تراثنا ـ العددان [ 121 و 122 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 121 و 122 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٥١٠

من سبأ وقد هاجر ستّة من أبنائه العشرة نحو اليمين وأربعة نحو الشمال ونتج عن هؤلاء الأخيرين عشر قبائل منهم عاملة ، أو أنّ اسم عاملة امرأة لعلّها تكون عاملة بنت مالك بن وديعة بن قضاعة ، وهذه المرأة مذكورة في معجم قبائل العرب»(١).

ويروي محمّد جابر آل صفا رواية : «إنّ سكّان جبل عامل من ذرية عاملة بن سبأ بن يشغوب بن قحطان وهي قبيلة يمنيّة هاجرت إلى هذه البلاد سنة (٣٠٠ق م) بعد الطوفان وخراب سدّ مأرب ونهاية مملكة سبأ»(٢).

وبما أنّ جميع هذه الروايات تتّفق على تسمية جبل عامل نسبة إلى قبيلة عاملة فإنّ تفاصيلها المختلفة تقلّ عنها في الأهمّية لاسيّما أنّها روايات تمتزج بالأسطورة والخرافة ، والحقّ أنّ بني عاملة كانوا يقيمون في جنوب شرق البحر الميّت أثناء الفتح الإسلامي وبعد ذلك بقليل أقاموا في الجليل الأعلى ثمّ انتقلوا إلى جنوب لبنان في مقاطعة بلاد (الشقيف) ، وبلاد (الشقيف) هي الجزء الشمالي من جبل عامل ويسمّى جزءه الجنوبي بلاد (بشارة).

ويعود اسم (بشارة) بحسب أحمد رضا إلى أحد أمراء بني معن بشارة ابن مقيل القحطاني ، وكان يحكم المنطقة في القرون الوسطى إلاّ أنّ الدليل

__________________

(١) خطط جبل عامل : ٢٠.

(٢) تاريخ جبل عامل : ٢٢٥.

٦١

ينقصنا (١).

ويذهب آل صفا إلى أبعد من ذلك في تحرّياته ويقول : بأنّ أراء الباحثين متباينة في هذا المجال ، ولا يوافق رأيه رأي أحمد رضا ولو أنّ بعض المؤلّفين العامليّين قبله يدعمونه وذلك لأنّه لم يجد هذا الاسم في المراجع التاريخية ، وبرأيه أنّ علماء آخرين قد رأوا أنّ الأمر يتعلّق ببشارة بن معن وهو من أسرة عربية هي فرع من ربيعة كانت تحكم لبنان بين (١٥١٦ ـ ١٦٩٧م) إلاّ أنّه يسارع في تكذيب هذا الرأي محتجّاً بأنّ اسم بشارة لم يرد بين حكّام الأسرة المعنية في جبل عامل ، وبحسب آل صفا فإنّ الرأي الأقرب للتصديق أن يكون الأمر مختصّاً بحسام الدين بشارة بن أسد الدين بن مهلهل ابن سليمان بن أحمد بن سلامة العاملي ، ويتبنّى الأمين هذا الرأي مدقّقاً بأنّ حسام الدين هذا من قبيلة عاملة التي شاركت في فتح (عكّا) في جيش أبي بكر أخي صلاح الدين الأيّوبي (١١٨٧م) فحكمت المدينة بعد ذلك وكانت في الوقت نفسه مشاركة في الاستيلاء على قلعة (هوتين) ، ويتابع الأمين فيورد استشهادات أخرى حول هويّة بشارة فيستنتج بأنّ أحد أجداد آل علي الصغير ابن بشارة على أنّه أعاد بناء مدينة صور في أوائل (ق ٩ هـ) قد حكم المنطقة لفترة طويلة إلاّ أنّ السيّد محسن الأمين يقرّ بأنّ سرّ التسمية يبقى قائماً(٢).

__________________

(١) موسوعة الإمام موسى الصدر : ١٧.

(٢) خطط جبل عامل : ٢٣.

٦٢

ثالثاً ـ تأريخ التشيّع في لبنان :

قبل التحدّث عن تاريخ التشيّع في لبنان على الأعمّ وفي جبل عامل منه على الأخصّ لابدّ من الإشارة إلى أبي ذرّ الغفاري رضي‌الله‌عنه.

أبو ذرّ الغفاري : جندب بن جنادة ، صحابيّ من أقدس وأقدم المؤمنين ، اشتهر بتقواه وتقشّفه (ت ٣٢ هـ / ٦٥٢ م) ، ويقول أصحاب التراجم والسير : أنّه كان شديداً في الحقّ لا تأخذه في الله لومة لائم ، وليس أدلّ على ذلك من حديث أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام إليه ووصيّته له حين نفاه عثمان بن عفّان إلى الربذة(١).

ففي ولاية معاوية بن أبي سفيان على الشام تمّ إبعاده إلى جبل عامل فبذر فيها ولاء آل محمّد عليهم‌السلام ، وهو أوّل من نشر التشيّع هناك ، وكان معاوية قد طرده من دمشق لمواقفه الجريئة وصرخاته المدوّية ، فأسّس بذلك طائفة شيعيّة هي الثانية بعد طائفة الحجاز بالسبق التاريخي ، كما أنّه أنتج تقليداً علميّاً بدأه بتدريس أتباعه. يقول الشيخ الحرّ العاملي (ت ١٦٩٣م) : «إنّ التشيّع في جبل عامل أقدم منه في غيره من البلاد ما خلا المدينة المنوّرة ، وأنّه يعود فيه إلى عهد الخليفة عثمان ، حيث إنّ أبا ذرّ لمّا أخرجه عثمان إلى الشام تشيّع جماعة كثيرة من أهلها ، فأخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيّعوا من ذلك اليوم»(٢) ، ويشير بعض الباحثين إلى خبر مرابطة أبي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٨/ ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، أُصول الكافي ٨ / ٢٠٧.

(٢) أمل الآمل : ١٠٣.

٦٣

ذرّ عند ساحل (الصرفند) ـ أي بيروت ـ وتواتره(١).

كما يذكر السيّد محسن الأمين أنّ خبر نفي أبي ذرّ إلى قرى الشام وجبل عامل وإن لم يرد به خبر مسند إلاّ أنّه قريب غير مستبعد ، ويؤيّده وجود مسجدين في جبل عامل باسمه في كلّ من (ميس) و (الصرفند) ، وهذه الأمور يستأنس بها لتشيّع أهل جبل عامل على يد أبي ذرّ وتورث الظنّ بذلك وإن كان لا يستطيع الجزم به(٢).

بينما يخلص بعض الباحثين إلى أنّ الروايات الواردة حول الموضوع لا تعني أنّ إخراج أبي ذرّ الأوّل إلى الشام كان نفياً ، كما لا يصادق على كون معاوية قد استقدمه إلى الشام ثمّ خرج إلى قراها(٣) ، وقد أيّده في هذا باحث آخر إذا اعتبر أنّه قدم إلى الشام في المرّة الأولى بملء إرادته ، وأكّد على أنّ من المقبول القول : أنّه كان في جبل عامل بعد أن تمّ رصده في طرابلس وبيت المقدس وفقاً لمصادر تاريخية ، ولكنه في الوقت نفسه يميل إلى اعتبار ارتباط التشيّع في جبل عامل بأبي ذرّ أقرب إلى الأُسطورة منه إلى الحقيقة التاريخية ، كما لم يصادق على ارتباط تشيّع أهل جبل عامل بأبي ذرّ بعض الباحثين الآخرين(٤).

ويتابع الشيخ الحرّ العاملي حديثه : «قامت بعد ذلك جماعات قليلة من

__________________

(١) بيروت ودورها الجهادي من الفتح الإسلامي حتّى نهاية العهد العثماني : ٩ ـ ١٠.

(٢) موسوعة محمّد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ١ / ٨٥.

(٣) نفس المصدر ١ / ٨٥.

(٤) نفس المصدر ١ / ٨٥ ـ ٨٦.

٦٤

الشيعة في مكّة والطائف واليمن والعراق وبلاد فارس إلاّ أنّ عددهم في جبل عامل كان الأكثر ، وعلى ما يبدو فإنّ الشيعة الإمامية في الواقع لـم تدخله إلاّ ابتداءً من (ق ٩ هـ) كما في باقي المناطق من بلاد الشام ، وقد ازدهرت فيه في القرن (١١ هـ) ، وقد اضطرّ الشيعة إثر انسحابهم بعد حملات المماليك التعسّفية على (كسروان) (١٢٩١ ـ ١٣٠٥م) للتراجع إلى (جزّين) و (البقاع) فزاد بذلك عدد السكان في جبل عامل».

رابعاً ـ عاملة في أدب الرحلات :

عاملة موقعاً وتاريخاً وسكّاناً أجبرت الرحّالة العرب والمسلمين والأجانب على ريادتها وتدوين مشاهداتهم في فترات متعاقبة ومفاصل استثنائية ضمن مسارها الحضاري وتطوّرها التاريخي؛ فقد تنقّل الرحّالة الإيراني المعروف (ناصر خسرو القباذياني) ودوّن عام (٤٣٧ هـ :) (إنّ أكثر أهل (صور) من الشيعة».

وقد أكّد كلّ أولئك الرحّالة العرب والمسلمون والأجانب من (ق ١٢ هـ ـ ق ١٤ هـ) على أنّ سكّان جبل عامل كانوا من ـ الإمامية ، حيث يؤكّد (ناصر خسروا) أيضاً عن (صور) مثلاً : «هي معروفة بالمال والقوّة بين البلاد الساحلية وأكثر أهاليها شيعة وقاضيها رجل سنّي»(١).

__________________

(١) تاريخ جبل عامل : ٢٣٠ ، السيّد شرف الدين والمذهب الجعفري في صور ، مقال في ٢/٢٣٠.

٦٥

ومرّ بها الرحّالة التاريخي الشهير (ابن بطوطة) في رحلته عام (٧٢٥ هـ) وقال : «إنّها خرابٌ وبخارجها قرية معمورة ، وأكثر أهلها أرفاض»(١).

ويروي لنا الرحّالة المعروف (ابن جبير) عن مشاهداته إبّان الحروب الصليبية : «ورحلنا عن (تبنين) وطريقنا كلّه ضِياع متّصلة وعمائر منتظمة ، سكّانها كلّهم مسلمون ويؤدّون للإفرنج نصف الغلّة وجزية عن كلّ رأس : دينار وخمسة قراريط ، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة»(٢).

وقد زار هذه المنطقة الرحّالة الفرنسي VOLNEY بعد واقعة الوالي الاستبدادي أحمد باشا الجزّار فيها بثلاث سنوات ، وقد أحرقت مكتبتها ، وشاهد آثار تلك الواقعة المأساوية(٣).

__________________

(١) خطط جبل عامل : ٣٠٩.

(٢) جبل عامل وإثراء ثقافة أهل البيت ونشر علومهم الإمام شرف الدين ١ / ٨٠.

(٣) نفس المصدر ٢ / ٢٦٤.

٦٦

الفصل الأوّل

الشهيد الأوّل

(محمّد بن مكّي العاملي)

(٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ)

عصره وسيرته

المبحث الأوّل

التركيبة السياسية في عصر الشهيد الأوّل

عاش الشهيد الأوّل عصراً مضطرباً قلقاً على الصعيد السياسي والاجتماعي على السواء ، وكانت الفتن تعصف به من كلّ جانب ، فقد كانت الدولة الإسلامية ـ على سعتها ـ ممزّقه شرّ ممزّق ، ومن مفارقات الدهر أن ظهر المماليك.

والمماليك : عبيد من جنسيّات مختلفة كانوا امتداداً للدولة الأيّوبية (٥٦٤ هـ) ، وهم بشكل عام جهلة أُمّيّون ومن سفّاكي الدماء ، وينقسم المماليك ، إلى قسمين :

٦٧

الأوّل ـ المماليك البحرية (١٢٥٠ ـ ١٣٩٠ م) : وقد سمّوا بذلك نسبة إلى نهر النيل ، إذ كانت مواقعهم العسكرية وثكناتهم البحرية تقوم على جزيرة صغيرة في النهر ، وهم في الغالب من الأتراك والمغول.

الثاني ـ المماليك البرجية (١٣٨٢ ـ ١٥١٧ م) : وهم غالباً من الشراكسة ، والشراكسة من مناطق شمال غربي القفقاس والشاطئ الشرقي للبحر الأسود(١).

لقد استولى الشراكسة على الحكم بعد انتهاء المماليك البحرية وذلك عام (٧٨٤ هـ) واستمرّ حكمهم زهاء (١٣٨) عاماً ، وقد اتّخذوا من القاهرة عاصمة لهم ، وأوّل ملوكهم الظاهر سيف الدين المعروف بـ : (برقوق) لجحوظ عينيه(٢) ، وكان في أوّل عهده عبداً خاصّاً أتابكاً للملك الصالح الحاجي ابن الأشرف بن شعبان وهو الرابع عشر من ملوك الأتراك ، ولقد تولّى الحاجي الحكم وعمره (١٠) سنوات فانتهز برقوق ضعفه واستولى على الحكم ، ولكن الأمور لم تسر في صالحه إذ سرعان ما انشقّ عليه الأمراء فأعلن كلّ من تمريغ الأفضلي وبليغ العمري الثورة عليه وأطيح به وأعيد الحاجي مرّة أخرى إلى سدّة الحكم ، فيما سيق برقوق إلى السجن بـ : (كرك) ، على أنّ برقوق استولى على السلطة مرّة أخرى فور خروجه من السجن بعد إن جمع قوّاته فقضى على أعدائه واستمرّ في الحكم حتّى وفاته عام (٨٠١ هـ)(٣).

__________________

(١) تقديم الروضة البهيّة : ٩٨ ، الشهيد الأوّل فقيه السربداران : ٩٢.

(٢) مقدّمة الروضة البهية ص ج.

(٣) تقديم الروضة البهيّة : ٥٨ ، الشهيد الأوّل فقيه السربداران : ٩٢.

٦٨

المبحث الثاني

الحياة الاجتماعية في عهد الشهيد الأوّل

تردّت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية عموماً في مصر وسوريا بعد تسلّط الشراكسة على الحكم وتفشّى الفساد في أجهزة الدولة لضعف جهاز الدولة نفسه ولتسرّب الصليبيّين إلى البلدان الإسلامية ، فقد جاءت الحملات الصليبية عقيب حملة التتر وكان لهما أسوء الأثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فلم يكد الناس يتنفّسوا الصعداء اثر توقّف الاجتياح المغولي حتّى بدأت الحروب الصليبية وتدهورت الأوضاع من سيء إلى أسوء بسبب الحروب والفتن الداخلية والاختلافات القائمة على قدم وساق بين الأمراء والحكّام ، وقد ذاقت الشعوب الإسلامية الأمرّين من حكم الشراكسة ، فبينا هم عبيد في أيدي النخّاسين بالأمس إذا هم اليوم ملوك وسلاطين يمسكون بمقدّرات أمّة عظيمة ، وقد بلغ الاستهتار ذروته حتّى أصبح خيال الحكم يراود كلّ عبد منذ قدومه إلى السوق.

يذكر صاحب مؤلف سمط النجوم العوالي نصّاً جديراً بالتأمّل والدراسة لتلك الفترة وحتّى لأيّامنا هذه : «جُلِبَ عبد وهو حقير فاحش القرعة فاحش العرج ، قال للدلاّل الذي يبيعه : هل اتّفق تولّي الأقرع الأعرج سلطاناً»(١) ، وقد بلغ تململ الشعوب الإسلامية جرّاء تعسّفهم حتّى باتت تشعر بالمرارة والألم وشهدت هذه الفترة أربع عشر فتنه خطيرة كما أحصاها المؤرّخون والباحثون ،

__________________

(١) سمط النجوم العوالي ٣ / ٤٠٧.

٦٩

ثمّ زاد الطين بلّة إتيان الكوارث الطبيعية والأوبئة الفتّاكة التي أهلكت الحرث والنسل لتجتاح البلاد وتزيد أوضاعها تعقيداً وتعاسةً ، فقد عمّت حقبةٌ كثرت فيها الزلازل والمجاعات والجفاف ، وقد خصّص المؤرّخ المقريزي لوصف هذه الظواهر كتاباً يخصّ تلك الفترة ، فيما انشغل برقوق طيلة فترة حكمه بإخماد الفتن والثورات وإحباط المؤامرات في الداخل ، إذ كانت العوامل السالفة الذكر تبعث الناس على عدم الخضوع والاستسلام لهذه الدولة الجديدة ، وفي الوقت نفسه كان مهدّداً من قبل الإفرنج الصليبيّين ، وكذا من قبل (تيمور لنك) حيث بعث له برسالة تهديدية شديدة اللّهجة ، كما كان مهدّداً من قبل المماليك البحرية ، وكان انشغال الحكومة بإخماد الحركات السياسية ومقاومة الفتن العسكرية والاضطرابات الداخلية المعارضة سبباً لضعف النشاط الفكري والثقافي وأعمال الإعمار والبناء والفنّ والهندسة ، كما خلّفت هذه الحروب والاضطرابات أثراً سيّئاً في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية ، وفي مقابل هذا الوضع كان على الشعوب أن تتحمّل تبعات المجهود الحربي ، فارتفعت الضرائب بشكل كبير وتفشّى الفساد المالي والإداري ، وراح بعض أصحاب النفوذ يحتكرون السلع الضرورية من قبيل السكّر والملح ، وحكّام هذه الدولة وأمراءها كانوا من الناحية الأخلاقية والدينية سافلين ساقطين.

وإليك هذا التوثيق التاريخي شاهداً على ذلك :

«كان عدد من السلاطين ـ من هذه الأُسرة ـ عاجزين وخونة ، وكان بعضهم فاسدين بل ساقطين ، وكان أكثرهم غير مثقّفين ، وقد عاد نظام تسرّي

٧٠

الغلمان إلى مثل ما كان عليه من الشيوع في أيّام العباسيّين ، واتّهم عدد من المماليك أوّلهم (بيبرس) ، ولم يكن السلاطين وحدهم فاسدين بل إنّ الأمراء أيضاً وسائر من في الحكم كانوا على جانب من الفساد» (١).

وقد ظهرت البدع والضلالات العمياء ومنها فتنة (اليالوش) (٢) فيما تتنامى النعرات المذهبية والروح الطائفية بين السنّة والشيعة ، وقد لعب أولئك الحكّام الفاسدون والصليبيّون الحاقدون دوراً قذراً في إلهاب حدّة الصراع وإلهاء الشعوب بذلك في التفريق بين المسلمين لتمرير مخطّطاتهم نحو السيطرة والاستعمار والاستعباد.

المبحث الثالث

القيادة المرجعية ـ السياسية للشهيد الأوّل

المطلب الأوّل ـ البعد السياسي عند الشهيد الأوّل :

تمتّع الشهيد الأوّل بعلاقات جيّدة مع الحكّام والأمراء والشخصيّات السياسية البارزة في وقته ، وكان يستثمر هذه العلاقات في خدمة الصالح العامّ ، إضافةً إلى بيته الذي كان محضراً لعلماء السنّة فضلاً عن علماء الشيعة ،

__________________

(١) تقديم الروضة البهية ، نقلا عن فيليب حَتّي : تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ٤/٢٧٤.

(٢) اليالوش : حركة هدّامة انتشرت بين السذّج وأجّجها نفر من المشعوذين سالكين بدعة جديدة أيّام الشهيد الأوّل في جبل عامل وهي نسبة إلى محمّد اليالوش وقيل إنّه كان من تلامذة الشهيد. لاحظ في ذلك : روضات الجنّات ٧ / ٢٠.

٧١

وذلك بطبيعة الحال يعطي التصوّر الصادق في متبنيات الشهيد الأوّل للتقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية والجامعة الدينية ، إضافةً إلى الشخصيّات السياسية ، وبقي نشاطه في هذا السبيل حتّى استشهد (١).

واحتلّ الشهيد في المدّة التي عاشها في دمشق مكانة اجتماعية راقية ، فكان موضع حفاوة الطبقات المختلفة ، واكتسب شعبية كبيرة ، كما التفّ حوله كثيرٌ من أقطاب السياسة والحكم في دمشق وخارجها.

واستطاع أن يتجاوز في نفوذه الروحي والإسلامي حدود سوريا والعراق ، ويشدّ الملوك والحكّام من الإطراف إليه ، وكان منهم (علي بن مؤيّد) ملك السربداران في إيران ـ وسنتناول المعالجة التاريخية لتلك الدولة الفارسية في المبحث الآتي ـ وكان البعد السياسي هو منشأ الضغينة من قبل البعض ومثار حقدهم وكراهيّتهم.

المطلب الثاني ـ بناء الكيان المرجعيّ :

يعتقد السيّد الشهيد الصدر الأوّل أنّ المرجعية وكيانها مرّت بمراحل ثلاث :

أوّلاً : مرحلة الاتّصالات الفردية : وقد حصلت بين العلماء المجتهدين والقواعد الشعبية في بلاد أولئك العلماء ، يُستفتى العالم فيفتي ، وهذه المرحلة هي المرحلة التي عاشها أصحاب الأئمّة عليهم الصلاة والسلام واستمرّت هذه الحالة إلى أيّام العلاّمة الحلّي.

ثانياً ـ مرحلة المرجعية (الجهاز) : حيث يستطرد الشهيد الصدر محمّد

__________________

(١) المرجعية والأمّة العلاقات المتبادلة : ٣ ـ ١٨.

٧٢

باقر في تفصيله لهذا التصنيف «وأظنّ ـ بحسب فهمي من سير الأحداث ـ أنّه [كانت] على يد الشهيد الأوّل رضي‌الله‌عنه ، ... الذي قدّم دمه في سبيل نقل هذا الكيان من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية.

على عهد الشهيد الأوّل رضي‌الله‌عنه تطوّر هذا الكيان .... أصبح هذا الكيان عبارة عن أجهزة من الوكلاء وعلماء الإطراف يرتبطون بالمرجع ويتّصلون بالقواعد الشعبية .... يعني هذا الوضع الموجود للمرجعية فعلاً ، أنا لا أعرف تطبيقاً أسبق من الناحية التاريخية له من تطبيق الشهيد الأوّل رضي‌الله‌عنه ، قام بهذا التطبيق في لبنان وسوريا ، وعيّن الوكلاء وفرض جباية الزكاة والخمس على القواعد الشعبية من الشيعة ، وبذلك أنشأ كياناً دينيّاً قويّاً للشيعة مترابطاً لأوّل مرّة في تاريخ العلماء».

ثالثاً ـ (مرحلة التمركز والاستقطاب) (١) : استمرّت هذه المرحلة إلى أن دخلت المرجعية (المرحلة الثالثة) على يد الشيخ كاشف الغطاء ويقصد به رضي‌الله‌عنهالشيخ جعفر الجناجي ـ ومعاصريه من ـ العلماء وهي مرحلة التمركز والاستقطاب.

المطلب الثالث ـ دولة السربداران :

كانت للشهيد الأوّل علاقات مؤكّدة وصلات متينة مع (عليّ بن مؤيّد) آخر ملوك السربداران ولهذا آثرنا المعالجة التاريخية لهذه الحكومة ومدى

__________________

(١) المحنة ، تسجيلات بصوته الشريف كمحاضرات عرفانية أخلاقية ، محنتنا على لسان الشهيد الصدر : ٣٨ ـ ٣٩.

٧٣

تأثيرها في الأحداث من خلال معاصرة شهيدنا الأوّل لها حيث كتب لهم كتابه الخالد اللّمعة الدمشقية لتكون دستوراً إسلاميّاً لهذه الدولة.

والسربداران : حكومات شيعية استولت على الحكم في خراسان بعد معارك دامية عام (٧٣٨ هـ) واستمرّت حتّى عام (٧٨٣ هـ) ـ بعد وفاة محمّد خدا بنده الملك المغولي ـ وجاءت ثورة السربداران كردّ فعل عنيف لظلم المغول ، وقد قاد الثورة أوّل ملوكهم (الأمير عبد الرزّاق) المؤسّس لهذه السلسلة مطلقاً شعاراً حماسيّاً مفاده : (الموت شنقاً أفضل من الحياة ذلاًّ) (١) وإذا كان لكلّ ثورة شرارتها فإنّ نهضة السربدارارن بدأت لدى هجوم خمسة من جنود المغول في قرية (باشتين) ـ وهي من قرى مدينة (بيهق) (٢) ـ على إحدى البيوت واستفزازهم أهلها ، عندها انبرى أهل البيت للدفاع عن أنفسهم وقتلوا الجنود الخمسة وهو أمر يعني زوال بيهق كلّها من على الخارطة ، وينبري عبد الرزاق إلى حماية الثائرين وإعلانه دمه لهم لتتطوّر الحادثة وتأخذ شكل الثورة العارمة ضدّ الوجود المغولي بأسره مطلقين صيحتهم المدوّية : (سر به دار مي دهيم أمّا زير بار ننگ نمي رويم) (٣) ، وينتسب حكّام السربداران من جهة الأب إلى الإمام الحسين عليه‌السلام أمّا من جهة الأم فيعود نسبهم إلى البرامكة ، ويعدّ (الشيخ خليفة المازندراني) منظّر الثورة ومؤسّس قاعدتها

__________________

(١) الشهيد الأوّل فقيه السربداران : ٨٨. ونصّ الشعار بالفارسية : (سر به دار مي دهيم أمّا زير بار ننگ نمي رويم).

(٢) بيهق : هي مدينة سبزوار من مقاطعة خراسان حالياً.

(٣) الموت شنقاً أفضل من الحياة ذلاًّ.

٧٤

الفكرية ، وبعد استشهاد الشيخ خليفة أعقبه تلميذه (الشيخ حسن جوري) في دعوته حيث استشهد هو الآخر في صراعه المرير ضدّ أعدائه وقد تركت شهادته أثراً بالغ الخطورة على الساحة الفكرية دفعت بآخر ملوك السربداران (عليّ بن مؤيّد) إلى عرض الزعامة الفكرية على الشهيد الأوّل وملي الفراغ الذي نشأ عن غياب الشيخ حسن جوري ، ومن هنا أُلّفت اللّمعة الدمشقية ودفعها الشهيد الأوّل إلى (شمس الدين الآوي) (١) صاحب (عليّ بن مؤيّد) وأمره بالإسراع والكتمان.

وتعود أهميّة السربداران إلى أنّ نهضتهم قامت على قاعدة إسلامية هدفها إرساء العدل في البلاد ولعلّها قاعدة إنسانية أيضاً متّخذة من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام طريقاً لتحقيق ذلك.

ولقد شهدت خراسان تقدّماً كبيراً في مختلف الأصعدة خلال حكمهم الذي استمرّ قرابة النصف قرن من الزمن ، فقد كانت مندمجة في حكومة التتر وانقرضت بعد ذلك بسنوات قليلة (٢) ، وقد توفّي آخر ملوكها (عليّ بن مؤيّد) عام (٧٩٥ هـ) أي بعد تسع سنوات من شهادة الشهيد الأوّل.

وللبحث صلة ...

__________________

(١) ذكر السبيتي في مقدّمة شرح اللّمعة الدمشقية : إنّه السلطان مؤيّد الدين محمّد الآوي صاحب خراسان ولعلّه تصحيف من (علي بن مؤيّد صاحب خراسان) انظر في ذلك : الروضة البهية في شرح اللّمعة الدمشقية. ج١ ص ل ، وذكره الشيخ الآصفي : (الشيخ محمّد الآوي وزير علي بن مؤيّد) ، تقديم الروضة البهية ١ / ١٠١.

(٢) تقديم الروضة البهية ١/ ١٣٢.

٧٥

تاريخ الحوزات العلميّة والمدارس الدينيّة

عند الشيعة الإمامية

(الحوزة العلمية في الحلّة)

الشيخ عدنان فرحان

بسم الله الرحمن الرحيم

المدخل : نشأة مدينة الحلّة :

يتّفق البلدانيّون والمؤرّخون على أنّ تأسيس مدينة الحلّة تمّ على يد أميرها الشهير سيف الدولة ، صدقة بن منصور بن دبيس بن عليّ بن مزيد الأسدي سنة (٤٩٥ هـ).

يقول ابن الأثير في الكامل ضمن حوادث سنة (٤٩٥ هـ) : «وفيها بنى سيف الدولة صدقة ابن مَزيد الحلّة بالجامعين ، وسكنها ، وإنّما كان يسكن هو وآباؤه في البيوت العربية»(١).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦/٤٢٥.

٧٦

ويتوسّع الحموي في وصف الحلّة ، ومنطقة الجامعين التي حوتها ، فيقول : «والحلّة ، علم لعدّة مواضع وأشهرها : حلّةُ بني مَزيد ، مدينة كبيرة بين الكوفة وبغداد كانت تسمّى الجامعين .. وكان أوّل من عمّرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن عليّ بن مزيد الأسدي ، وكانت منازل آبائه الدور من النيل ، فلمّا قوي أمره ، واشتدّ أزره ، وكثرت أمواله لاشتغال الملوك السلجوقية ، بما تواتر بينهم من الحروب ، انتقل إلى الجامعين ، موضع غربي الفرات ليبعد عن الطالب وذلك في محرّم سنة (٤٩٥ هـ)». ثمّ يصف لنا منطقة الجامعين قبل أن يمصّرها (سيف الدولة) فيقول : «وكانت أجمة تأوي إليها السباع فنزل بها بأهله وعساكره وبنى بها المساكن الجليلة والدور الفاخرة ، وتأنّق أصحابه في مثل ذلك ، فصارت ملجأً ، وقد قصدها التجّار فصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها ..».

وفي مكان آخر من معجمه يقول الحموي : «الجامِعَين : كذا يقولونه بلفظ المجرور المثنّى ، هو حلّة بني مَزيد التي بأرض بابل على الفرات بين بغداد والكوفة وهي الآن مدينة كبيرة آهلة .. وقد أَخرجت خلقاً كثيراً من أهل العلم والأدب ينسبون الحلّي ..»(١).

وقد زار الحلّة بعد تأسيسها الرحّالة المعروف (ابن جبير) ووصفها وصفاً دقيقاً ، مركِّزاً على الجانب العمراني فيها التي تدلّ ـ بحسب قوله ـ :

__________________

(١) معجم البلدان ٣/ ٢٤ ، ١٧٦.

٧٧

«على عظم الإستطاعة والقدرة»(١).

كما أن الرَّحَّالة المشهور (ابن بطّوطة) زار الحلّة سنة (٧٢٧ هـ) ، فأعاد ما ذكره ابن جبير عنها ، ممّا يدلّ على بقاء الحلّة عمارتها وأهمّيتها خلال الفترة بين زيارتي الرحّالتين(٢).

ولا نريد أن نتوسّع كثيراً في نشأة المدينة وأعمالها وقراها التابعة لها ، فالحلّة غنية عن التعريف في حضارتها وتركيبتها الاجتماعية فهي وريثة (أرض بابل) «التي نشأ فيها حضارات قديمة بابلية وكلدانية وسومرية ، وعلى مرور السنين تكوَّن شعب ينتمي إلى أُصول بابلية وكلدانية وسومرية أطلق عليهم العرب اسمَ (النبط) .. وكان هذا الشعب النبطي وريث الحضارات القديمة التي نشأت في هذه البقعة وكانت فيها بقية صالحة ـ عند الفتح الإسلامي ـ تحتفظ بمعارف الأقدمين وتتدارسها ، وبواسطتهم رسخت الحضارة في أرض بابل»(٣).

كذلك امتزج في هذه المدينة عناصر اجتماعية متعدّدة شكّلت نسيجاً اجتماعيّاً مثاليّاً في تعايشه وتعاونه ، يقول مؤرّخ الحلّة يوسف كركوش : «إنَّ المجتمع الحلّي كان يتكوّن من عناصر مختلفة : عرب وأكراد ونبط سكّان البلاد الأصليّين ، أمّا العرب فكان أكثرهم من بني أسد ، ولهم السيادة .. وأمّا

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ١٥٤.

(٢) رحلة ابن بطّوطة : ٢٣٢ ، وانظر : متابعات فكرية : ٤ ـ ٥.

(٣) تاريخ الحلّة ١ / ٢ ـ ٣.

٧٨

الأكراد فهم قبيلة الجاوان» ، قال الفيروزآبادي : «وجاوان قبيلة من الأكراد سكنوا الحلّة المزيدية بالعراق ..»(١).

وجاء في مجلّة المجمع العلمي العراقي : «كان الجاوانيّون ـ قبل نزوحهم إلى الحلّة ـ يسكنون الجانب الشرقي لدجلة حيال طريق خراسان ، والظاهر أنّهم امتدّوا في السكنى على النهروان في شرق بغداد ... قرب الكوت .. وهذه القبيلة حالفت بني مزيد ، وشاركتهم في السرّاء والضرّاء قبل نزوحهم إلى النيل .. وكانت السيادة لبني مزيد عليهم وعلى بني أسد ، ومن انضمَّ إليهم .. ولا تزال محلّتهم في الحلّة تعرف بـ (الكرّاد الجواني) وفي عهد الأمير ورّام (الثاني) ابن أبي فراس انتقل الجاوانيّون إلى أرض الجامعين ليؤسّسوا الحلّة مع أمير بني أسد صدقة»(٢).

الفصل الأوّل

منطلق الحركة العلمية في الحلّة

المبحث الأوّل : دور الأُمراء المزيديّين في ترسيخ الحركة العلمية في الحلّة :

ممّا لا شكّ فيه أنّ أُمراء بني مزيد الأسدي كانوا من الشيعة ، ويشاركهم في عقيدة التشيّع حلفاؤهم من القبائل العربية الأُخرى ، كقبائل خفاجة ،

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) مجلّة المجمع العلمي العراقي : م ٧ ، ١ / ٩٤ ، ٩٦ ، ٩٨.

٧٩

وعبادة ، وعقيل ، بالإضافة إلى حليفهم الرئيسي الكرد الجاوانيّون ، فنجد أنّ الرحّالة ابن بطّوطة في رحلته ؛ والتي كان فيها يولي اهتمامه بعقيدة ومذهب سكّان المدن التي يزورها ، يقول عن الحلّة : «وأهل هذه المدينة كلّها إمامية إثنا عشرية ، وهم طائفتان إحداهما تُعرَف بالأكراد ، والأُخرى تُعرَف بأهل الجامعين»(١).

وجاء في مقال المجمع العلمي : «كانت قبيلة الجاوان ـ الكردية ـ شافعية المذهب ، والمزيدون شيعة إثنى عشرية ، ولكن على مرّ الأيّام اندمجوا ببني أسد ، فصاروا شيعة إثني عشرية ، كما استعربوا ..»(٢).

ويتحدّث ابن الأثير في الكامل ضمن حوادث سنة (٤٤٣ هـ) عن الفتنة بين العامّة ببغداد فيقول : «وأُحرق المشهد ـ ويعني مشهد الإمام موسى الكاظم والإمام محمّد الجواد عليهما‌السلام .. وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجرِ في الدنيا مثله .. ـ ثمّ يقول : ولمّا انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس ابن مزيد عظم عليه واشتدّ وبلغ منه كلّ مبلغ ؛ لأنّه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل ، وتلك الولاية كلّهم شيعة ، فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله ، فروسل في ذلك وعوتب ، فاعتذر بأنّ أهل ولايته شيعة ، واتّفقوا على ذلك ، فلم يمكنه أن يشقّ عليهم ..»(٣).

__________________

(١) رحلة ابن بطّوطة : ٢٣٢.

(٢) مجلّة المجمع العلمي العراقي : م ٧ ، ١/ ٩٨.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ / ١٥٨ ـ ١٥٩.

٨٠