أحمد بن محمّد مهدي النّراقي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٠٧
أريد إقامة البيّنة وصدور الحكم. لم يجب السماع ، ولو سمع وأقيمت البيّنة ، أو أقرّ عنده ، لم يجب الحكم ، بل لا يجوز من باب القضاء ، لظهور الدعوى فيما كان فيه مخاصمة ، ولاختصاص أدلّة وجوب القضاء ونفوذه وظهورها فيما كان كذلك ، فلا يكون ذلك قضاء شرعيّا نافذا ، ولا تترتّب عليه آثاره من عدم جواز النقض لو وقع التخاصم بعد ذلك.
نعم ، يكون الحاكم شاهد أصل إن سمع الاعتراف ، أو فرع واحد إن أقيمت عنده البيّنة.
ولذا صرّح الفاضل في التحرير في بحث القضاء على الغائب بأنّه لا بدّ أن يدّعي جحود الغائب ، فلو أقرّ أنّه معترف لم تسمع بيّنته إلاّ لأخذ المال ، ولو لم يتعرّض لجحوده احتمل السماع وعدمه (١). انتهى.
وقوله : لأخذ المال ، يعني : أنّه إذا ادّعى عدم أدائه المال أو تأخيره وتضرّره بالتأخير وأراد أخذه جاز سماع دعواه وبيّنته لذلك ، فإنّ ذلك خصومة ونزاع.
واحتمل السماع مع عدم التعرّض للجحود لظهور طلب الحكم وإرادة إقامة البيّنة في ذلك.
وعلى هذا ، فلا يجوز القضاء فيما ليس فيه طرف دعوى موجود ، كما إذا وقف أحد ضيعة بطريق مختلف فيه عند الفقهاء ، وأراد سدّ دعوى سائر البطون بإصدار الحكم باللزوم والصحّة عن فقيه دفعا لادّعاء بعض البطون اللاّحقة ، لم يؤثّر الحكم في ذلك.
وكذا إذا أوصى إلى غير عادل ، وأراد سدّ دعوى الورثة بطلب الحكم
__________________
(١) التحرير ٢ : ١٨٧.
بالصحّة واللزوم عن مجتهد يرى ذلك ، أو طلب الحكم في دين مؤجّل يعترف به الدائن احتياطا لإنكاره بعد حلول الأجل ، إلى غير ذلك.
ولو كان الغريم معترفا ولكن ماطل في الأداء ، فيجوز الترافع ، ولكن الدعوى في المماطلة دون الإنكار.
وأمّا ما ذكروه ـ من أنّ جواب المدّعى عليه إمّا إقرار أو إنكار ـ فالمراد أنّه إذا ادّعى المدّعي إنكاره أو أطلق الدعوى الظاهرة في الإنكار تسمع الدعوى ويطلب الغريم ، فإن أقرّ بعد الطلب فحكمه كذا.
المسألة التاسعة : يشترط في سماع الدعوى أن تكون صريحة في استحقاق المدّعي لما يدّعيه ، فلو ادّعى : أنّ هذه ابنة أمته ، لم تسمع ، لعدم فائدتها ، لجواز ولادتها في غير ملكه. وكذا لو قال : هذه ابنة أمتي وولدتها في ملكي ، لاحتمال كون الابنة حرّة ، أو ملكا لغيره ، فيما لم يصرّح باستحقاق الأخذ ، لم تسمع.
وكذا لو ادّعى أنّه اشترى ضيعتي ، أو غصب داري ، أو أقرض منّي عشرة ، لم تسمع ما لم يقيّدها بما يصرّح باستحقاقه الآن ، لجواز أن يكون اشترى وأدّى الثمن ، أو غصب ورد ، أو ابتاع بعده ، أو أقرض وأدّاه. فمجرّد تلك الدعاوي لا توجب دعوى حقّ.
ولو ضمّ معه ما يصرّح بالحقّ تسمع ، فإنّه بدون الضمّ لا يدّعي استحقاق شيء ولا يطلبه ، لأنّه المفروض.
أمّا لو ضمّ مع ذلك مطالبة المدّعي به فهي دعوى الاستحقاق ، فتسمع.
ومن ذلك يظهر أنّ ما ذيّله به جماعة (١) هذه المسألة ـ من حكم تصديق الخصم له في هذه الدعوى مطلقا ، أو مع ضمّ ما ينافي ملكيّة المدّعي من كونه إقرارا أو لا ، والفرق بين تصديق ما ذكر وتصديق أنّ هذا الغزل من قطنه أو الدقيق من حنطته ـ ليس في موقعه أصلا ، لأنّ فرض هذه المسألة : أنّ المدّعي لا يدّعي استحقاقا ولا يطالب شيئا ، ولذا لا تسمع بيّنته على ما ادّعاه ، فلا تترتّب فائدة على كونه إقرارا له أم لا من جهة هذه المسألة. وليس من متمّماتها أو فروعها.
نعم ، هذا من مسائل كتاب الإقرار ، وتظهر فائدته فيما إذا ادّعى المدّعي الاستحقاق ، فتأمّل.
هذا ، ثمَّ إنّه قد يناقش في إطلاق حكمهم بعدم سماع الدعوى فيما لم تكن صريحة في الاستحقاق أيضا ، بأن يقال : إن كان مرادهم أنّه لا تسمع إذا قال : اشترى منّي ذلك ـ مثلا ـ ولا أدّعي شيئا آخر ، أو لا دعوى لي غيرها ، فهو كذلك.
أمّا لو قال : هذه دعواي الآن ، لوجود بيّنتي عليها الآن ، وأدّعي تمامها بعد ذلك ، فلم لا تسمع؟! فلعلّه تكون له بيّنة اخرى غير حاضرة على إقرار خصمه : بأنّي ما أدّيت ثمن ذلك ممّن اشتريت ، أو ثبت بعد ذلك فساد الشراء ، أو نحو ذلك من الفوائد.
ومن ذلك يعلم أنّه لو أطلق الدعوى المذكورة أيضا يجب سماعها ، لاحتمال ترتّب الفوائد عليها.
وأولى منه بالسماع ما إذا ادّعي أنّ هذا زوجي ، أو هذه زوجتي ، من
__________________
(١) منهم العلاّمة في التحرير ٢ : ١٨٩ ، والفخر في الإيضاح ٤ : ٣٢٧ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٣٥ ، والفيض في المفاتيح ٣ : ٢٥٩.
غير ضمّ دعوى في حقّ آخر ، لاستقلال الزوجيّة بترتّب أحكام عليها إذا ثبتت.
أقول : السماع في دعوى الزوجيّة صحيح ، لما ذكر ، إلاّ أنّ المناقشة المذكورة في عدم سماع الدعوى الغير الصريحة ليست بجيّدة ، إذ على ذلك يكون لهذه الدعوى فردان أو أفراد ، بعضها مسموعة وبعضها غير مسموعة فإذا أطلق فلا يعلم أنّه ادّعى المسموعة حتى يجب السماع وطلب الجواب ، أو لا حتى لا يجب ، والأصل عدم الوجوب.
وكذا لو قيّد الدعوى بـ : الآن ، وبقوله : أدّعي تمامها بعد ذلك ، لأنّ التمام غير معلوم ، فلعلّه أيضا لم يوجب السماع.
بل لو عيّنه وقال : أدّعي مطالبة الثمن ـ مثلا ـ بعد ذلك ، لم يجب ، إذ لعلّه لم يدّع ، أو لم يتمكّن من الادّعاء.
المسألة العاشرة : لا شكّ في عدم سماع دعوى بعينها ثانيا بعد رفعها إلى الحاكم وحكم فيها بحكم.
وأمّا لو ادّعى أمرا آخرا متعلّقا بتلك الدعوى موجبا لنقض الحكم ـ كفسق شهود المشهود له ، أو إقرار الخصم بالحقّ ، أو ردّ ما يدّعيه المدّعي ونسيانه حال الترافع ـ فهل تسمع تلك الدعوى ، أم لا؟
فيه خلاف ، بل وقع الخلاف في الأولين قبل الحكم أيضا ، فتردّد الفاضل في التحرير في سماعها (١) ، واستشكل في الإرشاد فيهما (٢) ، وكذا في القواعد في فسق الشهود (٣).
__________________
(١) التحرير ٢ : ١٨٩.
(٢) الإرشاد ٢ : ١٤٣.
(٣) القواعد ٢ : ٢٠٨.
وجعل الشهيد في الدروس الأقرب عدم السماع فيها (١) ، ولكن جعل في قواعده الأقرب السماع فيها (٢).
وفي الكفاية : عدم السماع في الأول ، والتردّد في الثاني (٣).
وقال والدي ـ طاب ثراه ـ في المعتمد في الثلاثة : إنّ فيها وجهين ، وقوّى رحمهالله العدم.
ويظهر من القواعد ـ بل الدروس وغاية المراد ـ أنّ النزاع إنّما هو إذا أراد الإحلاف دون ما إذا كانت له بيّنة ، فإنّها تسمع حينئذ. وصرّح بعض فضلائنا المعاصرين بذلك (٤) ، كما مرّ في مسألة الدعوى على الحاكم أيضا.
وكيف كان ، فالحقّ السماع في غير ما إذا كان بعد الحكم لليمين ، لعمومات سماع الدعوى والحكم بالبيّنة واليمين والنكول.
وقد يستدلّ في صورة كون الدعوى بعد الحكم بابتناء الحكم أولا على فاسد لم يعلم فساده.
وفيه : أنّ قبل السماع لا يعلم الفساد بعد.
واستدلّ الوالد قدسسره بثبوت الحكم على الوجه المعتبر ، والأصل صحّته حتى يقطع ببطلانه ، ومجرّد دعوى الخصم فساده لا توجب القطع به ، فلا يلزم السماع وترك ما ثبت في الشرع اعتباره لأجله.
وفيه أولا : أنّه لو تمَّ ذلك لجرى في كلّ دعوى مخالفة للأصل.
وثانيا : إنّا لا نقول بفساد الحكم قبل القطع شرعا بالبطلان ، ولا إفساده
__________________
(١) الدروس ٢ : ٨٥.
(٢) القواعد والفوائد ١ : ٤١٢.
(٣) الكفاية : ٢٧٤.
(٤) جامع الشتات : ٦٧٧.
بمجرّد دعوى الخصم ، ولا ترك ما ثبت اعتباره بمجرّد السماع ، بل تستصحب الصحّة وتسمع الدعوى ، فإن وجد ما يوجب الفساد يحكم به ، وإلاّ فلا.
وثالثا : إنّ العمومات المذكورة مخرجة عن الأصل.
وأمّا إذا كان الحكم باليمين فلا تسمع الدعوى بعده ، للنصوص ، إلاّ إذا ادّعى إقرار الحالف بعد الحكم ، كما يأتي.
المسألة الحادية عشرة : تسمع دعوى المؤجّل قبل حلول الأجل ، إجماعا كما صرّح به والدي رحمهالله في المعتمد ، لعموم أدلّة الدعوى والحكم ، ولأنّها دعوى حقّ لازم.
ولا يصلح التأجيل ، للمانعيّة ، مع أنّ المنع قد يؤدّي إلى الإضاعة ، لإمكان الإثبات قبل الحلول ، وتعذّره بعده ، لفقد الشهود ، أو الحاكم ، أو مثل ذلك.
المسألة الثانية عشرة : لو ادّعى المحكوم عليه فسق الشهود ولا بيّنة له ، وادّعى علم المشهود له ، فاستوجه جماعة عدم تسلّطه على حلفه (١).
وتحقيق الكلام ـ على نحو مفيد في كلّ ما كان من قبيل هذا المقام ـ : إنّ من شرط سماع الدعوى على شخص أن تكون ـ بحيث لو ثبت بالبيّنة أو الإقرار أو النكول ثبت على المدّعى عليه نفسه ـ حقّا لازما ، فلا تسمع الدعوى الغير المفيدة أصلا ، كأن يدّعي على شخص أنّك ضحكت عليّ.
ومن هذا الباب ما لو ادّعى على الشاهد : إنّك تعلم فسق نفسك ، أو اعترفت بذلك ، لأنّه لا يفيد لو ثبت ، لأنّ المعتبر عدالته عند المتخاصمين ،
__________________
(١) الدروس ٢ : ٨٥ ، المسالك ٢ : ٣٨٨ ، الكفاية : ٢٧٤.
أو الحاكم ، لا عند نفسه.
وكذا لا تسمع الدعوى التي لا توجب حقّا على المدّعى عليه ، كأن يقول للحاكم في موضع لا ضمان عليه : إنّك غير قابل ، أو خاطئ ، أو جائر (١) ، للأصل ، وعدم شمول أدلّة سماع الدعوى لمثل ذلك أيضا.
مضافا في الأخير إلى أنّه يشترط كون الدعوى بحيث لو أقرّ المدّعى عليه أو حلف بعد الردّ أو النكول ثبت الحقّ ، ولا يثبت بشيء من ذلك حقّ على الحاكم أو الشاهد ، ولا على المشهود له ، إذ لا يثبت بإقرار الغير ولا نكوله أو ردّه الحلف حقّ على الغير.
ومثلها الدعوى على الشاهد : إنّك كاذب ، أو خاطي ، فيما لا ضمان عليه.
وأمّا لو كانت هذه الدعاوي في موضع أوجب ثبوتها ضمانا على الحاكم أو الشاهد ، فتسمع كما مرّ سابقا.
ولو كانت إحدى هذه الدعاوي من المحكوم له فتسمع ، ولذا تقبل منه البيّنة.
ولكن يشترط في دعوى فسق الشاهد عليه بيانه لموجب الفسق ، إذ ربّما يزعم غير ما يوجب الفسق فسقا.
ويشترط أيضا دعوى كونه فاسقا واقعا ، أو عند الحاكم ، لا عند المدّعي فقط ، لأنّ المشروط هو عدالة الشاهد عند الحاكم لا عند المشهود له خاصّة.
بخلاف فسق الحاكم ، فإنّ فسقه عند المحكوم له مانع من نفوذ حكمه له وعليه ، فلو ادّعى عليه بما يوجب فسق الحاكم عنده لا عند الحاكم
__________________
(١) في « ح » : خائن.
ـ كالغيبة ، إذا ظنّ الحاكم كونها صغيرة ، والمحكوم له كونها كبيرة ـ تسمع.
ولو كان ما يوجب الفسق عند أحد المتخاصمين دون الآخر كان لكلّ منهما حكمه.
ولو ادّعى على المشهود له كذب الشهود ، وأراد بالكذب ما هو المشهور في معناه من عدم المطابقة للواقع ، فإن كانت له بيّنة على ذلك فهو يرجع إلى تعارض البيّنتين ، وإن لم تكن له بيّنة لا تسمع الدعوى ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أنا أقضي بالبيّنات ، فمن قطعت له مال أخيه فقد قطعت له قطعة من النار » (١).
وبالجملة : دعوى عدم المطابقة للواقع عين أصل الإنكار الساقط بالبيّنة بمقتضى الأخبار ، فلا تسمع ثانيا.
بخلاف فسق الحاكم ، فإنّ انتفاءه شرط في نفوذ حكمه دون عدم المطابقة للواقع ، بل صرّحت الأخبار بعدم اشتراطه كما مرّ.
وإن أراد بالكذب عدم المطابقة لاعتقاد الشاهد فقط ، فلا تسمع أيضا ، لعدم ترتّب فائدة عليه. وكذا إن أراد عدم المطابقة للواقع والاعتقاد معا.
وإن ادّعى مواضعة الشاهد والمشهود له على شهادة الزور ، فالظاهر سماع الدعوى ، وجواز الإحلاف ، والحكم بالردّ والنكول.
وكذا لو ادّعى إقرار خصمه بالمدّعى به ، فتردّد في الشرائع في إلزام
__________________
(١) الكافي ٧ : ٤١٤ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ ـ ٥٥٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ١ ، والرواية فيها هكذا : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنّما قطعت له به قطعة من النار ».
الخصم بالجواب وعدمه (١) ، واستظهر في المسالك الإلزام وسماع الدعوى (٢) ، وهو الحقّ ، إذ إقراره أمر يثبت به حقّه ظاهرا ، ولا يجب أن يكون ممّا يوجب الثبوت واقعا ، وإلاّ لم يفد فيما إذا ادّعى عليه الحقّ أيضا. وعلى هذا ، فيثبت حقّه بإقامة البيّنة على الإقرار ، وبالنكول واليمين المردودة.
المسألة الثالثة عشرة : إذا تمّت الدعوى يطلب الحاكم من المدّعى عليه الجواب ، إمّا بعد سؤال المدّعي ـ كما عن الشيخ وفي الشرائع والقواعد (٣) ـ لأنّه حقّ له ، فيتوقّف على مطالبته.
أو من غير مسألته ، كما قوّاه الشيخ أيضا في المبسوط (٤) ، وحكاه في المختلف عن الشيخين والديلمي والحلّي (٥).
وحكي عن التحرير أيضا ، لدلالة شاهد الحال على مطالبة المدّعي (٦). ويظهر من تعليله أنّه أيضا يشترط طلب المدّعي.
ولكن الخلاف في اشتراط الإذن الصريح ، أو يكفي المطلق ، والأظهر كفاية المطلق ، لأنّه إن أريد بالإذن الصريح ما يدلّ عليه اللفظ مطابقة فلا دليل عليه ، وإن كان مطلقا ـ ولو بالالتزام العرفي ـ فما طلب أولا يستلزم ذلك عرفا.
__________________
(١) الشرائع ٤ : ١٠٧.
(٢) المسالك ٢ : ٣٨٨.
(٣) الشيخ في المبسوط ٨ : ١٥٧ ، الشرائع ٤ : ٨٢ ، القواعد ٢ : ٢٠٨.
(٤) المبسوط ٨ : ١٥٧.
(٥) المختلف : ٧٠٠.
(٦) التحرير ٢ : ١٨٦.
الفصل الثالث
فيما يتعلّق بالمدّعى عليه ، وجوابه ، وما يترتّب عليه
وهو لا يخلوعن أقسام ، لأنّه (١) إمّا يقرّ ، أو ينكر ، أو يسكت ، أو يدّعي الردّ أو الإبراء أو نحوهما ، أو يقول : لا أدري ، أو : هذا ليس لي ، ونحوه ، أو يكون المدّعى عليه غائبا. فهاهنا ستّة أبحاث.
البحث الأول
في الإقرار
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : متى تحقّق الإقرار بجميع المدّعى به ، وكان المقرّ جامعا للشرائط المقرّرة في بابه ـ من البلوغ والعقل وعدم الحجر في الماليّات ـ لزم عليه ما أقرّ ، سواء حكم الحاكم به أم لا ، لأنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز.
بخلاف ما إذا أقام المدّعي بيّنة ، فإنّه لا يثبت بمجرّد إقامتها ، لأنّها منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها وردّها.
وتظهر ثمرة الفرق بين المقامين بذلك في جواز مقاصّة المدّعي حقّه إذا ادّعاه ظنّا أو احتمالا ، فيجوز بالإقرار وإن لم يحكم الحاكم بعد ، دون البيّنة ، فإنّه يتوقّف على الحكم.
__________________
(١) في « ح » : لأنّ جوابه إمّا ..
وفي جواز أخذ المقرّ به عنه لكلّ أحد من باب النهي عن المنكر.
وفي جواز الحكم لقاض آخر بعد علمه بالإقرار ، بخلاف البيّنة المعدّلة عند القاضي الأول ، فإنّه لا يجوز الحكم للثاني بدون التعديل عند نفسه.
والحاصل : أنّ الإقرار علّة تامّة لثبوت الحقّ عليه ، بخلاف البيّنة ، فإنّها مع الحكم علّة. أو يقال : إنّ الإقرار حجّة مطلقة لكلّ أحد ، والبيّنة لم تثبت حجّيتها إلاّ للحاكم.
فإن قيل : كما أنّ ثبوت الحقّ بالبيّنة يتوقّف على ثبوت حجّية البيّنة أولا بأدلّتها ، ثمَّ النظر في حالها من العدالة والجرح ونحوهما ، ثمَّ النظر في دلالة اللفظ المؤدّى به الشهادة. فكذلك الثبوت بالإقرار ، فإنّه يتوقّف على جواز إقرار العقلاء بأنفسهم ، وثبوت الرواية ، وفهم المراد من الجواز ، ثمَّ النظر في حال المقرّ من كونه بالغا عاقلا رشيدا غير مكره ، ثمَّ النظر في حال لفظ الإقرار ، فإنّ في الألفاظ حقائق ومجازات ، ولها قرائن ، ولذا عنون الفقهاء مسائل كثيرة في تحقيق معاني الإقرارات.
ولا يمكن أن يقال : إنّ أدلّة حجّية البيّنة تختصّ بحجّيّتها للحاكم دون دليل ثبوت الإقرار ، لأنّه لا فرق بينهما من هذه الجهة ، وإنّما يختصّ الحكم بالحاكم ، لأدلّة اختصاص الحكم به وعدم جوازه لغيره.
قلنا : فرق بينهما ، أولا : في المقدّمة الأولى ، فإنّ حجّيّة الإقرار لا تثبت بالحديث المذكور خاصّة ، بل هي صارت ضروريّة لكلّ أحد ـ خاصّي وعامّي ـ فلا يحتاج إلى اجتهاد في حجّيّة الأخبار سندا ومتنا والفحص عن المخصّص والمعارض ونحوهما. بخلاف أدلّة البيّنة.
فإن قلت : حجّيّة البيّنة العادلة أيضا صارت اليوم ضروريّة.
قلت : نعم ، ولكن للحاكم ، يعني : ثبت على كلّ أحد أنّها حجّة
للحاكم لا لكلّ أحد ، بخلاف الإقرار.
وثانيا : في المقدّمة الثانية ، فإنّ ما يحتاج معرفته من حال البيّنة أمور شرعيّة توقيفيّة خلافيّة صعبة المأخذ ، يحتاج إلى الاجتهاد في مأخذه من العدالة والتهمة والإصرار على الشهادة ، ومن معرفة من لا تجوز شهادته ومن تجوز ونحو ذلك .. بخلاف حال المقرّ غالبا ، فإنّ معرفة أحواله بالنسبة إلى المجتهد وغيره متساوية.
نعم ، لو كان المقرّ في حالة اختلافيّة شرعا ، بحيث تحتاج معرفته إلى الاجتهاد والفقاهة من علامات البلوغ أو الرشد أو نحوهما ، فنقول : يتوقّف الثبوت بالإقرار على الحكم أيضا.
وثالثا : في المقدّمة الثالثة ، فإنّ فهم الإقرار إنّما هو كفهم سائر معاني الألفاظ العرفيّة التي يتساوى فيها العامّي والخاصّي ، وحجّة على كلّ أحد.
بخلاف ما تؤدى به الشهادات ، فإنّ فيها اختلافات ، كقبول الشهادة العلميّة والاستصحابيّة ونحوهما.
نعم ، لو فرض ثبوت الحقّ بالتواتر بألفاظ محكمة على نحو يظهر على كلّ أحد ، فنقول : إنّه كالإقرار ، ولكنّه فرد نادر ، ومع ذلك ليس إثباتا بالبيّنة التي تقابل الإقرار.
فرع : إثبات الإقرار بالبيّنة كالإقرار في لزوم الحكم به ، إلاّ أنّ في الإقرار لا تسمع دعوى عدم الاستحقاق حينئذ ، لأنّه إنكار بعد الإقرار ، إلاّ إذا أقرّ بالاشتغال سابقا. وتسمع في إثباته.
والمراد بسماعه في إثباته : أنّه يسمع لو ادّعى سبب عدم الاستحقاق ، كردّ أو إبراء ، وحينئذ ينقلب مدّعيا ، وله إحلاف المدّعي على نفيه. ولعلّ ذلك مراد الفاضل في القواعد من حكمه بجواز إحلاف المنكر المدّعي
ـ المثبت لإقراره بالبيّنة ـ على نفي الاستحقاق (١).
المسألة الثانية : وإذا أقرّ المدّعى عليه ، فإن التمس المدّعي الحكم به له عليه فالظاهر عدم الخلاف بينهم في وجوبه حينئذ ، وإن اختلفوا فيه قبل سؤال المدّعي.
وفيه : أنّ بعد ما تقرّر عندهم في المسألة الاولى ـ من عدم كون الحكم هنا جزءا لسبب ثبوت الحقّ ، وجواز أخذ المدّعي بنفسه بدون الحكم قهرا أو تقاصّا ، وجواز أخذ سائر المقتدرين ـ فلا وجه للحكم بوجوب الحكم بسؤال المدّعي مطلقا ، لعدم دليل عليه.
نعم ، يصحّ ذلك لو توقّف الوصول إلى الحقّ عليه ، فالصحيح التقييد به.
لا يقال : عمومات وجوب الحكم بما أنزل الله (٢) تثبته هنا أيضا.
قلنا : لا شكّ أنّها مقيّدة بصورة التوقّف ، لأنّ الحكم من الواجبات المشروطة بالحاجة ، فإنّه لو فرض أنّ بعد الترافع وقبل الحكم وقع الصلح بين المتداعيين أو أعطاه حقّه أو نحو ذلك ، لا يجب الحكم على الحاكم.
ثمَّ على القول بوجوبه مطلقا أو في صورة التوقّف فهل يجب بعد سؤال المدّعي ، أو قبله؟
فيه قولان ، والأولى والأحوط : التوقّف بالسؤال ولو بشاهد الحال ، بل مقتضى الأصل عدم الوجوب بدونه ، بل يمكن القول بعدم الجواز أيضا وعدم ترتّب الأثر عليه ، لأنّ الحكم إلزام مخالف للأصل.
المسألة الثالثة : وإذا وجب عليه الحكم فيحكم عليه بما يفيد إنشاء إلزامه من الألفاظ ، ولا يكفي مثل قوله : ثبت عندي في ترتّب الأثر ، لأنّه
__________________
(١) القواعد ٢ : ٢١٢.
(٢) المائدة : ٤٧ ـ ٤٩.
ليس حكما ، بل إخبار.
ولو طلب المدّعي كتابة الحجّة على المدّعى عليه ليكون في يده ، ففي وجوب إجابته وعدمه قولان ، أشهرهما ـ كما صرّح به في المفاتيح (١). وشرحه وغيرهما (٢) ـ الوجوب.
وحكى في المبسوط قولا بعدمه (٣) واختاره بعض متأخّري المتأخّرين ، للأصل. وهو الحقّ ، لأنّه إن كان لإنشاء الحكم فقد حكم لفظا ولا يجب غيره ، وإن كان لاستمراره والدوام عليه بعد ذلك فأيّ دليل على وجوب ذلك؟! فإنّه قد لا يحتاج إليه بعد ذلك ، ولو احتاج فقد لا ينساه الحاكم أو الشهود على الحكم ، وإن نسيه فقد لا يتذكّر بملاحظة الكتابة.
ولذا اقتصر جمع من المتأخّرين في إيجاب الكتابة بما إذا توقّف إيصال الحقّ المحكوم به عليها.
وهو أيضا غير سديد ، لأنّه لا يختصّ بالكتابة ولا بالحاكم ، بل يجب على كلّ أحد الإيصال بما أمكنه من باب الأمر بالمعروف ، فلا وجه حينئذ للتخصيص بالكتابة ، فإنّه قد يحصل الأثر بنصب أحد على الأخذ منه ، أو إعلام مقتدر برسالة ، أو برفع صوت وغلظة عليه ، أو بتخويف ، أو غير ذلك من الوجوه.
وقد يتوقّف على أحد هذه الأمور ، فذكر الكتابة وإيجابها بخصوصها لا وجه له.
هذا ، مع أنّ ترتب الأثر على الكتابة غالبا يكون بإراءتها لمقتدر على إجراء الحكم فيجريه ، فهو إن أجراه بمجرّد الكتابة من غير ضمّ بيّنة معها ـ كما هو المتعارف في هذه الأزمنة ـ فهو غير جائز ، والكتابة ـ لأجل ذلك ـ
__________________
(١) المفاتيح ٣ : ٢٥٥.
(٢) المسالك ٢ : ٣٦٤.
(٣) المبسوط ٨ : ١١٨.
تكون نوع إعانة على الإثم. وإن ضمّ معها البيّنة فهي بنفسها كافية ، إلاّ أن يفرض كون الكتاب قرينة موجبة لحصول العلم بضمّ خبر عدل أو فسّاق ، أو [ وقّف ] (١) المقتدر الإيصال بالكتاب.
ثمَّ إنّه إذا لم تجب الكتابة وطلبها المدّعي وأجابه الحاكم استحبابا فله أخذ الأجرة عليها وثمن القرطاس والمداد ، ومتى وجبت لم يجز له أخذ الأجرة ، لعدم جوازه في الواجبات العينيّة ولا الكفائيّة ، كما مضى في كتاب التجارة ، بل لا يجوز له طلب ثمن القرطاس ونحوه أيضا.
ومن القائلين بوجوب الكتابة إذا توقّف أثر الحكم عليها من لم يجوّز الأجرة على الكتابة ، وجوّز أخذ نحو القرطاس.
وهو غير جيّد ، لأن إعداد ما تتوقّف عليه الكتابة الواجبة أيضا يكون كأصل الكتابة ممّا يتوقّف عليه الواجب ، فيكون إعداده واجبا عليه لو لم يؤدّه المدّعي ، فإن أراد جواز الأخذ منه لو أعطاه فهو كذلك ، لأنّه أيضا نوع إعداد ، وإن أراد أنه يجوز إيقاف الكتابة على أخذه منه فلا.
ثمَّ إذا كتب الكتاب ينبغي ـ بل يلزم عليه ـ أن يكتبه على نحو يخصّص المدّعي والغريم ويميّزهما عن غيرهما ، بحيث لا يقبل الاشتباه ، ويأمن عن التزوير ، سواء حصل ذلك المقصود بكتابة النسب أو الحلية (٢) أو هما معا.
والخلاف في هذا المقام في أنّه هل يكفي الأول أو الثاني ونحو ذلك لا وجه له ، إذ ليس ذلك منوطا بدليل شرعي ، وإنّما المقصود رفع الاشتباه والأمن من التزوير ، وقد يحصل التزوير بالاكتفاء بالنسب ، كما قد يحصل بالاكتفاء بالحلية ، ولا بدّ في النسب أيضا إلى ذكره بقدر لا يقبل اللبس عادة ، فقد يتعدّد زيد بن عمرو بن بكر الأصفهاني مثلا.
__________________
(١) في « ح » و « ق » : توقّف ، والأنسب ما أثبتناه.
(٢) الحلية : بمعنى الصفة ـ مجمع البحرين ١ : ١٠٥.
وقد يتواطئان على تشهير أحدهما بتلك النسبة في بلد آخر ، بحيث يحصل العلم لكثير من أهل ذلك البلد ، وتنتهي مسبّبيّته إلى كتابته باسمه ونسبه ، أو قول المكاريين ، أو نحوهما.
ولا بدّ من تمييز المدّعي أيضا كما ذكرنا ، إذ قد يقع التزوير من جهته فيتواطآن على ادّعائه وحكم الحاكم له وأخذه المدّعى به بحضوره لدفع خصومة شخص آخر.
المسألة الرابعة : وإذ حكم الحاكم عليه ، فإن أدّى المحكوم عليه الحقّ بنفسه فهو ، وإلاّ فإن كان ذا مال فيكلّف بالأداء ، فإن امتنع ومطل بلا عذر مقبول كان للمدّعي أخذه منه قهرا ولو بالملازمة له.
وإن لم يقدر فيجب على كلّ من يقدر كفاية ، فإن احتاج الإيصال إلى عقوبة له ـ من حبس أو إغلاظ في القول ونحوهما ـ فيجب على الحاكم.
والظاهر عدم جوازه للغير ولو نفس المدّعي.
أمّا جوازه للحاكم فلتوقّف إيصال الحقّ عليه وهو واجب.
وللخبر المشهور المنجبر : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه » (١).
والمستفيضة الواردة في حبس المماطل ، كموثّقة عمّار : « كان أمير المؤمنين عليهالسلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثمَّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى باعه فيقسّم بينهم » يعني : ماله (٢). ونحوها ذيل رواية الأصبغ (٣).
__________________
(١) مجالس الطوسي : ٥٣٢ ، الوسائل ١٨ : ٣٣٣ أبواب الدين والقرض ب ٨ ح ٤ ، وفيه : « ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته ».
(٢) الكافي ٥ : ١٠٢ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ١٩١ ـ ٤١٢ ، الاستبصار ٣ : ٧ ـ ١٥ ، الوسائل ١٨ : ٤١٦ أبواب أحكام الحجر ب ٦ ح ١ ، بتفاوت.
(٣) الفقيه ٣ : ١٩ ـ ٤٣ ، التهذيب ٦ : ٢٣٢ ـ ٥٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١١ ح ١.
أقول : الالتواء من الليّ ، وهو سوء الأداء والمطل.
وروايتي غياث ، الاولى : « إنّ عليّا عليهالسلام كان يفلّس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثمَّ يأمر به فيقسّم ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى باعه فقسّمه بينهم » يعني : ماله (١).
والثانية : « إنّ عليّا عليهالسلام كان يحبس في الدين ، فإذا تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالا (٢) ». وقريبة منها صدر رواية الأصبغ (٣).
ورواية السكوني : « إنّ عليّا عليهالسلام كان يحبس في الدين ، ثمَّ ينظر ، فإن كان له مال أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم فآجروه ، وإن شئتم فاستعملوه » (٤).
وبهذه الأخبار ـ المعتضدة بلزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مثل : رواية جابر الطويلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : « فأنكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم » (٥) ، ومرسلة التهذيب : « قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم ، وكيف لا يحقّ لي ذلك؟! وأنتم
__________________
(١) التهذيب ٦ : ٢٩٩ ـ ٨٣٣ ، الوسائل ١٨ : ٤١٦ أبواب أحكام الحجر ب ٦ ح ١.
(٢) التهذيب ٦ : ١٩٦ ـ ٤٣٣ و ٢٩٩ ـ ٨٣٤ ، الاستبصار ٣ : ٤٧ ـ ١٥٦ ، الوسائل ١٨ : ٤١٨ أبواب أحكام الحجر ب ٧ ح ١.
(٣) الفقيه ٣ : ١٩ ـ ٤٣ ، التهذيب ٦ : ٢٣٢ ـ ٥٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١١ ح ١.
(٤) التهذيب ٦ : ٣٠٠ ـ ٨٣٨ ، الاستبصار ٣ : ٤٧ ـ ١٥٥ ، الوسائل ١٨ : ٤١٨ أبواب أحكام الحجر ب ٧ ح ٣.
(٥) الكافي ٥ : ٥٥ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ١٨٠ ـ ٣٧٢ ، الوسائل ١٦ : ١٣١ ، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب ٣ ح ١.
يبلغكم عن الرجل منكم القبيح ولا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه » (١) ، وغير ذلك (٢) ـ تخصّص أدلّة نفي الضرر ونحوها.
وأمّا صحيحة زرارة : « كان عليّ عليهالسلام لا يحبس في السجن إلاّ ثلاثة : الغاصب ، ومن أكل مال اليتيم ظلما ، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها ، وإن وجد له شيئا باعه ، غائبا كان أو شاهدا » (٣) ـ حيث دلّت من جهة إطلاق الجزء المنفيّ من الحصر على عدم حبس غير الثلاثة ـ فهي أعمّ مطلقا ممّا مرّ ، فيجب تخصيصها به.
وأمّا وجوبه على الحاكم فلكونه أمرا جائزا يتوقّف عليه واجب ، هو إيصال الحقّ ، وما يتوقّف عليه الواجب واجب ، بل تدلّ عليه الروايتان الأخيرتان وما بمعناهما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأمّا اختصاص وجوبه بالحاكم فلا اختصاص غير الخبر الأول من أخبار الحبس بفعل الإمام عليهالسلام. والأول مجمل ، حيث إنّه حكم بحلّ العقوبة ، ولم يبيّن أنّه على من يحلّ ، فيقتصر فيه على المتيقّن.
وأمّا أخبار الأمر بالمعروف وإن كانت عامّة إلاّ أنّها مخصّصة بمثل رواية مسعدة بن صدقة : سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمّة جميعا؟ فقال : « لا » فقيل : ولم؟ قال : « إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلا » إلى أن قال : « والدليل على ذلك كتاب الله عزّ وجلّ : قول الله
__________________
(١) التهذيب ٦ : ١٨١ ـ ٣٧٥ ، الوسائل ١٦ : ١٤٥ أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب ٧ ح ٤.
(٢) الوسائل ١٦ : ١٤٤ أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب ٧.
(٣) التهذيب ٦ : ٢٩٩ ـ ٨٣٦ ، الاستبصار ٣ : ٤٧ ـ ١٥٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١١ ح ٢.
عزّ وجلّ ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (١) فهذا خاصّ غير عام » الحديث (٢).
ومن ذلك يعلم أنّه إذا آل الأمر إلى العقوبة والإيذاء لا يجوز لغير الحاكم ، لأنّها أعمال غير جائزة في الأصل يجب الاقتصار فيها على موضع الرخصة ، ولأنّ غيره لا يعلم قدر الجائز منها فيتعدّى عن الحقّ.
فروع :
أ : هل يجوز للحاكم الإذن لغيره ، ولغيره المباشرة بإذنه بقدر ما أذن فيه؟
الظاهر : نعم ، لأنّه حينئذ يكون عالما ، كما ورد في رواية مسعدة.
ب : هل يجوز لمباشر الإيصال مع العقوبة أو بدونها أخذ الأجرة عليها؟
الظاهر : لا ، لما مرّ في كتاب التجارة ، إلاّ إذا لم تكن له كفاية لمعاشه لو اشتغل بالإيصال ـ أي تضرّر ضررا بيّنا ـ فيسقط عنه الوجوب ، لمعارضة أدلّته مع أدلّة نفي الضرر ، والأجرة حينئذ على بيت المال إن كان ، وإلاّ على المدّعي إن طلب وأراد ، ولا يجوز الأخذ من المدّعى عليه بوجه.
ج : إذا ماطل المحكوم عليه ، ولم يقتدر الحاكم على الإيصال ، وطلب المدّعي من الحاكم كتابة الحكم أو شهادة الشاهدين عليه أو نحوهما حتى يوصله ويجري الحكم من يقدر عليه ، يجب عليه ـ كما مرّ ـ إن لم
__________________
(١) آل عمران : ١٠٤.
(٢) الكافي ٥ : ٥٩ ـ ١٦ ، التهذيب ٦ : ١٧٧ ـ ٣٦٠ ، الوسائل ١٦ : ١٢٦ أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب ٢ ح ١.
يعلم ترتّب محرّم عليه ، كالتعدّي من الجائز في الإيذاء ، من قذف أو ضرب أو أخذ مال أو مطالبة من أقربائه ونحوها.
وإن علم ذلك ، فإن كان مقصود الحاكم أيضا أن يفعل المدّعي كذلك فهو معاونة على إثمين : إثم المدّعي ـ حيث إنّ أخذه ذلك ليؤدّيه إلى المقتدر الجائر المتعدّي عن الجائز معاونة للجائر (١) على إثمه ـ وإثم الجائر.
وإن لم يكن مقصوده ذلك ، فإن علم أنّ المدّعي يفعل كذلك فلا معاونة منه على إثم الجائر ـ كما بيّنا في العوائد (٢) ـ ولكنّه معاونة على إثم المدّعي ، ولكن لا يحرم على الحاكم مع ذلك ، لتعارض أدلّة حرمة المعاونة على الإثم مع أدلّة وجوب ردع المماطل وأخذ الحقّ منه ، فيرجع إلى أصل الجواز. بل يمكن القول بذلك في حقّ المدّعي أيضا ، لمعارضة أدلّة نفي الضرر في حقّه مع أدلّة حرمة المعاونة ، فتأمّل.
د : العقوبة المجوّزة للحاكم في حقّ المماطل لا تختصّ بالحبس والإغلاظ ، بل قد تنتهي إلى الأكثر منه ـ من ضرب ـ فيجوز أيضا ، لإطلاق العقوبة وقوله : « صكّوا جباههم » وقوله : « لا يؤذونه ». ويجب الاقتصار على الأقلّ.
وإنّما أطنبنا في ذلك المقام للاحتياج إليه في أمثال تلك الأزمنة.
هـ : لو لم تفد العقوبة في أدائه ، ولم يمكن بيع ماله ، يحبس حتى يؤدّي أو يموت أو يبرئه الغريم.
المسألة الخامسة : كما تجوز للحاكم عقوبة المماطل الغير المؤدّي للحقّ ، فهل يجوز له إعطاء ماله للمحكوم له من غير إذنه إذا أمكن وكان من
__________________
(١) في « ح » و « ق » : على الجائر ، والصحيح ما أثبتناه.
(٢) عوائد الأيام : ٢٧.