تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-2501-06-6
الصفحات: ٤٤٠

* علی أنّ تواتر حديث الغدير ممّا تقضی به النوامیس التی فطر اللّٰه الطبیعه عليها ، شأن كلّ واقعه تاريخيه عظيمه يقوم بها عظيم الأُمّه ، فيوقعها بمنظر وبمسمع من الأُلوف المجتمعه من أُمّته من أماكن شتّی ، لیحملوا نبأها عنه إلی مَن وراءهم من الناس ، ولا سيّما إذا كانت من بعده محلّ العنآيه من أُسرته وأوليائهم في كلّ خلف ، حتّی بلغوا بنشرها وإذاعتها كلّ مبلغ ، فهل يمكن أن يكون نبؤها ـ والحال هذه ـ من أخبار الآحاد؟! كلّا بل لا بُدّ أن ينتشر انتشار الصبح ، فينظم حاشيتی البرّ والبحر (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلاً) (١).

* إنّ حديث الغدير كان محلّ العنآيه من اللّٰه عزّ وجلّ ؛ إذ أوحاه تبارك وتعالی إلی نبیّه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، وأنزل فيه قرآناً يرتّله المسلمون آناء الليل وأطراف النهار ، يتلونه في خلواتهم وجلواتهم ، وفي أورادهم وصلواتهم ، وعلی أعواد منابرهم ، وعوالی منائرهم : (يٰا آيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إليك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَاللّٰهُ يعْصِمُك مِنَ النّٰاسِ) (٢) ، فلمّا بلّغ الرساله يومئذ

__________________

(١) سوره فاطر ٣٥ : ٤٣.

(٢) لا كلام عندنا في نزولها بولآيه عليّ يوم غدير خمّ ، وأخبارنا في ذلك متواتره عن أئمّة العتره الطاهرة ، وحسبك ممّا جاء في ذلك من طريق غيرهم ، ما أخرجه الإمام الواحدي في تفسير الآيه من سوره المائده ص ٢٠٤ من كتابه أسباب النزول ، من طريقين معتبرين عن عطيه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : نزلت هذه الآيه : «يا آيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك» يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالب. قلت : وهو الذي أخرجه الحافظ أبو نعيم في تفسيرها من كتابه نزول القرآن بسندين ، (أحدهما) عن أبي سعید (والآخر) عن أبي رافع ، ورواه الإمام إبراهيم بن محمّد الحمویني الشافعي في كتابه الفرائد بطرق متعدّده عن أبي هريره ، وأخرجه الإمام أبو إسحاق الثعلبي في معني الآيه من تفسيره الكبير ، بسندين معتبرين.

وممّا يشهد له أنّ الصلاه كانت قبل نزولها قائمه ، والزكاه مفروضه ، والصوم كان مشروعاً ، والبيت

٣٢١

بنصّه علی عليّ بالإمامه ، وعهده إليه بالخلافه ، أنزل اللّٰه عزّ وجلّ عليه : (الْيوم أَكمَلْتُ لَكمْ دينكمْ وَأَتْمَمْتُ عليكمْ نِعْمَتِی وَرضيتُ لَكمُ الْإِسْلاٰمَ ديناً) (١) ، بخ بخ (ذٰلِك فَضْلُ اللّٰهِ يؤْتِیهِ مَنْ يشٰاءُ) ؛ إنّ من نظر إلی هذه الآيات ، بخع لهذه العنايات.

* وإذا كانت العنآيه من اللّٰه عزّ وجلّ علی هذا الشكل ، فلا غرو أن يكون من عنآيه رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ما كان ، فإنّه لمّا دنا أجله ، ونعيت إلی نفسه ، أجمع ـ بأمر اللّٰه تعالی ـ علی أن ينادي بولآيه عليّ في الحجّ الأكبر علی رؤوس الأشهاد ، ولم يكتف بنصّ الدار يوم الإنذار بمكة ، ولا بغيره من النصوص المتوإليه ، وقد سمعت بعضها ، فأذّن في الناس قبل الموسم أنّه حاجّ في هذا العام حجّه الوداع ، فوافاه الناس من كلّ فجّ عميق ، وخرج من المدينه بنحو مئه ألف أو يزيدون (٢) ..

فلمّا كان يوم الموقف بعرفات نادی في الناس : عليّ مني ، وأنا من عليّ ، ولا يؤدّی عني إلّا أنا أو عليّ (٣).

__________________

محجوجاً ، والحلال بيناً ، والحرام بيناً ، والشریعه متّسقه ، وأحكامها مستتبّه ، فأي شيء غير ولآيه العهد يستوجب من اللّٰه هذا التأكيد ، ويقتضی الحثّ علی بلاغه بما يشبه الوعيد؟! وأي أمر غير الخلافه يخشی النبيّ الفتنة بتبليغه ، ويحتاج إلی العصمه من أذی الناس بأدائه؟!

(١) صحاحنا في نزول هذه الآيه بما قلناه متواتره من طريق العتره الطاهرة ، فلا ريب فيه ، وإن روی البخاري أنّها نزلت يوم عرفه ـ وأهل البيت أدري ـ.

(٢) قال السيّد أحمد زیني دحلان في باب حجّه الوداع من كتابه السيره النبوية : وخرج معه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ـ من المدينه ـ تسعون ألفاً ، ويقال مئه ألف وأربعه وعشرون ألفاً ، ويقال أكثر من ذلك. (قال :) وهذه عدّه من خرج معه ، وأمّا الّذين حجّوا معه فأكثر من ذلك ، إلی آخر كلامه ؛ ومنه يعلم أنّ الّذين قفلوا معه كانوا أكثر من مئه ألف ، وكلّهم شهدوا حديث الغدير.

(٣) أوردنا هذا الحديث في المراجعه ٤٨ ، فراجعه تجده الحديث ١٥ ولنا هناك في أصل الكتاب وفي

٣٢٢

ولمّا قفل بمن معه من تلك الألوف وبلغوا وادی خمّ ، وهبط عليه الروح الأمين بآيه التبلیغ عن ربّ العالمین ، حطّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم هناك رحله ، حتّی لحقه من تأخّر عنه من الناس ورجع إليه من تقدّمه منهم ، فلمّا اجتمعوا صلّی بهم الفریضه ، ثمّ خطبهم عن اللّٰه عزّ وجلّ ، فصدع بالنصّ في ولآيه عليّ ، وقد سمعت شذره من شذوره ، وما لم تسمعه أصحّ وأصرح ، علی أنّ في ما سمعته كفآيه ..

وقد حمله عن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم كلّ مَن كان معه يومئذ من تلك الجماهیر ، وكانت تربو علی مئه ألف نسمه من بلاد شتّی.

فسُنّة اللّٰه عزّ وجلّ التی لا تبدیل لها في خلقه تقتضی تواتره ، مهما كانت هناك موانع تمنع من نقله ، علی أنّ لأئمّة أهل البيت طرقاً تمثّل الحكمه في بثّه وإشاعته.

* وحسبك منها ما قام به أمير المؤمنين أيام خلافته ؛ إذ جمع الناس في الرحبه فقال : أُنشد اللّٰه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خمّ ما قال ، إلّا قام فشهد بما سمع ، ولا يقم إلّا من رآه بعينيه وسمعه بأذنیه.

فقام ثلاثون صحابيا فيهم اثنا عشر بدريا ، فشهدوا أنّه أخذه بیده ، فقال للناس : أتعلمون أني أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟! قالوا : نعم ، قال صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : مَن كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ... الحديث.

__________________

التعليقة عليه كلام يجدر بالباحثين أن يقفوا عليه.

٣٢٣

وأنت تعلم أنّ تواطؤ الثلاثین صحابيا علی الكذب ممّا يمنعه العقل ، فحصول التواتر بمجرّد شهادتهم ـ إذن ـ قطعی لا ريب فيه ، وقد حمل هذا الحديث عنهم كلّ مَن كان في الرحبه من تلك الجموع ، فبثّوه بعد تفرّقهم في البلاد ، فطار كلّ مطير.

ولا يخفي أنّ يوم الرحبه إنّما كان في خلافه أمير المؤمنين ، وقد بويع سنه خمس وثلاثين ، ويوم الغدير إنّما كان في حجّه الوداع سنه عشر ، فبين اليومين ـ في أقلّ الصور ـ خمس وعشرون سنه ، كان في خلالها طاعون عمواس ، وحروب الفتوحات والغزوات علی عهد الخلفاء الثلاثه ..

وهذه المدّه ـ وهی ربع قرن ـ بمجرّد طولها وبحروبها وغاراتها ، وبطاعون عمواسها الجارف ، قد أفنت جلّ من شهد يوم الغدير من شيوخ الصحابه وكهولهم ، ومن فتيانهم المتسرعين ـ في الجهاد ـ إلی لقاء اللّٰه عزّ وجلّ ورسوله صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، حتّی لم يبق منهم حيا بالنسبه إلی مَن مات إلّا قليل ..

والأحياء منهم كانوا منتشرين في الأرض ، إذ لم يشهد منهم الرحبه إلّا من كان مع أمير المؤمنين في العراق من الرجال دون النساء.

ومع هذا كلّه فقد قام ثلاثون صحابيا ، فيهم اثنا عشر بدريا ، فشهدوا بحديث الغدير سماعاً من رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ..

وربّ قوم أقعدهم البغض عن القيام بواجب الشهاده ، كأنس (١) بن مالك

__________________

(١) حيث قال له عليّ عليه السلام : ما لك لا تقوم مع أصحاب رسول اللّٰه فتشهد بما سمعته يومئذ منه؟! فقال : يا أمير المؤمنين! كبرت سني ونسيت. فقال عليّ : إن كنت كاذباً فضربك اللّٰه ببيضاء لا تواريها العمامه ، فما قام حتّی ابيضّ وجهه برصاً ، فكان بعد ذلك يقول : أصابتني دعوه العبد الصالح. انتهی.

٣٢٤

وغيره ، فأصابتهم دعوه أمير المؤمنين عليه السلام.

ولو تسني له أن يجمع كلّ مَن كان حيا يومئذ من الصحابه رجالاً ونساء ، ثمّ يناشدهم مناشده الرحبه لشهد له أضعاف الثلاثین ، فما ظنّك لو تسنّت له المناشده في الحجاز قبل أن يمضی علی عهد الغدير ما مضی من الزمن؟!

فتدبّر هذه الحقيقة الراهنه تجدها أقوی دليل علی تواتر حديث الغدير.

وحسبك ممّا جاء في يوم الرحبه من السُنن ما أخرجه الإمام أحمد ـ من حديث زيد بن أرقم في ص ٤٩٨ من الجزء الخامس من مسنده ـ عن أبي الطفيل ، قال : جمع عليّ الناس في الرحبه ثمّ قال لهم : أُنشد اللّٰه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خمّ ما سمع لما قام. فقام ثلاثون من الناس ..

(قال) وقال أبو نعيم : فقام ناس كثير ، فشهدوا حين أخذه بیده ، فقال للناس : أتعلمون أني أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟!

قالوا : نعم يا رسول اللّٰه.

قال : مَن كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه.

قال أبو الطفيل : فخرجت وكأنّ في نفسی شيئاً ـ أي من عدم عمل جمهور الأُمّه بهذا الحديث ـ فلقيت زيد بن أرقم ، فقلت له : إني سمعت عليّاً يقول : كذا وكذا.

قال زيد : فما تنكر؟! قد سمعت رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم يقول

__________________

قلت : هذه منقبه مشهوره ذكرها الإمام ابن قتيبه الدينوری ، حيث ذكر أنساً في أهل العاهات من كتابه (المعارف) صفحه ٥٨٠ ، ويشهد لها ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في صفحه ١٩٢ من الجزء الأوّل من مسنده ؛ حيث قال : فقام إلّا ثلاثه لم يقوموا فدعا عليهم ، فأصابتهم دعوته.

٣٢٥

ذلك له. انتهی.

قلت : فإذا ضممت شهاده زيد هذه ، وكلام عليّ يومئذ في هذا الموضوع ، إلی شهاده الثلاثين ، كان مجموع الناقلین للحديث يومئذ اثنین وثلاثين صحابيا.

وأخرج الإمام أحمد من حديث عليّ ص ١٩١ من الجزء الأوّل من مسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلی ، قال : شهدت عليّاً في الرحبه ينشد الناس ، أُنشد اللّٰه مَن سمع رسول اللّٰه يقول يوم غدير خم : مَن كنت مولاه فعليّ مولاه لما قام فشهد.

قال عبد الرحمن : فقام اثنا عشر بدريا كأني أنظر إلی أحدهم ، فقالوا : نشهد أنّا سمعنا رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خمّ : ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجی أمّهاتهم؟!

فقلنا : بلی يا رسول اللّٰه.

قال : فمَن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه. انتهی.

ومن طريق آخر ، أخرجه الإمام أحمد في ص ١٩٢ ، قال : اللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر مَن نصره ، واخذل مَن خذله ، قال : فقام إلّا ثلاثه لم يقوموا ، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته. انتهی.

وأنت إذا ضممت عليّاً وزيد بن أرقم إلی الاثني عشر المذكورین في الحديث ، كان البدریون يومئذ ١٤ رجلاً ، كما لا يخفي.

ومن تتبّع السُنن الوارده في مناشده الرحبه ، عرف حكمه أمير المؤمنين في نشر حديث الغدير وإذاعته.

* ولسيّد الشهداء أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام موقف ـ علی عهد معاوية ـ حصحص فيه الحقّ ، كموقف أمير المؤمنين في الرحبه ؛ إذ جمع الناس

٣٢٦

 ـ أيام الموسم بعرفات ـ فأشاد بذكر جدّه وأبيه وأُمّه وأخيه ، فلم يسمع سامع بمثله بلیغاً حكيماً يستعبد الأسماع ويملك الأبصار والأفئده ، جمع في خطابه فأوعی ، وتتبّع فاستقصی ، وأدّی يوم الغدير حقّه ، ووفّاه حسابه ، فكان لهذا الموقف العظيم أثره في اشتهار حديث الغدير وانتشاره.

* وإنّ للأئمّة التسعه من أبنائه الميامین طرقاً ـ في نشر هذا الحديث وإذاعته ـ تریك الحكمه محسوسه بجميع الحواس ....

كانوا يتّخذون اليوم الثامن عشر من ذی الحجّه عیداً في كلّ عام ، يجلسون فيه للتهنئه والسرور ، بكلّ بهجه وحبور ، ويتقرّبون فيه إلی اللّٰه عزّ وجلّ بالصوم والصلاه ، والابتهال ـ بالأدعية ـ إلی اللّٰه ، ويبالغون فيه بالبرّ والإحسان ، شكراً لما أنعم اللّٰه به عليهم في مثل ذلك اليوم من النصّ علی أمير المؤمنين بالخلافه والعهد إليه بالإمامه ، وكانوا يصلون فيه أرحامهم ، ويوسّعون علی عيالهم ، ويزورون إخوانهم ، ويحفظون جیرانهم ، ويامرون أولياءهم بهذا كلّه.

* وبهذا كان يوم ١٨ من ذی الحجّه في كلّ عام عیداً عند الشيعه (١) في جميع الأعصار والأمصار ، يفزعون فيه إلی مساجدهم ، للصلاه فریضه ونافله ، وتلاوه القرآن العظيم ، والدعاء بالمأثور ، شكراً للّٰه تعالی علی إكمال الدين وإتمام النعمه ، بإمامه أمير المؤمنين ، ثمّ يتزاورون ويتواصلون فرحين مبتهجین ، متقرّبين إلی اللّٰه بالبرّ والإحسان ، وإدخال السرور علی الأرحام والجیران.

__________________

(١) قال ابن الأثير في عدّه حوادث سنه ٣٥٢ من كامله : وفيها في ثامن عشر ذی الحجّه ، أمر معزّ الدولة بإظهار الزينه في البلد ـ بغداد ـ وأُشعلت النيران بمجلس الشرطه ، وأظهر الفرح ، وفتحت الأسواق بالليل كما يفعل ليالی الأعياد ، فعل ذلك فرحاً بعيد الغدير ـ يعني غدير خمّ ـ وضربت الدبادب والبوقات ، وكان يوماً مشهوداً. انتهی بلفظه في ص ٥٤٩ ج ٨ من تاريخه.

٣٢٧

ولهم في ذلك اليوم من كلّ سنه زياره لمشهد أمير المؤمنين ، لا يقلّ المجتمعون فيها عند ضراحه عن مئه ألف ، ياتون من كلّ فجّ عمیق لیعبدوا اللّٰه بما كان يعبده في مثل ذلك اليوم أئمّتهم الميامین ، من الصوم والصلاه والإنابه إلی اللّٰه ، والتقرّب إليه بالمبرّات والصدقات ، ولا ينفضّون حتّی يحدقوا بالضراح الأقدس فیلقوا ـ في زيارته ـ خطاباً مأثوراً عن بعض أئمّتهم ، يشتمل علی الشهاده لأمير المؤمنين بمواقفه الكریمه ، وسوابقه العظیمه ، وعنائه في تأسيس قواعد الدين ، وخدمه سيّد النبيّين والمرسلين ، إلی ما له من الخصائص والفضائل التی منها عهد النبيّ إليه ، ونصّه يوم الغدير عليه ..

هذا دأب الشيعه في كلّ عام ، وقد استمرّ خطباؤهم علی الإشاده في كلّ عصر ومصر بحديث الغدير مسنداً ومرسلاً ، وجرت عاده شعرائهم علی نظمه في مدائحهم قديماً (١) وحديثاً ..

فلا سبيل إلی التشكيك في تواتره من طريق أهل البيت وشیعتهم ؛ فإنّ دواعیهم لحفظه بعین لفظه ، وعنایتهم بضبطه وحراسته ونشره وإذاعته ، بلغت

__________________

(١) قال الكميت بن زيد :

ويوم الدوح دوح غدير خمّ

أبان له الولايه لو أطيعا .. الخ

وقال أبو تمام من عبقريتة الرائية ، وهی في ديوانه :

ويوم الغدير استوضح الحقّ أهله

بفيحاء لا فيها حجاب ولا سرّ

أقام رسول اللّٰه يدعوهم بها

ليقربهم عرف وينآهم نكرُ

يمد بضبعيه ويعلم أنّه

ولي ومولاكم فهل لكم خبرٌ؟

يروح ويغدو بالبيان لمعشر

يروح بهم غمر ويغدو بهم غمرُ

فكان له جهر بإثبات حقّه

وكان لهم في برّهم حقّه جهرُ

أثمّ جعلتم حظّه حدّ مرهف

من البيض يوماً حظّ صاحبه القبرُ

٣٢٨

أقصی الغايات ، وحسبك ما تراه في مظّانه من الكتب الأربعه وغيرها من مسانید الشيعه المشتمله علی أسانيده الجمّه المرفوعه ، وطرقه المعنعنه المتّصله ، ومن ألمّ بها تجلّی له تواتر هذا الحديث من طرقهم القیّمه.

* بل لا ريب في تواتره من طريق أهل السُنّة بحكم النواميس الطبيعيه ، كما سمعت ، (لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِك الدين الْقَيِّمُ وَلٰكنَّ أَكثَرَ النّٰاسِ لاٰ يعلمون) (١) ..

وصاحب الفتاوی الحامدیه ـ علی تعنّته ـ يصرّح بتواتر الحديث في رسالته المختصره الموسومه ب : الصلوات الفاخره في الأحاديث المتواتره.

والسيوطي وأمثاله من الحفّاظ ينصّون علی ذلك.

ودونك محمّد بن جرير الطبري ، صاحب التفسير والتاريخ المشهورين ، وأحمد بن محمّد بن سعيد بن عقده ، ومحمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، فإنّهم تصدّوا لطرقه ، فأفرد له كلّ منهم كتاباً علی حده ، وقد أخرجه ابن جرير في كتابه من خمسه وسبعين طريقاً ، وأخرجه ابن عقده في كتابه من مائه وخمسه طرق (٢) ، والذهبي ـ علی تشدّده ـ صحّح كثيراً من طرقه (٣) ..

وفي الباب السادس عشر من غآيه المرام تسعه وثمانون حديثاً من طريق

__________________

(١) سوره الروم ٣٠ : ٣٠.

(٢) نصّ صاحب غآيه المرام في أواخر الباب ١٦ ص ٣٠٢ ، ذيل روآيه التاسع والثمانون من كتابه المذكور : أنّ ابن جرير أخرج حديث الغدير من خمسه وسبعین طریقاً وأفرد له كتابا سمّاه كتاب : الولايه ، وأنّ ابن عقده أخرجه من مائه وخمسه طرق في كتاب أفرده له أيضاً.

ونصّ الإمام أحمد بن محمّد بن الصدّيق المغربی علی أنّ كلّاً من الذهبي وابن عقده أفردا لهذا الحديث كتاباً خاصّاً به ، فراجع خطبه كتابه القیّم الموسوم ب : فتح الملك العليّ بصحّه حديث باب مدينه العلم عليّ.

(٣) نصّ علی ذلك ابن حجر في الفصل ٥ من الباب الأوّل من صواعقه.

٣٢٩

أهل السُنّة في نصّ الغدير ، علی أنّه لم ينقل عن الترمذي ، ولا عن النسائي ، ولا عن الطبراني ، ولا عن البزّار ، ولا عن أبي يعلی ، ولا عن كثير ممّن أخرج هذا الحديث ..

والسيوطي نقل الحديث في أحوال عليّ من كتابه تاريخ الخلفاء عن الترمذي ، ثمّ قال : وأخرجه أحمد عن عليّ ، وأبي أیوب الأنصاري ، وزيد بن أرقم ، وعمرو ذی مر (١).

(قال :) وأبو يعلی عن أبي هريره ، والطبراني عن ابن عمر ، ومالك بن الحویرث ، وحبشی بن جناده ، وجرير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأبي سعيد الخدري ، وأنس.

(قال :) والبزّار ، عن ابن عبّاس وعماره وبريدة. انتهی.

وممّا يدلّ علی شيوع هذا الحديث وإذاعته ، ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢) ، عن رباح بن الحارث ، من طريقين إليه ، قال : جاء رهط إلی عليّ فقالوا : السلام عليك يا مولانا.

قال : مَن القوم؟

قالوا : موإليك يا أمير المؤمنين.

قال : كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟!

قالوا : سمعنا رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم يوم غدير خمّ يقول : مَن كنت مولاه ، فإنّ هذا مولاه ..

__________________

(١) أقول : وأخرجه أيضاً من حديث ابن عبّاس ص ٥٤٥ من الجزء الأوّل من مسنده ، ومن حديث البراء في ص ٣٥٥ ج ٥ من مسنده.

(٢) راجع ص ٥٨٣ ج ٦.

٣٣٠

قال رباح : فلمّا مضوا تبعتهم ، فسألت : مَن هؤلاء؟ قالوا : نفر من الأنصار فيهم أبو أيّوب الأنصاري. انتهی.

وممّا يدلّ علی تواتره ما أخرجه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير سوره المعارج من تفسيره الكبير ، بسندين معتبرین ، أنّ رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم لمّا كان يوم غدير خمّ نادی الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد عليّ فقال : مَن كنت مولاه ، فعليّ مولاه ، فشاع ذلك فطار في البلاد ..

وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهری ، فأتی رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله علی ناقه له ، فأناخها ونزل عنها ، وقال : يا محمّد! أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلّا اللّٰه وأنّك رسول اللّٰه ، فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصلّی خمساً فقبلنا منك ، وأمرتنا بالزكاه فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم رمضان فقبلنا ، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا ، ثمّ لمّ ترض بهذا حتّی رفعت بضبعی ابن عمّك تفضّله علينا ، فقلت : مَن كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أم من اللّٰه؟!

فقال صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : فو اللّٰه الذي لا إله إلّا هو ، إنّ هذا لمن اللّٰه عزّ وجلّ.

فولي الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللّٰهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّاً ، فأمطر علينا حجاره من السماء أو ائتنا بعذاب ألیم. فما وصل إلی راحلته حتّی رماه اللّٰه سبحانه بحجر سقط علی هامته ، فخرج من دُبره فقتله ، وأنزل اللّٰه تعالی : (سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ* لِلْكٰافِرينَ ليس لَهُ دٰافِعٌ* مِنَ اللّٰهِ ذِی الْمَعٰارِجِ) (١). انتهی الحديث بعين لفظه (٢) ..

__________________

(١) سوره المعارج ٧٠ : ١ ـ ٣.

(٢) وقد نقله عن الثعلبي جماعه من أعلام السُنّة ، كالعلّامه الشبلنجی المصری في أحوال عليّ من كتابه

٣٣١

وقد أرسله جماعه من أعلام أهل السُنّة إرسال المسلّمات (١).

حديث الغدير لا يمكن تأويله :

* أنا أعلم بأنّ لا تطمئنّ بما ذكرتموه ، ونفوسكم لا تركن ، وأنّكم تقدّرون رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم في حكمته البالغه ، وعصمته الواجبه ، ونبوّته الخاتمه ، وأنّه سيّد الحكماء ، وخاتم الأنبياء (وَمٰا ينْطِقُ عَنِ الْهَویٰ* إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْیٌ يوحیٰ* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُویٰ) (٢) ..

فلو سألكم فلاسفه الأغيار عمّا كان منه يوم غدير خمّ فقال : لما ذا منع تلك الألوف المؤلّفه يومئذ عن المسير ، وعلی مَ حبسهم في تلك الرمضاء بهجير ، وفيمَ اهتمّ بإرجاع مَن تقدّم منهم وإلحاق من تأخّر ، ولم أنزلهم جميعاً في ذلك العراء علی غير كلأ ولا ماء ، ثمّ خطبهم عن اللّٰه عزّ وجلّ في ذلك المكان الذي منه يتفرّقون ، ليبلّغ الشاهد منهم الغائب؟!

وما المقتضی لنعی نفسه إليهم في مستهلّ خطابه ؛ إذ قال : يوشك أن ياتیني رسول ربّی فأُجیب ، وإني مسؤول ، وإنّكم مسؤولون؟!

وأي أمر يسأل النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم عن تبلیغه وتُسأل الأُمّه عن طاعتها فيه؟!

ولما ذا سألهم فقال : ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّٰه ، وأنّ محمّداً عبده

__________________

نور الأبصار فراجع منه ص ٨٧ إن شئت.

(١) فراجع ما نقله الحلبي من أخبار حجّه الوداع في سيرته المعروفه ب : السيرة الحلبية ، تجد هذا الحديث في آخر ص ٢٧٤ من جزئها الثالث.

(٢) سوره النجم ٥٣ : ٣ ـ ٥.

٣٣٢

ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ وأنّ ناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت ، وأنّ الساعه آتيه لا ريب فيها ، وأنّ اللّٰه يبعث مَن في القبور ، قالوا : بلی نشهد بذلك؟!

ولما ذا أخذ حينئذ علی سبيل الفور بيد عليّ فرفعها إليه حتّی بان بياض إبطیه فقال : يا آيها الناس! إنّ اللّٰه مولأي ، وأنا مولي المؤمنين؟!

ولما ذا فسّر كلمته ـ وأنا مولي المؤمنين ـ بقوله : وأنا أولي بهم من أنفسهم؟!

ولما ذا قال بعد هذا التفسير : فمَن كنت مولاه ، فهذا مولاه ، أو : مَن كنت وليه فهذا وليه ، اللّٰهمّ وال مَن ولاه ، وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، واخذل مَن خذله؟!

ولم خصّه بهذه الدعوات التی لا يليق لها إلّا أئمّة الحقّ وخلفاء الصدق؟!

ولما ذا أشهدهم من قبل فقال : ألست أولي بكم من أنفسكم ، فقالوا : بلی.

فقال : مَن كنت مولاه ، فعليّ مولاه ، أو : مَن كنت وليه فعليّ وليه؟!

ولما ذا قرن العتره بالكتاب وجعلها قدوه لأُولي الألباب إلی يوم الحساب؟!

وفیم هذا الاهتمام العظيم من هذا النبيّ الحكيم؟!

وما المهمّه التی احتاجت إلی هذه المقدّمات كلّها؟!

وما الغآيه التی توخّاها في هذا الموقف المشهود؟!

وما الشيء الذي أمره اللّٰه تعالی بتبليغه إذ قال عزّ من قائل : (يٰا آيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إليك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَاللّٰهُ يعْصِمُك مِنَ النّٰاسِ)؟!

وأي مهمّه استوجبت من اللّٰه هذا التأكيد ، واقتضت الحضّ علی تبليغها بما يشبه التهديد؟!

٣٣٣

وأي أمر يخشی النبيّ الفتنة بتبليغه ، ويحتاج إلی عصمه اللّٰه من أذی المنافقين ببيانه؟!

أكنتم ـ بجدّك لو سألكم عن هذا كلّه ـ تجیبونه بأنّ اللّٰه عزّ وجلّ ورسوله صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم إنّما أرادا بيان نصره عليّ للمسلمین ، وصداقته لهم ليس إلّا؟!

ما أراكم ترضون هذا الجواب ، ولا أتوهّم أنّكم ترون مضمونه جائزاً علی ربّ الأرباب ، ولا علی سيّد الحكماء وخاتم الرسل والأنبياء!!

وأنتم أجلّ من أن تجوّزوا عليه أن يصرف همه كلّها وعزائمه بأسرها ، إلی تبيين شيء بين لا يحتاج إلی بيان ، وتوضيح أمر واضح بحكم الوجدان والعيان ....

ولا شك أنّكم تنزّهون أفعاله وأقواله عن أن تزدري بها العقلاء ، أو ينتقدها الفلاسفه والحكماء ..

بل لا ريب في أنّكم تعرفون مكانه قوله وفعله من الحكمه والعصمه ؛ وقد قال اللّٰه تعالی : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كرِيمٍ* ذِی قُوَّهٍ عِنْدَ ذِی الْعَرْشِ مَكينٍ* مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمٰا صٰاحِبُكمْ بِمَجْنُونٍ) (١) ؛ فيهتمّ بتوضيح الواضحات ، وتبيين ما هو بحكم البديهيات ، ويقدّم لتوضيح هذا الواضح مقدّمات أجنبيه ، لا ربط له بها ولا دخل لها فيه ، تعالی اللّٰه عن ذلك ورسوله علوّاً كبيراً.

وأنت ـ نصر اللّٰه بك الحقّ ـ تعلم أنّ الذي يناسب مقامه في ذلك الهجير ، ويليق بأفعاله وأقواله يوم الغدير ، إنّما هو تبليغ عهده ، وتعيين القائم مقامه من بعده ، والقرائن اللفظيه ، والأدلّه العقليه ، توجب القطع الثابت الجازم بأنّه صلّی اللّٰه

__________________

(١) سوره التكوير ٨١ : ١٩ ـ ٢٢.

٣٣٤

عليه وآله وسلّم ما أراد يومئذ إلّا تعيين عليّ وليا لعهده ، وقائماً مقامه من بعده ، فالحديث مع ما قد حفّ به من القرائن نصّ جلیّ ، في خلافه عليّ ، لا يقبل التأويل ، وليس إلی صرفه عن هذا المعني من سبيل ، وهذا واضح (لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَی السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١).

* أمّا القرينه التی زعموها فجزاف وتضليل ، ولباقه في التخليط والتهويل ؛ لأنّ النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم بعث عليّاً إلی اليمن مرّتين ، والأُولي كانت سنه ثمان ، وفيها أرجف المرجفون به وشكوه إلی النبيّ بعد رجوعهم إلی المدينه ، فأنكر عليهم ذلك (٢) حتّی أبصروا الغضب في وجهه ، فلم يعودوا لمثلها.

والثانية كانت سنه عشر وفيها عقد النبيّ له اللواء وعمّمه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم بیده ، وقال له : امضِ ولا تلتفت. فمضی لوجهه راشداً مهديا حتّی أنفذ أمر النبيّ ، ووافاه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم في حجّه الوداع ، وقد أهلّ بما أهلّ به رسول اللّٰه فأشركه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم بهديه ، وفي تلك المرّه لم يرجف به مرجف ، ولا تحامل عليه مجحف ..

فكيف يمكن أن يكون الحديث مسبّباً عمّا قاله المعترضون ، أو مسوقاً للردّ علی أحد كما يزعمون؟!

علی أنّ مجرّد التحامل علی عليّ ، لا يمكن أن يكون سبباً لثناء النبيّ عليه بالشكل الذي أشاد به صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم علی منبر الحدائج يوم خمّ ، إلّا أن يكون ـ والعياذ باللّٰه ـ مجازفاً في أقواله وأفعاله ، وهممه وعزائمه ، وحاشا قدسیّ حكمته البالغه ؛ فإنّ اللّٰه سبحانه يقول : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كرِیمٍ* وَمٰا هُوَ بِقَوْلِ

__________________

(١) سوره ق ٥٠ : ٣٧.

(٢) كما بيناه في المراجعه ٣٦ ، فراجعها ولا يفوتنّك ما علّقناه عليها.

٣٣٥

شٰاعِرٍ قَليلاً مٰا تُؤْمِنُونَ* وَلاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ قَليلاً مٰا تَذَكرُونَ* تنزيل مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ) (١) ..

ولو أراد مجرّد بيان فضله ، والردّ علی المتحاملین عليه ، لقال : هذا ابن عمی ، وصهری ، وأبو ولدی ، وسيّد أهل بيتی ، فلا تؤذوني فيه ، أو نحو ذلك من الأقوال الدالّه علی مجرّد الفضل وجلاله القدر ..

علی أن لفظ الحديث (٢) لا يتبادر إلی الأذهان منه إلّا ما قلناه ، فليكن سببه مهما كان ، فإنّ الألفاظ إنّما تُحمل علی ما يتبادر إلی الأفهام منها ، ولا يلتفت إلی أسبابها ، كما لا يخفي.

وأمّا ذكر أهل بيته في حديث الغدير ، فإنّه من مؤیّدات المعني الذي قلناه ، حيث قرنهم بمحكم الكتاب وجعلهم قدوه لأُولي الألباب ؛ فقال : إني تارك فیكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب اللّٰه ، وعترتی أهل بيتی. وإنّما فعل ذلك لتعلم الأُمّه أن لا مرجع بعد نبیّها إلّا إليهما ، ولا معوّل لها من بعده إلّا عليهما ..

وحسبك في وجوب اتّباع الأئمّة من العتره الطاهرة اقترانهم بكتاب اللّٰه عزّ وجلّ الذي (لاٰ ياتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بين يديه وَلاٰ مِنْ خَلْفِهِ) (٣) ، فكما لا يجوز الرجوع إلی كتاب يخالف في حكمه كتاب اللّٰه سبحانه وتعالی ، لا يجوز الرجوع إلی إمام يخالف في حكمه أئمّة العتره.

وقوله صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : إنّهما لن ينقضيا ، أو : لن يفترقا ، حتّی يردا عليّ الحوض ، دليل علی أنّ الأرض لن تخلو بعده من إمام منهم هو عدل الكتاب ، ومَن تدبّر الحديث وجده يرمي إلی حصر الخلافه في أئمّة العتره الطاهرة.

__________________

(١) سوره الحاقّه ٦٩ : ٤٠ ـ ٤٣.

(٢) ولا سيّما بسبب ما أشرنا إليه من القرائن العقلیه والنقلیه.

(٣) سوره فصّلت ٤١ : ٤٢.

٣٣٦

ويؤيّد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده (١) عن زيد بن ثابت ، قال :

قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : إني تارك فیكم خليفتین : كتاب اللّٰه ، حبل ممدود ما بين السماء والأرض أو ما بين السماء إلی الأرض ، وعترتی أهل بيتی ، وإنّهما لن يفترقا حتّی يردا عليّ الحوض. انتهی ..

وهذا نصّ في خلافه أئمّة العتره عليهم السلام ، وأنت تعلم أنّ النصّ علی وجوب اتّباع العتره نصّ علی وجوب اتّباع عليّ ؛ إذ هو سيّد العتره لا يدافع ، وإمامها لا ينازع ، فحديث الغدير وأمثاله ، يشتمل علی النصّ علی عليّ تاره ، من حيث أنّه إمام العتره ، المنزله من اللّٰه ورسوله منزله الكتاب ، وأُخری من حيث شخصه العظيم وأنّه ولي كلّ من كان رسول اللّٰه وليه.

دحض المراوغه :

طلبتم ـ نصر اللّٰه بكم الحقّ ـ أن نقنع بأنّ المراد من حديث الغدير أنّ عليّاً أولي بالإمامه حين يختاره المسلمون لها ويبايعونه بها ، فتكون أوْلويّته المنصوص عليها يوم الغدير مإليه لا حإليه ، وبعباره أُخری تكون أوْلوية بالقوّه لا بالفعل ، لئلّا تنافي خلافه الأئمّة الثلاثه الّذين تقدّموا عليه ..

فنحن ننشدكم بنور الحقيقة ، وعزّه العدل ، وشرف الإنصاف وناموس الفضل : هل في وسعكم أن تقنعوا بهذا لنحذو حذوكم ، وننحو فيه نحوكم؟!

وهل ترضون أن يؤثر هذا المعني عنكم ، أو يعزی إليكم ، لنقتصّ أثركم ، وننسج فيه علی منوالكم؟!

ما أراكم قانعين ولا راضين ، وأعلم يقيناً أنّكم تتعجّبون ممّن يحتمل إراده

__________________

(١) راجع أوّل ص ٢٣٢ ج ٦.

٣٣٧

هذا المعني ، الذي لا يدلّ عليه لفظ الحديث ولا يفهمه أحد منه ، ولا يجتمع مع حكمه النبيّ ولا مع بلاغته صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، ولا مع شيء من أفعاله العظیمه وأقواله الجسيمة يوم الغدير ، ولا مع ما أشرنا إليه سابقاً من القرائن القطعية ، مع ما فهمه الحارث بن النعمان الفهری من الحديث ، فأقرّه اللّٰه تعالی علی ذلك ورسوله صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم والصحابه كافّه.

علی أنّ الأوْلويه المإليه لا تجتمع مع عموم الحديث ؛ لأنّها تستوجب أن لا يكون عليّ مولي الخلفاء الثلاثه ، ولا مولي واحد ممّن مات من المسلمين علی عهدهم ، كما لا يخفي ، وهذا خلاف ما حكم به الرسول ؛ حيث قال صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟! قالوا : بلی. فقال : مَن كنت مولاه ـ يعني من المؤمنين فرداً فرداً ـ فعليّ مولاه ، من غير استثناء كما تری.

وقد قال أبو بكر وعمر لعليّ (١) ـ حين سمعا رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم يقول فيه يوم الغدير ما قال ـ : أمسیت يا ابن أبي طالب مولي كلّ مؤمن ومؤمنه ، فصرّحا بأنّه مولي كلّ مؤمن ومؤمنه ، علی سبيل الاستغراق لجميع المؤمنين والمؤمنات منذ أمسی مساء الغدير.

وقيل لعمر (٢) : إنّك تصنع بعليّ شيئاً لا تصنعه بأحد من أصحاب النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم؟! فقال : إنّه مولأي. فصرّح بأنّه مولاه ، ولم يكونوا حينئذ قد

__________________

(١) في ما أخرجه الدارقطني ؛ كما في أواخر الفصل الخامس من الباب الأوّل من صواعق ابن حجر ، فراجع منها ص ٦٧. وقد رواه غير واحد أيضاً من المحدّثين بأسانيدهم وطرقهم ..

 وأخرج أحمد نحو هذا القول عن عمر من حديث البراء بن عازب في ص ٣٥٥ من الجزء الخامس من مسنده. وقد مرّ عليك في المراجعه ٥٤ من هذا الكتاب.

(٢) في ما أخرجه الدارقطني ؛ كما في ص ٦٧ من الصواعق أيضاً.

٣٣٨

اختاروه للخلافه ولا بایعوه بها ، فدلّ ذلك علی أنّه مولاه ومولي كلّ مؤمن ومؤمنه بالحال لا بالمآل ، منذ صدع رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم بذلك عن اللّٰه تعالی يوم الغدير.

واختصم أعرابيان إلی عمر ، فالتمس من عليّ القضاء بينهما ، فقال أحدهما : هذا يقضی بيننا؟! فوثب إليه عمر (١) وأخذ بتلابيبة ، وقال : ويحك! ما تدري من هذا؟ هذا مولاك ومولي كلّ مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن. والأخبار في هذا المعني كثيره.

وأنت ـ نصر اللّٰه بك الحقّ ـ تعلم أن لو تمّت فلسفه ابن حجر وأتباعه في حديث الغدير ، لكان النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم كالعابث يومئذ في همه وعزائمه ـ والعياذ باللّٰه ـ الهاذی في أقواله وأفعاله ـ وحاشا للّٰه ـ إذ لا يكون له ـ بناءً علی فلسفتهم ـ مقصد يتوخّاه في ذلك الموقف الرهیب ، سوی بيان أنّ عليّاً بعد وجود عقد البیعه له بالخلافه يكون أولي بها ، وهذا معني تضحك من بيانه السفهاء فضلاً عن العقلاء ، لا يمتاز ـ عندهم ـ أمير المؤمنين به علی غيره ، ولا يختصّ فيه ـ علی رآيهم ـ واحد من المسلمين دون الآخر ؛ لأنّ كلّ من وجد عقد البيعه له كان ـ عندهم ـ أولي بها ، فعليّ وغيره من سائر الصحابه والمسلمين في ذلك شرع سواء ، فما الفضيله التی أراد النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم يومئذ أن يختصّ بها عليّاً دون غيره من أهل السوابق ، إذا تمّت فلسفتهم يا مسلمون؟!

أمّا قولهم بأنّ أوْلوية عليّ بالإمامه لو لم تكن مإليه لكان هو الإمام مع

__________________

(١) أخرجه الدارقطني ؛ كما في أواخر الفصل الأوّل من الباب الحادی عشر من الصواعق المحرقة ـ لابن حجر ـ.

٣٣٩

وجود النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، فتمویه عجيب ، وتضليل غريب ، وتغافل عن عهود كلّ من الأنبياء والخلفاء والملوك والأمراء إلی من بعدهم ، وتجاهل بما يدلّ عليه حديث : «أنت مني بمنزله هارون من موسی إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» ، وتناس لقوله صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، في حديث الدار يوم الإنذار : «فاسمعوا له وأطيعوا» ، ونحو ذلك من السنن المتضافره.

علی أنّا لو سلّمنا بأنّ أوْلوية عليّ بالإمامه لا يمكن أن تكون حإليه لوجود النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، فلا بُدّ أن تكون بعد وفاته بلا فصل ، عملاً بالقاعده المقرّره عند الجميع ، أعني حمل اللفظ ـ عند تعذّر الحقيقة ـ علی أقرب المجازات إليها ، كما لا يخفي.

وأمّا كرامه السلف الصالح فمحفوظه بدون هذا التأويل ، كما سنوضّحه إذا اقتضی الأمر ذلك.

فقيل :

غدير خمّ هو موضع بالجحفه بين المدينه ومكه ، والرافضه يقولون : إنّ النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم خطب الناس في هذا المكان وبلَّغهم بولآيه عليّ رضي اللّٰه عنه من بعده ، وكان هذا البلاغ من النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم امتثالاً لأمر اللّٰه سبحانه وتعالی في الآيه ٦٧ من سوره المائده : (يٰا آيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إليك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَاللّٰهُ يعْصِمُك مِنَ النّٰاسِ إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يهْدِی الْقَوْمَ الْكٰافِرِينَ) ، فكانت الآيه خاصّة بعليّ رضي اللّٰه عنه ، وتكليفاً من اللّٰه لنبيّه بتبليغ الأُمّه أنّ عليّاً خليفته من بعده بلا فصل ، فكان حديثه في غدير خمّ استجابه منه وامتثالاً لهذا التكلیف. كما صرّح بذلك الموسوی وأشياخه من قبله

٣٤٠