مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

حيث التّقييد بالوصف كان تحرّك الأصابع ضروريّا لذات الموضوع ، كما وصف الضّاحك بالقوّة ضرورىّ بالنّظر إلى ذات الحيوان النّاطق.

وإن لم يتعرّض للأوقات والشرائط ، لا بالذّكر اللّهجىّ ولا الفكرىّ ، فلا ضرورة بحسبهما ، أى : لا بحسب الوقت ولا بحسب الشّرط ، بل كانت القضيّة مطلقة ، إذ يستحيل الحكم بالضّرورة بحسب الوقت أو الشّرط مع الإغفال عنهما.

فإذن ، لا يمكن أن يحكم بشيء من الضّرورات إلاّ وأن يحكم بحسب ذات الموضوع. فالضّرورة المطلقة السّرمديّة ، والضّرورة الذّاتيّة [والضّرورة بشرط الوصف الّذي جعل مع الموضوع] والضّرورة الذّاتيّة لا على الإطلاق ، بل مع وصف الموضوع بالوجود ، والضّرورة بسبب الذّات ، والضّرورة بشرط الوصف الّذي جعل مع الموضوع موضوعا ، والضّرورة بشرط وقت بعينه ، والضّرورة بشرط وقت لا بعينه ، والضّرورة بشرط المحمول ـ وهى الضّرورات السّبع ـ كلّها رجعت إلى أن تكون بحسب الذّات.

وإنّما الحيود عن صراط الحكمة فى هذا الحكم من جهة الخلط بين ما بحسب نفس الذّات وبين ما بحسب الجزء والتأليف أو القيد والتّقييد وعدم تميّز ما بحسب الذّات على الإطلاق لا بسببها ما بحسب الذّات لكن لا على الإطلاق ، بل مع وصف ما خارج عن جوهر الذّات وإن لم يكن بسبب الذّات ولا بسبب ذلك الوصف ، وما بسبب الذّات وما بشرط الوصف الّذي جعل مع الذّات موضوعا وما بشرط ما يسوق الحكم على الذّات إلى وقت بعينه أو لا بعينه وما بشرط المحمول بعضها عن بعض.

<٤٥> تعقيب وبحث

لقد انساق ذهن بعض الميزانيّين إلى أنّه كما لا يجوز الحكم الدّائم الغير الضّرورىّ فى الكليّات فكذلك لا ضرورىّ غير دائم فيها. فربّما نقض ذلك أنّه أليس بعض الماهيّات يكون لها لوازم لذاتها وهى تقتضى سياقة كلّ واحد من

٢٨١

الجزئيّات الواقعة تحت تلك الماهيّة إلى أمر ما ، فيصحّ الحكم الحاصر لها بالأمر الّذي ذلك اللاّزم سائق إليه ، فيكون الحكم لا محالة ضروريّا بحسب الوقت الّذي يحصل فيه ذلك الأمر، كالحركة السّماويّة للأفلاك والكواكب ، فإنّها لازمة سائقة كلّ كوكب إلى الشّروق والغروب فى وقت ما ، فيصحّ الحكم ، بأنّ كلّ كوكب يشرق أو يغرب فى ذلك الوقت ، فهذا حكم ضرورىّ غير دائم.

ثمّ هناك بحث على أهل صناعة الميزان ، حيث يقولون : الحكم بالدّوام على الكليّات لا يكون إلاّ مع الضّرورة ، وأمّا الحكم على الجزئيّات فقد ينفكّ عن الضّرورة» ؛ فإن عنوا بالضّرورة ما بالنظر إلى نفس ماهيّة الموضوع مع عزل النّظر عن الأسباب الخارجيّة فربما انسلخ الحكم على الكليّات عن الضّرورة ، وإن عنوا ما بحسب نفس الأمر فلا موجود من الجائزات إلاّ وهو واجب العليّة فى نفس الأمر ، فلا ينسلخ حكم عن الضّرورة أصلا ، لا على الكليّات ولا على الجزئيّات إلاّ أنّ المعتبر فى العلوم هو الحكم الضّرورىّ على الكليّات؛ لأنّ مراسيل العلوم البرهانيّة كليّات ومطلقاتها ضروريّات.

<٤٦> مسألة استبصاريّة

أما استوضعت فيما استوضعت من قبل ، فاتضح لك أنّ طباع الإمكان إنّما هو بالقياس إلى طباع التّقرّر والوجود على الإطلاق ، لا بالقياس إلى الخصوصيّات. فالممكن ما يجوز له بالنّظر إلى ذاته طبيعة التقرّر والوجود وطبيعة البطلان والعدم ، لا أنحاء التقرّرات ولا أنحاء الوجودات وأنحاء البطلانات والعدمات بخصوصيّاتها ، بل ربّما امتنع بعض الأنحاء بالخصوص ، كالبطلان قبل التّقرّر قبليّة زمانيّة ، والبطلان بعد التقرّر بعديّة زمانيّة ، بالنّظر إلى ماهيّة الزّمان. وكذلك التقرّر بعد البطلان بعديّة (١٢١) زمانيّة ، أو قبله قبليّة زمانيّة إلى نفس ماهيّة.

فإذن ، ليس يلزم للممكن أن يجوز له الأزليّة بالنّظر إلى طباع ذاته. وإنّما اللاّزم له أزليّة جواز مطلق التقرّر والبطلان بالنّسبة إلى ذاته بذاته ، وأزليّة الإمكان ليست

٢٨٢

تستلزم إمكان الأزليّة ، بل إنّه يمكن أن يمتنع أزليّة التّقرّر للممكن بالنظر إلى سنخ ماهيّته وإن كان جواز طبيعتى التقرّر والبطلان بالنّظر إلى سنخ ماهيّته أزليّا له بذاته. ففرق ما بين أزليّة الجواز وجواز الأزليّة بحسب نفس مفهومهما. وكذلك أيضا بحسب نسبتهما إلى ذات الممكن بيّن غير خفىّ ؛ فأزليّة الجواز هى كون الممكن فى الآزال والآباد موصوفا فى لحاظ العقل لجواز التقرّر والبطلان بالنظر إلى ذاته بذاته ، وجواز الأزليّة هو كون الممكن فى نفسه بحيث يجوز له بجوهره أن يتقرّر ذاته أزلا وأبدا تقرّرا الا يسبقه البطلان بحسب نفس الأمر أصلا ، لا سبقا دهريّا ولا سبقا زمانيّا. بل إنّما يسبقه فى لحاظ العقل سبقا بالذّات فحسب.

ولعلّ ذات الممكن بما هو على طباع الإمكان يتأتى أن يجوز له ذلك وإن كان هو من الجائزات الممكنة فى أنفسها تقرّرا او بطلانا. أليس تسرمد التّقرّر وراء أصل التّقرر وتسرمد البطلان وراء نفس البطلان ، ما أسهل أن يتأتى لك أن تتيقّنه. فإذن أنت فى أمرك على بصيرة.

<٤٧> وهم افتضاحيّ

من النّاس من لم يفرّق بين كون الآزال ظرفا للإمكان على معنى أنّ الشّيء متّصف فى لحاظ العقل بالإمكان اتّصافا مستمرّا غير مسبوق بعدم الاتّصاف وبين كونه ظرفا للتقرّر على معنى أنّ الشّيء متقرّر أزلا وأبدا تقرّرا غير مسبوق بالبطلان.

فظنّ أنّه استدلّ على لزوم جواز الأزليّة لأزليّة الجواز ؛ بأنّ جواز الشّيء إذا كان مستمرّا فى الأزل لم يكن هو فى نفسه متأبّيا عن قبول التقرّر فى شيء من أجزاء الأزل ، فيكون عدم تأبّيه مستمرّا فى جميع تلك الأجزاء. فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يأب التّقرّر فى شيء منها بل جاز تقرّره فى كلّ منها ، لا بدلا فقط ، بل ومعا أيضا. وجواز تقرّره فى كلّ منها معا هو جواز تقرّره مستمرّا فى جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته. فإذن ، قد اتضح الأمر ، وأنت تعلم أنّه بالافتضاح ألصق منه بالاتّضاح.

فالمتّضح من ذلك هو أن لا يكون الشّيء أبيّا فى شيء من أجزاء الأزل عن

٢٨٣

طبيعة مطلق التقرّر ، لا عن التقرّر المطلق. أليس ما بحسب طباع الإمكان هو ذاك ، لا ذا ، واستمرار الشّيء إنّما يستلزم أن يستمرّ ما مقتضى طباعه ، لا ما يزيد على ذلك. فإذن يمكن أن لا يجوز له بالنظر إلى ذاته أن يتقرّر فى كلّ من تلك الأجزاء بدلا وحده ، فضلا عن ذلك بدلا ومعا. فالغلط من سوء اعتبار الحمل أو المصادرة على المطلوب الأوّل وأخذ الشّيء فى بيان نفسه.

ثمّ من الموجودات الممكنة ما هو آنيّ الوجود وإمكانه مستمرّ فى الآزال والآباد. وكذلك الإضافات المتخصّصة بأزمنة بأعيانها ممكنة فى الآزال والآباد ويمتنع عليها الوجود فى غير تلك الأزمنة. فهى وإن كانت من الامور الذّهنيّة ولكن سبيل الوجودين فى هذا الغرض واحد.

وأيضا كلّ حادث زمانىّ بما هو حادث زمانىّ فإنّه من الجائزات لا من الممتنعات قطعا وإنّه يمتنع عليه أزليّة التقرّر ، فإن اسند ذلك إلى قيد الحدوث لا إلى سنخ الذّات ، قيل : لا ضير ؛ إذ الذّات بحسب قيد الحدوث لا يصحّ أن يعدّ من جملة الممتنعات.

<٤٨> تفصلة

ألم تسمعنا نتلو عليك من قبل : إنّ من الوجود وجود الشّيء فى نفسه ومنه وجوده لغيره. فطائفة من الجائزات طبائع ناعتيّة فى تقرّرها ووجودها قائمة بمحالّ لها ، وطائفة منها تقوم بأنفسها فى التقرّر والوجود ، لا يكون تقرّرها ووجودها فى شيء.

فإذن ، كأنّك لم ترتّب أن أسمعناك أنّ القسمة متأتّية فى الإمكان أيضا. فالإمكان إمّا إمكان وجود الشّيء لنفسه وإمّا إمكان وجود الشّيء فى غيره ، وهما متقابلان متصادمان. فكلّ ممكن الوجود لنفسه فهو ممتنع الوجود فى غيره ، وكلّ ممكن الوجود فى غيره فهو ممتنع الوجود لنفسه.

وأيضا حيث وضح لديك الفرق بين وجود الشّيء فى نفسه وبين وجود الشّيء لغيره ، فقد تكشّف لك أنّ الإمكان : إمّا إمكان وجود الشّيء فى نفسه أو إمكان وجود الشّيء لغيره ؛ والأخير أخصّ تحقّقا من الأوّل.

٢٨٤

فكلّ ما هو ممكن الوجود لشيء ـ أى ممكن الحلول فى شيء حلول الأعراض فى الموضوعات أو الصّور فى الموادّ ـ فهو ممكن الوجود فى نفسه بتّة ؛ إذ لو كان ممتنع الوجود فى حدّ ذاته لامتنع وجوده لغيره ، ولو كان واجب الوجود فى حدّ ذاته استحال حلوله فى شيء، ولا عكس. أى : ليس كلّ ما هو ممكن الوجود فى نفسه فهو ممكن الوجود لشيء آخر ، بل : إمّا هو واجب الوجود لشيء آخر ، كالأعراض والصّور ؛ فإنّها بذواتها يستحيل أن تقوم بأنفسها ، أو ممتنع الوجود لشيء آخر يكون محلاّ له ، كالجواهر المفارقة القائمة بأنفسها ؛ فإنّها لا يجوز أن تحلّ شيئا ما أصلا ، لا حلول الأعراض فى الموضوعات ؛ لكونها جواهر ، ولا حلول الصّور فى هيولاتها ، لكونها مجرّدة.

<٤٩> تنصيص ووعد

ألا اخبرك بما ساقنى إليه سائق الفحص وقادنى إليه قائد البرهان : أنّ من خواصّ طباع الإمكان أن يسبق تقرّر جملة الجائزات الذّاتيّة فى الأعيان بطلان فى وعاء الدّهر سبقا دهريّا ، كما يسبق ذواتها البطلان سبقا بالذّات أزلا وأبدا فى لحاظ العقل.

ولقد وقح من جنح من الفلاسفة إلى إثبات التّسرمد فى الأعيان لتقرّر الذّات الممكنة المعلولة ووجود الحقائق الجائزة المجعولة ، وقاحة كبيرة لا تكفّر سيّئتها فى دين العقل ولا يغتفر إثمها فى شريعة الحكمة.

وحيث إنّ سياقة البرهان إلى فطنتك على نظمه الطبيعىّ ما لم تألف سلوك سبيل القدس ولم تلتفت لفت عالم العقل ممّا أراه صعب المسلك عسر المدرك جدّا ، أخّرت ذلك إلى أن أنبّئك قسطا موفورا من أبناء العلم وأسرار الحقيقة ، وأعوّدك شطرا صالحا من عادات أخلاّء العقل وأولياء الحكمة الّذين قصيا هممهم وقصارى نيّاتهم أن يكونوا تبعة للحقّ ورفضة للباطل.

٢٨٥

<٥٠ > فيصل

إنّ ما هو جائز التقرّر والوجود فى ذاته ؛ فإنّه إمّا أن يكون جواز تقرّره ووجوده فى ذاته كافيا فى فيضانه من جود جاعله ونور فاعله ، فيكون تامّ الصّلوح للمجعوليّة من بعد العدم الدّهرىّ السّابق على طباع جوهره ، فيفعله الجاعل فى وعاء الدّهر ، ويكون لا محالة خارجا عن أفق الزّمان وظاهرا عن شوائب أدناس الزّمانيّات. فربّما توقّف على شيء ما غير ذلك أيضا ، لكن لا ممّا يعتريه التّخصّص بزمان ما.

وإمّا أن يكون بحسب جوازه الذّاتىّ غير تامّ الصّلوح للفيضان وبحسب بعض ما يتمّ به صلوحه لقبول الفيض غير مرتفع عن افق الزّمان ومع ذلك غير ممكن الاستيعاب لجميع الأزمنة ، فيكون لا محالة متخصّصا بالإمكان الآخر الّذي هو غير معنى الجواز بالذّات. وهو الّذي قد كنّا تلونا (١٢٢) عليك أنّه الإمكان الاستعدادىّ ، وأن أعود القول زيادة التّلخيص قبل :

إنّك ستتعرّف من ذى غرض إن شاء اللّه تعالى أنّ الجائزات مستندة فى تقرّرها ووجودها إلى جاعل واجب التّقرّر والوجود بذاته وواجب الوجود من جميع جهاته ، وكلّ من كان كذلك استحال أن يخصّ بعض المستعدّات بالفيض دون البعض ، بل يجب أن يكون عامّ الفيض.

وكبر إثما ومقتا عند اللّه ـ تعالى ـ أن يستند إليه بخل أو ضنّ أو قصور أو غفلة ـ تعالى اللّه عن ذلك كلّه علوّا كبيرا ـ إنّما الضّنانة والعطل شأن الذّوات القاصرة الجائزة والهويّات النّاقصة الممكنة.

فإذن ، إنّما يكون اختلاف الفيض من جهة اختلاف الاستعداد فى القوابل ؛ فإنّ للممكنات إمكانا فى أنفسها وماهيّاتها ، وهو وصف مشترك بمعنى واحد ، كما الوجود معنى واحد مشترك.

فإن كفى ذلك الإمكان الأصليّ فى الصّلوح للفيضان عن القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ وجب أن يغلق فيضه ـ تقدّس وتعالى ـ اللّيس الصّرف المتبرّئ عن

٢٨٦

الاستمرار واللااستمرار ويخرج موصوف ذلك الإمكان من البطلان والعدم إلى التقرّر والأيس من غير أن يتخصّص جوهره وتأيّسه بوقت دون وقت. وإن كان الإمكان الأصليّ قاصرا عن الكفاية ولم يكن له بدّ من حصول شرط آخر يكون بحسبه الاستعداد لقبول الفيض ، فذلك هو الّذي حوول إيضاحه بالفحص.

فإذن ، يكون لمثل هذا الممكن إمكانان : أحدهما الإمكان العائد إلى سنخ الماهيّة. وهو كون الشّيء بحال لا يلزم من فرض تقرّره أو بطلانه بما هو هو محال. والآخر الاستعداد التّامّ بحسب اجتماع الشّرائط المنتظرة وارتفاع المصادمات المانعة وتلك الشّرائط تكون لا محالة سابقة سبقا زمانيّا. والاستعداد التّامّ يحصل بحدوث حوادث متسابقة وسينكشف من بعد إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ الحوادث المتسابقة لا يمكن حدوثها إلاّ عند حركة تتكفّل أن تقرّب المعلول من علّته بعد بعده عنها.

فإذن ، لم يكن بدّ لتلك الحوادث من محلّ يصير بسببها تامّ القبول لما يفيض عليه بعد ذلك ، من جود المبدأ الجواد ، وهو المادّة الّتي هى محلّ هذا الإمكان.

ونحن ـ حكماء الحكمة الحقيقيّة اليمانيّة ـ لسنا فى هذه الأحكام على مخالفة لفلاسفة الفلسفة اليونانيّة إلاّ فى حكم واحد ، فإنّا نردعهم عمّا زاغوا فيه عن الحقّ زيغا بعيدا وحاصوا عن الحكمة حيصا شديدا حيثما افتتنوا بدوام التّجوهر للمجعولات وتهوّسوا بتسرمد الوجود للمعلولات. وباللّه الاستعاذة من الشّقاوة الأبديّة والغواية السّرمديّة.

<١٥> استيفاء

إنّ القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ جنابه ـ قد أعطى كلّ شيء ما يحتاج إليه بالضّرورة فى تقرّره ووجوده وفى حفظ تقرّره ووجوده وما هو فوق الحاجة الضّروريّة ممّا هو أحرى له وأليق بحسب الإمكان.

فإن كان ذلك الإمكان فى مادّة فبحسب الاستعداد الّذي فيها ، وإن لم يكن فى مادّة فبحسب إمكان الأثر الفائض فى نفسه ، كالعقول المفارقة. وبالتّفاوت فى

٢٨٧

مراتب الإمكانات تتفاوت درجات الوجودات فى الكمالات والنّقصانات. فإن كان تفاوت الإمكانات فى النّوع كان الاختلاف بالنّوع ، وإن كان ذلك التّفاوت فى إمكانات الأشخاص فاختلاف الكمال والنّقصان يكون فى الأشخاص. والكمال المطلق إنّما هو حيث الوجوب بلا إمكان ، والوجوب بلا عدم ، والفعل بلا قوّة ، والخير بلا شرّ ، والحقّ بلا باطل.

ثمّ كلّ تامّ فإنّه غير تامّ فى نفسه لا تماميّة ذاتيّة وإنّه ناقص الحقيقة فى جوهره نقصانا غير محدود بالنّسبة إلى محوضة كمال المبدأ الأوّل ، ولا نهاية مجده فى مراتب الشّدّة والقوّة والتّماميّة وفوقيّة التّماميّة ؛ إذ كلّ ما سواه ممكن فى ذاته ، والإمكان منبع الشّرّ ومغناطيس النّقصان. ثمّ الاختلاف بين التّوالى فى الأشخاص والأنواع يكون بحسب رتبة الإمكان ودرجة الاستعداد. وهذه الإمكانات هى أسباب الشّرّ والفقدان ، فلهذا لا يكون أمر من الامور الممكنة وجوهر من الجواهر الجائزة خلوا من مخالطة الشّرّ ولا عروا من ملابسة الفقدان ؛ إذ الشّرّ هو العدم كما الخير هو الوجود ، والفقدان هو القوّة كما الوجدان هو الفعليّة. وحيث يكون الإمكان أكثر يكون الشّرّ أكثر والفقدان أوفر.

فإذن ، نسبة بعض الممكنات بالإمكان أحقّ ، ونسبة الجواز إلى بعض الجائزات أولى ؛ لاختلاف الإمكانات كثرة وقلّة. وكما الوجود يقال بالتّشكيك فكذلك جواز الوجود. وبالجملة ، الموجودات ـ ما خلا واجب التقرّر والوجود الّذي تقرّره ووجوده بنفس ذاته ـ ممكنة التقرّر والوجود.

إلاّ أنّ (١) منها : ما إمكان تقرّره ووجوده فى غيره. ومثل ذلك يتقدم تقرّره بالفعل تقرّره بالقوّة تقدّما بالزّمان. والّتي هى كذلك من الجائزات هى الممكنة الكائنة. و (٢) منها : ما إمكان تقرّره ووجوده فى ذاته ـ وهو الّذي إمكانه معه ـ ولم يتقدّم تقرّره بالفعل تقرّره بالقوّة فى شطر من أشطر الزّمان أصلا. بل إنّما سبق تقرّر ذاته بالفعل بطلان فى اللاّخلاء واللاّملاء الزّمانىّ ؛ أعنى اللّيس الصّرف ، الّذي نسبته إلى الامتداد الزّمانىّ نسبة اللاّخلاء واللاّملاء إلى الامتداد المكانىّ. والّتي هى

٢٨٨

كذلك من الذّوات الجائزة هى الممكنة المبدعة ، كالعقول وسائر المبدعات. وإنّما يقال فيها : إنّها جائزة التّقرّر والوجود ، بمعنى أنّها من بعد نفس اللّيس الصّرف ، لا أنّها بعد استمرار اللّيس أو لا استمراره ، وبمعنى أنّ تعلّق تقرّرها ووجودها لا بذاتها ، بل بجاعلها الموجد إيّاها بنفس جعل ماهيّاتها ؛ فهى بالإضافة إليه متقرّرة موجودة ، وباعتبارها فى ذواتها باطلة هالكة ، أى : ليست متقرّرة ولا موجودة. وليس يصدق هناك من معانى الإمكان غير هذين المعنيين أصلا ، إلاّ الإمكان العامّ.

<٥٢> تتمّة تفصيليّة

قد علمت أنّ نسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص ، وأنّ ما يجب وجوده لا بذاته هو الّذي لوضع شيء ما ليس هو ، صار واجب الحصول.

مثلا ، إنّ الأربعة واجبة الحصول لا بذاتها ولكن عند فرض اثنين واثنين ؛ والاحتراق واجب الحصول لا بذاته ولكن عند فرض التقاء القوّة الفاعلة بالطبع والقوّة المنفصلة بالطبع ، أعنى المحرقة والمحترقة ، ولا يكون ذلك إلاّ بإيجاب العلّة الموجبة بالضّرورة.

وإنّ مكساب الوجوب ومجلاب الإيجاب فى جملة ما له تعلّق بالمادّة ، سواء كانت الأنواع الجوهريّة الجسمانيّة وأشخاصها أو الصّور والأعراض أو النّفوس النّاطقة الإنسانيّة هو الإمكان الاستعدادىّ ، وهو التّهيؤ للكمال ، ليتحقّق بعض المنتظرات من الشّرائط ويبطل بعض المصادمات من الموانع ويقبل الشدّة والضّعف بحسب القرب من الحصول والبعد عنه ، لحصول الكثير ممّا ليس منه بدّ أو القليل.

فاستعداد النّطفة للصّورة الإنسانيّة أضعف من استعداد العلقة لها ، وهو من استعداد المضغة وهكذا إلى استعداد البدن الكامل ؛ واستعداد الجنين للكتابة أضعف من استعداد الطفل لها. ويحدث حصوله بحدوث بعض الأسباب والشّرائط وانبتات وجود بعض الأضداد والموانع وينصرم استمرار حصوله : إمّا لحصول الشّيء بالفعل وإمّا لانقطاع الأسباب وطرء الموانع.

٢٨٩

وهذا الإمكان غير الإمكان الذّاتىّ ؛ لاقتضائه رجحان الطّرفين وقبوله الشّدّة والضّعف ، وعدم لزومه لماهيّة الممكن وقيامه بمحلّ الممكن ، لا به ، وكونه من الامور المتحققة فى الأعيان قائمة بمحالّها ، لانّه كيفيّة حاصلة للمادّة مهيّئة إيّاها لإفاضة المبدأ الجواد وجود الحادث فيها ، كالصّورة والعرض ، أو معها ، كالنّفس المجرّدة. بخلاف الإمكان الذاتىّ فى جميع تلك الأحكام.

ثمّ إنّ الاستعداد القائم بالنّطفة ، مثلا ، ينسب إليها ويسمّى استعدادها للصّورة الإنسانيّة وينسب إلى الصّورة الإنسانيّة ويسمّى إمكانها فى النّطفة. فالإمكان الوقوعىّ بما هو إمكان وقوعىّ للممكن قائم بمحلّه ؛ لأنّه المتّصف بالاستعداد والبعد والقرب حقيقة وإنّما يوصف به الممكن لتعلّقه به وانتسابه إليه ، لا لأنّه وصفه حقيقة ، فهو بالوصف بحال المتعلق أشبه. وأمّا الإمكان الذّاتىّ فهو وصف الممكن بحسب حاله. فهذا فرق آخر بينهما.

وربما يقال : إذا كان بمحلّ ، من شأنه أن يحلّ فيه صورة أو عرض ، موانع تصادم حصول ذلك الحالّ فيه أو شرائط يتوقّف ذلك الحصول عليها ، فبحسب بطلان تلك الموانع وحصول تلك الشّرائط تحصل فى ذلك المحلّ كيفيّة مهيّئة إيّاه لوجود ذلك الحالّ فيه ، فعلك الكيفيّة تسمّى استعدادا ، والقبول اللاّزم لذلك الاستعداد ، وهو الّذي يسمّى إمكانا استعداديّا ، والقرب والبعد أولا فتان عارضتان لذلك الاستعداد الّذي هو من مقولة الكيف. وليس للاستعداد بدّ من مادّة ؛ لأنّه تدريجىّ منتقل من ضعف إلى قوّة ومن بعد إلى قرب ، وكلّ تدريجىّ حادث زمانيّ ، وكلّ حادث زمانىّ فله مادّة البتة.

ومن النّاس من يزعم أنّ نفس الكيفيّة المزاجيّة يقال لها : الإمكان الاستعدادىّ باعتبار آخر. فالكيفيّة المزاجيّة فى النّطفة ، مثلا ، إذا اعتبرت فى نفسها كانت كيفيّة مزاجيّة؛ وإذا نسبت إلى الصّورة الإنسانيّة قيل : إنّها إمكان استعدادىّ لها. وكذلك الشّيء غير الكيفيّة المزاجيّة يكون فى نفسه شيئا ما وبالنّسبة إلى شيء بخصوصه إمكانا ، كصحن الدّار ؛ فإنّه صفة الدّار. فإذا أحضره الذّهن وأحضر قدر ما يسع من الرّجال كان إمكان وجود ، وسيعاد إليك بيانه والفحص عنه فى باب القوّة والفعل إن شاء اللّه العزيز العليم.

٢٩٠

<٥٣> تختمة فى اعتبار بعض الأحكام للممتنع بالذّات

<أ> تنبيه تذكيريّ

ألست (٣٤٢) على تذكّر لما اتّضح أنّ الواجب بذاته لا يكون واجبا بغيره ، فاستعمل مثل ما سلف من البيان فى الممتنع بالذات ، واحكم أنّ ما يمتنع بذاته يستحيل أن يمتنع بغيره ، وإلاّ لبطل امتناعه ببطلان ذلك الغير. وأيضا ، لا يتصوّر لذات بعينها بطلانان ولا لبطلان ذات بعينه ضرورتان ، فلا يتصوّر تكثّر شيء من التقرّر والبطلان والوجود والعدم والضّرورة واللاّضرورة إلاّ بتكثّر الموضوعات. فإذن ، يستحيل أن يكون فيه بطلان ماهيّة مفروضة بعينها بحسب الذّات وبحسب الغير معا أو على التّناوب. فالممتنع بالذّات يكون ضرورة بطلانه بحسب نفس ذاته فقط بالضّرورة. فإذن ، قد استقام أنّ معروض ما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذّات بتّة.

<ب>بتحديق استبصاريّ

يليق بنا أن نعلمّك أنّ العقل كما أنّه لا يليق أن ليتعقّل القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ جنابه ـ كذلك لا يقدر أن يتعقّل الممتنع بالذّات.

أمّا القيّوم الواجب بالذّات فلغاية عزّه وجلاله ، بسبب محوضة قدّوسيّته وعلوّ مجده فى الكمال وسلطان كبريائه فى القاهريّة وتساطع أشعّة ظهوره فى الباهريّة وتراكم لا تناهى نوره فى الشدّة ، وفرط نقص العقل بالنّسبة إلى قوّة كماله ، مع كونه كاملا فى نفسه بالإضافة إلى من دونه ؛ فإنّه من هذه الجهة أضعف من أن يقوى على اكتناهه.

وأمّا الممتنع بالذّات ، فلفرط نقصه وبلوغه أقصى أفق النّقصان إلى حيث أن تجاوز صقع الشّيئيّة ، فليس فى عالم التقرر من شيء حتى يقدر العقل على اكتناهه.

فإذن ، القيّوم الواجب بالذّات لا يمكن أن يتعقل ؛ لأنّه لسعة ذاته وتماميّة وجوده وعدم تناهى مجده محيط بكلّ شيء ويمتنع أن يحيط به شيء ؛ والممتنع

٢٩١

بالذّات يستحيل أن يتعقّل ، لأنّه باطل الذّات ، فاقد الشّيئيّة ، ليس له نصيب من التّذوّت ولا حظّ من التقرّر حتى يستطيع أن يحيط به عقل ويناله مشعر ويتقرّر إليه تقرّر.

<ج> ذنابة قانونيّة

إنّ من الاعتراضات الخسيسة على تبيانات خلقيّة أو استقاميّة مؤسّسة على فرض امور مستحيلة ، فيتوصّل بذلك إلى استحالة امور مسلوك إليها بالقصد ، ما فشى عند عامّة الجدليّين أن يقال : هذا المفروض محال ، والمحال جاز أن يستلزم المحال ، ولا يستشعر أنّه لا فرق بين المحال والممكن فى الاستلزام بعلاقة عقليّة طبيعيّة وعدمه بعدمها.

أليس أنّ الملازمة لا يقتضيها إلاّ العلّة الموجبة إمّا بين نفسها ومعلولها أو بين معلوليهما. وقد كنّا أسمعناك فى سالف القول أنّه يكون لأحد المعلولين مدخليّة ما فى الآخر لا محالة. وأ ليس الشّرطىّ اللّزومىّ ما يكون الحكم فيه بصدق التّالى على تقدير المقدّم لعلاقة بينهما طبيعيّة. وبهذا ينحاز عن الشّرطىّ الاتّفاقىّ.

وكما الاستلزام لا يتحقق بالفعل إلاّ فى الامور الممكنة بتحقق العلاقة الطبيعيّة بالفعل ، فجواز الاستلزام لا يكون إلاّ بجواز تحقّق العلاقة. فإذا صحّ عند العقل أن يكون بين المحالين على تقدير تحقّقهما علاقة طبيعيّة يكون بحسبها اللّزوم ، جاز أن يحكم بالاستلزام بينما ؛ وإلاّ بطل بتّة (١٢٤).

فإذن ، المحال قد يستلزم محالا آخر : إمّا بالضّرورة الفطريّة أو الحدسيّة ، كما يستلزم تحقّق مجموع ممتنعين ذاتيّين تحقّق أحدهما ؛ أو كما يستلزم حماريّة زيد ، مثلا ، ناهقيّته ، وإمّا بالاقتباس ، كما الدّور يستلزم التّسلسل ؛ وقد لا يستلزمه إذا لم يكن بينهما علاقة عقليّة ، بل ربّما يصادمه إذا كان العقل يجد هناك علاقة المنافاة ، إمّا بالفطرة أو بالحدس ، كما فى تحقّق المركّب من ممتنعين بالذّات بالنّسبة إلى تحقّق أحدهما فقط ، أو حماريّة الإنسان بالنّسبة إلى صاهليّته. وإمّا بالقياس إلى فيناس كما فى حماريّة الإنسان بالقياس إلى ادراكه الكليّات على تقدير الحماريّة.

٢٩٢

فإذن ، قولنا : «المحال جائز أن يستلزم المحال» قضيّة موجبة مرسلة. وقولنا : «الواقع لا يستلزم المحال» سالبة حاصرة محيطة. فإذن ، المتصل اللّزومىّ من كاذبين إنّما يصدق إذا كان بينهما علاقة اللّزوم.

فإذا لم يكن علاقة اللّزوم : فإمّا أن يكذب الحكم بالاتصال رأسا إذا وجد العقل بينهما المنافاة ، وإمّا أن يصدق الاتصال الاتفاقىّ دون اللّزومىّ إذا لم يكن هناك علاقة أصلا ، لا علاقة الملازمة ولا علاقة المصادمة. وذلك أيضا إنّما يصحّ على سبيل الاحتمال التّجويزىّ ، لا الحكم البتّىّ ؛ إذ الاتفاق إنّما يكون بين المتحقّقات. وأمّا الكاذبات الاتفاقيّة ، أى المعدومات والممتنعات معا على سبيل الاتفاق ، فلعلّ التّحقّق التّقديرىّ يتفق لبعضها دون بعض. فإذن لا يصدق الحكم البتّىّ بأنّ الكاذبين المتفقين كذبا يتّفقان صدقا أصلا.

<د>تعقيب فيه تهذيب

من المقلّدين من يكتفى فى الحكم بجواز اللزوم بين محالين بعدم المنافاة بينهما وإن لم يجد العقل علاقة اللّزوم. ومنهم من يعتبر فيه العلاقة ويظنّ أنّها قد تتحقق مع المنافاة ، فإذا تحققت حكم بجواز الاستلزام. وإنّما التّعويل فى الفتوى على ما أسلفناه. وكيف يجوز اقتران الاستلزام والمنافاة وهما متصادمان بتّة.

وربما يتشبّث : بأنّ اجتماع النّقيضين مستلزم لارتفاعهما ؛ لأنّ تحقّق كلّ من النّقيضين يستلزم ارتفاع الآخر ، والجوز فيه غير متوار ؛ فإنّ تحقق أحد النّقيضين فى نفس الأمر يستلزم ارتفاع الآخر ، لا تحقّقه على تقدير محال ، وهو اجتماعه مع الآخر. فتحقّقه على ذلك التّقدير يستلزم تحقّق الآخر ، لا ارتفاعه. فمن أين يلزم ارتفاعهما.

ومن هناك ينحلّ ما يتشكك فيقال : إنّ اللّزوميّات لا تنتج متصلة ، لأنّ ملازمة الكبرى يحتمل أن لا تبقى على تقدير ثبوت الأصغر. مثلا ، إذا قلنا : كلّما كان هذا اللّون سوادا أو بياضا كان سوادا ، وكلّما كان سوادا لم يكن بياضا ، بطلت الملازمة فى الكبرى إذا ثبت الأصغر. فإذن ، لا يلزم من ذلك : كلّما كان هذا اللّون سوادا أو

٢٩٣

بياضا لم يكن بياضا.

والحلّ : أنّ الوسط إن وقع فى الكبرى على الجهة الّتي بها يستلزم الأكبر لزمت النّتيجة بتّة ، وإلاّ فلم يكن مشتركا. ففيما تمثّل به السّواد فى الكبرى بالمعنى المضادّ للبياض وى الصّغرى بالمعنى المجامع له ، فلذلك لم يبق الملازمة مع الأصغر. فالخلل إنّما وقع بسبب عدم اشتراك الوسط ، لا بسبب العارض التّابع.

فإذن ، الوسط فى مثل هذا المقام : إن اخذ على وجه يجوز أن يحمل ويصدق عليه النّقيضان أو الضّدّان فى كلتا المقدّمتين كذبت الكبرى وبطل لزوم النّتيجة ؛ وإن أخذ فى إحدى النقيضتين على وجه وفى الاخرى على وجه آخر لم يتكرّر الأوسط.

وأورد فى الشفاء شكّ على السّياق الأتمّ من اللّزوميّتين يجرى مجرى ما سمعت. وهو أنّه يصدق : كلّما كان الاثنان فردا كان عددا ؛ وكلّما كان عددا كان زوجا ؛ مع كذب : كلّما كان الاثنان فردا كان زوجا.

ودفع : بأنّ الكبرى إن أخذت اتفاقيّة لم ينتج القياس ؛ لأنّ شرط إنتاج الإيجاب أن يكون الأوسط مقدّما فى اللّزوميّة ؛ وإن اخذت لزوميّة كانت ممنوعة الصّدق. وإنّما يصدق لو لزم زوجيّة الاثنين عدديّة على جميع الأوضاع الممكنة الاقتران مع العدديّة ؛ ولا كذلك ، إذ من الأوضاع الممكنة الاقتران مع عدديّة الاثنين كونه فردا. والزّوجيّة ليست بلازمة على هذا الوضع.

وربما يقال (١) : فيه ضعف ؛ فإنّا نختار أنّ الكبرى لزوميّة ، وفرديّة الاثنين ليست ممكنة الاجتماع مع عدديّته ، لكونها منافية للاثنينيّة ، فتكون منافية لذات الاثنين ، فزوجيّة الاثنين لازمة لعدديته على جميع الأوضاع الممكنة الاجتماع معها ، فتصدق لزوميّة.

وحقّ الدّفع ما فى الشفاء : أنّ الصّغرى كاذبة بحسب الأمر نفسه لا بحسب

__________________

(١). القائل : الفاضل العلاّمة صاحب المحاكمات قطب الملّة والدّين الرازىّ ، نوّر ضريحه. منه ، مدّ ظلّه.

٢٩٤

الإلزام. وبحسب الإلزام كما يصدق الصّغرى بصدق النّتيجة أيضا ؛ لأنّ من يرى أنّ الاثنين فرد ، فلا بدّ له من أن يلتزم أنّه زوج أيضا ، وإلاّ لم يكن يلزم أنّ الاثنين زوج بل غير الاثنين.

والّذي نحن نفتى به هو أنّ الدّفعين متشاركا المذهب فى القوّة والضّعف فى الأوّل ؛ فإنّه (١) إن اريد أنّ بين عدديّة الاثنين وفرديّته منافاة فى نفس الأمر فهو حقّ. ولا ضير ، إذ الأوضاع الممكنة الاقتران مع فرض المقدّم ليس يجب أن لا يكون شيء منهما غير مناف له فى نفس الأمر. (٢) وإن اريد أنّ المنافاة تكون متحققة بحسب جميع الاعتبارات فهو ليس بحقّ ؛ فإنّ الملازمة بين فرديّة الاثنين وعدديّته صارت متحققة بحسب وضع ما وتسليم ما. فإذن زوجيّة الاثنين ليست بلازمة لعدديّته على جميع الأوضاع الممكنة الاقتران معها ولو بحسب الوضع والتّسليم.

وأمّا ما يظنّ (١) : «إنّا إن جوّزنا المنافاة بين طرفى الملازمة فعدم إنتاج اللّزوميّة ظاهر متيقن ، لجواز أن لا يندرج الأصغر تحت الأوسط اللاّزم له ، لكونه منافيا له ، فلا ينتج القياس وإن لم يجوّزها ففى الإنتاج نظر ؛ لأنّ لزوم التّالى للمقدّم فى المحيطة من اللّزوميّة : إمّا أن يعتبر فيه كونه لازما له فى كلّ وضع من تلك الأوضاع ، أو لم يعتبر فيه ذلك. فإن لم يعتبر لم ينتج السّياق الأتمّ ، فضلا عن سائر السّياقات ، إذ الأصغر من الأوضاع الأوسط ، فجاز أن لا يلازمه الأكبر على تقدير ثبوت الأكبر فى جميع الأوضاع ، فلا ينتج الإيجاب ؛ وجاز أن لا يلازمه على تقدير سلب الأكبر عنه فى جميع الأوضاع ، فلا ينتج السّلب. وإن اعتبر لزوم التّالى لسائر الأوضاع فيتوقف تعقّل الموجبة المحيطة على اعتبار لزومات غير معدودة الأوضاع او لا غير معدودة وذلك إمّا ممتنع أو عسر ، فما ظنك بإثباتها» (٢).

فمحسوم : بأنّ تجويز المنافاة بين المقدّم والتّالى (١٢٥) إنّما يكون مبدأ

__________________

(١). الظانّ هو ذلك القائل العلاّمة ، منه ، مدّ ظلّه.

(٢). شرح الإشارات ، المحاكمات ، ج ... ، ص ....

٢٩٥

عدم الإنتاج لو كان الإنتاج يستدعى اندراج الأصغر فى الأوسط فى الاقترانيّات اندراجا فعليّا بحسب الأمر نفسه فى الواقع. وليس كذلك ؛ إذ العقل المعتبر فيه أعمّ من أن يكون بحسب نفس الأمر أو بحسب الإلزام.

فالأوضاع الممكنة الاقتران مع مقدّم الكبرى فرضا جاز أن يكون بعضها منافيا له فى نفس الأمر مجامعا له بحسب فرض وتقدير وتسليم. فإذن مجرّد كون مقدّم الصّغرى منافيا لتاليها ليس يقتضي عدم الاندراج المصادم للإنتاج. وأيضا مقتضى إحاطة الشّرطيّات هو كون التّالى لازما للمقدّم فى جميع أوضاع المقدّم ، لا لزوم التّالى لتلك الأوضاع أيضا. وأيضا اعتبار اللزومات الغير المعدودة على سبيل الإجمال معن.

ولو توقّف تعقّل الموجبة المحيطة على اعتبار لزومات غير معدودة لأوضاع غير معدودة على سبب التفصيل ، لتوقّف تعقّل كلّ عقد موجب محيط جملىّ على تعقّل جميع الأفراد الغير المتناهية للموضوع ، ضرورة أنّ الحكم فى الحاصرة المحيطة على الطبيعة من حيث تصلح للانطباق على كلّ فرد فرد من الأفراد اللاّمتناهية. ومن المستبين بطلانه.

< ه‍>وهم وتحصيل

ربما يهيد سرّك أن تقول : إذا بطل أن يستلزم مفهوم ما ممكن أو محال ما ينافيه ، فإذن ما شأن الأقيسة الخلفيّة يثبت بها الشّيء على فرض عدمه ، ويلزم منها الشّيء من فرض نقيضه؟ وأ ليس يقال : عدم الزّمان قبل وجوده قبليّة زمانيّة وبعد وجوده بعديّة زمانيّة مستلزم لوجوده ، ولا تناهى الأبعاد يوجب تناهيها؟

فيقال لك : إن عنيت : «أنّه يبيّن هناك أنّ المستحيل المفروض الوقوع لو كان حاصلا فى نفس الأمر كان عدمه واقعا فيها. ولو كان المتحقق فى نفس الأمر هو نقيض الشيء كان الشّيء متحققا فى نفس الأمر ؛ والزّمان لو كان عدمه واقعا قبل وجوده أو بعد وجوده قبليّة أو بعديّة زمانيّة لم يكن معدوما قبل الوجود أو بعده» ؛ فذلك من الأكاذيب الفاسدة الباطلة ؛ إذ المفروضات لو وقعت على تلك التّقادير

٢٩٦

تكون متحققة فى الواقع بتّة.

وإن عنيت : «أنّه يتبيّن بالتّبيانات أنّه لو فرض شيء من تلك الامور كان هناك ما يسوق إلى أنّ هذا الفرض غير مطابق للواقع من حيث إنّه فرض للنّقيضين وفرض لعدم الشّيء ووجوده معا» ؛ فذلك ما يرومه الرّائمون فى تلك المواضع ، وليس فيه استيجاب استلزام الشّيء ما ينافيه ، بل إنّما استيجاب امتناع الشّيء لكونه مساوق اجتماع المتنافيين.

وبالجملة ، الفرض الّذي فى التّبيانات الخلفيّة هو تقدير الشّيء على أنّه مفروض ، لا على أنّه متحقق. فيقال : إنّا لو فرضنا ذلك الشّيء وتصوّرناه لعلمنا تحقّق عدمه ، لا أنّه لو تحقق هذا الشّيء فى الواقع لكان عدمه متحققا فى الواقع. وهذا أصل معتبر فى تعرّف الحقائق واسع النّفع وتامّ الإجداء فى المواقع العلميّة والمواضع البرهانيّة.

فإذن ، المستحيل المفروض بحسب مفهومه المتمثّل فى لحاظ العقل يحكم عليه باستلزامه لاجتماع المتنافيين بحسب المفهوم المتمثّل فى لحاظ العقل ، وهما بما هما متمثلان فى لحاظ العقل ليسا من المستحيلات ، بل من الممكنات العامّة.

ثمّ يبيّن أنّ المفهوم الملزوم ليس عنوانا لشيء من الحقائق الّتي هى فى عالم إمكان التّقرّر ؛ لكون المفهوم اللاّزم ليس هو عنوانا لشيء من الأشياء الّتي هى فيه ، فيرجع إلى الاستدلال بانتفاء اللاّزم على انتفاء الملزوم أو بجعل الشّرطىّ بحسب الوضع الفرضىّ ونفى لازمه جميعا موجبا لبطلان الفرض ، فيكون مجموع العقد الشّرطىّ والعقد الاستثنائىّ ملزوما للحكم باستحالة المفروض ، لا فرض المفروض فحسب.

<و>ختم

توقّف شيء ما على محال بالذّات لا يستلزم استحالة المتوقّف بالذّات ، بل إنّما بالغير فقط ، لاستحالة الموقوف عليه بالذّات. وأمّا أنّ الموقوف عليه إن كان موصوفا ، كالممتنع بالذّات ، والموقوف صفة ، كالامتناع بالذّات ، كان استحالته

٢٩٧

بالذّات ملزوم استحالة الموصوف بالذّات. وذلك لحصول الموصوف بما هو موصوف والصّفة بما هى صفة. ففى بقعة الادّعاء من دون برهان فاصل ؛ وإنّ جواز استلزام المحال محالا آخر ، لا على الإحاطة ، بل جزئيّا بحسب تحقّق العلاقة يعمّ المحال بالذّات والمحال بحسب استحالة الموقوف عليه.

والآن قد فرغنا من استقصاء النّظر فى عناصر العقود والأحكام وخواصّ لموضوعاتها ، أعنى : الواجب بالذّات والممتنع بالذّات والممكن بالذّات. فعلى ذلك فلنختم القول فى «المسافة الخامسة» من «الصّرحة الأولى» من كتاب الافق المبين واسطرلاب الحقّ وفرجار اليقين ، ونأخذ إلى «المسافة السّادسة» ، حامدين لبارئنا الحقّ العليم الحكيم القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه ـ بلساننا الدّاثر الجسمىّ وبلساننا الباقى العقلىّ حمدا تامّا بليغا كثيرا متواترا متوافرا ، يسمك وراء مسموكات عقول الحامدين ويرفع فوق سماوات نفوس العارفين ، عدد علمه وحكمته وزنة حلمه وقدرته وسعة فضله ورحمته ، حمدا يطوى قصوى فدفد الغاية ويبلغ أقصى أمد النّهاية ويوازى إحاطة حقوق المنن العظيمة الباهرة الرّبوبيّة بهذه الذّمّة القاصرة الحائرة المربوبيّة.

فمنه له الحمد على ما منّ عليّ بفيض جوده وبسط عطائه ، فآتانى من الحكمة الحقّة النّقيّة المروّقة ما نساق إلى أن نأتمّ به ونصطفّ خلفه ـ عصابة أسلاف الحكماء السّابقين بعلومهم وإدراكاتهم وتنقاد إلى أن تختضع له وتطوف حوله أخلاف الشّركاء السّالفين بعقولهم وتعقّلاتهم. وصلوات اللّه وتسليماته على أكرم أرومات الإمكان وأشرف شعوبات الإنسان ، سيّدنا ونبيّنا وهادينا وسائقنا إلى مبدئنا ومعيدنا ، محمّد وأهل بيته الأطيبين الأنجبين المطهّرين الأطهرين. والملك والملكوت والظّلمات والنّور والخلق والأمر للّه ربّ العالمين.

٢٩٨

المسافة السّادسة

[في اوعية الوجود وسنن الموجودات]

من الصّرحة الأولى من كتاب الافق المبين وهو دستور الحق والميزان اليقين ،

عجّل اللّه فرج العلم والحكمة بتيسير إتمامه بفيضه وإنعامه ومنّه وإكرامه (١٢٦).

فى إحقاق حقّ النّظر فى أوعية الوجود وسنن الموجودات

بحسبها وضروب التّقدّم والتّأخّر والمعيّة والأحكام المختلفة

باختلافها وما يلتصق بتلك الأسرار ، ويلتحق بتلك الأنظار

< في المسافة السادسة مقدمة وفصول خمسة >

٢٩٩

المسافة السادسة

في اوعية الوجود وسنن الموجودات

في مقدمة وخمسة فصول

المقدمة مرآة للمتعلمين

الفصل الأوّل فى التقضّى والتجدّد وهو الزمان

في هذا الفصل أحد وعشرون عنوانا

الفصل الثانى فى معنى الدهر والسرمد

فى هذا الفصل تسعة عشر عنوانا

الفصل الثالث فى الدوام والبقاء والأزل والأبد والسرمديّة

فى هذا الفصل أحد وأربعون عنوانا

الفصل الرابع فى أقسام التقدّم والتأخّر على الطريقة الحقة

فى هذا الفصل ثمانية عشرة عنوانا

الفصل الخامس فى آراء أهل الحكمة والكلام وختم المسافة

فى هذا الفصل اثنتى عشرا عنوانا

٣٠٠