الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

منارة مشعة يستضيء بنور هديها المستقبل.

والحكمة في صدر الإسلام ، كغيرها من الحكم ، دليل واضح على رقي عقلية العلماء ، أوصياء على الأمة الإسلامية وأمناء على مسيرتها في طريق الخير والصلاح ، ولا سيما الأئمة المعصومين أئمة الهدى الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية نشر الدعوة الإسلامية وتقويم الانحراف لتسير في الطريق الصحيح الذي رسمه الرسول الأعظم. والعلماء الحكماء هم ورثة الأنبياء منهم الإمام زين العابدين : تدل حكم الإمام (ع) على أصالة في الرأي ، وتطور في الفكر ، وإبداع في العطاء ، وهي تحكي خلاصة التجارب التي ظفر بها الإمام في حياته ، ولا تقتصر على جانب خاص من جوانب الحياة وإنما كانت شاملة لجميع مناحيها. لقد نظر الإمام (ع) الحكيم بعمق وشمول إلى جميع شؤون الإنسان فوضع الحلول الحاسمة لجميع قضاياه وشؤونه. وهذه بعض ما أثر عنه من غرر حكمه الحية الخالدة التي يفيد منها كل إنسان في حياته الخاصة والعامة. قال عليه‌السلام :

١ ـ « من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا » (١).

حكمة رائعة تحكي واقع الأحرار في كل زمان الذين هانت عليهم الدنيا من أجل عزتهم وكرامتهم ، نفوسهم أبية ومواقفهم شريفة ، فلم يخضعوا للذل والهوان ولم يسكتوا عن الظلم والطغيان بل قاوموا بكل ما لديهم من قوة ، وجاهدوا بأغلى ما عندهم بالمال والبنين والأنفس ، وكان على رأسهم أبو الأحرار وسيد الشهداء الإمام الحسين (ع) الذي كرمت عليه نفسه فاستهان الدنيا وما عليها ، ولم يصانع الظالمين ، ولم يمالىء المنحرفين بل حمل راية الكرامة الإنسانية ، راية جديه ، أمير المؤمنين وخاتم النبيين حتى استشهد مرفوع الرأس ، موفور الكرامة.

__________________

(١) تحف العقول ، ص ٢٧٨.

١٢١

الحسين (ع) لبس درع الرسالة فوجد في كل حلقة فيه نبضة قلب يتفجر عزيمة ، والعزيمة تشع كضوء يتماوج بألف لون. قال الإمام الحسين كلمة ملتزمة تقول : الموت البطولي ، الشهادة من أجل الحق ، كلمة جده محمد (ص) التي كتبها من فوح القرآن ، وقالها من بوح جسده ذي القلب السماوي ليعبر الضفة قبالة والده أمير المؤمنين ، فريد الدهور في حب الحق الأعلى.

لقد قدم الإمام الحسين منهجا جديدا في ممارسة الحياة ، منهج النضال الشريف من أجل صون حياة الإنسان.

والإمام السجاد مضى على خط أبيه يناضل من أجل الحق ، ويقول كما قال أخو الأوس لابن عمه عندما لقيه وهو يريد نصرة رسول الله (ص) قال له : أين تذهب فإنك مقتول ، فقال :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما

وواسى رجالا صالحين بنفسه

وخالف مثبورا وفارق مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم

كفى بك ذلا أن تعيش وترغما (١)

٢ ـ ومن حكمه عليه‌السلام قوله : « ضل من ليس له حليم يرشده ، وذل من ليس له سفيه يعضده ... » (٢).

قد يتعثر الإنسان في خطاه إذا لم يكن له حليم يرشده في المعضلات التي تعترضه في حياته ، فيتعثر في خطاه وينزلق في متاهات سحيقة ، وقد يذل إذا لم يكن له سفيه يذب عنه ويعضده.

٣ ـ وقال عليه‌السلام : « ويل لمن غلبت آحاده أعشاره ».

__________________

(١) أعيان الشيعة ، ج ٤ ، ص ١٨٦. وتاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٢) زين العابدين للقرشي ، ص ١٠١.

١٢٢

سئل الإمام الصادق عن معنى هذا الحديث فقال (ع) : « أما سمعت الله عز وجل يقول : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها ) (١).

فالحسنة الواحدة من عملها كتبت له عشرا ، والسيئة الواحدة إذا عملها كتبت له واحدة ، فنعوذ بالله ممن يرتكب في يوم واحد عشر سيئات ، ولا تكون له حسنة واحدة فتغلب سيئاته حسناته (٢).

٤ ـ وقال عليه‌السلام : « طلب الحوائج إلى الناس مذلة للحياة ومذهبة للحياء ، واستخفاف بالوقار ، وهو الفقر الحاضر وقلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر .. » (٣).

إن طلب ما في أيدي الناس خضوع لهم مما يوجب الذل والهوان وذهاب الحياء ، وهو دليل ضعف في نفس السائل أما الإنسان العزيز هو الذي يصون نفسه وكرامته ولا يطلب حاجاته إلا من ربه فهو يرزق من يشاء وبيده الخير وهو على كل شيء قدير.

٥ ـ وقال عليه‌السلام : « الكريم يبتهج بفضله ، واللئيم يفتر بملكه .. » (٤).

تصف هذه الكلمة واقع الكريم واللئيم. فالكريم يفرح ويبتهج بما يسديه إلى الناس من فضل وإحسان ، إحسان بالمال أو اليد أو اللسان ، ذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى. أما اللئيم الذي لا فضل عنده من هذا فإنه يفخر بما يملكه من الأموال والأمتعة فقط التي سرعان ما تتحول

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٦٠.

(٢) معاني الأخبار للشيخ الصدوق مخطوط في مكتبة السيد الحكيم ، زين العابدين للقرشي ، ص ١٠١.

(٣) زين العابدين للقرشي ، ص ١٠٤.

(٤) المصدر نفسه.

١٢٣

إلى تراب بعد قليل أو كثير. فالذي يبقى ويدوم هو العمل الصالح والكلمة الطيبة والإحسان إلى الآخرين من قلب طيب وروح فاضلة ونفس خيرة ، أما المال والمتاع فهو غرض زائل ، عمره قصير ، يؤول أمره إلى تراب وصاحبه ليست لديه أية صفة كريمة أو نزعة شريفة يعتز بها ويفتخر.

٦ ـ وقال عليه‌السلام : « خير مفاتيح الأمور الصدق ، وخير خواتيمها الوفاء .. » (١).

التحلي بالصدق من أنبل الصفات وأكرمها ، والصادق إنسان وقور يعيش بين قومه وأهله محبوبا كريما. ولا نعرف صفة أفضل تكفل استقرار المجتمع الإنساني وتضمن الثقة بين المواطنين مثل الصدق. لذلك اعتبره الدين الإسلامي أساسا ثابتا من الفضائل التي تبنى عليها المجتمعات في الأمم الراقية.

لذلك دعا الله المؤمنين للتخلق به فقال سبحانه مخاطبهم : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (٢).

وقد دعانا الرسول الكريم إلى قول الصدق في جميع أعمالنا وأقوالنا وتصرفاتنا فقال (ص) : « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا » (٣). وقال أحد الشعراء :

الصدق في أقوالنا أقوى لنا

والكذب في أفعالنا أفعى لنا

وخير خواتيم الأمور الوفاء. وأفضل ما تحدث به القرآن الكريم عن

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ١٠٦.

(٢) الأحزاب ، الآية ٧٠.

(٣) رواه مسلم.

١٢٤

الوفاء وصفه تبارك وتعالى ذاته القدسية بالوفاء فقال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ .. ) (١).

كما نو ، القرآن الكريم بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. فقال تعالى في سورة النجم : ( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) [ الآية ٣٧ ].

وللوفاء شأن يذكر وخبر يؤثر عند أئمة هذه الأمة وأعلامها المؤمنين الصادقين أمثال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي نام في فراش الرسول (ص) مسلما نفسه للموت في أي لحظة يهاجم بها أعداء الرسول منزله غير آبه بما سيحدث ولو كان الموت ، الموت في سبيل إنقاذ رسول الله. إنه الفداء الصادق والوفاء المخلص.

قال أمير المؤمنين (ع) : « إن الوفاء توأم الصدق ، ولا أعلم جنّة أوفى منه ، ولا يغدر من علم كيف المرجع ، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا ، ونسبهم أهل الجهل إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله؟ قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين » (٢).

ولهذا أكد الإمام زين العابدين (ع) على لزوم التجلي بالصدق والوفاء لأنهما من أسمى الصفات التي يشرف بها الإنسان المسلم.

__________________

(١) التوبة ، الآية ١١١.

(٢) نهج البلاغة ، ج ١ ، ص ٨٨. والجنّة : الوقاية. اتخذوا الغدر كيسا : أي عدوه من باب التعقل وحسن الحيلة. الحوّل القلّب : البصر بتحويل الأمور وتقليبها ، أي أنه يصرف الحيلة ولكنه لا يفعلها خشية الله تعالى. والحريجة : التحرج أي تجنب الآثام خشية الله سبحانه وتعالى.

١٢٥

٧ ـ وقال عليه‌السلام : « عجبت لمن يحتمي الطعام لمضرته ، ولا يحتمي من الذنب لمعرته » (١).

الجسد وعاء للروح وعلى الإنسان أن يحافظ على كليهما فالروح الطاهرة النظيفة يجب أن يحضر لها جسد طاهر نظيف والحمية من الذنوب ، وما يلحقها من مآثم وعار أولى للمسلم العاقل من الحمية من الطعام المضر للجسد ، ذلك أن مضرة الجسد علاجها سهل وموعدها قريب ، أما مضرة الروح فإنها تجر الويل والشقاء في دار الآخرة التي هي دار الخلود والبقاء.

٨ ـ وقال عليه‌السلام : « إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو شكرا للمقدرة عليه ، فإن العفو عن قدرة ، فضل من الكرم .. ».

العفو عند المقدرة دليل شرف النفس وسعة حلمها ، وهو ضرب من الكرم العظيم ، أما الانتقام فإنه ينم عن لؤم وخسة في الطبع والسلوك.

٩ ـ قال (ع) في الكلام المسموح والكلام المسموع « ليس لك أن تتكلم بما شئت لأن الله تعالى يقول : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) ».

وليس لك أن تسمع ما شئت لأن الله عز وجل يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (٣) كل إنسان مسؤول عن الكلام الذي يتكلم به أمام نفسه وأمام ربه وأمام الناس. لأن الكلمة إذا تكلم بها المتكلم خرجت عن طاعته ولم تبق ملك يده ، لكنه قبل التكلم بها يملكها. ورب كلمة أحدثت صلحا ووفاقا بين شخصين أو بين شعبين ، ورب كلمة جرت حربا وأعقبها ويلات ومصائب. من هنا كان وصفه تعالى

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ١٠٧. والمعرة : العار والفضيحة.

(٢) الإسراء ، الآية ٣٦.

(٣) الإسراء ، الآية ٣٦.

١٢٦

للكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة (١). قال تعالى :

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ .. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ) (٢). فالإسلام حدد الكلام المسموح به الذي يتكلم به الإنسان وذلك فيما يرجع إلى تدبير شؤونه في معاملاته ، وسائر أغراضه الأخرى المباحة. أما الكلام الذي يهدف منه صاحبه إلى ترويج الباطل وقول الزور فإنه حرام بلا ريب ويحاسب عليه.

وكما حدد الإسلام الكلام المسموح حدد أيضا الكلام المسموع.

الكلام الذي يسمعه الإنسان ، وهو الكلام الطيب ، فاستماع الغيبة منهي عنه واستماع الفحش منهي أيضا عنه. ذلك أن الإنسان يحاسب على أحاسيسه القلبية ومشاعره النفسية.

وقد سئل الجاحظ عن صفات الإنسان العاقل فأجاب « هو الذي يعلم متى يتكلم وكيف يتكلم ومع من يتكلم ». إن الله تعالى أرسل رسله الكرام ليتكلموا وينشروا الدعوة الإسلامية في أرجاء الأرض ، وأرسل أئمة الهدى ليتكلموا ويثبتوا الحق ويجاهدوا في سبيل الله. والعلماء في شتى بقاع الأرض عليهم بالكلام ليعلموا الجاهلين وينشروا المعرفة. أما الذي يعلم ولا يعمل بما يعلم هو كالجاهل.

لكن هؤلاء الأنبياء والأوصياء والعلماء تكلموا الكلام الطيب ، الكلام المفيد الذي يرغب كل إنسان عاقل على سماعه. والكلام الطيب هو من أثمن ما يلقى على السمع ، بل هو فاكهة الحياة على حد قول الإمام زين العابدين عليه‌السلام حيث قال : « لكل شيء فاكهة ، وفاكهة السمع الكلام الحسن ».

١٠ ـ وقال عليه‌السلام في الحسد والحقد : « الحسود لا ينال شرفا ،

__________________

(١) راجع زين العابدين للقرشي ، ص ١١١.

(٢) إبراهيم ، الآية ٢٤ ـ ٢٦.

١٢٧

والحقود يموت كمدا .. » (١).

يعد الحسد من أقبح الرذائل الخلقية التي تحل في نفس الحسود فتنكد عليه عيشه لأنه يتمنى زوال كل ما يشاهد من نعم أسبغها الله على عباده إلى نفسه وحده فلا يميز بين أخ وصديق أو جار ورفيق. يحب الخير لنفسه دون غيره.

وكم نرى مثل هؤلاء النموذج الفاسد في المجتمع المادي الصرف حيث تحل الأنانية القاتلة محل المحبة السالمة ، وتسود البغضاء والحقد بدل التآلف والإيثار. والحسود فقد الثقة بنفسه واستشعر بالعجز يسيطر عليه ويحول بينه وبين تحقيق غاياته. لذلك نهى الله تعالى عن الحسد وناشد عباده فقال سبحانه : ( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ .. ) (٢). فلماذا الحسد والتحاسد ، فكل إنسان وما تكسب يداه وكل فرد وما يحقق بفضل فكره وجهده واجتهاده من هنا كان التفاضل بين بني البشر. فمن أراد السعادة فليسع إليها فلا عوائق تحول بينه وبينها إذا ما صمم بنية طيبة وقلب سليم ( فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (٣). وفي موضع آخر من القرآن الكريم أمر الله بالاستعاذة بالله من الحاسد قال سبحانه : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ ) (٤).

والحقيقة أن الحاسد يستثير منا الشفقة لما يلاقيه من ألم نفساني الذي هو أشد وطأة عليه من الألم الجسدي. فهو قلق دائما لا يستلذ بطعم العيش ، ولا يستمتع بلذة النوم ، غريب بين الناس ، منعزل عن الأحباب والأصحاب ، وهل تحلو الحياة بدونهم؟!.

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ١٠٨.

(٢) النساء ، الآية ٣٢.

(٣) الملك ، الآية ١٥.

(٤) سورة الفلق.

١٢٨

والحسد لا يؤثر إلا في أصحابه كالنار تأكل بعضها البعض إن لم تجد ما تأكله. قال أحد الشعراء :

إصبر على حسد الحسود

فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل بعضها

إن لم تجد ما تأكله

فعلى الإنسان أن يستمتع بما يصادفه في حياته من مسرات ويؤدي العمل الذي يجب عليه أداؤه بجد واتقان دون أي مقارنة بينه وبين من هو أسعد منه حظا ، بل عليه أن ينظر إلى من هو دونه ليدرك فضل الله عليه.

وفي هذا المجال قال رسول الله (ص) : « إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه » (١). وعليه أن يدعو فيقول :

يا رب : ساعدني على أن أرى الناحية الأخرى من الصورة ولا تتركني أتهم أخصامي بأنهم خونة لأنهم اختلفوا معي في الرأي.

يا رب : علمني أن أحب الناس كما أحب نفسي .. وعلمني أن أحاسب نفسي كما أحاسب الناس.

يا رب : علمني أن التسامح هو أكبر مراتب القوة ، وأن حب الانتقام هو أول مظاهر الضعف ، إنك سميع مجيب.

وقال (ص) : « إن العفو لا يزيد العبد إلا عزا ، فاعفوا يعزكم الله ، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله ، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا إنماء فتصدقوا يزدكم الله ».

وسئل جعفر بن محمد (ع) في التواضع فقال : « رأس الخير التواضع وهو أن ترضى من المجلس بدون شرفك ، وأن تسلم على من لقيت ،

__________________

(١) رواه البخاري.

١٢٩

وتترك المراء وإن كنت محقا » (١).

وقال الحكماء : ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة. وقالوا : التواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها. إن التواضع نعمة إلهية ، ونفحة طيبة ، وصفة إنسانية نبيلة فطوبى لمن تحلى بالتواضع مع رفعة قدره وسمو ذاته ، والجدير بكل من تحلى بهذه الصفة الكريمة أن يكون في الصفوف الأولى من عالمنا هذا المتحضر.

وما يجدر الإشارة إليه أننا أصبحنا في عصرنا الحاضر المتحضر نرى الكثيرين من أفراد الأمة يتصدرون المجالس ليشار إليهم بالبنان ، ويتبجحون في أساليب كلامهم ليظهروا عظمتهم ويرموا بهالة من التقديس والتوقير في نفوس مستمعيهم. والحقيقة أن التقديس منهم براء ، والعظمة منهم في عزاء ، والمجد والرفعة بعيدان عنهم على حد سواء. وقال الرسول الأكرم (ص) : « أفضل الرجال من تواضع عن رفعة وزهد عن قدرة ، وأنصف عن قوة » (٢).

ومما روي عن الإمام زين العابدين (ع) قال : لامه عبد الملك بن مروان لأنه تزوج أم ولد لبعض الأنصار فكتب إليه الإمام (ع) : « إن الله قد رفع بالإسلام الخسيسة ، وأتم النقيصة ، وأكرم به من اللؤم ، فلا عار على مسلم ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تزوج أمته وامرأة عبده » (٣).

أدعو الله تعالى فأقول : « يا رب إذا أعطيتني مالا لا تأخذ سعادتي ، وإذا أعطيتني قوة لا تطفىء سراج بصيرتي ، وإذا أعطيتني تواضعا لا تأخذ اعتزازي بكرامتي.

__________________

(١) نهاية الأرب للنويري.

(٢) العقد الفريد ، ج ٢.

(٣) عيون الأخبار للدينوري ، ص ٨.

١٣٠

١١ ـ وقال عليه‌السلام : لا حسب لقرشي ولا عربي إلا بالتواضع » (١).

من الأخلاق الإسلامية الفاضلة التواضع فهو كما نعلم من القرآن الكريم ، نعمة سماوية تحصّن صاحبها بالجلالة والوقار ، وتجنبه الوقوع في المزالق والأخطار. لأن المتواضع يكون قد أرضى ربه سبحانه وتعالى وأرضى عباده عز وجل ، فكثر محبوه ، وقل مبغضوه ، وارتاحت نفسه ، وصفا عيشه ، واستراح من التفكير في اختيار صدور المجالس كما يفعل أهل الكبر والخيلاء في عصرنا الحاضر ، بزعمهم أن عنوان الشخص بمجلسه وليس بتقدير جلسائه له. هؤلاء قد نسوا أنه لا رافع لمن وضعه الله سبحانه ، ولا واضع لمن رفعه ، وكل شيء بمشيئته سبحانه قال تعالى : ( اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢).

والمتواضع لابد وأن يكون لين الجانب ، طيب السيرة ، حسن السريرة ، مثابا من الله ، محبوبا من عباد الله. لذلك دعا الله جل جلاله رسوله الكريم (ص) ليتواضع ويلين جانبه مع الناس. قال تعالى : ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. ) (٣).

ومن عجيب الأمر أن النبي (ص) كان من أجمع لدواعي الترفع التي كانت سائدة عند قومه آنذاك ، وكان في الوقت نفسه أدناهم إلى التواضع ذلك أنه كان أوسط (٤) الناس نسبا وأوفرهم حسبا ، وأسخاهم ، وأشجعهم ، وأذكاهم ، وأفصحهم ، وهذه كلها من دواعي الترفع. ومن تواضعه أنه كان

__________________

(١) تحف العقول ، ص ٦٧. وراجع الكافي في باب الطاعة والتقوى.

(٢) آل عمران ، الآية ٢٦.

(٣) آل عمران ، الآية ١٥٩.

(٤) أوسط : أعلى وأحسن الأمور أوساطها أي أعلاها.

١٣١

يرقع الثوب ، ويجلس على الأرض ، ويخسف النعل ويجيب دعوة المملوك.

قال أنس بن مالك : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود المريض ، ويتبع الجنائز ، ويجيب دعوة المملوك ، ويركب الحمار ، وقد رأيته يوم حنين على حمار خطامه ليف » (١).

١٢ ـ البر تحفة :

إنه يوصي أحد أبنائه أن يكون مطيعا له صادقا صالحا ، برا به فالبر تحفة كبيرة ، لأن الله أوصى الابن بأبيه ، ولم يوص الأب بابنه ولعله بذلك يشير إلى الآية الكريمة : ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) فهو يقول (ع) : يا بني إن الله رضيني لك ولم يرضك لي ، فأوصاك بي ولم يوصني بك عليك بالبر فإنه تحفة كبيرة.

١٣ ـ وقال عليه‌السلام : « يا بني أنظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق ، فقال : من هم يا أبتاه؟ فقال : إياك ومصاحبة الكذاب فهو بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب ، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه يبيعك بأكلة وما دونها ، فقال له ولده : وما دونها؟ قال : يطمع فيها ولا ينالها. وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك فيما أنت أحوج ما تكون إليه ؛ وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله ».

يحدد لنا الإمام (ع) في حكمه الإصلاحية الاجتماعية كيفية المصاحبة وكيفية التعاطي مع شريحة معينة من الناس كالكذاب والفاسق والبخيل والأحمق والقاطع لرحمه ، حيث ينهى أبناءه عن مصاحبة مثل أولئك الناس أو محادثتهم أو مرافقتهم. لأنه يجد الكذاب كالسراب يقرب البعيد ويبعد القريب. والفاسق يبيع صاحبه بأكلة وما دونها. والبخيل يخذل صاحبه

__________________

(١) نهاية الأرب للنويري.

١٣٢

وهو بأمس الحاجة إليه. أما الأحمق فإنه يضر بصاحبه وهو يريد منفعته. بينما القاطع لرحمه يجده الإمام ملعونا في كتاب الله.

وفي هذا يكون الإمام (ع) قد حدد دور هذه المصاحبة حتى يحصّن المرء نفسه من كل شائبة ، وحتى لا يترك مجالا لأصابع الاتهام بأن تشير نحوه قاصدة إياه بما ليس فيه. فالابتعاد عن مثل هؤلاء البشر الفاسدين ، هو صون للنفس ووقاية لها من أوبئة معنوية فاسدة تحط من قدرها اجتماعيا وإنسانيا.

أفضل الكلمات

١ ـ سأل رجل الإمام زين العابدين ٧ عن السكوت والكلام ، أيهما أفضل؟ فقال (ع) : « لكل واحد منهما آفات ، فإذا سلما من الآفات ، فالكلام أفضل وانبرى إليه شخص فقال له : « كيف ذاك يا بن رسول الله؟ .. ».

فأجابه عليه‌السلام : « إن الله سبحانه لم يبعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، إنما بعثهم بالكلام ، ولا استحقت الجنة بالسكوت ، إنما ذلك كله بالكلام ، وما كنت لأعدل القمر بالشمس » (١).

فيا سبحان الله إنه سليل أهل البيت وابن رسول الله ولا يتكلم إلا بأفضل الكلمات وأحكم الجوابات.

٢ ـ ومن كلماته الحكيمة :

قال عليه‌السلام : « من مأمنه يؤتى الحذر ، يكتفي اللبيب بوحي الحديث ، وينبو البيان

__________________

(١) الاحتجاج ، ص ١٧٢.

١٣٣

عن قلب الجاهل ، ولا ينتفع بالقول ، وإن كان بليغا مع سوء الاستماع .. » (١).

إنها كلمة خالدة رائعة بليغة يعني بها :

أ ـ إن من يقيم حرسا مكثفا للحفاظ على حياته كما يفعل الرؤساء والملوك والوزراء ، فإن ما يحذرونه يأتي على الأكثر من أولئك الحراس ، فإنهم هم الذين يفتكون بهم كما وقع ذلك كثيرا مع بعض الخلفاء والملوك (٢).

ب ـ إن اللبيب المتفتح يفهم الأمور الغامضة في الحديث من وحي ذهنه وقرائن الأحوال ولا يحتاج إلى الشرح المستفيض والبسط في القول.

ج ـ البيان بعيد عن قلب الجاهل ولا يصل إليه لأنه قد ران عليه الجهل فصده عن فهم الأمور. وقد وصف تعالى هؤلاء : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) (٣).

د ـ إن بلاغة القول وحكمته لا ينتفع بهما مع سوء الاستماع وإنما ينتفع بهما مع الإصغاء.

وكما أن هناك فن القول هناك أيضا فن الإصغاء ، فالمتكلم البليغ ليس أفضل من المستمع الفهيم.

٣ ـ وحدة الأديان :

سأل رجل الإمام عليه‌السلام عن الإطار الجامع بين الأديان السماوية ، فقال :

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ٦٩.

(٢) المتوكل الخليفة العباسي غدر به حراسه من الأتراك.

(٣) الأعراف ، الآية ١٧٩.

١٣٤

« قول الحق ، والحكم بالعدل ، والوفاء بالعهد .. » (١).

هذه القواسم الثلاثة : الحق والعدل والوفاء تشترك فيها الأديان السماوية جميعها لأنها قوام الحياة الاجتماعية وقد رفع شعارها جميع الأنبياء والمرسلين.

٤ ـ من حكم الإنجيل :

قال عليه‌السلام لأصحابه : « مكتوب في الإنجيل ، لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ، ولا تعملوا إلا بما علّمتم ، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزد صاحبه إلا كفرا ، ولم يزد من الله إلا بعدا » (٢).

لا نفع لعلم محصور في صدر صاحبه ، ولا نفع لمال مخزون في خزانة مالكه ، وإنه ليس من الحق في شيء أن يعلم الإنسان شيئا ولا يعلمه لمن حوله من الناس ، فإن ذلك لا يزيده إلا بعدا من الله.

٥ ـ خصال رفيعة :

أرفع ما يتصف به المسلم من صفات والتي يكمل بها إسلامه.

قال (ع) : « أربع من كن فيه كمل إسلامه ، ومحصت عنه ذنوبه ، ولقي ربه عز وجل وهو عنه راض : من وفى لله عز وجل بما يجعل على نفسه للناس ، وصدق لسانه مع الناس ، واستحيا من كل قبيح عند الله وعند الناس وحسن خلقه مع أهله .. » (٣).

المسلم الذي يتصف بهذه الصفات هو المؤمن حقا المستكمل إيمانه ، الذي يلقى الله وهو راض عنه.

__________________

(١) الخصال ، ص ١٠٩.

(٢) أصول الكافي.

(٣) الخصال ، ص ٢٠٣.

١٣٥

٦ ـ صفات المؤمن :

قال الإمام عليه‌السلام : « علامات المؤمن خمس : فقال له طاووس اليماني : وما هي يا بن رسول الله؟ قال : الورع في الخلوة ، والصدقة في القلة ، والصبر عند المصيبة ، والحلم عند الغضب ، والصدق عند الخوف » (١).

وهذه الصفات الخمس على المؤمن أن يتصف بها ليكون بذلك من عباد الله الصالحين الذين أترعت نفوسهم بالتقوى وأشبعت عقولهم بالإيمان ، وأنتجت أيديهم العمل المتقن الصالح ، وملئت صدورهم بوحي العقيدة ، ونطقت ألسنتهم بزيت الحكمة.

٧ ـ الصبر :

حث الإمام (ع) المسلمين على الصبر فقال : « الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له .. » (٢).

لا بد لكل إنسان من أن يصادف في حياته خطوبا كثيرة وأحداثا صعبة تداهمه في كل حين فعليه أن يتذرع بالصبر على هذه المكاره ويرجىء الأمور إلى الله تعالى ، راضيا بما قسم له لأن ذلك من جوهر الإيمان.

وقال الحكماء من صبر ظفر ، وقالوا أيضا : الصبر مفتاح الفرج. وما من خطب جلل إلا وحله بيد الله تعالى. فالمؤمن يقتنع بما يصيبه من محن ومصائب ويصبر حتى تحل بإرادة العلي القدير.

٨ ـ القناعة :

قال عليه‌السلام في القناعة : « من قنع بما قسم الله فهو من أغنى الناس .. » (٣).

__________________

(١) الخصال ، ص ٢٤٥.

(٢) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٣٠٤. والفصول المهمة ، ص ١٨٧.

١٣٦

القناعة في الإسلام من أسمى الصفات الإنسانية ، والرجل القنوع يستريح من هموم الدنيا ويرجئها إلى الله عز وجل والقناعة كنز لا يفنى ، ومن قنع بما قسم الله هو من أغنى الناس وأعظمهم راحة وأقلهم هما.

لكن هناك من لا يقنع بما وصل إليه بل يجد بكل ما أعطي من قوة للاستزادة والافادة. من هذه الشريحة الاجتماعية طلاب العلم وطلاب المال فهم دائما في طلب الزيادة. وقد وصفهم أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (ع) فقال : « منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال ».

تحف من بعض علومه :

كان الإمام زين العابدين من أوسع الناس علما ، ومن أكثرهم دراسة في جميع العلوم والفنون. وقد ورث هذه العلوم عن آبائه الذين ورثوا علوم النبي المصطفى (ص) ونشروها في جميع أنحاء الأرض فكانت نورا يهتدي بها جميع الناس من قريب وبعيد. فعلوم الإمام السجاد (ع) تعد امتدادا ذاتيا لعلوم آبائه. وقد روى العلماء والرواة عنه ما لا يحصى من العلوم (١). وسوف نعرض بعض علومه ومعارفه ، كان يلقيها محاضرات على العلماء والفقهاء وطلاب العلم من تلامذته.

في رحاب القرآن :

كان الإمام السجاد (ع) شغوفا بتلاوة القرآن الكريم لأنه يجد فيه متعة خاصة لا تعد لها أي متعة. قال عليه‌السلام : « لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي » (٢).

كما كان (ع) من أحسن الناس صوتا في تلاوة القرآن الكريم فلا يكاد

__________________

(١) الإمام زين العابدين لباقر شريف القرشي ، ص ٥.

(٢) البحار ، ج ٤٦ ، ص ١٠٧.

١٣٧

يسمعه أحد إلا ويتأثر به ، يقول الرواة : « إن السقائين الذين يمرون ببابه كانوا يقفون لاستماع صوته » (١).

ولا ريب أن الإمام السجاد (ع) لم يقرأ القرآن الكريم قراءة عابرة ، وإنما كان يتلو آياته بتدبر وإمعان ، ويتأمل تأملا هادئا بما انطوت عليه من كنوز الحكمة وأنوار المعرفة. وهو القائل (ع) : « آيات القرآن خزائن كلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها » (٢).

وعندما يختم القرآن الكريم كان يدعو الله مبتهجا بهذا الدعاء الشريف :

« اللهم إنك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نورا وجعلته مهيمنا على كل كتاب أنزلته ، وفضلته على كل حديث قصصته ، وفرقانا فرقت به بين حلالك وحرامك وقرآنا أعربت به عن شرائع أحكامك ، وكتابا فصلته لعبادك تفصيلا ، ووحيا أنزلته على نبيك محمد صلواتك عليه وآله تنزيلا ، وجعلته نورا نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه ، وشفاء لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه ، وميزان قسط لا يحيف (٣) عن الحق لسانه ، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه ، وعلم نجاة لا يضل من أمّ قصد سنته ، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته. ويتابع دعاءه (ع) :

اللهم فإذا أفدتنا المعونة على تلاوته ، وسهلت جواسي (٤) ألسنتنا بحسن عبادته فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته ، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته ، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه ، وموضحات بيناته ، اللهم إنك أنزلته على نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وألهمته علم عجائبه مكملا ، وورثتنا علمه مفسرا ، وفضلتنا على من جهل علمه ، وقويتنا عليه

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦١٦.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٦٠٢.

(٣) لا يحيف : لا يميل.

(٤) الجواسي : جمع جاسية وهي الغليظة والمراد غلاظ الألسنة.

١٣٨

لترفعنا فوق من لم يطق حمله.

اللهم فكما جعلت قلوبنا له حملة ، وعرفتنا برحمتك شرفه وفضله ، فصل على محمد الخطيب به ، وعلى آله الخزان له ، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك حتى لا يعارضنا الشك في تصديقه ، ولا يختلجنا الزيع عن قصد طريقه » (١).

تحدث سليل النبوة عن القرآن المعجزة الكبرى فقال (ع) : إن الله عز وجل أنزل كتابه هذا نورا يهدي به الضالين إلى الصراط المستقيم ويوضح به القصد لكل المؤمنين ويرشد به الحائرين إلى سواء السبيل.

كما جعله سبحانه وتعالى مهيمنا على جميع الكتب التي أنزلها على أنبيائه المرسلين وما حدث فيها من تبديل وتحريف من قبل دعاة الضلال والمنحرفين.

يعتبر القرآن الكريم منهجا عاما للحياة الحرة الكريمة ، ودستورا شاملا يفرق بين الحق والباطل ( فرقان ) ويعرب عن شرائع الأحكام مفصلا جميع ما يحتاجه الناس تفصيلا كاملا لا لبس فيه ولا غموض.

إن الذكر الحكيم أنزل وحيا على الرسول الأمين من رب العالمين بالقسط والعدل بعيدا عن المصالح الشخصية والأغراض الدنيوية الرخيصة.

ثم طلب الإمام السجاد (ع) من الله تعالى أن يتفضل عليه برعاية كتابه والتسليم لمحكم آياته ، والإقرار بمتشابهاته.

وأخيرا منح الله سبحانه وتعالى رسوله الأعظم خاتم النبيين عجائب ما في كتابه المعجزة من أسرار ، فألهمه القدرة على شرحه وتفسيره ، كما أشاد بأئمة الهدى من العترة الطاهرة الذين رفعهم الله وأعلى درجتهم ، فجعلهم خزنة علمه ، وقيضهم أعلاما يقتدى بهم ويقتص أثرهم ، وبذلك

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٠٢.

١٣٩

كله حياة الدين وقوام الصالح العام والسعادة الكبرى للناس أجمعين.

وهذه نماذج من تفسيراته لبعض آيات من القرآن الكريم :

١ ـ أثر عنه أنه سئل (ع) عن تفسير الآية الكريمة : ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) [ المزمل : الآية ٤ ]. فأجاب : بيّنه في تلاوته تبيينا ولا تنثره نثر البقل ، ولا تهذه هذي الشعر ، قفوا عند عجائبه لتحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.

٢ ـ روى الإمام الصادق (ع) عن جده الإمام زين العابدين (ع) تفسير الآية الكريمة ( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) [ التوبة : الآية ١٠٥ ].

قال (ع) : ويأخذ الصدقات ، إني ضامن على ربي تعالى أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب تعالى ... وكان يقول : ليس من شيء إلا وكل به ملك ، إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله.

٣ ـ وسئل (ع) عن تفسير الآية الكريمة : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) [ البقرة : الآية ٢٠٨ ]. السلم هو ولاية الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) (١). ولا ريب أن عهد أمير المؤمنين ، باب مدينة العلم ، هو السلم الحقيقي الذي ينعم الناس في ظلاله بالأمن والرخاء والعدل والاستقرار ، ولو أن المسلمين دانوا بعهده (ع) بعد وفاة النبي (ص) لما أصابهم أي مكروه ولما داهمتهم أية أزمات في حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية والقضائية. لكن أكثر المسلمين آثروا الحياة الدنيا وعزتهم المناصب حتى حدث ما حدث.

٤ ـ وسئل عليه‌السلام عن تفسير الآية الكريمة : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ) [ الزمر : الآية ٦٩ ]. فأجاب الإمام

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ١٢٩.

١٤٠