كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

سماءها ، أي نصر الناطق حتى ارتفعت درجته ، وسطح الأرض أي (١) بإقامة الإمام. وأجرى الأنهار بإظهار حدود الدين. وأنبت أشجارها بإنماء صور المؤمنين بعلمه ، وتأويله إلى يوم الدين. فالنهاية الأولة هي المشار إليها كما قدمنا ذكره ، بأنّه الله الخالق البارئ المصور ، لما دنا وعلا في السموات العلى ، والأرضين السفلى ، وما بينهما وما تحت الثرى (ومولانا أمير المؤمنين) (٢) الذي تأله النفوس إليه ، وتتحير في معجزاته وظهور آياته. وهو خالق صور الدين (٣) ، وباريها ومحييها ومنشئها ، ومصورها بالصورة الأبدية السرمدية من الكمال الثاني المحيي للعقول والنفوس ، والمقوم لها بالفعل بالإكسير الأعظم الذي لا يستحيل.

ولذلك غلا فيه من غلا (٤) وهلك فيه الزائد والناقص تنبه (٥) وهو صلى الله عليه قد ذكر ذلك في نهج البلاغة بقوله : هلك فيّ اثنان : محب مفرط ومبغض مفرط. وقد أوضح ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقوله له : يا علي والله (٦) لو لا أن تدعي فيك أمّتي ما ادعت النصارى في أخي عيسى ، لفرضت عليهم أن يتمسحوا بالتراب من تحت قدميك ، هلك والله فيك اثنان : غال مفرط ومقصر مفرط ، وليس هذا ولا ذلك ، وخير الأمور أوسطها. وكان يقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٧) النظر إلى وجه علي عبادة. ويقول : ولاية علي حسنة ، لا يضر معها سيئة. ويقول الحسنة حبنا ، والسيئة بغضنا.

وكان مولانا الصادق صلوات الله عليه يقول : والله إن سببي من علي أحب إليّ من (٨) نسبي. فظهور علي ومحمد صلوات الله عليهما وآلهما (٩) على

__________________

(١) أي : سقطت في ط.

(٢) ومولانا أمير المؤمنين : سقطت في ط.

(٣) الدين : الأديان في ج.

(٤) غلا : سقطت في ج.

(٥) تنبه : سقطت في ط.

(٦) والله : سقطت في ج.

(٧) صلى‌الله‌عليه‌وآله : سقطت في ط.

(٨) إلي من : سقطت في ط.

(٩) عليهما وآلهما : سقطت في ط.

٢٢١

ما ذكرنا مثل ظهور الجسم والنفس معا ، وليس مرادنا بالجسم إلّا الشريعة ، ولا باللطيف إلّا التأويل ، فعلم علي صلوات الله عليه وآله وصورته نفس الشرائع وصورها المدفونة في غصونها. فهو (منه السلام) (١) محيي الشرائع ومقومها ومتممها ، كما أن اللطيف حياة الجسم ومقومه ومحركه. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يشرفه ويعظمه ويكرمه ويقدمه لقوله : ما عرفني بحقيقة معرفتي إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من ذريته.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكمل النطقاء كمالا ، وأكثرهم علما ، وأتمهم وأحسنهم خلقا ، كما قال تعالى في سورة النجم وقد (٢) أقسم على ذلك قسما فقال : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (٣). فمدح بهذه الآيات (٤) نور العظمة ظهرت به حتى رآه مرّة أخرى ، ورأى الآيات الكبرى ، وكذلك ظهر بإبراهيم أيضا قال تعالى (٥) : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٦) الآية (٧).

ومحمد وعلي هما عطية الله لإبراهيم وإجابته في سؤاله ، قال الله تعالى :

__________________

(١) منه السلام : سقطت في ط.

(٢) وقد : سقطت في ط.

(٣) سورة : ٥٣ / من ١ إلى ١٨.

(٤) الآيات : الآن في ط.

(٥) قال تعالى : سقطت في ط.

(٦) سورة : ٦ / ٧٥.

(٧) الآية : سقطت في ط.

٢٢٢

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) (١) (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢). فكان يقول : أنا دعوة جدي إبراهيم.

وكذلك ذكر إبراهيم في دعوته بقوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٣) فاستجاب له. فقال تعالى (٤) : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥). وعليّ صلوات الله عليه كمال الدين بقوله في آية النص. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٦). ورسول الله صلى (الله عليه وآله) (٧) الممدوح بكل فضل بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٨).

وكذلك نزل في ظلمة علي (صلوات الله عليه وآله ، قال تعالى) (٩) :

__________________

(١) سورة : ٢ / ١٢٧.

(٢) سورة : ٢ / ١٢٨ ، ١٢٩.

(٣) سورة : ٢٦ / ٨٤.

(٤) فقال تعالى : سقطت في ط.

(٥) سورة : ١٩ / ٥٠.

(٦) سورة : ٥ / ٣.

(٧) الله عليه وآله : سقطت في ط.

(٨) سورة : ٧ / ١٥٧ ، ١٥٨.

(٩) صلوات الله عليه وآله ، قال تعالى : سقطت في ط.

٢٢٣

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١) ، (ثم قال تعالى) (٢) : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣). (ثم قال تعالى) (٤) : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٥).

فهذه الآيات توضّح فضله وعداوة أضداده ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : عليّ مني بمنزلة هارون من موسى إشارة إلى أن أصحابه يعملون بوصيه كما فعل أصحاب موسى بهارون (عليه‌السلام) (٦) وخلافهم له واتخاذهم العجل (ومثله الله يعني) (٧) حتى صد القوم عنه. ومثله تعالى بعيسى بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٨) الآية (٩). يعني بأنّه بعلمه يحيي الأكمه والأبرص ويخلق من الطين ، أي من المستجيب ، كهيئة الطير فينفخ فيه من روح القدس فيكون حدا بإذن الله ، ويحيي الموتى الذين هم أهل الجهل بالعلم ، وأنّهم يقتلون (١٠) كما قتلت اليهود عيسى ، وعليّ هو الذي نص عليه الرسول بأمر الله ووحيه. وقوله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوما جالسا بين أصحابه

__________________

(١) سورة : ٢ / ١١٤.

(٢) ثم قال تعالى : سقطت في ط.

(٣) سورة : ٢ / ١٢١.

(٤) ثم قال تعالى : سقطت في ط.

(٥) سورة : ٢ / ١٥٩.

(٦) عليه‌السلام : سقطت في ط.

(٧) ومثله الله يعني : سقطت في ج.

(٨) سورة : ٤٣ / ٥٩.

(٩) الآية : سقطت في ط.

(١٠) يقتلون : يقتلونهم في ج.

٢٢٤

وإذ بسائر يرون خياله ، فقال لهم الرسول : من أحب منكم أن ينظر إلى آدم وعلمه ، ونوح في فهمه ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في مناجاته ، وعيسى في معجزاته وسنته ، وإلى محمد في تمامه وكماله وجماله فلينظر إلى هذا الرجل المقبل ، إذا هو. وإذا هو عليّ صلوات الله عليه وآله.

وكان ممثول سليمان في الملك الذي هو الإمام والحكمة. ذكر ذلك سيدنا المؤيد قدس الله سرّه بقوله : وبالباب سليمان. ومعنى ذلك .. روي أن سليمان كان في ملك عقيم حتى أخذ الحوت (١) خاتمه من يده ، فافتقر مدة طويلة إلى أن ردّ الله عليه خاتمه. فهو سليمان الدور صاحب الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده من أهل دور الستر الملقى على كرسيه جسدا ، فكرسيه علمه التأويلي المعنوي ، والجسد الملقى عليه ، يعني الظاهر الذي قام به الأول ، وهو الحوتة التي أخذت خاتمه أي خلافته وملكه ، حتى رد عليه (٢). أي من بعد ما انتقم الله من الفحشاء ، والمنكر ، والبغي ، فله الأمثال المضروبة والرموز المحجوبة. قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) (٣). المراد به النهاية الأولة. وقال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٤). المراد به النهاية الثانية.

فبهذه الصفات يجب معرفتهما والاعتقاد فيهما ، فأما من غلا فيهما ، أو في أحدهما ، وأقامه مقام الغيب تعالى ، أو مقام الإبداع ، أو مقام عقل من العقول المجردة في دار الصفاء ، فقد ضل ضلالا بعيدا ، وشبه وألحد وكفر ، وتمرد. أو من اعتقد في أحدهما اعتقادا مثل اعتقاد الرافضة من النصيرية (٥) وأمثالهم في معدن النور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاعتقاد

__________________

(١) أخذ الحوت : أخذت الحوتة في ج.

(٢) رد عليه : ردد عليه في ط.

(٣) سورة : ٤٣ / ٨٤.

(٤) سورة : ٤٣ / ٨٤.

(٥) يقصد الفرقة النصيرية التي أسسها أبو شعيب محمد بن نصير البصري النميري سنة ٢٦٠ هجرية.

٢٢٥

الردي والقول المردي ، فعليهم لعنة الله مدى الليالي والأيام والشهور والأعوام. أو كاعتقاد الأباضية الأنجاس الأرجاس في علم الدين وإمام المؤمنين فالله «ينتقمه ويخزيه ويلعنه ويرديه (١)».

وإن كان لا فرق بين الغالي فيهما أو الجاحد لفضلهما. إذ الغالي قد تعدى على المبدع تعالى بسلب الإلهية عنه لمخلوق خلقه وأنشأه وقدره وهداه (٢) ، فذلك كذلك ، وفي هذا كفاية كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

قال سيدنا المؤيد قدس الله سرّه في بعض كلامه في تأويل قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (٣) ، فذلك مثل من عول عليه في إقامة الحق وتعليمه لمن استجاب من الخلق ، فغلب عليه الهوى ومال إلى الراحة والخنا ، فادعى في الإمام ما يدعيه أهل التحريف من الغلوية المارقية وأهل الإلحاد من الزنادقة. فزاد في منزلة الإمام ورفعه بزعمه عن صفة الأنام ، ونزهه عن أكل الطعام ، ووصفه بصفة الحي القيوم ، وبطل الأعمال ، وغير الأحوال ، ومال إلى أهل القول بالإفك والمحال ، الغارقين في الآثام ، المرتكبين بجهلهم المحرمات من الأعمال رغبة في حب العاجلة ، وجهلا بما أعد الله لأهل الولاء والإخلاص في الآخرة ، فحرام على من علم ذلك من أهل الدعوة الخالصة والمعرفة الصحيحة أن يستفيد منه علما ، ولا يسمع منه قولا ، لأنّه أشرك بالله وشبه بصفات أهل الجهل والعمى ، وأهل الكفر والخناء وسائر البشر في الدنيا.

فهذه الأبواب قد أودعناها من معاني الحكم ، ما يكتفي بعشر عشير

__________________

(١) فرقة من الخوارج أصحاب حرث الأباضي والقول هنا موجه إليه ، أي إلى الحارث الأباضي.

(٢) هداه : هدى في ج.

(٣) سورة : ٢ / ١٧٣.

٢٢٦

للعاقل الفطن اللبيب ، وكررنا الكلام ورددناه ، وأوضحنا كل فصل منه (١) وبيناه ، تعريفا بمراتب الحدود ، واحذارا عن الكفر بالله بالحق المعبود ، وإنّما العبادة بالحقيقة هي الولاية وترتيب كل حد في حده. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المرء يحشر مع من أحب. وقال أبو عبد الله الصادق صلوات الله عليه : من أحبنا كان معنا يوم القيامة واستظل بظلنا ورافقنا في منازلنا.

وقد تقدم من الدلائل اللائحة ، والبراهين الواضحة في معاني المعاد ما فيه كفاية كافية ، ونعمة شافية. وذكرنا صعود الأنفس إلى المجمع الأول الأدنى باب الإمام عليه‌السلام ، وجنة مأوى الصور الصافية عند سدرة المنتهى ، في الجنة الدانية التي هي عالم الدعوة (٢).

وكذلك أوضحنا انتقال المقامات العالية وصعودها إلى باب الحجاب ، المجمع الأكبر ، والبرزخ الأنور الأعلى ، والوقوف هنالك لتمام الأجزاء التي هي أعضاء شخص النور القائم المذكور على كل لسان ، المشهور بالقيامة ، وخلافته في المركز العلوي فيدبر العالم السفلي ، ويستخرج من يخلفه عند وفاء الأجل فيما هو فيه يرتقي إلى المرتبة العالية ، وتترافع المراتب العلوية كترافع المراتب السفلية.

ثم تكون الراحة والسكون في أفق جنة المأوى وفي أعلى عليين ، حجاب الحجاب وبابه ، وغاية الغايات ، سدرة المنتهى. ونحن الآن نشفع القول ونردفه من أوضاع الحدود وما يحقق ما ذكرناه «ويصحح ما شرحناه ويبين ما ذكرنا» (٣) حتى يكون المعتقد في اعتقاده على بصيرة إن شاء الله تعالى (٤).

__________________

(١) فصل : وضل في ط.

(٢) يريد جنة الدعوة الإسماعيلية العرفانية.

(٣) سقطت الكلمات الموضوعة بين قوسين من ج وط.

(٤) في النسخة ج ؛ وردت هذه الجملة «انتهى الباب الثامن وهو مشتمل على ثلاثة أبواب والله أعلم» وباعتقادي أنها إضافة إلى الأصل من قبل الناسخ.

٢٢٧

الباب الثّاني عشر

«في القول على الثواب والارتقاء في المراتب والدرج والأبواب

التي هي أبواب الجنان بابا بابا والترقي في الأسباب» (١)

وبالله نستعين وعليه نتوكل ، ومن ولي عصرنا نجتدي (٢) المادة ، ونرجو منه الإفادة والزيادة إن شاء الله تعالى.

قال سيدنا المؤيد أعلى الله قدره (٣) ، ونضر الله وجهه : النفس الحسية التي هي عقل (٤) قائم بالقوة تصير في انتهائها (٥) قبول أنوار الأجسام العالية وتعليم الحدود لدين الله تعالى التي هي الفاعلة والمؤثرة فيها سلبا لرذائلها بالأعمال (٦) المندوحة ، وكسبا إياها المعارف التي تزيد بالتخيل من قبل السنن النبوية التي لها في كل منها رتبة ترتقي إليها فتصير بها مشابهة لما فوقها إلى حد أن يكون تصورها من العقول العارفة القائمة بالفعل التي بتصور أمورها تنال كمالها ، فتكون محيطة بذاتها عاقلة (٧) لذاتها ، آخر ما تتصوره تمامية لما يكون مثلها وشبهها (٨) ، لا يبقى لها ما تتصوره بعدها.

وقال أيضا في مقابلة «حميد الدين» (٩) في النشأة الأولة والآخرة :

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج.

(٢) نجتدي : نجتذي في ج.

(٣) قدره : سقطت في ط.

(٤) عقل : سقطت في ط.

(٥) انتهائها : سقطت في ج.

(٦) الأعمال : الآمال في ج.

(٧) عاقلة : عاقلها في ط.

(٨) وشبهها : شبها في ط.

(٩) حميد الدين : سقطت في ط.

٢٢٨

قال الله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (١). يقول ما خلقكم الأول بأجسامكم التي تدرك بالحواس ، ولا بعثكم في أنفسكم الذي هو الخلق الثاني ويدرك بالعقل ، إلّا كنفس واحدة الأيسان (٢) مثل إن كشيء واحد. فخص اسم الفعل فيما كان جسما محسوسا بالخلق ، وفيما كان نفسا عقلا غير محسوس بالبعث. فكذلك كون الأمر على نظام واحد عبر عن كيفية البعث المعقول بالخلق الأول المحسوس. فقال تعالى (٣) (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) (٤). أي (٥) يقول : إن كنتم ليس تعلمون البعث الذي هو النشأة الآخرة «التي هي خلق الأرواح وإحياؤها بروح القدس الآخرة» (٦) وأنتم في شك منه بخلوكم ممّا يدلكم عليه ، فاعلموا ذلك من خلقنا أجسامكم ، (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) (٧). يعني أشخاصكم قبل التناسل (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) (٨) عند أنّه قال : الأمر إلى التناسل. (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) (٩) «رتبة تبلغها النطفة والدم عند امتزاجهما في الأرحام ثم من مضغة كذلك» (١٠) رتبة تبلغها العلقة فتكون منها مخلقة مصورة تامة ، وغير مخلقة مصورة ناقصة التي هي كلها مدركة من قبل النشأة الأولى «فلولا تذكرون» فهل (١١) لا تفكرون وتوازنون فتعلمون أن النظام في الخلق واحد ، وإن النشأة الآخرة التي هي خلق الأرواح وإحياؤها بروح القدس على مثال النشأة الأولى.

ولما كان الأمر في وجود النفس وكمالها ، كالأمر في جسمها ، كما نطق به الكتاب الكريم ، فوجدنا جسمها في وجوده في الأحشاء كائنا بقوة النماء الحاصلة له من مزاوجة الطبيعي ، فهو لا يزال يكتسب (١٢) بالاستمداد ، واجتلاب

__________________

(١) سورة : ٣١ / ٢٨.

(٢) الأيسان : الأرسان في ج.

(٣) تعالى : سقطت في ط.

(٤) سورة : ٢٢ / ٥.

(٥) أي : سقطت في ط.

(٦) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج.

(٧) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج.

(٨) فهل : فهلا في ط.

(٩) يكتسب : سقطت في ج.

٢٢٩

المواد ، وينتقل من رتبة النطفة ، إلى رتبة العلقة ، ومن رتبة العلقة ، إلى رتبة المضغة ، كذلك إلى أن تحصل له الآلات كمالا ، عين وأذن ، ويد ورجل ، وأنف ولسان ، وغير ذلك بالأمور المتقدم شرحها ليقوم بالفعل لها عند مصيره إلى عالم الحس ؛ إذ كان وجودها له في تلك الظلمات وضيق الأحشاء التي إليها كان مصيره ، وإذا حصل له تلك الآلات المهيئة بالاكتساب داخلا قام مصيره إلى دار الحس ، قابلا طيّباتها وآلامها بحسب طبيعته المكتسبة ، قلنا أولا على أن النفوس في أحوالها مقابلة أن وجودها في جسمها كوجود جسمها في الأحشاء والظلمات ، ووجودها في جسمها لا له ، بل لذاتها التي تليق بعالم آخر إليه مصيرها ، واستمدادها البركات الإلهية واستفادتها العلوم بالأعمال الشرعية بذاتها واجتهادها ، لتقوم به ذاتها ، وتهيؤها لأنوار الملكوت ، فقد أسفرت المقابلة عن توازن يوجب لها جزاء وثوابا وعقابا.

وقد جاء عن سيدنا المؤيد قدس الله سرّه في بعض مجالسه مثل ذلك بقوله : أيها المؤمنون نفعكم الله بسماع الحكمة ، وأوزعكم شكر (١) أولياء النعمة ، ارغبوا بنفوسكم عن ملاءمة الجسم المظلم ، الذي منشأه من اللحم والدم ، المتكون عن التقاء العضوين ، كلاهما لا يذكر ، كما أن الفاحش يستر ، فلولا معاجلته بالغسل والتنقية دائما ، لجاف حيا قبل أن يجيف ميتا ، ولو لا ارتباط النفس البشرية به لساء ذاك نبتا ، وساء ذلك منبتا. فاسعوا إلى صور كلمة التنزيل والتأويل نطفتها ، واللسان مجراها ، والأذنان مدرجها ، والنفس الشريفة مستقرها ، وإلى عالم الطهارة والنور معادها ومرجعها ، فهنالك البهاء والنور والضياء ، نور على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء.

__________________

(١) شكر : بشكر في ج.

٢٣٠

قال سيدنا حميد الدين قدس الله سرّه : فالجزاء ثابت واجب ، وهو متعلق بالبعث ، والبعث هو فعل الله تعالى من جهة الملائكة المقربين في المبعوث الطبيعي كمالا له ، ليكون به منبعثا الانبعاث الثاني. ومعناه هو المعرب عنه بالنفخ المخصوص به بالقوة التي للدين ـ «راجع (١) راحة العقل» ـ التي هي إفاضة على المفاض عليه الذي كان خاليا منها ، فيحيا الحياة الأبدية ، وهذا الفعل المخصوص ذكره في الرسالة الوحيدة في المعاد والتقديس (٢) منه ما يكون أولا ، وهو النفخ الأول ، ومنه ما يكون آخرا وهو الثاني. فأما ما يكون أولا فهو الذي يكون في عالم الطبيعة ، وينقسم إلى ما يكون بتعليم من جهة من يكون طبيعيا. وإلى ما يكون بتأييد إلهي.

فالذي بتعليم فمن المفيد وما ينفخه في المستفيد (٣). وأمّا ما يكون بتأييد إلهي فهو إسراء القوى الإلهية من عالم الملكوت في نفس المبعوث الكائن في عالم الطبيعة وسريانها فيها ، فيتيسر لها جميع الأمور المتعلقة بالسعادة الأبدية والكمال الثاني.

وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بإلقاء الروح حيث يقول : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٤). أي رفيع الدرجات هو القائم بالفعل الذي هو الإلقاء بأمر الله.

والروح هو بركات القدس والملكوت الفائضة من أمره الذي هو المبدع الأول ، والموجود الأول سبحانه وتعالى ، على من يشاء من عباده المصطفين الذين كانت نفوسهم في ظلمات الطبيعة خالية وهي فيها غير مكتسبة ، وشبه تعالى وتكبر الإسراء والتسريب بالنفخ ، وذلك حادث (٥) من جهة المنصوبين للغاية

__________________

(١) راجع راحة العقل : سقطت في ط.

(٢) هي من تأليف الداعي أحمد حميد الدين الكرماني.

(٣) المستفيد : المفيد في ج.

(٤) سورة : ٤٠ / ١٥.

(٥) حادث : في ج حدث.

٢٣١

بموجودات عالم الطبيعة في نفس المبعوث في الكمال منبعثا قائما بالفعل الذي يقتضيه كماله. فالذي يكون بالإسراء بعث من الله تعالى كما قال عزوجل (١) : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٢) الآية.

والذي يكون بتعليم من جهة من يكون طبيعيا فلكون ما يعلم من جهة المبعوث المرقي إلى درجة الكمال المنبعث الانبعاث الثاني ، القائم بالتعليم ، ممّا يتم فيه البعث ، وأمّا ما يكون آخرا وهو النفخ الثاني المخصوص بالقيامة عند تكامل الأدوار ، واستكمال قيام الفعل بالفعل بخروج الأنفس من حضانة التعليم من جهة المؤيدين ، فهو اتصال بقوى النهاية الأولة التي هي الموجود الأول (٣) بالإبداع الأول ، والمنبعث الأول بالانبعاث الأول ، المعرب عنه بروح القدس ، بالنهاية الثانية ، التي هي تمام كون الإنسان المتعلق وجوده بتكامل الأدوار السبعة من جهة المؤيدين المبعوثين المنبعثين الانبعاث الثاني في دار الطبيعة الذي هو الخلق الجديد ، والخلق الآخر ، الجامع للأنفس كلها ، الحاصلة في الوجود ، من أول الدهر إلى آخره ، المكتسبة في دنياها ، المفارقة أشخاصها في أزمانها ، الحاصلة في المجمع لتمام الأمر ، المنتظرة لقيامها وسريانها في الأنفس تشبيها ، كسريان الحياة الحسية في الطفل عند الولادة ، متقدة نارها ، سارية فيها ، أثرها متقدم.

ووجود النفس النامية التي هي أمثال المكتسب بالعلم والعمل ، اللذين بهما تحصل تلك القوة الإلهية ، وعود الآخر إلى الأول. فذلك هو النفخ الثاني الذي كان التعليم في الدنيا من جهة الأنبياء والأوصياء والأئمة ، له نفخا أولا ، كما بينا. قال الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) (٤).

__________________

(١) ع. ج : سقطت في ط.

(٢) سورة : ٢ / ٢١٣.

(٣) الأول : الأولى في ج.

(٤) سورة : ٢٣ / ١٠١.

٢٣٢

يعني إذا تجردت الصور (١) بكماله فجمعت ، سطع فيها أنوار الملكوت ، ولا يكون لكل منها إلّا بقدر الآلة التي حصلت لها بالاكتساب. فإنّه لا أنساب هنالك في الدنيا.

قال الله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (٢). أي (٣) أشار إلى صاحب الدور السابع الذي يحصل في الوجود آخر دور حين ينبعث في عالم الطبيعة أولا كما تنبعث أصحاب الأدوار فيطيعونه إشارة إلى صاحب الدور السابع الخاتم للأدوار الذي به يتم الخلق ، فيفتح أولا في دار الطبيعة باب الجزاء ، وفي الآخرة ثانيا ، وهو النفخ الأول. يريد به أول كما نفخ في أصحاب الأدوار أولا ، فصعق من في السموات ومن في الأرض. إلّا من كان عارفا بمرتبته ، ومؤمنا به من قبل ذلك ، قائلا به ، كما قال تعالى (٤) : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٥). وهذا هو يعني به النفخ الأول ، والجزء الأول في دار الطبيعة الذي ذكره حصول الأنفس بالمجمع الأدنى ، الذي هو باب الإمام عليه‌السلام ، كما بينا ذلك ، قال تعالى (٦) : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) (٧). إلى قوله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) (٨) أي (٩) كل أهل ملة (١٠) ، وحكم بينهم بالحق فيما كانوا متعلقين به ، فلا يبقى علم إلّا ويتعلمه أهل الأرض بمكانه ، ولا يترك أمر يتقرب بعبادته إلّا بالعبادة الناسخة لما سبقها ، فيحكم في ذلك بما ينفذ من نور التأييد فتصير الصور كلها صورة واحدة تجمع الصور فيحصل تمامها في الصفحة العليا من السموات على باب الحجاب.

__________________

(١) تجردت الصور : تجر الصور في ط.

(٢) سورة : ٧٨ / ١٨.

(٣) أي : سقطت في ط.

(٤) كما قال تعالى : سقطت في ط.

(٥) سورة : ٣٩ / ٦٨.

(٦) قال تعالى : سقطت في ط.

(٧) سورة : ٣٩ / ٦٨.

(٨) سورة : ٣٩ / ٦٩.

(٩) أي : سقطت في ط.

(١٠) ملة : مكة في ط.

٢٣٣

هذه فصول أوضحت ما قد قدمنا ذكره من اجتماع الأنبياء والأوصياء والأئمة الذين كان كل واحد منهم مجمعا لصور كثيرة من أهل دعوته في الجنة الأولى الدانية. وكذلك انتقال المقامات إلى المجمع الأعلى الذي هو باب الحجاب الرتبة العاشرة كما بينه أنّه باب المنبعث الأول الذي هو حجاب المبدع الأول. وقال في آخر الفصل (من راحة (١) العقل) : فويل لنفس لم تعبد ، ولم تكتسب ، فإنها في عذاب ، وهو في الوقت الذي يروي أن كنوز الأرض تظهر في القيامة فتكون كل صورة في ذاتها ذات صورة بحسب الاكتساب على ما عليه حال الجسم في كل جزء منه من يد ورجل وإصبع ، وغير ذلك ذو صور ، وهي الحرف الذي يقال إن فيه صورة كل حيوان يوجد في الأرض. وهذا فصل بين فيه أن كل ناطق ووصي وإمام أجزاء ، وأن لكل منهم صورة ذات صورة.

وضرب لذلك مثلا باليد التي هي جزء وفيها من الصور ما هو معروف ؛ ومثل الرأس وغيره من أجزاء الجسم ، وإن كلّا منهم مجمع صور كثيرة من دوره في دعوته بحسب الاكتساب ، وهم الكنوز التي تظهر يوم القيامة ، وكل واحد حرف للذين يجتمعون فيه كمالا. وهو الحرف الذي يقال إن فيه صورة كل حيوان يوجد في الأرض ، والحيوان هم الحدود التي هي مجامع أيضا لأهل أدوارهم ، وهم أبواب الجنة. والحرف الجامع أيضا هو القائم سلام الله عليه الذي هو مجمع صورة كل حيوان من نبي ووصي وإمام ، ومن حدود ومؤمنين ، وقوله نضر الله وجهه : والذي يكون من جهة المبعوث المؤيد بروح القدس الذي هو صاحب الدور السابع عند اتصال القوى الملكوتية به ، المعرب (٢) عنه بالنفخ الثاني في القيامة ، وبتكامل الأدوار (٣) قياما منه بما عجز

__________________

(١) من راحة العقل : سقطت في ط.

(٢) المعرب : المغرب في ط.

(٣) الأدوار : سقطت في ط.

٢٣٤

عنه غيره من أصحاب الأدوار ، وإظهارا منه ما لم يكن منه لأحد ممّن تقدمه من الرسل الأبرار وإنجاز ميعاد الله تعالى في خلقه حيث يقول :

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (١). أي (٢) بالتقاء الأمر فيه على نظام قدره ، فتثور بذلك نار القدرة وينطق بذلك (٣) لسان الحق بأن لا إله إلّا من هو سبحانه متعال عن وصف بريته ، ولا أمر إلّا له في دور حكمته ، فيذل له كل وجه ، وهذه الكلمة معنى قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٤) ، وذلك أن المبدع الأول قال على لسان .. أنا الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، الفصل المشهور وكان قيامه قيام اللطيف مع الكثيف ملزوزا به ملائما له ، والقوة على الكثيف (٥) أغلب.

والشيء النكر الذي يدعون إليه القائم صاحب الكشف والبيان والظهور بإعلان النطق بالإلهية ، والإفصاح بالربوبية ، برهان ذلك قوله لا إله إلّا من هو سبحانه متعال عن وصف بريته. ولا أمر إلّا له في دور حكمته ، فقد ظهر نفس المعنى ، ونفس الكشف والتوحيد. ثم قال في الفصل : «أي راحة العقل ؛ قوله تعالى (٦)» : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٧) فيسألون كما قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨). ذلك يمين برب محمد الذي هو رفيع الدرجات ، وإليه حفظ العالم وتأييد الرسل على ما ذكرناه ، ومخصوص من بين الملائكة المقربين حول العرش بذلك ومنه يكون تأييد صاحب الدور السابع تحقيقا للأمر في

__________________

(١) سورة : ٣ / ١٧٩.

(٢) أي : سقطت في ط.

(٣) بذلك : سقطت في ج.

(٤) سورة : ٥٤ / ٦.

(٥) الكثيف : في الكشف في ط.

(٦) من في راحة ... تعالى : سقطت في ط.

(٧) سورة : ٩٩ / ٦.

(٨) سورة : ١٥ / ٩٢ ، ٩٣.

٢٣٥

السؤال والموافقة على ما فرضه الأنبياء من جهة الله تعالى من السنن والمناسك والطاعات المكتوبة في الملل ، واخبار أن ذلك لكائن. فقال تعالى (١) : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ). يقول : سنفعل ذلك ولنوبخنهم (٢).

وأما ما يكون وجوده في الآخرة فهو ما يكون من جهة العقول الإبداعية والانبعاثية بما يسري من روح القدس في الأنفس الحاصلة من حضانة التعليم بظهور النفس الزكية صاحب الدور السابع في العالم الطبيعي من استكمال أسباب السعادات له طبيعيا وملكوتيا ، قياما بحكم العلم بكل صورة بما لها وعليها.

وفي الجملة فالغاية في الثواب المطلوب ما وصفه الله تعالى في كتابه في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وكل شيء فعلوه في الزبر. يعني (٣) أن المتقين في جنات ونهر ، يقول هذا هو الحال فيما تكتسبه من خير وشر عند مليك مقتدر ، يقول : عند الملك الجبار الذي به وجدت الموجودات حول العرش العظيم في تسبيح وتهليل والتذاذ فيما يحدث في ذواتهم عند ما يدركونه ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت.

وأما الجنة فهي موصوفة بالسرمد ، والأبد ووجود الملاذ فيها أجمع ، وأنها لا تستحيل ولا تتغير ، ولا يطرأ عليها حال ، ولا تتبدل ، والذي بهذه الصفة هو النهاية الأولة من الموجودات عن المتعالي سبحانه عن الصفات والموصوفات إبداعا خارج الصفحة العليا من السموات ، المعرب عنها بسدرة المنتهى الذي هو المبدع الأول الذي هو المحرك الأول ، الموصوف بالأزل وعلة العلل ، والمنبعث الأول ، وجميع الملائكة المقربين الانبعاثية ، وإليه يتحرك كل متحرك ويشتاق إليه كل موجوداتها (٤) له وأسماؤها كثيرة بحسب مراتبها حول العرش ، لأنها دار القدس ، إلّا أن جنة المأوى التي

__________________

(١) فقال تعالى : سقطت في ط.

(٢) ولنوبخنهم : لتوبخنهم في ط.

(٣) يعني : ومعنا في ط.

(٤) موجوداتها : موجود أمثاله في ج.

٢٣٦

هي مأوى المثابين من العقول المنبعثة في دار الطبيعة ، والأنفس العاقلة المتخلقة ومجمعهم ، وفيها المتقون ، وهي المعرب عنها بأنها عند سدرة المنتهى خارج الأجسام في جوار الملك المقرب الموكول إليه أمر العالم الذي به تتعلق الأنفس ، وبه تستمد في دار الحس.

وهذا الفصل بين فيه أن الملك المقتدر (١) هو المبدع الأول ، وقوله عند : أي ، عند حد هو دونه ، فهو المنبعث الأول ، وقوله : الذي لا تتبدل ولا يطرأ عليها حال ، هو بقوله خارج صفحة السموات العلى ، الذي هو المبدع الأول ، والمنبعث الأول ، فهذا الجنة العالية.

وأما الجنة الدانية ، فهي التي ذكر أنها من العقول المنبعثة في دار الطبيعة ، إلى قوله بأنها خارج الأجسام في جوار الملك المقرب في عالم الدين ، بقوله الذي به تتعلق الأنفس ، وبه تستمد في دار الحس ، فأوضح ذلك وبينه في هذا الفصل بيانا شافيا كافيا لمن وقف لفهمه والله يتولى العون برحمته.

وقال أيضا في قول الله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (٢). أي (٣) يقول في سعادة من علت درجته من الأنبياء والأئمة والأولياء الذين هم العليون ، ويقول العالمون صفحة السموات خارج الأجسام بذواتهم حول العرش ، (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي (٤) تفسير العليين ، قال نفس منبعثة انبعاثا ثانيا مرقومة منتقشة بجميع المعارف الإلهية ، وما تقدم ، وما تأخر ، اكتسابا من أول الأدوار إلى آخرها ، الأنبياء والأئمة والحدود البالغة كالسماء الأعلى (٥) الجامعة لجميع الصور أسماؤهم ، المقربون في الأدوار الخالية. وواصلتها

__________________

(١) المقتدر : القادر في ج.

(٢) سورة : ٨٣ / ١٨.

(٣) أي : سقطت في ط.

(٤) أي : سقطت في ط.

(٥) الأعلى : العلي في ج.

٢٣٧

بأنوارها القدسانية ، وفعلت فيها ، فيتم الخلق الجديد كما فعلت في السموات وأثرت (١) فيها.

وكان قوله تعالى ذلك موجبا أن الجنّة للنفس ، هي السعادة المستمدة (٢) من دار القدس من جهة المؤيدين فيها ، فهي دون الملك المقرب منزلة ، إلى قوله : وليست هذه الأنفس الصالحة والطالحة من وقت مفارقتها أشخاصها ، تلحق بمجردها ، وأفرادها من الجنة والنار ، بل هي على ما ذكرنا ربّ العالمين ، (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣). أي (٤) في البرزخ الذي هو مجمع ما وراءهم ، والبرزخ نهاية بين الجنّة والنار ، وهو أعلى المواضع من عالم الطبيعة ، فلكونه كذلك يسمى الاعراف ، فهي في الاعراف واقفة إلى أن تتكامل الأدوار ، ويتم فعل أنجم الدين في الأنفس الصائرة إلى الوجود على ممر الأعصار في عالم الطبيعة إلى آخر اليوم الموعود به ، عالمة في ذاتها بأنّها من أهل الفوز والنجاة ؛ إلى قوله : فرجال الأعراف أهل البرزخ وغيرهم من الحدود الذين بعد لم يدخلوا الجنة.

وهذا الفصل يوضح أن البرزخ نهاية بين الجنة والنار ، وهو أعلى المواضع من عالم الطبيعة بأنهم آباء (٥) الأنبياء والأوصياء والأئمة الصائرون في المجمع الأعلى الذي هو متولي عالم الطبيعة. فهذا القسم الأول ، وأما الثاني فالذين هم ينتقلون إلى حدود عالم الدين بقوله وغيرهم من الحدود الذين بعد لم يدخلوا الجنة. وقد ذكر بيان ذلك بما ضرب به المثل لذلك بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الميت إذا قبر وسئل إن كان ممن وحد الله تعالى وعمل بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتح له باب من أبواب الجنة وتشخصت له أعماله التي قضاها في عبادة الله عزوجل فتؤانسه في وحشة القبر ، وتبشره أنّه

__________________

(١) وأثرت : أو آثرت في ج.

(٢) المستمدة : المستمدات في ط.

(٣) سورة : ٢٣ / ١٠٠.

(٤) أي : سقطت في ط.

(٥) آباء : آبائي في ج.

٢٣٨

من الناجين فيكون في راحة وأي راحة إلى يوم القيامة ، متيقنا من أمره أنّه من أهل الجنة ، فيبعث ويساق إلى الجنة بعد الحساب. فالأنفس تعلم حالها عند التفرد والتجرد من مجاورة الأشخاص والتخلص من الأفعال التي هي شكلها وعلمها لشخصها خيرا أم شرا ، ومكوثها في البرزخ ، إنّما هو ليتم الخلق الجديد بتوارد أمثالها من دار الطبيعة واستتمام فعل الحدود فيها تعليما وتصويرا ، فتكون بجملتها مجموعة إلى ميقات يوم القيامة الذي هو كمال (١) الدور السابع ، وقيام حكم صاحبه في عالم الطبيعة كما قال سبحانه :

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٢). أي قل أمر من الله تعالى من جهة الملائكة المقربين ، يريد بين واعلم أن الأولين والآخرين يقول : إن المتقدمين في الأدوار السالفة ، والمتأخرين ممّن يجيء إلى الكون في الأدوار الباقية صغارا وكبارا لمجموعون. يقول : ليعلموا من جهة من نؤيده بروحنا الذين يدعونهم بما يجمعهم في العبادة والتوحيد إلى نظام واحد ويقوموا به إلى ميقات يوم معلوم ، ويقول إلى صاحب الدور السابع الذي هو اليوم الآخر واليوم المعلوم المبشر به فيصير الكل ، أعني الأنفس الحاصلة في الوجود كصورة شخص واحد ، هي منها كالأعضاء الكثيرة التي للشخص ولكل نفس صورة في ذاتها ، بجمع تلك الأنفس تتم تلك الصورة التي هي النشأة الأخرى والخلق الجديد ، كما أن بتلك الأعضاء كلها يتم الشخص ويسري روح القدس فيها بانبعاث صاحب الدور السابع فيقوى الكل على العبور من مضائق الأجسام والحصول في الصفحة الأعلى (٣) منها ، كما يسري روح الحس في الشخص عند عبورها

__________________

(١) كمال : تكمل في ط.

(٢) سورة : ٥٦ / ٤٩ ، ٥٠.

(٣) الأعلى : العليا في ج.

٢٣٩

من مضيق الأحشاء ، وحصول تمامية الدور السابع وخروج العلم إلى الفعل في أيامه.

وهذا الفصل أوضح ما شرحناه في أول كتابنا هذا من صعود النفس في عالم الدين إلى الباب الذي هو المجمع الأدنى في الأدوار الصغار ، وتكون النفوس كأن لكل نفس منها غنية في ذاتها باجتماعها في المجمع للتمام وتوارد الصور ليتم الخلق الجديد الديني فتكون صورة واحدة ، إما نبي ، وامّا وصي ، وامّا إمام ، كما قال : فيصير الكل ، أعني الأنفس الحاصلة في الوجود ، كصورة شخص واحد هي منها كالأعضاء الكثيرة التي للشخص البشري.

قال : وبجميع تلك الأنفس تتم الصور التي هي النشأة الآخرة والخلق الجديد ، وهذا القول ينتظم (١) المجمع الأدنى والمجمع الأعلى ، فالإمام عليه‌السلام هو الخلق الجديد ، وذلك أنّك إذا عددت الممثول من عالم الدين وقابلت به النشأة الأولى من حد السلالة إلى الخلق الآخر الطبيعي فعد مقابله مؤمنا ومكاسرا ومطلقا (٢) وداعيا وحجة وبابا ، وهو ممثول اللحم ، فالخلق الآخر الإمام (صلوات الله عليه) (٣) باجتماع الصور إلى الباب ممثول اللحم وظهورها عنه شخصا واحدا مقاما لطيفا نورانيا ، وتمت الأعضاء فتم كتمام الأعضاء في الجسم البشري ، فالباب رحم الآخرة ، وكذلك ممثوله في صعود أهل الدور الكبير إلى المجمع الأعلى ، وتوارد الأعضاء العقلية الانبعاثية إليه.

فآدم ومن صفا من أهل الدور ممثول السلالة وممثول المؤمن ، ونوح وأهل دوره مثل النطفة ومثل المكاسر ، وإبراهيم وأهل دوره مثل العلقة

__________________

(١) ينتظم : ينظم في ج.

(٢) يقصد رتبة الداعي المطلق وهي أرفع رتبة معروفة اليوم لدى المستعلية بفرعيها السليماني والداهودي.

(٣) صلوات الله عليه : (عليه‌السلام) في ط.

٢٤٠