بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

إرادة سد باب العدم من ناحية عدم الخطاب نفسية كما أشرنا وبلحاظ الإرادة النفسيّة يلزم التضاد فانَّ مشكلة التضاد انما تكون بلحاظ إرادة الفعل النفسيّة كما هو واضح لا بلحاظ الإرادة الغيرية لسد أبواب العدم من قبل المولى بجعل الخطابات.

وثالثاً ـ وهو يرجع إلى الثاني روحاً ـ انَّ إرادة سد باب العدم من ناحية عدم الخطاب الواقعي امّا أنْ تكون إرادة غيرية أي قبلها إرادة أو انها تمام الإرادة في نفس المولى ، فعلى الأول عرفت محذور التضاد وعلى الثاني فهذا يتحقق بمجرد جعل الخطاب الواقعي فانه به يكون عدم الامتثال من ناحية عدم جعل الخطاب الواقعي ممتنعاً لا محالة فيكون تمام المراد نفس جعل الخطاب لا فعل المكلف.

ورابعاً ـ انَّ لصدور المرام خارجاً باباً واحداً دائماً يسده المولى لأنَّ المكلف اما أَنْ يعلم بالخطاب الواقعي أو لا فالمكلف العالم ليس له إلا باب عدم جعل الخطاب الواقعي وامّا جعل الخطاب الظاهري فلا أثر له بالنسبة إليه والمكلف الشاك ليس له أيضاً إلا باب عدم جعل الخطاب الظاهري بالاحتياط وامّا جعل الخطاب الواقعي فعدمه لا يوجب عدم المرام فليس هناك بابان للعدم ليقال أحدهما سده تحت الطلب دون الاخر.

والصحيح في كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية يتوقف بيانه على رسم مقدمات جملة من نكاتها قد تقدم البحث عنها عرضا وبالمناسبة إلا انَّ موضعها الرئيسي المقام فنقول :

المقدمة الأولى ـ انَّ الغرض سواءً كان تكوينياً أو تشريعياً إذا أصبح مورده معرضاً للاشتباه والتردد فانْ كان بدرجة بالغة من الأهمية بحيث لا يرضى صاحبه بتفويته فسوف تتوسع دائرة محركيته فتكون أوسع من متعلق الغرض الواقعي ، فمثلاً لو تعلق غرض تكويني بإكرام زيد وتردد بين عشرة وكان الغرض بمرتبة لا يرضى صاحبه بفواته فلا محالة سوف يتحرك في دائرة أوسع فيكرم العشرة جميعاً لكي يحرز بلوغ غرضه ، وهذه التوسعة أمر وجداني لا ينبغي النزاع فيه وهي توسعة في المحركية وفاعلية الغرض والإرادة لا في نفسهما بل الغرض والحب والإرادة باقية على موضوعها الواقعي وهو إكرام زيد لا غيره إذ لا غرض نفسي في إكرام غيره ليتعلق شوق أو إرادة به ولا

٢٠١

هو مقدمة لوجود المراد وهو إكرام زيد لتتعلق الإرادة الغيرية به. ومرجع ذلك إلى انَّ نفس احتمال الانطباق منشأ لمحركية الإرادة المتعلقة بالمطلوب الواقعي كالقطع به لشدة أهميته ونفس الشيء صادق في حق الغرض التشريعي الّذي يكون صاحب الغرض وهو المولى ومتعلق غرضه فعل مأموره فانه إذا كان غرضه بدرجة عالية من الأهمية بحيث لا يرضى بفواته حتى مع التردد والاشتباه فسوف يوسع دائرة محركية غرضه من دون أَنْ تتوسع دائرة نفس الغرض بمبادئه وتكون توسعة دائرة المحركية هنا بمعنى جعل الخطابات تحفظ الغرض الواقعي بأي لسان كان من الألسنة ، فانَّ ذلك لا يغير من جوهرها شيئاً فانَّ روحها عبارة عن خطابات تبرز بها شدة اهتمام المولى بغرضه الواقعي بدرجة لا يرضى بفواته مع التردد والاشتباه. وبهذا يكون منجزاً على العبد عقلاً ورافعاً لموضوع البراءة والتأمين العقلي على القول به لأنه مشروط كما تقدم سابقاً بعدم إحراز أهمية غرض المولى بالنحو المذكور.

وهذا يعني انَّ الخطاب الموسع الّذي هو الخطاب الظاهري ليس على طبقه غرض في متعلقه ولكنه مع هذا ليس بمعنى انَّ المصلحة في نفس جعله كما تقدم في بعض الوجوه السابقة بل هذه الخطابات خطابات جدية وتحريكات مولوية حقيقة يراد بها التحفظ على الغرض الواقعي المهم في نظر المولى ولهذا تكون رافعة لقاعدة البراءة العقلية على القول بها ، وهذا بخلاف التصوير المشار إليه حيث قلنا ان مثله لا يكون منجزاً عقلاً ، لأنَّ التنجيز لا يكون بأكثر من تنزيل العبد نفسه منزلة جارحة للمولى فإذا كان على هذا التقدير هناك تحرّك من قبل المولى كان هناك تنجز وتحرك من قبل العبد وإلاّ فلا ، وفي التصوير المذكور لا تحرّك منه لأنَّ المفروض تحقّق الغرض بنفس جعل الخطاب بخلافه على هذا التصوير فانَّه قد أشرنا إلى كيفيّة توسّع دائرة المحركية التكوينية في موارد الاشتباه والتردد.

وقد يتوهم : انَّ الغرض إذا فرض تكوينياً فما معنى التوسع في محركيته من دون توسع في نفس الغرض والإرادة مع انَّ الأفعال الصادرة خارجاً كلها صادرة بالاختيار لا بالقسر فلا بدَّ من الالتزام بوجود إرادات متعددة بتعددها فيكون هناك توسع في الغرض والإرادة لا محالة غاية الأمر انَّ هذه الإرادات لا تكون نفسية بل طريقية.

٢٠٢

والجواب ـ إنْ أُريد بالإرادة المعنى الفلسفي المعبر عنه بالشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات فنحن لا نسلم انَّ الفعل الاختياري يصدر عن امر من هذا القبيل وانما يصدر عن إعمال القدرة والسلطنة وما أكثر ما يصدر الفعل الاختياري من الإنسان وهو غير مشتاق إليه أصلاً بل مبغوض لديه وإِنْ أُريد نفس صدور الفعل باختيار الإنسان فهذا هو معنى توسع دائرة المحركية مع كون مصب الغرض والحب هو المطلوب الواقعي فحسب.

المقدمة الثانية ـ انَّ التزاحم بين حكمين على ثلاثة أقسام :

١ ـ التزاحم الملاكي وهو فيما إذا افترض وجود ملاكين في موضوع واحد أحدهما يقتضي محبوبيته والأخرى يقتضي ما ينافيها ويضادها كالمبغوضية مثلاً فيقع التزاحم الملاكي بمعنى انه يستحيل أَنْ يؤثر كل منهما في مقتضاهما لمكان التضاد بينهما ومن خصائص هذا التزاحم انه لا يكون إِلاَّ في موضوع واحد وإِلاَّ لم يكن هناك اجتماع الضدين فلو كان كل من الملاكين في موضوع أو حيثية تقييدية غير موضوع الاخر فلا محذور في تأثيرهما معاً في إيجاد الحبّ والبغض. وكذلك من أحكام هذا التزاحم تأثير أقوى المقتضيين بعد الكسر والانكسار في إيجاد مقتضاه وحينئذٍ يكون مقتضاه فعليّاً ومقتضى الآخر ساقطاً مطلقاً.

٢ ـ التزاحم الامتثالي ـ وهو ما إذا كان الملاكان في موضوعين وفعلين إِلا انه للتضاد بينهما لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال فهذا التزاحم انما هو في مرحلة الامتثال الناشئ من ضيق القدرة على الجمع والقدرة تكون دخيلة في التحريك والأمر ولا يشترط وجودها في المحبوب أو المبغوض ومن هنا تكون مبادئ الحكم من الحب والبغض فعلية في موارد هذا السنخ من التزاحم ما لم يفرض دخل القدرة في الملاك والغرض نفسه.

٣ ـ التزاحم الحفظي ـ وذلك فيما إذا فرض عدم التزاحم الملاكي لتعدد الموضوع وعدم التزاحم الامتثالي لإمكان الجمع بين مصب الغرضين والفعلين المطلوبين واقعاً وانما التزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند الاشتباه واختلاط موارد أغراضه الإلزامية والترخيصية أو الوجوبية والتحريمية فانَّ الغرض المولوي يقتضي

٢٠٣

الحفظ المولوي له في موارد التردد والاشتباه بتوسيع دائرة المحركية بنحو يحفظ فيه تحقق ذلك الغرض فإذا فرض وجود غرض آخر في تلك الموارد فلا محالة يقع التزاحم بين الغرضين والمطلوبين الواقعيين في مقام الحفظ حيث لا يمكن توسعة دائرة المحركية بلحاظهما معاً فلا محالة يختار المولى أهمهما في هذا المقام. ومن هنا يعرف انَّ هذا التزاحم بين الغرضين والملاكين ليس بلحاظ تأثيرهما في إيجاد الحب والبغض لأنهما متعلقان بموضوعين واقعيين متعددين ولا بلحاظ تأثيرهما في الإلزام الواقعي بهما بقطع النّظر عن حالة الاشتباه والتردد لأنهما بوجوديهما الواقعيين مما يمكن الجمع بينهما بل بلحاظ تأثيرهما في توسيع دائرة المحركية من قبل المولى وحفظه التشريعي لكل منهما بالنحو المناسب له.

المقدمة الثالثة ـ انَّ الترخيص على قسمين فتارة يكون ناشئاً من عدم المقتضي في الإلزام ، وأخرى يكون ناشئاً من المقتضي في الإباحة وإطلاق العنان ، بمعنى انَّ هناك مصلحة في أَنْ يكون العبد مطلق العنان من قبل مولاه وإِنْ كان كل من الفعل والترك خالياً عن مصلحة. وحينئذٍ يقع السؤال عن هذا الأخير وانه هل يعقل التزاحم بينه وبين مقتضي الإلزام؟ وبأي قسم من اقسامه؟

والجواب : انه يعقل التزاحم الملاكي والحفظي بينه وبين مقتضي الإلزام دون التزاحم الامتثالي إذ لا امتثال للترخيص ليقع التزاحم بينه وبين الإلزام.

وعلى ضوء هذه المقدمات الثلاث نستخلص النتيجة المرجوة في المقام فنقول : انه تارة يكون الحكم الظاهري إلزامياً والواقعي ترخيصياً كما لو أوجب المولى الاحتياط في قسم من الشبهات بأي لسان كان وأخرى يفرض العكس وفي كليهما لا محذور.

امّا في القسم الأول فلأنَّ مرجعه إلى انَّ المولى حينما يشتبه على عبيده أحكامه الإلزامية ولا يوجد طريق لرفع هذا الاشتباه له أو لا مصلحة في ذلك فلا محالة يحفظ أغراضه الإلزامية الواقعية بتوسعة دائرة المحركية لها فيجعل حكماً ظاهرياً إلزامياً روحه عبارة عن إيجاب الاحتياط نتيجة شدة اهتمامه بأغراضه الواقعية الإلزامية وعدم رضاه بفواته حتى في حالات الشك والاشتباه بالمباحات الواقعية من دون أَنْ يلزم من ذلك اجتماع الضدين في مورد المباح الواقعي ولا المثلين في مورد الحرمة الواقعية ، لما قلناه في

٢٠٤

المقدمة الأولى من انه لا توسعة في غرضية الغرض بمبادئه بل متعلقه هو الأمر الواقعي وليست هذه الخطابات إِلاَّ توسعة في المحركية لذلك الغرض المنصب على متعلقه الواقعي ، كما انَّ تقديم الغرض الإلزامي لأهميته لا يعني زوال الأغراض الواقعية الترخيصية أو غيرها المخالفة مع الغرض الإلزامي الّذي رجحه المولى ذاتاً وانما يعني زوال حفظها التشريعي بتوسيع دائرة محركيتها ظاهراً لعدم أهميتها في قبال الأغراض الإلزامية المرجَّحة كما تقدم في المقدمة الثانية فلا منافاة بين هذه التوسعة في المحركية والأغراض الواقعية في مورد المخالفة.

واما في القسم الثاني فلعين ما تقدم في القسم الأول بإضافة نكتة انَّ الأحكام الترخيصية الواقعية في هذا القسم لا بدَّ وأَنْ تكون عن مقتضٍ للترخيص وأَنْ يكون العبد مطلق العنان من قبل مولاه ولا يكفي مجرد عدم المقتضي للإلزام فانَّ الحكم الترخيص الناشئ عن عدم المقتضي للإلزام لا يمكنه أَنْ يزاحم مقتضي الإلزام ، فدليل جعل الحكم الظاهري الترخيصي بنفسه يدل على وجود أغراض ترخيصية اقتضائية من هذا القبيل. وكذلك الحال فيما إذا جعل حكم ظاهري إلزاميّ في مورد حكم واقعي إلزاميّ مخالف.

وقد ظهر من مجموع ما تقدم معنى قولنا انَّ الغرض إذا كان بدرجة من الأهمية فيستدعي من المولى حفظه عند الاشتباه بتوسيع دائرة محركيته فانَّ درجة الأهمية هذه يراد بها ما إذا كان حفظه التشرعي أهم من حفظ الغرض الاخر.

ومن هنا يعرف بأنَّ هناك فعليتين للغرض الواقعي ، فعلية بقطع النّظر عن التزاحم الحفظي وفي هذه الفعلية يكون الغرض الواقعي بمبادئه من الحب والبغض والإرادة فضلاً عن الملاك محفوظاً في متعلقه الواقعي ، وفعلية أخرى بلحاظ التزاحم الحفظي وتعني فعلية المحركية لأحد الغرضين في موارد الاشتباه والتزاحم الناشئ منه التي لا تكون إلاّ لأهم الغرضين الفعليين بالفعلية الأولى. وغاية ما يدل عليه دليل القائل ببطلان التصويب هو اشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية الفعلية بالمعنى الأول أي اشتراكهما في المصالح الواقعية والحب والإرادة فضلاً عن الجعل والاعتبار.

٢٠٥

ثم انَّ ما ذكره صاحب الكفاية ( قده ) من وجود فعليتين للحكم الواقعي يمكن أَنْ يراد به هذا المعنى وإِنْ كان تعبيره قاصراً عنه.

وهذا الّذي ذكرناه في وجه الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية واضح جداً في فرض انسداد باب العلم واما إذا فرضنا انفتاح بابه وإمكان سعي المكلف للوصول العلمي إلى الواقع فلا بدَّ لتصوير وقوع التزاحم الحفظي حينئذٍ من فرض عناية زائدة هي أَنْ يفرض وجود مصلحة في أَنْ يكون العبد مطلق العنان من ناحية السعي والتعلم فيحكم بالترخيص من دون السعي حفاظاً على مصلحة إطلاق عنان العبد من ناحيته.

ثم انه يمكن أَنْ يستشكل على هذا الوجه للجمع بأحد إشكالين :

الأول ـ انَّ الخطابات الواقعية انما تصدر بداعي المحركية والباعثية وليست مجرد ملاكات وأغراض أو حب وبغض فالعلّة الغائبة من الأحكام انما هو الانبعاث والتحرك من المكلفين ، وحينئذٍ يقال بأنَّ جعل الحكم الظاهري المخالف يكون نقضاً لهذا الغرض من هذه الناحية وإِنْ لم يكن نقضاً للغرض من ناحية مبادئ الحكم.

وإِنْ شئت قلت : انَّ الحكم الواقعي لا يراد منه مجرد الحب والبغض بل ذلك زائداً المحركية والباعثية فالخطاب الواقعي بمعنى الحب والبغض المحركين لا يمكن أَنْ يجتمع مع الحكم الظاهري المخالف له.

والجواب عليه ـ انَّ داعي المحركية والباعثية له أحد معان أربعة :

١ ـ داعي المحركية الفعلية. وهذا لا يحتمل أَنْ يكون دخيلاً في حقيقة الحكم الواقعي لأنه لا يناسب مع توجيه الخطاب إلى العامي الّذي يعلم بأنه لا يتحرك بالفعل خارجاً فلو كان الحكم كذلك لزم تخصيصه بالمطيع وهو واضح الفساد.

٢ ـ داعي المحركية الفعلية بضم قانون العبودية أي تسجيل الانبعاث عقلاً على العبد كيف ما اتفق. وهذا أيضاً غير محتمل لاقتضائه اختصاص الخطابات بغير موارد العذر العقلي كموارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان لو قيل به أو القطع بالخلاف أو الغفلة والنسيان ، إذ في هذه الموارد لا يعقل تسجيل الانبعاث على العبد مع انه لا إشكال في إطلاق الخطابات لجميع هذه الموارد عندنا ولغير الأخيرين عند الجميع مما يعني انَ

٢٠٦

الداعي العقلائي من الأحكام أوسع من المقدار المذكور.

٣ ـ داعي المحركية من قبل المولى أي إيجاد تمام ما يكون بيد المولى في مقام تحريك العبد من التصدي المولوي لتحصيل مرامه بقطع النّظر عن التأمينات والاعذار العقلية.

فالداعي هو أَنْ لا يكون هناك قصور في الحجة من قبل المولى.

وبناءً على هذا المعنى يكون جعل الحكم الظاهري نقضاً للغرض لأنَّ معناه القصور في المحركية من قبل المولى في موارد الحكم الظاهري وإِنْ كان محفوظاً وغير قاصر في موارد التأمينات العقلية من دون حكم ظاهري مولوي.

٤ ـ إِلاّ أنَّ الصحيح بطلان هذه الفرضية أيضا لأنَّ أدلة الأحكام والخطابات الواقعية الأولية لا يستفاد منها أكثر من داعي التحريك والباعثية بلحاظ صلاحية نفس ذلك الخطاب وبقطع النّظر عن العوامل الطارئة من التزاحمات وجعل التأمينات الشرعية ، وهو الّذي عبرنا عنه بالفعلية الأولى. وهذا هو الاحتمال الرابع لداعي المحركية والباعثية وهو محفوظ حتى مع جعل الحكم الظاهري على الخلاف.

الثاني ـ اننا حينما نصور ثبوت الأحكام الواقعية في مورد الحكم الظاهري لا بدَّ وأَنْ نصورها بنحو تكون صالحة للدخول في العهدة بحيث تكون متنجزة في نفسها بحكم العقل لا مجرد ملاك ومصلحة من دون صلاحية الدخول في العهدة عقلاً في نفسه فانَّ مثل هذا لا يكون حكماً مولوياً وفي المقام وإِنْ استطعنا تصوير انحفاظ ذات الأغراض الواقعية إِلاّ انها باعتبار كونها مزاحمة بالأغراض الترخيصية الأهم أو المساوية معها بحسب الغرض فيكون من موارد الكسر والانكسار بين الأغراض الواقعية المتزاحمة ، وبعد ترجيح جانب الغرض الترخيصي لا يكون الغرض الإلزامي حكماً بل مجرد ملاك ومصلحة غير قابلة للتنجز والدخول في العهدة عقلاً فلم يثبت اشتراك العالم والجاهل في الحكم حقيقة بل في مجرد الغرض والمصلحة وهذا هو ما تقدم الإشكال عليه في الوجه الّذي ذكرناه عن الكفاية.

فانْ قلت : كيف والمفروض انَّ الأغراض الواقعية الإلزامية إذا وصلت إلى المكلف فسوف تتنجز عليه فهي صالحة للمنجزية.

قلت : انها انما تتنجز في هذه الحالة لأنه بالعلم بها تخرج عن باب التزاحم ويزول

٢٠٧

مزاحمها فتتبدل موضوعاً وهذا واضح.

والجواب : انَّ هذا خلط بين التزاحم الملاكي والتزاحم الحفظي وافتراض انَّ الأغراض اللزومية مبتلاة بالمزاحمة مع الأغراض الترخيصية بمعنى وجود غرض في إطلاق عنان المكلف في نفسه ولو بحكم العقل بينما المدعى ومزاحمتها مع غرض ترخيصي بمعنى إطلاق عنانه من قبل المولى بحيث لا يتحقق لو فرض كونه مرخصاً بحكم عقله نتيجة جهله أو عذر عقلي اخر لأنَّ مثل هذا الترخيص غير مستند إلى المولى والغرض الترخيصي انما هو في إطلاق عنانه من قبل مولاه بحيث يقال انَّ شريعته سمحاء سهلة مثلاً ومثل هذا الغرض الترخيصي لا يمكن حفظه إلاّ من قبل المولى نفسه بمعنى انَّه إذا لم يجعل الترخيص وإطلاق العنان ولو لتساوي الغرضين في نظره فالعبد لا يمكنه أَنْ يحقق هذا الغرض بعد ذلك مهما كان وضعه ويكون الغرض اللزومي متنجزاً لا محالة إذ في تفويته حينئذٍ فوات الغرضين معاً فلا يقاس بموارد مزاحمة الغرض اللزومي مع غرض آخر ترخيصي أو تحريمي في نفس الفعل يتحقق بفعل العبد الّذي هو من موارد التزاحم الملاكي.

لا يقال : هذا الترخيص وإطلاق العنان يكون على هذا التقرير من سنخ الحكم المجعول لمصلحة في نفس جعله وقد تقدم الإشكال في معقوليته.

فانه يقال : ليس الغرض وجود مصلحة في نفس جعل الترخيص من قبل المولى بل في كون المكلف مرخصاً ومطلق العنان بالحمل الشائع المستند إلى جعل المولى وتشريعه لا إلى حكم عقله فالمصلحة في واقع إطلاق العنان لا في مجرد جعله وهذا واضح.

ثم انَّ الحكم الظاهري بالتفسير المذكور كما يعقل في باب اشتباه الأحكام والأغراض الإلزامية للمولى كذلك يعقل في اشتباه الأغراض الواقعية غير الإلزامية كالاستحباب والكراهة فلو دار الأمر بين أَنْ يكون شيء مستحباً أو مباحاً بالمعنى الأخص أو مكروهاً أو مباحاً أمكن جعل حكم ظاهري يحفظ أحد الغرضين الواقعيين الأهم فقد يرجع الغرض الإباحتي بالمعنى الأخص فيحكم بالإباحة ظاهراً وقد يرجح الغرض الاستحبابي أو الكراهتي فيحكم بالاستحباب أو الكراهة ظاهراً. ومرجع

٢٠٨

الأول نفي اشتغال عهدة المكلف من قبل المولى بالمقدار المناسب والمعقول للأغراض غير اللزومية من إشغال العهدة ومرجع الثاني إلى إدخال ذلك الغرض غير اللزومي في العهدة بالنحو المناسب له.

وبهذا ظهر وجه اندفاع القول بأنَّ جعل الحكم الظاهري في موارد اشتباه الأغراض غير اللزومية غير معقول لأنه إِنْ أُريد به دفع العقاب فهو مقطوع العدم وإِنْ أُريد به نفي حسن الاحتياط فهو مقطوع الثبوت على كل حال. فانَّ هذا خلط بين نفي الاحتياط العقلي وبين نفي إشغال الذّمّة من قبل المولى المقتضي لتوقع صدور الفعل من عبده بالمقدار المناسب مع مثل هذه الأغراض المولوية الثابتة في موارد العلم بها.

ثم انَّ هذا الوجه للجمع واضح بناءً على الطريقية في حقيقة الأحكام الظاهرية بأن يفترض خلوها عن مبادئ واقعية غير الأغراض الواقعية.

وامّا على السببية والموضوعية التي تفترض وجود مبادئ لنفس هذه الأحكام الظاهرية فلا مخلص عن شبهة وقوع التضاد بين مباديها ومبادئ الأحكام الواقعية.

وهناك محاولة لتخريج الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية حتى على السببية والموضوعية مبتنية على الاستفادة من بعض ملاكات القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وهو المسلك القائل بكفاية تعدد العنوان لدفع غائلة الاجتماع لكون مصبّ الأحكام انَّما هو العناوين في عالم الذهن بما هي حاكية عن الخارج لا المعنونات فمعروض المصلحة والغرض وإِنْ كان هو المعنون إِلاّ انَّ معروض الحكم هو العنوان بالحمل الأوّلي الّذي يرى به كأنَّه الخارج وهو متعدد واتّصاف المعنون الخارجي بالمطلوبية أو المحبوبيّة والمبغوضية انَّما هو بالعرض والعناية لا بالحقيقة ، وعلى هذا فيجوز اجتماع الأمر والنهي على موجود واحد خارجي بعنوانين كما إذا تعلّق الأمر بالجنس والنهي بالفصل رغم انَّ التركيب بينهما في الخارج اتّحادي.

وعلى ضوء هذا المسلك في بحث الاجتماع نذكر المحاولة المذكورة بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ انَّ المصلحة والملاك في الحكم الظاهري بناءً على السببية ليست قائمة في نفس الفعل بعنوانه الأولي المتعلق للحكم الواقعي ومبادئه كصلاة الجمعة مثلاً بل قائمة بعنوان آخر كعنوان اتباع الأمارة وسلوكها فلا يلزم اجتماع الحكمين الضدين

٢٠٩

في عنوان واحد وامّا التلازم والتزاحم بين الملاكين للتلازم بين العنوانين خارجاً بحسب الفرض فانما يكون بين التكليفين الواصلين لا بينهما بوجوديهما الواقعيين فيمكن أَنْ تكون صلاة الجمعة حراماً مثلاً واقعاً وتقوم الأمارة على وجوبها فيصبح سلوكها واجباً ظاهراً ولا منافاة بينهما بعد فرض عدم وصولهما معاً لتقيد الحكم الظاهري بعدم وصول الواقعي.

وهذا التقريب لئن تم في مثل موارد كون الحكم الظاهري إلزامياً كالحكم الواقعي المحتمل فهو لا يتم في مورد الحكم الظاهري الترخيصي كما إذا فرض قيام الأمارة على الترخيص والإباحة لأنَّ مصب هذه الإباحة الظاهرية وموضوعها إِنْ كان نفس العنوان المتعلق به الحكم الواقعي فهو ممتنع للتضاد بحسب الغرض وإِنْ كان عنواناً اخر فجعل الإباحة فيه لا يمكن أَنْ يزاحم الحكم الواقعي الإلزامي لأنَّ الإلزام لا يمكن أَنْ يزاحمه الترخيص لكي يؤمن عنه عقلاً فجعل هذه الإباحة ليس بأكثر من جعل الإباحة الواقعية على عنوان ملازم مع الواجب الواقعي الّذي لا يكون مزاحماً بوجه مع اللزوم ، فجعل مثل هذه الإباحة لا يستلزم تأميناً عن الوجوب الواقعي كما في جعل الحرمة الظاهرية من قبله المستلزم لذلك عقلاً لكونه منعاً من قبل المولى.

التقريب الثاني ـ أَنْ نتصور الحكم الظاهري بمبادئه الحقيقية في نفس العنوان الأولي المتعلق به الحكم الواقعي ومع ذلك لا يلزم محذور التضاد. وقد أفاد المحقق العراقي ( قده ) في تصوير ذلك بياناً غريباً ويمكن توضيحه من خلال النقاط التالية :

١ ـ انَّ الغرض بحسب الخارج وإِنْ كان دائماً في طول معروضه ومتأخراً عنه رتبة إِلاّ انه بحسب عالم الذهن واللحاظ يمكن أَنْ يلحظ كذلك أيضاً فيكون على وزان الخارج ومطابقاً له ، ويمكن أَنْ يلحظ الموصوف متأخراً عن وصفه وفي طوله وذلك بالرجوع إلى ما لاحظه أَولاً من المقيد فيلحظه مرة أخرى في طول تقيده بصفته وهذا شيء من شأن الذهن فقط باعتبار قدرته على الرجوع ثانية إلى ما لاحظه أولا. ومثل هذا المعروض ، أي الذات الملحوظة يكون متأخراً عن الذات الملحوظة باللحاظ الأول فتكون هناك ذاتان ملحوظتان للذهن بحسب النّظر التصوري.

٢ ـ انَّ الحكم إذا كان متعلقاً بالموصوف على نحو التقييد في النسبة الناقصة فلا

٢١٠

يكون ملحوظاً إِلاَّ باللحاظ الأول أي في المرتبة السابقة على وصفه لعدم رجوع الذهن إلى الذات الموصوفة مرة أخرى. وامّا إذا كان متعلقاً به على نحو الشرطية والنسبة التامة بأنْ قيل مثلاً إذا كان الخمر مشكوك الحرمة جاز شربه فهنا قد أخذ في موضوع الحكم الذات باللحاظ الثاني المتأخر عن وصفه.

٣ ـ انَّ الأحكام الظاهرية إذا افترضناها مجعولة على نحو القضية الشرطية كما هو المستفاد من أدلتها كان معروضها الذات الملحوظة في المرتبة الثانية المتأخرة عن الوصف والموصوف الملحوظتين في موضوع الأحكام الواقعية ، وأحد الحكمين لا يمكن أنْ يشمل الذات المعروضة للحكم الاخر فلا تضاد بين الحكمين لتعدد مركز كل منهما في الذهن الّذي هو عالم عروض الحكم وإِنْ كان مصداقهما واحداً في الخارج.

وهذا التقريب غير تام كما هو واضح.

فانه يرد عليه :

نقضا : بأنه لو تم أمكن الحكم باجتماع الحكمين الواقعيين المختلفين وذلك بأخذ اتصاف الموضوع بأحدهما بنحو الشرطية في موضوع الاخر فيقال إذا كان الخمر مباحاً فهو حرام وإذا كانت صلاة الجمعة واجبة فهي محرمة ولا محذور لتعدد الذات الملحوظة معروضة لكل من الحكمين مع وضوح بطلان ذلك.

وحلاًّ ـ انَّ التغاير المذكور مجرد تغاير في كيفية اللحاظ دون تغاير في الملحوظ بذلك اللحاظ نظير التغاير بين الإنسان والحيوان الناطق أي الحد مع المحدود المتغايران بالإجمال والتفصيل في الصورة الذهنية اللحاظية عقلاً مع وحدةِ الملحوظ بهما ذاتاً ، وذلك ببرهان انَّ الطولية المذكورة في اللحاظ بالنحو المذكور لو كانت قيداً في الملحوظ لاستحال انطباقه على الخارج لأنَّ الذات التي تكون في طول وصفه يستحيل أَنْ تتحقق في الخارج فهذا القيد من شئون اللحاظ فحسب ولا إشكال انَّ هذا المقدار من التغاير لا يكفي لدفع غائلة التضاد بل لا بدَّ من تغاير الملحوظين بالذات أيضاً ولهذا لا يقبل مثل المحقق العراقي أَنْ يتعلق الوجوب بإكرام الإنسان والحرمة بإكرام الحيوان الناطق.

وهكذا يتضح بطلان هذا التقريب أيضاً وغرابته ، بل يكفي في غرابته وضوح انَ

٢١١

إمكان الحكم الظاهري لا يتأثر سلباً وإيجاباً بكون صياغته بنحو القضية الشرطية أو الوصفية.

وقد اتضح انه بناءً على الموضوعية لا مخلص عن محذور التضاد.

ومن مجموع ما تقدم يتضح وجه اندفاع شبهة نقض الغرض من إشكالات العقل النظريّ ، فانَّ الحكم الظاهري وإِنْ كان نقضاً للغرض الواقعي في مورد الخطإ إِلاَّ انه نقض لا ضعف الغرضين حفاظاً على أقواهما في مورد التزاحم ومثله ليس بمستحيل ولا قبيح بل هو المطابق مع حكمة المولى.

ثم انَّ هناك طرازاً آخر من الإشكال على الأحكام الظاهرية لم يتعرض له الاعلام وهو الإشكال في معقولية انحفاظ نفس الأحكام الواقعية في موارد الجهل بقطع النّظر عن جعل الحكم الظاهري المضاد أو المماثل فيها أي الإشكال في معقولية نفس الحكم الواقعي لا في كيفية الجمع بينه وبين الظاهري ، ويمكن تقريبه بإحدى صيغتين :

الصيغة الأولى ـ انَّ انحفاظ الحكم الواقعي واشتراك العالم والجاهل فيه غير معقول في بعض الموارد على الأقل كموارد القطع بعدم ذلك الحكم الواقعي لتقوم الحكم الواقعي بالمحركية والباعثية وهذه لو كانت معقولة في موارد احتمال الحكم الواقعي حيث يحسن الاحتياط فهي غير معقولة في موارد القطع بعدمه فثبوته واقعاً لا يكون قابلاً للمحركية ولو الاحتمالية الناقصة.

الصيغة الثانية ـ ما إذا فرض القطع وجداناً أو تعبداً بحرمة صلاة الجمعة فانه حينئذٍ لا يعقل ثبوته في الواقع لو كان لا من جهة محذور اللغوية وعدم المحركية بل لكونه تكليفاً بغير مقدور ، لأنَّ هذا الخطاب إِنْ كان امراً بإتيان الجمعة مع التحفظ على الوظيفة المنجزة على العبد كان من الأمر بالنقيضين وهو مستحيل لأنه يعتقد حرمتها بحسب الفرض ، وإِنْ كان يقتضي إتيانها بدلاً عن وظيفته المنجزة عليه فهو غير مقدور مولوياً وإِنْ كان مقدوراً تكويناً لأنه يلزم عليه عقلاً بقانون العبودية ترك صلاة الجمعة بحسب الفرض بل يمكن تعميم إشكال عدم القدرة في خصوص العبادات فيما إذا قطع بعدم المطلوبية والمشروعية ولو لم يقطع بالحرمة الذاتيّة لأنَ

٢١٢

الإتيان بالفعل بقصد القربة غير مقدور حينئذٍ تكويناً إِلاَّ على وجه التشريع المحرم وهو مناف للقربة أيضاً.

ويمكن تصوير نفس المحذورين في الصيغتين في بعض حالات الشك في الحكم الواقعي أيضاً وذلك فيما إذا فرض دوران الأمر بين المحذورين بأن احتمل المكلف الحرمة بنفس درجة احتماله للوجوب فانَّ ثبوت الحكم الواقعي كما إذا كان هو الوجوب غير معقول لأنه يستحيل محركيته في هذه الحالة حتى بالتحريك الناقص وهذا محذور الصيغة الأولى وكذلك يستحيل امتثاله إذا كان عبادياً وهذا محذور الصيغة الثانية.

والجواب عن الإشكال امّا بصيغته الأولى فاستحالة المحركية يمكن أَنْ يراد بها أحد أمور :

١ ـ انَّ الحكم الواقعي يستحيل ثبوته لأن حقيقة الحكم وروحه المحركية من قبل المولى فإذا استحال كان الحكم مستحيلاً.

وجوابه : انَّ التحريك من قبل المولى يتوقف على حيثيتين ، إحداهما تحت سلطان المولى وهي إشغال ذمة المكلف بالفعل بجعل خطاب يبرز فيه مبادئ الحكم بداعي إلقائه على عهدة العبد مهما كانت صياغته القانونية الاعتبارية أو اللفظية التعبيرية.

إِلاَّ انَّ هذه الحيثية لا تكفي وحدها للمحركية بل لا بدَّ من ضم حيثية ثانية إليها وهي وصول ذلك الاشغال للعهدة إلى المكلف بنحو يحكم العقل بتنجزه وقبح مخالفته وهذه الحيثية ليست تحت سلطان المولى بما هو مولى. وواضح انَّ ما هو مفاد الخطابات الواقعية والتي يدعي المخطئة انحفاظها واشتراكها بين العالمين والجاهلين انما هو الحيثية الأولى فقط لا الثانية فانها أجنبية عن مفاد الخطابات فضلاً عن كونه حقيقة الحكم وهذا المقدار أعني الحيثية الأولى محفوظة حتى في موارد القطع بالعدم. وإِنْ قيل بأنَّ هذا لا نسميه حكماً فذاك نقاش في اللغة وإِلاَّ فروح النزاع بين المخطئة والمصوبة راجعة إلى ثبوت إطلاق مفاد الخطابات الواقعية وعدمه ومفادها ليس إِلاَّ التحريك بمقدار الحيثية الأولى كما هو واضح.

٢ ـ انَّ الخطابات الواقعية من جملة مدلولاتها العرفية التصديقية انها صادرة بداعي

٢١٣

المحركية والباعثية فلا يعقل إطلاق مفادها لمن لا يعقل في حقه المحركية والباعثية.

والجواب : انَّ الداعي المذكور وإِنْ كنا نسلم كونه مدلولاً عرفياً تصديقياً للخطابات أيضاً إلا انَّ المدلول انما هو المحركية بمقدار ما يكون تحت سلطان المولى لا بالمقدار الخارج عنه والأكثر منه أي بمقدار الحيثية الأولى فقط وهي معقولة في موارد القطع بالعدم كما أشرنا فيكون إطلاق الخطابات الواقعية معقولة أيضاً. ومرجع ذلك إلى انَّ كل خطاب مجعول بداعي التحريك والتنجز لو وصل إلى العبد.

٣ ـ أَنْ يراد دعوى لغوية الإطلاق المذكور لأنَّ المحركية بمقدار الحيثية الأولى من دون ضمن الحيثية الثانية أي أثر لها؟.

والجواب : انَّ اللغوية انما تكون لو كان المولى قد تصدى لجعل الخطاب الواقعي في خصوص هذا المورد لا ما إذا كان بالإطلاق الّذي هو أخف مئونة من التقييد.

هذا مضافاً إلى إمكان فرض المصلحة في نفس إطلاق الخطاب بعد فرض تمامية الملاك في المتعلق بأنْ يكون إطلاق الخطاب فيه مصلحة صياغية قانونية لا يمكن توفيرها وتنظيم تمام محصولها وآثارها لو جعلت الخطابات الواقعية مقيدة. وامّا دعوى كفاية ترتب الأثر الشرعي على الإطلاق بلحاظ الإعادة والقضاء بعد انكشاف الخلاف في دفع اللغوية فهو يرجع إلى الجانب الصياغي كما يظهر بالتأمّل.

وبهذا يتضح الجواب على الصيغة الثانية للإشكال من لزوم التكليف بغير المقدور فانَّ التكليف حينما يكون محركاً يكون تكليفاً بالمقدور وذلك حينما تتوفر الحيثية وهي وصولها إلى المكلف وكونه من دونها غير مقدور لا يضر به لأنه ليس محركاً بالفعل ليكون تحريكاً نحو غير المقدور فانَّ غير المعقول انما هو التكليف بغير المقدور حينما يراد المحركية وفاعلية التكليف وذلك حين وصوله لا أكثر من هذا المقدار فانَّ العقل لا يحكم بأكثر من ذلك كما هو واضح.

هذا كله حال الإشكالات النظرية أعني بلحاظ العقل النظريّ في مسألة الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري.

وامّا الإشكال بلحاظ أحكام العقل العملي وهو إشكال لزوم الإلقاء في المفسدة

٢١٤

أو تفويت المصلحة الملزمة القبيحين عقلاً فقد تصدّى لدفعه المحقّقون فبرزت في المقام إجابتان عليه :

الإجابة الأولى ـ ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم ( قده ) بالبناء على مبنى السببية بدعوى : انَّ التفويت المذكور أو الإلقاء في المفسدة متدارك ومعه لا تفويت حقيقة فلا موضوع للقبح. وحيث كان هذا الوجه مبنياً على الموضوعية فاعترف بلزوم الإشكال بناءً على الطريقية في جعل الأحكام الظاهرية.

الإجابة الثانية ـ الالتزام بوقوع التفويت كما هو بناءً على الطريقية إلا انه لا قبح فيه إذا كانت هناك مصلحة تقتضي التعبّد بذلك الحكم الظاهري أي إذا كانت هناك مصلحة في نفس الجعل نظير التفويت الثابت في موارد التقيّة وإِنْ كان فعل المكلّف فارغاً من المصلحة.

والفرق بين الإجابتين ، انَّ الأولى ترفع موضوع القبح العقلي وهو التفويت وذلك بجعل المصلحة المتدارك بها مصلحة الواقع في الفعل ولو بعنوانه الثانوي بينما الثانية تعترف بأصل التفويت ولكنها ترى عدم قبح فيه إذا كانت المصلحة في نفس جعله ، ومن هنا كانت الإجابة الأولى معرضة للاستشكال عليها بلزوم التصويب وانقلاب الوظيفة الواقعية من الفعل الواقعي إلى ما تعلق به الحكم الظاهري من فعل المكلف وهذا بخلاف الإجابة الثانية حيث يبقى فعل المكلف في موارد خطا الحكم الظاهري خالياً عن المصلحة فلا انقلاب في متعلق الحكم الواقعي ومصلحته.

وتعليقنا على الإجابة الأولى ـ انَّ المحصل من مجموع كلمات القوم في المقام تقسيم السببية إلى أشعرية ومعتزلية وإمامية وقد ربطوا الإجابة بالسببية الإمامية.

وتوضيح ذلك : انَّ السببية الأشعرية يراد بها أَنْ يكون قيام الأمارة على الحكم موجباً لثبوت ذلك الحكم نفياً وإثباتاً وهذا يكون له أحد نحوين :

١ ـ أَنْ لا يكون هناك حكم واقعي بقطع النّظر عن الأمارة بل المجعول انَّ كل ما أدت إليه الأمارة فهو حكم الله ، وهذا باطل لكونه غير معقول إذ لا يعقل حينئذٍ فرض الأمارية والكاشفية عن الحكم ولا يجدي في دفع الاستحالة معقولية أخذ العلم بالحكم إذا أُريد به الجعل في موضوع مجعوله لأنَّ تمام الجعل الواقعي بحسب الفرض

٢١٥

انما هو انَّ كل ما أدت إليه الأمارة فهو حكمي ونسبة هذا الجعل إلى وجوب الجمعة أو الظهر على حد واحد فكيف تكون الأمارة أمارة على وجوب الجمعة دون الظهر أو بالعكس. وإِنْ شئت قلت : انَّ مثل هذا الجعل مفرغ لا يعقل إِلاَّ مع افتراض جعول واقعية قبله لتكون الأمارة أمارة على حكم من الأحكام واما إذا كان تمام ما هو ثابت واقعاً هذا الجعل فسوف يستحيل أمارية أمارة حينئذٍ.

لا يقال : لنفرض انَّ هناك جعول عديدة بعدد ما يتحمله كل موضوع من الأحكام الشرعية فهناك جعل لوجوب الجمعة لو علم به ولوجوب الظهر لو علم به ولحرمة الفقاع لمن علم به ولإباحته لمن علم به وهكذا بناءً على ما تقدم من صحة أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم.

فانه يقال : انَّ لازم ذلك ثبوت الأحكام الخمسة على كل موضوع بعد ثبوت التصويب والسببية بهذا المعنى لأنه يمكن ان يعلم بتمام تلك الجعول وهو مستحيل.

اذن فهذا النحو من التصويب يتهافت مع أصل فرض الأمارية.

٢ ـ أَنْ تكون أحكام واقعية لها متعلقات معينة ثابتة واقعاً ولكن يكون قيام الأمارة عليها قيداً في ثبوتها ، وفرقه عن الأول انَّه لو لم تؤد الأمارة إلى الحكم الواقعي المقيد بالعلم به فلا حكم حينئذٍ امَّا الواقعي المجعول فلعدم حصول قيده وامَّا ما أدّاه الأمارة فلعدم جعله.

وهذا الوجه لا استحالة فيه بعد فرض معقولية أخذ العلم بالحكم بمعنى الجعل في موضوع شخصه إِلاَّ انه باطل بالضرورة للزوم خلو الواقعة في المورد المشار إليه من الحكم الواقعي رأساً.

وامّا السببية المعتزلية فيراد بها أنْ تكون الأحكام الواقعية ثابتة على موضوعاتها وملاكاتها إِلاَّ انها مقيدة بعدم وصول خلافها ، وفرق هذا عن السببية الأشعرية بالنحو الأول واضح وامّا النحو الثاني فيظهر فيما لو فرض إمكان أخذ عدم العلم بالخلاف في موضوع شخص ذلك الحكم. ولكنه باطل أيضاً للزومه خلو الواقعة عن الحكم كما تقدم وإِنْ كانت دائرة الخلو بناءً على هذه السببية أضيق منها على السببية الأشعرية.

٢١٦

واما السببية الإمامية فبافتراض مصلحة في عنوان سلوك الأمارة والجري على طبقها ما دامت أمارة وفي حدود الجري عليها فمصب المصلحة ليس هو المؤدى بل عنوان السلوك الّذي هو عنوان ثانوي ينطبق على فعل المكلف وينتزع عنه ولذلك تقدر هذه المصلحة بقدر هذا العنوان أي يتدارك بها ما يفوت من المكلف بسبب سلوك الأمارة لا أكثر من ذلك فلا يمكن أَن يتدارك بها المقدار الباقي من مصلحة الواقع بعد انكشاف الخلاف كالإعادة في الوقت والقضاء خارجه لأنَّ الفائت بالسلوك هو مصلحة الفضيلة مثلاً أو مصلحة أصل الوقت واما الزائد فيبقى على حاله فيجب تحصيله.

وقد أفاد الشيخ ( قده ) انَّ هذا الوجه يجمع بين ميزتين حل إشكال قبح التفويت حيث يضمن للمكلف تدارك الفائت منه وعدم لزوم التصويب وتواليه الفاسدة.

وقد اعترض عليه السيد الأستاذ وغيره بأنَّ التصويب لا فرق فيه بين انقلاب الواقع من الوجوب التعيني بالجمعة مثلاً إلى الوجوب التعييني بالظهر أو انقلابه من التعييني إلى التخييري فعدم انحفاظ الواقع بحده تصويب على كل حال وفي المقام مع استمرار الحجة إلى اخر الوقت يكون الحكم الواقعي الأدائي متعلقاً بالجامع بين الجمعة أو الظهر حيث صار سلوك الأمارة عدلاً للواجب الواقعي.

وكان بالإمكان الاعتراض بمورد اخر يكون فيه التصويب أشد وأوضح وذلك كما إذا فرضنا قيام أمارة على إباحة ما هو حرام واقعاً كالعصير العنبي المغلي. فانَّ فوات المفسدة الواقعية وتداركها بمصلحة سلوك الأمارة يوجب زوال الحرمة واقعاً وانقلابها إلى الإباحة وهذا أشد مراتب التصويب.

وليعلم انَّ هذا الإيراد لا فرق فيه بين افتراض المصلحة السلوكية استيفائية أو تداركية أي انها من سنخ مصلحة الواقع أو غيرها ولكنها يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة وانما لم يؤمر بها مع الواقع لعدم إمكان الجمع بينهما. فانه على كلا التقديرين يقال انه بعد الكسر والانكسار تكون المصلحة المطلوبة للمولى القابلة للتحصيل هو الجامع بين الأمرين كما هو واضح.

وكأن هذا الإيراد كان ملحوظاً لمدرسة نظرية المصلحة السلوكية حيث يستفاد من تضاعيف كلماتهم محاولة الإجابة عليها بافتراض الطولية بين المصلحة والحكم

٢١٧

الواقعي ـ كما جاء ذلك في تعابير الشيخ ( قده ) صريحاً ـ وكان المراد من ذلك افتراض انَّ المصلحة السلوكية استيفاؤها مشروط ببقاء الواقع وانحفاظه بحدّه فيكون انحفاظ الوجوب التعييني لصلاة الجمعة مثلاً شرطاً في تحقيق المصلحة المطلوبة للمولى في الجامع بين الفعلين ـ بنحو شرط التحقق والترتب لا الاتصاف ـ فلو فرض انَّ المولى رفع يده عن حكمه الواقعي بحده والأمارة لم تكن في معرض أَنْ تصيب وتخطئ فلا مصلحة في سلوكها أيضاً. وترتب المصلحة على السلوك بمقدار الواقع استيفاءً أو تداركاً لا يؤدي إلى صيرورته عدلاً للواجب الواقعي لأنَّ عدلية مثل هذا العدل في طول انحفاظ ذلك الواقع فيستحيل أَنْ يكون رافعاً له إذ يلزم من وجوده عدمه. نعم هناك توسعة قهرية تكوينية في دائرة الغرض ومبادئ الحكم إِلاَّ انَّ هذه التوسعة لا تؤدي إلى توسعة الجعل الشرعي لما ذكرناه. ومن هنا أفاد الشيخ ( قده ) بأنَّ هذا من وجوه الرد على المصوبة وكان هذه المدرسة اكتفت في المقام بنفي التصويب بلحاظ الجعل فانْ كان التصويب المتفق على بطلانه شاملاً للتصويب بلحاظ مبادئ الحكم فهذا لازم لا محالة.

ثم انه لم تتضح فذلكة فرض أصحاب هذه المدرسة المصلحة في السلوك الّذي هو عنوان ثانوي لا في المؤدى والفعل كما ذهب إليه المعتزلة أو الأشاعرة فقد يقال : انَّ منظورهم في ذلك تصوير مصلحة مرنة بحيث لا تستدعي الاجزاء لو انكشف الخلاف.

إِلاَّ انَّ هذا كان يمكن تصويره حتى مع فرض المصلحة في المؤدى لأنها على كل حال منوطة ببقاء الحكم الظاهري المنوط بالشك فمع ارتفاعه ترتفع المصلحة (١).

وقد يقال : بأنَّ نظرهم إلى دفع مشكلة التضاد ضمناً بفرض مركز المصلحة ومبادئ الحكم الظاهري عنواناً ثانوياً غير مركز مبادئ الحكم الواقعي ، وهذا مطلب قد تقدم شرحه.

__________________

(١) لا يقال ـ ولكن على هذا التقدير اما يلتزم بأنَّ المؤدى يختلف مقدار اشتماله على المصلحة على حسب اختلاف مدة عدم انكشاف الخلاف فهذا يرجع بحسب روحه إلى انَّ المصلحة في السلوك ومقدار اتباع الأمارة أو يلتزم بعدم وجوب القضاء وهو خلف عدم الاجزاء فانه يقال ـ المؤدى في فرض عدم انكشاف الخلاف يزداد أيضاً حيث يكون عدم وجوب القضاء مدلولاً التزامياً حجة في حق المكلف.

٢١٨

وقد يقال : بأنَّ المنظور لهم انَّ المصلحة إذا كانت في العنوان الأولي كان حكمه واقعياً كأحكام الأفعال الأخرى.

ولكن قد عرفت انَّ ظاهرية الحكم ليست منوطة بهذا التمييز بل يكفي في الظاهرية أَنْ يكون الحكم منوطاً بالشك في الواقع ودائراً مداره سواءً كان على عنوان أولي أو ثانوي.

وقد يقال : انَّ نظرهم إلى دفع التصويب وافتراض اشتمال المؤدى على مصلحة الواقع أو ما يتدارك به حتى مع خطأ الأمارة.

وهذا أيضاً قد عرفت الآن عدم صحته لأننا إِنْ افترضنا الطولية بين هذه المصلحة وانحفاظ الحكم الواقعي فلا تصويب على كل حال بلحاظ الجعل وإِلاَّ فالتصويب لازم كما أفاده الأستاذ.

فتبين عدم وجود نكتة فنية للتفرقة بين المصلحة السلوكية والمصلحة في المؤدى.

وامّا تعليقنا على الإجابة الثانية : فتحقيق الحال فيه : انَّ مصلحة التعبد بالحكم الظاهري إِنْ كانت مصلحة طريقية بحيث تكون روحها نفس الملاكات الواقعية المتزاحمة بنحو التزاحم الحفظي وتلك المصلحة هي افتراض انَّ ما يحفظ بالحكم الظاهري من تلك الملاكات أكثر أو أهم مما تفوت منها فهذا صحيح ورافع لقبح التفويت إِلاَّ انه رجوع إلى نفس الجواب الّذي به دفعنا إشكالات العقل النظريّ ، وإِنْ كانت مصلحة أخرى نفسية وراء الملاكات الإلزامية أو الترخيصية الواقعية فهذه المصلحة يمكن تصويرها بأحد شكلين :

١ ـ أَنْ تكون المصلحة النفسيّة في الجعل والإنشاء كما إذا كانت المصلحة راجعة إلى جعل المولى نفسه ولعل منه موارد التقية الراجعة إلى الإمام نفسه.

٢ ـ أَن تكون المصلحة النفسيّة في نتيجة الجعل وهو إطلاق عنان العبد نظير التقية الواقعة في قصة علي بن يقطين.

امّا الشكل الأول ـ فقد تقدم انَّ مثل هذا الجعل لو فرض تحققه فهو لا يكون موضوعاً لحكم العقل بلزوم الطاعة والمنجزية.

وامَّا الشكل الثاني ـ فان كانت هذه المصلحة في نفس فعل المكلّف نتيجة قيام

٢١٩

الأمارة كوضوء علي بن يقطين ، فهذا رجوع إلى المصلحة السلوكية ومبنى السببية ، وإِنْ كانت قائمة في إطلاق عنان العبد الّذي هو نتيجة فعل المولى وداعٍ من دواعي فعل المكلف أي حالها حال الإباحات الاقتضائية فسوف يقع التضاد بينها وبين الأحكام الواقعية بلحاظ المبادي لا محالة ونحن انما دفعنا إشكال التضاد بنكتة جعل الحكم الظاهري طريقياً محضاً.

٢٢٠