاهر فتأمل (٤).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٤.

(٢) كفاية الأصول : ٢٨٥.

(٣) التعليقة على الرسائل ص ٥٠.

(٤) إشارة إلى أن المطلوب في الاعتقاديات : إن كان المعرفة واليقين أو عقد القلب على ما جزم به النفس ، فلا محالة لا معنى لحجية الظاهر لعدم إفادته اليقين.

وإن كان مجرد عقد القلب على ما وصل إليه ولو تنزيلا ، فلا بأس لحجية الظاهر فيها. منه عفى عنه.

١٧٧

٨٠ ـ قوله « قده » : فافهم ... الخ (١).

لعله إشارة إلى أن مجرّد ضم ظاهر إلى سائر الظواهر ليس ملاك الطرفية للعلم الإجمالي بمخالفة بعض الظواهر ليقاس بظواهر الكتاب ، بل بحيث يتقوم به العلم فينعدم بخروجه ، وليس كل ظاهر كذلك.

أو إشارة إلى أن الاشكال هنا بملاك إجمال بعض أطراف العلم ، وخروجه عن محل الابتلاء لا يجدي في رفع الإجمال ، وإن كان مجديا في عدم تنجز التكليف على خلاف الظاهر.

ويندفع بأن الظهور الذاتي محفوظ في الجميع ، وإنما المعلوم بالإجمال أنّ بعضها غير حجة لا لارتفاع ظهوره حيث لا يرتفع الظهور بعد انعقاده ، إذ الواقع لا ينقلب عما هو عليه ، ولا يرتفع كشفه عن المراد الجدي الذي هو ملاك الحجية أيضا ، بل حجّيته لحجّة أقوى.

وإذا كان بعض الأطراف بنفسه غير حجّة ، فلا جرم لا علم إجمالي بورود الحجّة على خلاف الحجّة ، هذا في القرينة المنفصلة.

وأما في المتصلة فربما يتوهم الفرق بين المجمل وغيره نظرا إلى سراية إجماله إلى الظاهر ، فلا ظهور كي يكون حجة بخلاف غيره.

وفيه أن الظهور الذاتي محفوظ حتى في المجمل ، والظهور الفعلي مرتفع حتى في المبيّن.

والفرق بينهما بانعقاد الظهور الفعلي في غير الموضوع له إذا كان المتصل مبيّنا دون ما إذا كان مجملا.

والميزان في اتباع الظهور هو الفعلي وهو مشكوك في كليهما.

فلا بد من دعوى بناء العقلاء على المعاملة مع هذا العلم الإجمالي معاملة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٥.

١٧٨

الشك البدوي ، نظرا إلى خروج أحد الظاهرين عن محل الابتلاء ، فالقرينة المحتملة هنا يبنى على عدمها ، فيتم الظهور الفعلي كما في غير ما نحن فيه ، فتدبر.

٨١ ـ قوله « قده » : فلا وجه لملاحظة الترجيح ... الخ (١).

إلا أن يفصل بين حكاية نفس الآية وحكاية قراءة المعصوم لها ، فانها على الثاني حكاية فعل المعصوم فتدخل في السنة المحكية فتدبر.

٨٢ ـ قوله « قده » : فان أحرز بالقطع ... الخ (٢).

إن أريد من الظهور المقطوع به ظهوره الذاتي الوضعي ، فلا يقابله إلا الصورة الثالثة من الشق الثاني.

وإن أريد ما هو أعم من الظهور الذاتي الوضعي ، ومن الظهور الاستعمالي الفعلي فالتقابل صحيح ، فإن بعض تلك الصور الثلاث ظهورها الذاتي معلوم وبعضها غير معلوم ، إلا أن مقتضاه عدم إحراز الظهور الفعلي في الشق الثاني فيخرج احتمال القرينة المنفصلة لمعلومية ظهوره النوعي ، الفعلي.

مع أن احتمال القرينة المنفصلة كالمتصلة في الحاجة إلى اصالة عدم القرينة.

مضافا إلى أن احتمال القرينة منفي فيما إذا قطع بعدمها ، ومع ذلك أراد خلاف الظاهر مع عدم نصب قرينة لحكمة أو لغفلة ، فيخرج مثل هذه الصورة عن كلا الشقين فتدبر.

٨٣ ـ قوله « قده » : لا أنه يبني عليه بعد البناء على عدمها ... الخ (٣).

بل هذا هو الظاهر إذ الحجة لا بد من أن تكون مناسبة لمورد المحاجّة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٥.

(٢) كفاية الأصول / ٢٨٦.

(٣) كفاية الأصول / ٢٨٦.

١٧٩

والمخاصمة : فاذا ادعى المولى إرادة خلاف الظاهر مع الاعتراف بعدم نصب قرينة لحكمة أو لغفلة كانت الحجة عليه ظهور كلامه.

وإذا ادعى إرادة خلاف ظاهر ما وصل من الكلام لمكان نصب القرينة وإن لم تصل كانت الحجة عليه أصالة عدم القرينة ، والمراد بناء العقلاء على العدم عند الشك في الوجود.

وأما ظهور الكلام فلا مساس له بالمقام ، إذ المولى لا يحتج عليه بارادته الواقعية كي يحتج العبد عليه بظهور كلامه في خلاف مرامه ، بل يحتج بنصب ما يوافق مرامه من كلامه ، فلا بد من دفعه ببناء العقلاء في مثله على عدمه ، ولعله أشار إليه بقوله فافهم.

فليس الأمر كما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » (١) من رجوع الأصول الوجودية إلى الأصول العدمية ، ولا كما أفاد شيخنا (٢) العلامة الاستاد « قدس سره » في تعليقته الأنيقة وأشار إليه هنا من رجوع الأصول العدمية إلى أصالة الظهور.

والتحقيق أن مدرك حجية الظواهر بما لها من الخصوصيات كما مر مرارا بناء العرف والعقلاء عملا ، فهو المتبع في أصل الحجة (٣) وخصوصياتها.

ومن البين كما مر أنه ليس من العقلاء بناءان أحدهما على اتباع الظاهر مطلقا ، والآخر على أمر آخر بحيث يكون أحد البنائين مقيدا للآخر.

بل العمل على الظاهر الذي ليس على خلافه ما هو أقوى منه كشفا ، فمع عدم الكاشف الأقوى يكون العمل على طبق الظاهر ، ومع وجوده يكون

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٥٩.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ٤٤.

(٣) هكذا في النسخة المطبوعة ، لكن الصحيح : الحجية.

١٨٠