العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

(أبو يعلى) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال في قوله تعالى: (أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: ٢١٠] قال: المراد به قدرته وأمره، قال: وقد بيّنه في قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ‌ أَمْرُ رَبِّكَ‌) [النّحل: ٣٣] ومثل هذا في التوراة «وجاء ربك» قال: إنما هي قدرته.

قال ابن حامد: وهذا خطأ إنما ينزل بذاته بانتقال. قلت: وهذا كلام في ذات اللّه تعالى بمقتضى الحس كما يتكلم في الأجسام.

قال ابن عقيل في قوله تعالى: (قُلِ‌ الرُّوحُ‌ مِنْ‌ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: ٨٥] قال: من كفّ‌ خلقه عن السؤال عن مخلوق فكفهم عن الخالق وصفاته أولى وأنشدوا:

كيفية النفس ليس المرء يدركها

فكيف كيفية الجبار في القدم

* * *

باب ذكر الأحاديث التي سموها أخبار الصفات

اعلم أن في الأحاديث دقائق وآفات لا يعرفها إلا العلماء الفقهاء، تارة في نقلها وتارة في كشف معناها وسنوضح ذلك إن شاء اللّه تعالى:

الحديث الأول: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة

__________________

(٣) ـ المتشابه لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على بعض، وقال تعالى بعده: (وَقُضِيَ‌ الْأَمْرُ) [البقرة: ٢١٠] ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: ٢١٠] أي يأتيهم أمر اللّه، وأنهى كلامه بقوله: والذي هو أوضح عندي من كل ما سلف أنا ذكرنا أن قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ‌ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ‌ كَافَّةً) [البقرة: ٢٠٨] إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: (فَإِنْ‌ زَلَلْتُمْ‌ مِنْ‌ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْكُمُ‌ الْبَيِّنٰاتُ‌ فَاعْلَمُوا أَنَّ‌ اللّٰهَ‌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‌ (٢٠٩)) [البقرة: ٢٠٩] يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌ وَالْمَلاٰئِكَةُ‌) [البقرة: ٢١٠]، حكاية عن اليهود، والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: لَنْ‌ نُؤْمِنَ‌ لَكَ‌ حَتّٰى نَرَى اللّٰهَ‌ جَهْرَةً‌ [البقرة: ٥٥]، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوزون على اللّه المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

٢٤١

رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «خلق اللّه تعالى آدم عليه الصلاة والسلام على صورته»(١).

للناس في هذا مذهبان: أحدهما السكوت عن تفسيره، والثاني الكلام في معناه.

واختلف أرباب هذا المذهب في الهاء إلى من تعود على ثلاثة أقوال:

أحدها: تعود إلى بعض بني آدم، قال: وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبّح اللّه وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته».

وإنما خصّ‌ آدم بالذكر لأنه هو الذي ابتدئت خلقة وجهه على هذه الصورة التي احتذى عليها من بعده، وكأنه نبّه على أنك سببت آدم وأنت من ولده، وذلك مبالغة في زجره، فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب(٢). ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى اللّه عزّ وجل لقوله: ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نسبه إليه سبحانه كان تشبيها صريحا.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته».

القول الثاني: أن الهاء كناية عن اسمين ظاهرين، فلا يصلح أن تصرف إلى اللّه عزّ وجل، لقيام الدليل أنه تعالى ليس بذي صورة، فعادت إلى آدم.

ومعنى الحديث أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما، لم

__________________

(١) يقول الراغب الأصفهاني: الصورة أراد بها ما خص الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضله على كثير من خلقه، وإضافته إلى اللّه سبحانه على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه تعالى عن ذلك، وذلك على سبيل التشريف له كقوله بيت اللّه وناقة اللّه ونحو ذلك: ونفخت فيه من روحي.

(٢) مما أورده الرازي في تأويل هذا الخبر قوله: إن المراد منه إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريبا من السماء فالنبي عليه السلام أشار إلى إنسان معين (وهو المضروب) وقال: «إن اللّه خلق آدم على صورته» أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت البتة (ز).

٢٤٢

ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه(١). هذا مذهب أبي سليمان الخطابي، وقد ذكره ثعلب في أماليه.

القول الثالث: أنها تعود إلى اللّه تعالى، وفي معنى ذلك قولان: أحدهما أن تكون صورة ملك، لأنها فعله وخلقه فتكون إضافتها إليه من وجهين: أحدهما التشريف بالإضافة كقوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ‌ لِلطّٰائِفِينَ‌) [الحجّ‌: ٢٦] والثاني ابتدعها لا على مثال سبق. والقول الثاني أن تكون الصورة بمعنى الصفة تقول «هذا صورة هذا الأمر» أي صفته، ويكون خلق آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة، فميّزه بذلك عن جميع الحيوانات، ثم ميّزه على الملائكة بصفة التعالي حين أسجدهم له، والصورة هاهنا معنوية لا صورة تخاطيط‍‌.

وقد ذهب أبو محمد بن قتيبة(٢) في هذا الحديث إلى مذهب قبيح فقال: «للّه تعالى صورة لا كالصور فخلق آدم عليها» وهذا تخليط‍‌ وتهافت، لأن معنى كلامه أن صورة آدم كصورة الحق تعالى.

وقال القاضي (أبو يعلى) يطلق على الحق تعالى تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته.

وهذا تخليط‍‌ لأن الذات بمعنى شيء، وأما الصورة فهي هيئة وتخاطيط‍‌ وتأليف، ويفتقر إلى مصور ومؤلف.

وقول القائل «لا كالصور» نقض لما قاله، وصار بمثابة من يقول «جسم لا كالأجسام» فإن الجسم ما كان مؤلفا فإذا قال «لا كالأجسام» نقض ما قال.

* * *

__________________

(١) ومن الوجوه التي سردها الفخر في هذا المقام قوله: أنه تعالى لما عظم أمر آدم بجعله مسجود الملائكة، ثم إنه أتى بتلك الزلة فاللّه تعالى لم يعاقبه بمثل ما عاقب به غيره فإن نقل إن اللّه تعالى أخرجه من الجنة وأخرج معه الحية والطاوس وغير تعالى خلقهما، مع أنه لم يغير خلقة آدم بل تركه على الخلقة الأولى إكراما له وصونا عن عذاب المسخ ه‍‌. وذهب البيهقي هذا المذهب (ز).

(٢) هو صاحب التصانيف أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة أحد أئمة الأدب، إخباري، قليل الرواية، قد يعتمد في التشبيه على ما يرويه من كتب أهل الكتاب، يتهم بالنصب، كذبه الحاكم ووثقه غيره، مات عام ست وسبعين ومائتين (ز).

٢٤٣

الحديث الثاني: روى عبد الرّحمن بن عياش عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفيّ‌ فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات والأرض».

قال الإمام أحمد: أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة وقد روي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أتاني آت في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ قلت: لا أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض».

وهذه أحاديث مختلفة وأحسن طرقها يدل على أن ذلك كان في النوم ورؤيا المنام وهم والأوهام لا تكون حقائق(١). وأن الإنسان يرى كأنه يطير أو كأنه قد صار بهيمة وقد رأى أقوام في منامهم الحق سبحانه على ما ذكرنا، وإن قلنا إنه رآه في اليقظة فالصورة إن قلنا ترجع إلى اللّه تعالى فالمعنى رأيته على أحسن صفاته من الإقبال عليّ‌ والرضا عني، وإن قلنا: ترجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فالمعنى رأيته وأنا على أحسن صورة(٢). وروى ابن حامد من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لما أسري بي رأيت الرّحمن تعالى في صورة شاب أمرد له نور يتلألأ وعن عن»(٣). وصفه لكم فسألت ربي أن يكرمني برؤيته وإذا كأنه عروس حين كشف عنه

__________________

(١) يقول الحافظ‍‌ ابن حجر في مثل هذا المقام: ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: «إن رؤيا الأنبياء وحي» فلا يحتاج إلى تعبير لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد تقدم في كتاب التعبير أن بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير أه‍‌ (ز).

(٢) بقي على المؤلف أن يتكلم على عجز الحديث، ونحن ننقل عن (أساس التقديس للفخر الرازي) ما بقي بالغرض: وأما قوله: «وضع يده بين كتفي» ففي وجهان: الأول: المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه. الثاني: أن يكون المراد من اليد النعمة، وأما قوله: «بين كتفي» فإن صحّ‌ فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة، وأما قوله: «فوجدت بردها» فيحتمل أن المعنى برد النعمة وروحها وراحتها، من قولهم: عيش بارد إذا كان رغدا، والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله عليه السلام في آخر الحديث «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» اه‍‌ (ز).

(٣) هكذا في الأصل المحفوظ‍‌ لدينا.

٢٤٤

حجابه مستو على عرشه وهذا الحديث كذب قبيح ما روي قط‍‌ لا في صحيح ولا في كذب فأبعد اللّه تعالى من عمله، فقد كنا نقول ذاك منام فيذكر هذا ليلة الإسراء كافأهم اللّه عزّ وجل وجزاهم النار، يشبهون اللّه سبحانه وتعالى بعروس ما كتب هذا مسلم، وأما حديث البرد في الحديث الماضي فإن البرد عرض لا يجوز أن ينسب إلى اللّه عزّ وجل.

وقد ذكر القاضي (أبو يعلى) في كتابه الكناية (رأيت ربي في أحسن صورة) أي في أحسن موضع.

* * *

الحديث الثالث: روت أم الطفيل امرأة أبيّ‌ أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عزّ وجل في المنام في أحسن صورة شابا منورا في خضر، في رجليه نعلان من ذهب وعلى وجهه فراش من ذهب. هذا الحديث يرويه نعيم بن حماد. قال ابن عدي: كان يضع الحديث، وسئل الإمام أحمد فأعرض بوجهه عنه وقال: حديثه منكر مجهول. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي جعدا أمرد عليه حلة خضراء» وهذا مروي. من طريق حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد، وكان يدس في كتبه هذه الأحاديث لا ثبوت لها ولا يحسن أن يحتج بها.

وقد أثبت القاضي (أبو يعلى) صفات للّه تعالى فقال: قوله شاب وأمرد وجعد وقطط‍‌ والفراش والنعلان والتاج، قال: ثبت ذلك تسمية لا نعقل معناها. ومن يثبت بالمنام وما صحّ‌ نقله صفات! وقد عرفنا معنى الشاب الأمرد، ثم يقول «ما هو كما نعلم» كمن يقول قام فلان وما هو بقائم، وقعد وما هو بقاعد، قال ابن عقيل: هذا الحديث نجزم بأنه كذب ثم لا تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحيلا وصار هذا كما لو أخبرنا جماعة من المعدلين بأن جمل البزاز دخل في خرم إبرة الخياط‍‌ فإنه لا حكم لصدق الرواة مع استحالة خبرهم.

* * *

الحديث الرابع: روي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ليلة أسري بي رأيت كل شيء من ربي حتى رأيت تاجا مخوصا من لؤلؤ» هذا يرويه أبو القاسم محمد بن اليسع عن قاسم بن إبراهيم، قال الأزهري: كنت أقعد مع ابن اليسع ساعة فيقول: قد ختمت الختمة منذ قعدت وقاسم ليس بشيء، قال الدار قطني: هو كذاب كافأ اللّه تعالى من عمل هذا.

* * *

٢٤٥

الحديث الخامس: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يجمع اللّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبعون ما كانوا يعبدون وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم اللّه تعالى في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه تعالى منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا».

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيقال هل بينكم وبينه آية تعرفونها فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن»(١).

اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى لا يجوز عليه الصورة التي هي هيئة وتأليف؛ قال أبو سليمان الخطابي: معنى فيأتيهم اللّه تعالى أي يكشف الحجاب لهم حتى يرونه عيانا كما كانوا عرفوه في الدنيا استدلالا فرؤيته بعد أن لم يكونوا رأوه بمنزلة إتيان الآتي لم يكن شوهد قبل.

وقال بعض العلماء: يأتيهم بأهوال القيامة وصور الملائكة(٢). ولم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقول: إذا جاء ربنا عرفناه أي إذا أتانا نعرفه من لطفه وهي الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق أي عن شدة كأنه يرفع تلك الشدائد المهولة فيسجدون شكرا؛ وقال بعضهم: صورة يمتحنهم بها كما يبعث الدجال فيقولون نعوذ باللّه تعالى منك. وفي حديث أبي موسى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أن الناس يقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا فيقال: أو تعرفونه إذا رأيتموه‌؟ فيقولون: نعم، فيقال: كيف تعرفونه ولم تروه‌؟ فيقولون: إنه لا شبيه له، فيكشف الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرّون سجّدا» قال ابن عقيل: الصورة على الحقيقة تقع على التخاطيط‍‌ والأشكال وذلك من صفات الأجسام، والذي صرفنا عن كونه جسما من الأدلة القطعية قوله تعالى: لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ [الشّورى: ١١] ومن الأدلة العقلية

__________________

(١) لقدم الكلام على هذا الحديث عند تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌) [القلم: ٤٢].

(٢) باعتبار (في) بمعنى الباء، ونظيره قول ابن عباس في قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: ٢١٠] أي بظلل من الغمام على ما نقله الفخر الرازي في كتابه (أساس التقديس) (ز).

٢٤٦

أنه لو كان جسما كانت صورته عرضا ولو كان حامل الأعراض جاز عليه ما يجوز على الأجسام وافتقر إلى صانع ولو كان جسما مع قدمه جاز قدم أحدنا. فأحوجتنا الأدلة إلى تأويل صورة يليق إضافتها إليه وما ذلك إلا الحال الذي يوقع عليها أهل اللغة اسم صورة فيقولون: كيف صورتك مع فلان، وفلان على صورة من الفقر؛ والحال التي أنكروها العسف والتي يعرفونها اللطف فيكشف عن الشدة، والتغير إنما يليق بفعله فأما ذاته فتعالت عن التغير، نعوذ باللّه أن يحمل الحديث على ما قالته المجسمة أن الصورة ترجع إلى ذاته وأن ذلك تجويز التغير على صفاته فخرجوه في صورة إن كانت حقيقة فذاك استحالة وإن كان تخيلا فليس ذاك هو إنما يريهم غيره.

* * *

الحديث السادس: روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا شخص أغير من اللّه ولذلك حرّم الفواحش ولا شخص أحب إليه المدحة من اللّه».

لفظة «الشخص» يرويها بعض الرواة ويروي بعضهم «لا شيء أغير من اللّه» والرواة يروون بما يظنونه المعنى، وكذلك «شخص» من تغيير الرواة وقد يكون المعنى ليس منكم أيها الأشخاص أغير من اللّه لأنه لما اجتمع الكل بالذكر سمّى بأسمائهم والشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا ومثل هذا قول ابن مسعود: وما خلق من جنة ولا نار أعظم من آية الكرسي؛ قال الإمام أحمد بن حنبل: الخلق يرجع إلى الجنة والنار لا إلى القرآن ويجوز أن يكون هذا من باب المستثنى من غير الجنس كقوله تعالى: (مٰا لَهُمْ‌ بِهِ‌ مِنْ‌ عِلْمٍ‌ إِلاَّ اتِّبٰاعَ‌ الظَّنِّ‌) [النّساء: ١٥٧] وأما الغيرة فقد قالت العلماء: كل من غار من شيء أسندت كراهته له، فلما حرّم الفواحش ووعد عليها وصفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالغيرة.

* * *

الحديث السابع: روى أبو موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض»(١).

__________________

(١) يقول السيوطي في الجامع الكبير: أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي في السنن والطبراني في الكبير وابن سعد.

٢٤٧

وإنما أضيفت القبضة لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك وذلك أنه بعث من قبض كقوله تعالى: (فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ‌) [القمر: ٣٧] وقد روى محمد بن سعد في كتاب الطبقات أن اللّه تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض فخلق منه آدم فمن ثم قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ‌ خَلَقْتَ‌ طِيناً [الإسراء: ٦١].

* * *

الحديث الثامن: روى سلمان قال: إن اللّه لما خمّر طينة آدم وضرب بيديه فيه فخرج كل طيب في يمينه وكل خبيث في يده الأخرى ثم خلط‍‌ بينهما فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

وهذا مرسل، وقد ثبت بالدليل أن الحق سبحانه وتعالى لا يوصف بمس شيء، وإن صح فيضرب مثلا لما جرت به الأقدار، وقال القاضي (أبو يعلى): تخمير الطين وخلط‍‌ بعضه ببعض مضاف إلى اليد التي خلق بها آدم وهذا التشبيه المحض.

* * *

الحديث التاسع: روى عبيد بن حنين قال: بينا أنا جالس في المسجد إذ جاء قتادة بن النعمان فجلس فتحدث، ثم قال: انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري فإنه قد أخبرت أنه قد اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد فوجدناه مستلقيا واضعا رجله اليمنى على اليسرى، فسلّمنا عليه وجلسنا، فرفع قتادة يده إلى رجل أبي سعيد الخدري وقرصها قرصة شديدة فقال أبو سعيد: سبحان اللّه يا ابن أم أوجعتني، قال ذلك أردت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى لما قضى خلقه استلقى ثم وضع إحدى رجليه على الأخرى ثم قال: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا» قال أبو سعيد: لا جرم لا أفعله أبدا(١).

قال عبد اللّه بن حنبل: ما رأيت هذا الحديث في دواوين الشريعة المعتمد عليها؛ وأما عبيد بن حنين فقال البخاري: لا يصح حديثه في أهل المدينة. وفي

__________________

(١) روى الحافظ‍‌ البيهقي هذا الخبر في (الأسماء والصفات) وقال: فهذا حديث منكر ولم أكتبه إلا من هذا الوجه وفليح بن سليمان ـ أحد رواته ـ مع كونه من شرط‍‌ البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح وهو عند الحفاظ‍‌ غير محتج به، عن يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يحتج بحديثه، عنه يقول: فليح ضعيف، وعن النسائي أنه قال: فليح ليس بالقوي. قال الشيخ: فإذا كان فليح بن سليمان المدني مختلفا في جواز الاحتجاج به عند الحفاظ‍‌ لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم اه‍‌. وذكر أيضا علة عدم اجتماع عبيد بقتادة (ز).

٢٤٨

الحديث علة أخرى وهي أن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي، فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة، قال الإمام أحمد: ثم لو صحّ‌ طريقه احتمل أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدّث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم فلم يفهم قتادة إنكاره.

ومن هذا الفن حديث رويناه أن الزبير سمع رجلا يحدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستمع له الزبير حتى إذا قضى الرجل حديثه قال الزبير: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‌؟ فقال الرجل: نعم، قال: هذا وأشباهه مما يمنعان أن نحدّث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد لعمري سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابتدأ بهذا الحديث فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب حدّثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت: وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث قتادة فإن أهل الكتاب قالوا: إن اللّه تعالى لما خلق السماوات والأرض استراح فنزل قوله تعالى: (وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌) [ق: ٣٨] فيمكن أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكى ذلك عنهم ولم يسمع قتادة أول الكلام.

وقد روى عبد الرّحمن بن أحمد في كتاب السنة قال: رأيت الحسن قد وضع رجله اليمنى على شماله وهو قاعد فقلت: يا أبا سعيد تكره هذه القعدة‌؟ فقال: قاتل اللّه اليهود، ثم قرأ قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ‌ وَالْأَرْضَ‌ وَمٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ‌ أَيّٰامٍ‌ وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌ (٣٨)) [ق: ٣٨] فعرفت ما عنى به فأمسكت. قلت: وإنما أشار الحسن إلى ما ذكرناه عن اليهود.

وقد صحّ‌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما أنهم كانوا يستلقون ويضعون رجلا على رجل، وإنما يكره هذا لمن لا سراويل له واللّه أعلم.

* * *

الحديث العاشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أن رجلا من المشركين سبّ‌ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحمل عليه رجل من المسلمين فقتله، وقتل الرجل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما تعجبون من نصر اللّه تعالى ورسوله لقي اللّه تعالى متكئا فقعد له».

هذا حديث مقطوع بعيد عن الصحة، ولو كان له وجه كان المعنى: فأقبل اللّه تعالى عليه وأنعم.

* * *

٢٤٩

الحديث الحادي عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض»(١).

قلت: الواجب علينا أن نعتقد أن ذات اللّه عزّ وجل لا تتبعض ولا يحويها مكان ولا توصف بالتغير ولا بالانتقال، وقد حكى أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري أنه قال: القدم هم الذين قدمهم اللّه لها من شرار خلقه وأثبتهم لها، وقال أبو منصور الأزهري: القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار، يقال لما قدم قدم ولما هدم هدم، ويؤيد هذا قوله: «وأما الجنة فينشئ لها خلقا».

ووجه ثان أن كل قادم عليها يسمى قدما فالقدم جمع قادم، ومن يرويه بلفظ‍‌ (الرجل) فإنه يقال: (رجل من جراد) فيكون المراد يدخلها جماعة يشبهون في كثرتهم الجراد فيسرعون التهافت فيها.

وقال القاضي (أبو يعلى): القدم صفة ذاتية، قال ابن الزاغوني: يقول إنما وضع قدمه في النار ليخبرهم أن أصنامهم تحترق وأنا لا أحترق. وهذا إثبات تبعيض وهو من أقبح الاعتقادات.

ورأيت أبا بكر بن خزيمة قد جمع كتابا في الصفات(٢). وبوّبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السماوات على أصابعه، باب إثبات الرجل وإن رغمت المعتزلة، ثم قال: قال اللّه تعالى: (أَلَهُمْ‌ أَرْجُلٌ‌ يَمْشُونَ‌ بِهٰا أَمْ‌ لَهُمْ‌ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ‌ بِهٰا) [الأعراف: ١٩٥] فأعلمنا أن ما لا يد له ولا رجل فهو كالأنعام.

قال ابن عقيل: تعالى اللّه أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، وليس الحق تعالى بذي أجزاء وأبعاض فيعالج بها، ثم إنه أليس يعمل في النار أمر وتكوينه حتى يستعين بشيء من ذاته ويعالجها بصفة من صفاته وهو القائل: (كُونِي بَرْداً وَسَلاٰماً) [الأنبياء:

٦٩] فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن مكون الأملاك والأفلاك، وقد صرح

__________________

(١) يقول جار اللّه الزمخشري في كتابه (الفائق في غريب الحديث): وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع، فكأنه قال: يأتيها أمر اللّه فيكفها عن طلب المزيد فترتدع ه‍‌. وفي أساس البلاغة: من المجاز «فيضع قدمه عليها» أي فيسكنها ويكسر سورتها كما يضع الرجل قدمه على الشيء المضطرب فيسكنه.

(٢) وهو الكتاب الذي يسميه (كتاب التوحيد)، والإمام فخر الدين الرازي يقول عنه: (وهو في الحقيقة كتاب الشرك) (ز).

٢٥٠

بتكذيبهم فقال تعالى: (لَوْ كٰانَ‌ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً‌ مٰا وَرَدُوهٰا) [الأنبياء: ٩٩] فكيف يظن بالخالق أن يردها، تعالى اللّه عن تجاهل المجسّمة.

* * *

الحديث الثاني عشر: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار»(١).

قال أبو عمر الزاهد: الجبار هاهنا الطويل، يقال نخلة جبارة(٢). قال القاضي (أبو يعلى) نحملها على ظاهرها، والجبار هو اللّه عزّ وجل. قلت: وا عجبا أذهبت العقول إلى هذا الحد! أو يجوز أن يقال: إن الذراع اثنان وأربعون مرة حتى يبلغ جلد الكافر ويضاف إلى الذات القديمة! تعالى اللّه علوا كبيرا.

* * *

الحديث الثالث عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن مجاهد أنه قال: إذا كان يوم القيامة يذكر داود عليه الصلاة والسلام ذنبه فيقول اللّه تعالى كن أمامي فيقول يا رب ذنبي ذنبي، فيقول كن خلفي فيقول يا رب ذنبي فيقول له خذ بقدمي، وفي لفظ‍‌ عن ابن سيرين قال: إن اللّه تعالى ليقرب داود حتى يضع يده على فخذه.

والعجب من إثبات ذلك للحق سبحانه وتعالى بأقوال التابعين وما تصح عنهم ولو صحت فإنما يذكرونها عن أهل الكتاب كما يذكر وهب بن منبه؛ قال القاضي (أبو يعلى) نحمله على ظاهره لأننا لا نثبت قدما وفخذا هو جارحة.

واعجبا لقد كملوا هيئة البدن بإثبات فخذ وساق وقدم ووجه ويدين وأصابع وخنصر وإبهام وصعود ونزول، ويقولون تحمل على ظاهرها وليست جوارح.

__________________

(١) يقول الشيخ إسماعيل العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا وأحمد والطبراني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا، والترمذي عن أبي هريرة (بألفاظ‍‌ متقاربة).

(٢) قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) في كلامه على هذا الحديث: ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا إن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم أراده وهو أن يكون الجبار ههنا الملك. قال اللّه تعالى: (وَمٰا أَنْتَ‌ عَلَيْهِمْ‌ بِجَبّٰارٍ) [ق: ٤٥] أي بملك مسلّط‍‌ والجبابرة الملوك، وهذا كما يقول الناس: هو كذا وكذا ذراعا بذراع الملك يريدون: بالذراع الأكبر، وأحسبه ملكا من ملوك العجم كان تام الذراع فنسب إليه.

٢٥١

وهل يجوز لعاقل أن يثبت للّه تعالى خلفا وأماما وفخذا! ما ينبغي أن نحدّث هؤلاء لأنا قد عرفنا الفخذ فيقال: ليس بفخذ والخلف ليس بخلف، ومثل هؤلاء لا يحدثون فإنهم يكابرون العقول كأنهم يحدثون الأطفال.

* * *

الحديث الرابع عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «يضحك اللّه إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة» وفي أفراد مسلم من حديث ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبر عن آخر من يدخل الجنة وضحك، فقيل: مم تضحك‌؟ فقال: «من ضحك رب العالمين».

اعلم أن الضحك له معان ترجع إلى معنى البيان والظهور وكل من أبدى عن أمر كان مستورا قيل قد ضحك، يقال: «ضحكت الأرض بالنبات» إذا ظهر فيها وانفتق عن زهره، كما يقال «بكت السماء» قال الشاعر:

كل يوم بأقحوان جديد

تضحك الأرض من بكاء السماء

وكذلك الضحك الذي يعتري البشر إنما هو انفتاح الفم عن الأسنان، وهذا يستحيل على اللّه سبحانه وتعالى فوجب حمله على معنى أبدى اللّه تعالى كرمه وفضله. ومعنى «ضحكت لضحك ربي» أبديت عن أسناني بفتح فمي لإظهار ربي كرمه وفضله. وقد روي في حديث موقوف «ضحك حتى بدت لهواته وأضراسه» ذكره الخلال في كتاب السنة. وقال المروزي: قلت لأبي عبد اللّه: ما تقول في هذا الحديث‌؟ قال: «يشفع» ثم يقول: على تقدير الصحة يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون ذلك راجعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم كأنه ضحك حين أخبر بضحك الرب جلّ‌ جلاله حتى بدت لهواته وأضراسه وهذا هو الصحيح لو ثبت الحديث؛ والثني أن يكون تجوزا عن كثرة الكرم وسعة الرضا كما جوّز بقوله: «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».

قال القاضي (أبو يعلى) لا يمتنع الأخذ بظاهر الأحاديث وإمرارها على ظواهرها من غير تأويل.

قلت: وا عجبا قد أثبت للّه تعالى صفات بأحاديث آحاد وألفاظ‍‌ لا تصح وقد أثبت الأضراس، فما عنده من الإسلام خبر.

* * *

٢٥٢

الحديث الخامس عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن عبد اللّه بن عمر موقوفا أنه قال: «خلق اللّه تعالى الملائكة من نور الذراعين والصدر».

وقد أثبت به القاضي ذراعين وصدرا للّه عزّ وجل. وهذا قبيح لأنه حديث ليس بمرفوع ولا يصح، وهل يجوز أن يخلق مخلوق من ذات القديم! هذا أقبح مما ادعاه النصارى.

* * *

الحديث السادس عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يدنى المؤمن من ربه فيضع عليه كنفه فيقول تعرف ذنب كذا».

قال العلماء: يدنيه من رحمته ولطفه، قال ابن الأنباري: كنفه حياطته وستره، يقال: قد كنف فلان فلانا إذا حاطه وستره وكل شيء ستر شيئا فقد كنفه، ويقال للترس كنيف لأن يستر صاحبه.

قال القاضي (أبو يعلى) يدنيه من ذاته. وهذا قول من لم يعرف اللّه سبحانه وتعالى ولا يعلم أنه لا يجوز عليه الدنو الذي هو مسافة. وكذلك قوله: «إنه ليدنو يوم عرفة» أي يقرب بلطفه وعفوه.

* * *

الحديث السابع عشر: روى مسلم في أفراده من حديث معاوية بن الحكم قال: كانت لي جارية ترعى غنما لي، فانطلقت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة فصككتها صكة، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعظم ذلك عليّ‌ فقلت: ألا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فقال لها: «أين اللّه تعالى‌؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: رسول اللّه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «اعتقها فإنها مؤمنة».

قلت: قد ثبت عند العلماء أن اللّه تعالى لا تحويه السماء ولا الأرض ولا تضمه الأقطار، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق جلّ‌ جلاله عندها.

* * *

الحديث الثامن عشر: رواه أبو رزين قال: قلت: يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه‌؟ قال: «كان في عماء ما تحته هواء ولا فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء»(١).

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير في تهذيب الآثار والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في العظمة (جمع الجوامع للسيوطي).

٢٥٣

العماء السحاب، واعلم أن الفوق والتحت يرجعان إلى السحاب لا إلى اللّه تعالى و «في» بمعنى فوق، والمعنى: كان فوق السحاب بالتدبير والقهر. ولما كان القوم يأنسون بالمخلوقات سألوا عنها، والسحاب من جملة خلقه، ولو سئل عما قبل السحاب لأخبر أن اللّه تعالى كان ولا شيء معه، كما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «كان اللّه سبحانه وتعالى ولا شيء معه» ولسنا نختلف أن الجبار تعالى لا يعلوه شيء من خلقه بحال وأنه لا يحل في الأشياء بنفسه ولا يزول عنها، لأنه لو حلّ‌ بها كان منها ولو زال عنها لنأى عنها ..

* * *

الحديث التاسع عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول من يدعوني فأستجيب له».

روى حديث النزول عشرون صحابيا، وقد سبق القول إنه يستحيل على اللّه عزّ وجل الحركة والنقلة والتغير، فيبقى الناس رجلين:

أحدهما: المتأول بمعنى أنه يقرب برحمته، وقد ذكر أشياء بالنزول فقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ‌ بَأْسٌ‌ شَدِيدٌ) [الحديد: ٢٥] وإن كان معدنه في الأرض، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ‌ لَكُمْ‌ مِنَ‌ الْأَنْعٰامِ‌ ثَمٰانِيَةَ‌ أَزْوٰاجٍ‌) [الزّمر: ٦] ومن لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في الجمل.

والثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه، والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من علو إلى سفل وهذا لا يجوز على اللّه عزّ وجل.

قال ابن حامد: هو على العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل. وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على اللّه تعالى. وقال القاضي (أبو يعلى): النزول صفة ذاتية ولا نقول نزول انتقال. وهذا مغالط‍‌ ومنهم من قال يتحرك إذا نزل. وما يدري أن الحركة لا تجوز على اللّه تعالى. وقد حكوا عن الإمام أحمد ذلك وهو

٢٥٤

كذب عليه(١). ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته كانت صفته كل ليلة تتجدد(٢). وصفاته قديمة كذاته.

* * *

الحديث العشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي فقال: إني مجهود، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من يضيفه هذه الليلة‌؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللّه، فانطلق به إلى امرأته فقال: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، فقال: فعلليهم بشيء إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «لقد عجب اللّه تعالى من صنيعكما بضيفكما الليلة».

وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «عجب اللّه من قوم جر بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة».

قال العلماء: العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان مما لا يعلمه فيستعظمه وهو لا يليق بالخالق جلّ‌ جلاله، لكن معناه: عظم قدر ذلك الشيء عند اللّه لأن

__________________

(١) حكى ذلك أبو يعلى في طبقاته عن أحمد بطريق أبي العباس الإصطخري، وهو كما قال المصنف نقل مفترى. وعجيب من ابن تيمية كتبه في معقوله ـ غير منكر ـ ما يرويه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب محمد بن كرام في مسائله عن أحمد وغيره في حقه سبحانه ... يتكلم ويتحرك .. اه‍‌. ونقل أيضا عن نقض الدارمي ـ ساكتا أو مقرا ـ الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط‍‌ ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط‍‌ ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك وكل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة أه‍‌ (أي ابن تيمية) حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم ه‍‌.

(٢) مما يقوله ابن حزم الظاهري في حديث النزول: هذا إنما هو فعل يفعله اللّه تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين، وهذا معهود في اللغة تقول: نزل فلان عن حقه لي بمعنى وهبه لي وتطوّل به علي، ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علق التنزل المذكور بوقت محدود وصحّ‌ أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذ، وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقا بزمان البتة وقد بيّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض ألفاظ‍‌ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أن ذكر عليه السلام أن اللّه يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك، وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصحّ‌ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق، وأما من جعل ذلك نقلة فقد قدّمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم اه‍‌ (ز).

٢٥٥

المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده، ومعنى السلاسل أكرهوا على الطاعة التي بها يدخلون، وقال ابن الأنباري: معنى عجب ربك: زادهم إنعاما وإحسانا فعبر في هذا الحديث بالعجب عن ذلك.

* * *

الحديث الحادي والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «للّه أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها».

قال المصنف: لما كان مسرورا بشيء راضيا قيل له فرح، والمراد الرضا بتوبة التائب، ولا يجوز أن يعتقد في اللّه سبحانه وتعالى التأثر الذي يوجد في المخلوقين، فإن صفات الحق تعالى قديمة لا تحدث له صفة.

* * *

الحديث الثاني والعشرون: روى مسلم في أفراده من حديث أبي موسى قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن اللّه تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط‍‌ ويرفعه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»(١).

قوله: «حجابه النور» ينبغي أن يعلم أن هذا الحجاب للخلق عنه لأنه لا يجوز أن يكون محجوبا، لأن الحجاب يكون أكبر مما يستره وكما أنه لا يجوز أن يكون لوجوده ابتداء ولا انتهاء لا يصح أن يكون لذاته نهاية وإنما المراد أن الخلق محجوبون عنه كما قال تعالى: (كَلاّٰ إِنَّهُمْ‌ عَنْ‌ رَبِّهِمْ‌ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‌) (١٥) [المطفّفين: ١٥] وأما السبحات فجمع سبحة ويقال إن السبحة جلال وجهه ومنه قوله: «سبحان اللّه» إنما هو تعظيم له وتنزيه.

وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمنع إطلاق حجاب من دون اللّه تعالى لا على وجه الحد والمحاذاة. وهذا كلام مختلط‍‌ يرضى به العوام.

* * *

__________________

(١) يقول النووي في شرح صحيح مسلم: والتقدير: لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته (ز).

٢٥٦

الحديث الثالث والعشرون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة في رمال الكافور وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة».

قوله: «في رمال الكافور» إشارة إلى الحاضرين ثمّ‌ في رمال الكافور وأقربهم منه أي أحظاهم عنده.

وفي حديث آخر: «المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرّحمن». وقال بعضهم: «يمين العرش» وفي حديث سوق الجنة: «ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره اللّه محاضرة» ويروى خاصره بالخاء المعجمة. وهذا يرويه يوسف بن عبد اللّه وهو خطأ والمخاصرة المصافحة. وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع أن يكون الحق تعالى في رمال الكافور. فقد أقرّ بالحصر، ثم قال: لا على وجه الانتقال. وهذا تلاعب، ثم قال: ولا يمتنع قربهم من الذات، وهذا يضيع معه الحديث، واستدل بقوله: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه تعالى» وقال: الخلوة عبارة عن القرب ويجوز القرب من الذات. وقد سبق ردّ هذا.

* * *

الحديث الرابع والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: جاء حبر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد إن اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع، وفي لفظ‍‌ والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال: وَمٰا قَدَرُوا اللّٰهَ‌ حَقَّ‌ قَدْرِهِ‌ [الأنعام: ٩١].

قلت: وظاهر ضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم الإنكار(١) ، واليهود مشبهة، ونزول الآية دليل على إنكار الرسول صلى اللّه عليه وسلم عليهم، وفي معنى هذا الحديث قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف يشاء» ولما كان القلب بين إصبعين ذليلا مقهورا دلّ‌ هذا على أن القلوب مقهورة لمقلبها.

وقال القاضي (أبو يعلى): غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع صفات راجعة إلى الذات لأنّا لا نثبت أصابع هي جارحة ولا أبعاض. وهذا كلام

__________________

(١) يستبعد ابن خزيمة ـ وهو ممن وقع في خطأ التشبيه ـ أن يكون ضحك الرسول صلى اللّه عليه وسلم إنكارا، وقد نقض الحافظ‍‌ ابن حجر زعمه هذا في الفتح (ز).

٢٥٧

مخلط‍‌ لأنه إما أن يثبت جوارح وإما أن يتأولها. وأما حملها على ظاهرها فظاهرها الجوارح ثم يقول: ليست أبعاضا. فهذا كلام قائم قاعد ويضيع الخطاب لمن يقول هذا.

* * *

الحديث الخامس والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يطوي اللّه عزّ وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ...»(١). هكذا رواه مسلم وهي أتم الروايات؛ وقد ثبت بالدليل القاطع أن يد الحق سبحانه وتعالى ليست جارحة وأن قبضته الأشياء ليست مباشرة ولا له كف، وإنما قربه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الأفهام بما يدركه الحس، وأما رواية الشمال فضعيفة بالمرة، وقد صحّ‌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وكلتا يديه يمين مباركة»(٢). وهذا يوهن ذكر الشمال.

الحديث السادس والعشرون: رواه الإمام أحمد رحمه اللّه في مسنده من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ‌ لِلْجَبَلِ‌) [الأعراف: ١٤٣] قال: قال هكذا يعني أنه أخرج طرف الخنصر، وفي لفظ‍‌ فأومأ بخنصره فساخ. وروى ابن حامد (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ‌ لِلْجَبَلِ‌) [الأعراف: ١٤٣] قال: خرج منه أول مفصل من خنصره.

هذا الحديث تكلم فيه علماء الحديث وقالوا: لم يروه عن ثابت غير حماد بن سلمة، وكان ابن العوجاء الزنديق قد أدخل على حماد أشياء فرواها في آخر عمره، ولذلك تجافى بعض أصحاب الصحيح الإخراج عنه، ومخرج الحديث سهل وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقربه إلى الأفهام بذكر الحسيات فوضع يده على خنصره إشارة إلى أن اللّه تعالى أظهر اليسير من آياته.

* * *

__________________

(١) في الذي بين أيدينا من نسخ صحيح مسلم زيادة «ثم يطوي الأرضين بشماله» (ز).

(٢) يقول القتيبي عند الكلام على هذا الحديث: إنما أراد بذلك معنى التمام والكمال لأن كل شيء فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش والتمام، وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من النقص، ويجوز أن يريد العطاء باليدين جميعا لأن اليمنى هي المعطية فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما وإلى هذا ذهب المرار حين قال:

وأن على الإوانة من عقيل

فتى كلتا اليدين له يمين (ز)

٢٥٨

الحديث السابع والعشرون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عكرمة أنه قال: إذا أراد اللّه عزّ وجل أن يخوّف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تتزلزل وإذا أراد اللّه أن يدمدم على قوم تجلّى لهم.

قال القاضي (أبو يعلى): «أبدى عن بعضه» هو على ظاهره وهو راجع إلى الذات على وجه لا يفضي إلى التبعيض.

قلت: ومن يقول أبدى عن بعض ذاته وما هو بعض لا يكلم وإنما المراد أبدى عن آياته.

* * *

الحديث الثامن والعشرون: روى أبو الأخمص الجمحي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: لعلك تأخذ موساك فتقطع أذن بعضها فتقول هذه نحر، وتشق أذن الأخرى وتقول صرم‌؟ قال: نعم، قال: «فلا تفعل فإن موسى اللّه تعالى أحد من موساك وساعد اللّه تعالى أشد من ساعدك».

قال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع حمل الخبر على ظاهره في إثباته الساعد صفة لذاته. قلت: المراد بالساعد القوة لأن قوة الإنسان في ساعده وكان ينبغي أن يثبت الموسى أيضا.

* * *

الحديث التاسع والعشرون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرّحمن».

قد ذكرنا صفة العين في الآيات المذكورة قبل الأحاديث، والمراد بالحديث أن اللّه تعالى يشاهد المصلي فليتأدب وكذلك قوله: «فإن اللّه تعالى قبل وجهه» أي يراه.

* * *

الحديث الثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من هذه‌؟» قالت: فلانة تذكر من صلاتها فقال صلى اللّه عليه وسلم: «مه عليكم ما تطيقون فاللّه لا يمل اللّه تعالى حتى تملّوا» وفي لفظ‍‌ «لا يسأم اللّه تعالى حتى تسأموا».

قال العلماء: معنى الحديث لا يمل اللّه تعالى وإن مللتم كما قال الشاعر:

صليت مني هذيل بخرق

لا يملّ‌ الشرّ حتى يملوا

٢٥٩

المعنى لا يملّ‌ وإن ملّوا وإلا لم يكن له فضل عليهم. وقال قوم: من ملّ‌ من شيء تركه، والمعنى لا يترك الثواب ما لم يتركوا العمل، وأما الملل الذي هو كراهة الشيء والاستثقال له ونفور النفس عنه والسآمة منه فمحال في حقه تعالى لأنه يقتضي تغيره وحلول الحوادث في حقه.

* * *

الحديث الحادي والثلاثون: روت خولة بنت حكيم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن آخر وطأة وطئها الرّحمن بوجّ‌».

وج: واد بالطائف وهي آخر وقعة أوقعها اللّه تعالى بالمشركين على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» مأخوذ من القدم وإلى هذا ذهب ابن قتيبة وغيره، قال القاضي (أبو يعلى) غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره وأن ذلك معنى بالذات دون الفعل لأنّا حملنا قوله ينزل ويضع قدمه في النار على الذات. وهذا الرجل يشير بأصولهم إلى ما يوجب التجسيم والانتقال والحركة وهذا مع التشبيه بعيد عن اللغة ومعرفة التواريخ وأدلة المعقول وإنما اغترّ بحديث روي عن كعب أنه قال: «وجّ‌ مقدس منه عرج الرب إلى السماء ثم قضى خلق الأرض» وهذا لو صحّ‌ عن كعب احتمل أن يكون حاكيا عن أهل الكتاب وكان يحكى عنهم كثيرا ولو قدرناه من قوله كان معناه أن ذلك المكان آخر ما استوى من الأرض لما خلقت ثم عرج الرب أي عمد إلى خلق السماء وهو قوله تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ وَهِيَ‌ دُخٰانٌ‌) [فصّلت: ١١] ويروى عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «لما أسري بي مرّ بي جبريل عليه الصلاة والسلام حتى أتى الصخرة فقال: يا محمد من هاهنا عرج ربك إلى السماء» وهذا يرويه بكر بن زياد وكان يضع الحديث على الثقات. فإن قيل قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: (اِسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: ٢٩] صعد، قلنا: صعد أمره إذا لا يجوز عليه الانتقال والتغير.

* * *

واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب:

أحدها: إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: ٢٢] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف.

٢٦٠