تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

٣ : سورة آل عمران

مدنية وآياتها مائتان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الم) رمز بين الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) القائم بالأمور.

[٣] (نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) القرآن (بِالْحَقِ) تنزيلا بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ما تقدمه من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ).

[٤] (مِنْ قَبْلُ) أي قبل القرآن (هُدىً) في حال كون التوراة والإنجيل هداية (لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) القرآن ، كرر تأكيدا ، أو المراد كل ما يفرق بين الحق والباطل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ينتقم من الكفار.

[٥] (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فهو يعلم كفركم وإيمانكم.

[٦] (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) يعطيكم الصورة (فِي الْأَرْحامِ) أرحام النساء (كَيْفَ يَشاءُ) ذكرا أو أنثى ، جميلا أو قبيحا ... (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يفعل حسب الحكمة والصلاح.

[٧] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ) أي من الكتاب (آياتٌ مُحْكَماتٌ) ظاهرة الدلالة (هُنَ) تلك الآيات المحكمات (أُمُّ الْكِتابِ) أصل الكتاب أي المرجع للناس ، كما أن الأم مرجع للطفل (وَ) منه آيات (أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) يشتبه المراد منها لكونها مجملة ، وهذا طبيعي أن يقع التشابه في كلام بليغ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل إلى الباطل (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يتعلقون بالمتشابه لقصد الميل عن الحق أو لانحراف في نفوسهم ، مثلا المؤمن يتبع (لَنْ تَرانِي) والزائغ يتبع (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وإنما يتبع المتشابه لأجل (ابْتِغاءَ) وطلب (الْفِتْنَةِ) والإضلال (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) بما يوافق رأيه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي تأويل المتشابه (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) الذين هم ثابتو القدم لكثرة علمهم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي بالمتشابه على ما يريده الله سبحانه (كُلٌ) من المتشابه والمحكم (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ) بعدم التسرع إلى تفسير المتشابه (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

[٨] يقول الراسخون (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي لا تحرفها عن الحق ، وإنما يدعون هكذا لأن الله سبحانه إذا أوكل العبد إلى نفسه ولم يلطف به مال عن الحق (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي ارحمنا (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) معطي الهبات الكثيرة.

[٩] ويقولون (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) أي في يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك في مجيء ذلك اليوم وهو يوم القيامة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي الوعد ، فحيث إنه وعد لجميع الناس ، لا بد وأن يجمعهم كما قال.

٦١

[١٠] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ) أي لن تفيد لدفع العذاب (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي ولو مقدارا قليلا فما يريده الله بهم من العقاب لا بد وان ينفذ في حقهم (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ) ما تشعل به (النَّارِ) أي نار جهنم.

[١١] (كَدَأْبِ) أي عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعادة (آلِ فِرْعَوْنَ) والمراد به أتباعه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من سائر الكفار (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب معاصيهم (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

[١٢] (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) يغلبكم الله في الدنيا والآخرة (وَتُحْشَرُونَ) أي تجمعون (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي إن جهنم مكان سيئ.

[١٣] (قَدْ كانَ لَكُمْ) أيها الناس (آيَةٌ) علامة تدل على نصرة الله للمؤمنين (فِي فِئَتَيْنِ) جماعتين : المسلمين والكفار (الْتَقَتا) اجتمعتا في (بدر) (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) هم مشركو مكة (يَرَوْنَهُمْ) أي المسلمون يرون الكفار (مِثْلَيْهِمْ) ضعفا لهم ، فلا يهتمون بشأنهم ، لأنهم لم يكونوا في نظر المسلمين كثيرين جدا حتى يخافوا منهم وينسحبوا عن قتالهم ، وفي الآية احتمالات أخر (رَأْيَ الْعَيْنِ) لا رؤية القلب ، فإنهم كانوا يعلمون أن الكفار ثلاثة أضعافهم (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) يقوي ويساعد (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) من المؤمنين إذا وفوا بشروط الله (إِنَّ فِي ذلِكَ) نصرة المسلمين على الكافرين (لَعِبْرَةً) وجه اعتبار وتفهم لحقيقة نصرة الله للمؤمنين القليلين على الكفار الكثيرين (لِأُولِي الْأَبْصارِ) من له عين يرى بها آيات الله.

[١٤] (زُيِّنَ) أي زين الله حب الشهوات بقدر ، لأجل المصالح ، وزين الشيطان المحرم من ذلك (لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) المشتهيات (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) الأولاد (وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار بمعنى المال الكثير (الْمُقَنْطَرَةِ) تأكيد ، مثل ليل أليل ، أي الأموال المكدسة المجموعة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ) الأفراس (الْمُسَوَّمَةِ) أي المعلمة علامة الجودة والحسن (وَالْأَنْعامِ) جمع نعم كالإبل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) الزرع (ذلِكَ) الذي ذكر من الأموال (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما يتمتع وينتفع بها الإنسان في دنياه فلا ينبغي أن يصرف كل همه فيها ناسيا آخرته (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع ، فاللازم أن يحصل الإنسان على المحل الحسن الذي عند الله في الآخرة.

[١٥] (قُلْ) يا رسول الله (أَأُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي الذي ذكر من المشتهيات ، ويكون ذلك الخير (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) المحرمات ، وذلك الخير (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (جَنَّاتٌ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) عن الدماء والقذارات والرذائل (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) فإن الإنسان إذا عرف أن الله رضي عنه كان في غاية السرور (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يعلم أفعالهم ويجازيهم عليه.

٦٢

[١٦] الذين اتقوا هم (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا) احفظنا من (عَذابَ النَّارِ).

[١٧] (الصَّابِرِينَ) وصف للذين اتقوا (وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ) أي الخاضعين لله (وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) فإن الاستغفار في هذا الوقت أقرب إلى الغفران.

[١٨] (شَهِدَ اللهُ) شهادته أي خلقه الخلق الدال على وحدته ، ويمكن أن تكون هناك شهادة لفظية (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ) شهدت (الْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) أصحاب العلم أيضا شهدوا بالوحدانية (قائِماً) أي في حال كون الله قائما (بِالْقِسْطِ) أي بالعدالة ، فهو عادل في خلقه وفي تشريعه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[١٩] (إِنَّ الدِّينَ) الطريقة الصحيحة في الحياة (عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بأن علموا بالطريقة الصحيحة لكنهم أعرضوا عنها (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي حسدا منهم وطلبا للرئاسة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) بأن لم يتبع الآيات بل اتبع هواه (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فإن كل آت قريب.

[٢٠] (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي خاصموك وجادلوا معك ، والمراد جدال أهل الكتاب (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي أخلصت ديني أو نفسي لله ، فان الوجه كناية عن الذات أو ما يتعلق بها (وَ) أسلمت وجهي ل (مَنِ اتَّبَعَنِ) من المؤمنين فان المسلم خاضع للمسلم بأمر ربه (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله الكتاب (وَالْأُمِّيِّينَ) أي وقل للمشركين الذين لا كتاب لهم (أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإسلام (فَإِنَّما عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْبَلاغُ) أن تبلغ الناس الإسلام ، لا أن تجبرهم على الدين (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

[٢١] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي يجحدون كون الآيات له تعالى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (مِنَ النَّاسِ) بيان (الذين) (فَبَشِّرْهُمْ) استهزاء بهم ، لأن البشارة في الخير لا في الشر (بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

[٢٢] (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) الحسنة (فِي الدُّنْيا) بعدم تنعمهم بما يتنعم به المؤمنون (وَالْآخِرَةِ) بعدم الثواب لهم (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون العذاب عنهم.

٦٣

[٢٣] (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا) أعطوا (نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أي حظا وقسما منه ، وهم اليهود ولم يعطوا الكتاب الكامل ، لان التوراة حرفت منذ زمان قديم (يُدْعَوْنَ) والداعي لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِلى كِتابِ اللهِ) أي التوراة (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) في صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن التوراة كانت ذكرت أوصاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ثُمَّ يَتَوَلَّى) يعرض (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لا كلهم ، إذ بعضهم آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن اتباع الحق.

[٢٤] (ذلِكَ) التولي والإعراض بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لأنهم (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي لن نعذب (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أربعين يوما فقط (وَغَرَّهُمْ) خدعهم (فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي هذا الافتراء وهو أن عذابهم أربعين يوما فقط.

[٢٥] (فَكَيْفَ) حالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) آت بلا شك وهو يوم القيامة (وَوُفِّيَتْ) أعطيت (كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) جزاء جميع أعماله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

[٢٦] (قُلِ) يا رسول الله : (اللهُمَ) أي يا الله أنت (مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي) تعطي (الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ) تأخذ (الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

[٢٧] (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي تدخل ، لأن الليل يدخل في النهار حتى يذهب النهار ، وكذلك العكس (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فإن الحيوان الطائر يخرج من البيضة الميتة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) فان البيضة تخرج من الطائر الحي ، إلى غيرها من الأمثلة (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي رزقا كثيرا.

[٢٨] (لا يَتَّخِذِ) نهي عن موالاة الكفار (الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أصدقاء وسادة (مِنْ دُونِ) اتخاذ (الْمُؤْمِنِينَ) أولياء ، أي يترك موالاة المؤمن ويتخذ الكافر وليا (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) اتخاذ الكافر وليا (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) يصح أن يسمى ولاية ، أي ليس من أولياء الله والمربوطين به تعالى (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) تخافوا (مِنْهُمْ) أي من الكفار (تُقاةً) خوفا ، فلا بأس باتخاذ الكفار أولياء تقية (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) فخافوا من الله ولا تخالفوا أوامره (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) المرجع ، فيجازيكم على أعمالكم.

[٢٩] (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) من موالاة الكافر وغيرها (أَوْ تُبْدُوهُ) تظهروه (يَعْلَمْهُ اللهُ) جزاء الشرط (وَيَعْلَمُ) الله (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٦٤

[٣٠] ويكون المصير إلى الله في (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي جزاء أعمالها (مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) أي حاضرا لديه قد أحضره الله تعالى (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) محضرا أيضا (تَوَدُّ) أي تحب كل نفس (لَوْ أَنَّ بَيْنَها) أي بين النفس (وَبَيْنَهُ) أي بين ما عملت (أَمَداً) مسافة (بَعِيداً) بأن يبتعد عن أعماله كل البعد (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) بأن تخافوا منه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) غاية اللطف ، فكيف تحرمون أنفسكم من رأفته؟

[٣١] (قُلْ) يا رسول الله لأهل الكتاب الذين يدعون محبة الله لهم (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) واسلموا حتى (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أيضا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٣٢] (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فيبتلون بسخط الله تعالى.

[٣٣] (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) اختار للنبوة والإمامة (آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف (وَآلَ عِمْرانَ) موسى وهارون (عَلَى الْعالَمِينَ).

[٣٤] (ذُرِّيَّةً) أي في حال كون هؤلاء (بَعْضُها مِنْ) نسل (بَعْضٍ) فكلهم من شجرة واحدة (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

[٣٥] واذكر يا رسول الله (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) والدة مريم الطاهرة ، حين كانت حاملا بمريم (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ)

(ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) معتقا لخدمة بيت المقدس ، محررا من أن يعمل للدنيا (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) النذر (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

[٣٦] (فَلَمَّا وَضَعَتْها) جاءت بمريم إلى الدنيا (قالَتْ) امرأة عمران ، تحزنا وتأسفا (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وهي لا تصلح لخدمة بيت المقدس الذي هو محل العباد من الرجال (وَاللهُ) جملة مستأنفة (أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) امرأة عمران (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) إذ هو يصلح للخدمة هناك دونها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) ومعناها في لغتهم العابدة (وَإِنِّي أُعِيذُها) أجيرها (بِكَ) يا رب (وَذُرِّيَّتَها) أي وأعيذ أولادها (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي لا يمسهم بسوء وكفر ، والرجيم بمعنى المرجوم الذي رمي بالحصى أو باللعن.

[٣٧] (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) أي فرضي الله بمريم في نذرها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) كما يقبل سائر النذور ، وهو إقامة مريم مقام الذكر في خدمة بيت المقدس (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) رباها تربية حسنة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعل الله زكريا عليه‌السلام كافلا لها ، وكان زكريا زوج خالتها (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها) أي على مريم (زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) الغرفة التي بنا لها في المسجد ليكون محلا لها ولعبادتها ، وسمي محرابا لأنه محل المحاربة مع الشيطان (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) ورد انه كان يجد فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ) من أين لك (هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فان الله كان ينزل عليها المائدة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) كناية عن الكثرة.

٦٥

[٣٨] (هُنالِكَ) في ذلك الوقت لما رأى زكريا عليه‌السلام فضل الله سبحانه بأوليائه (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) نفسا وأخلاقا فإن من يقدر على إنزال الفاكهة يقدر على إعطاء الذرية (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي تسمع سماع قبول.

[٣٩] (فَنادَتْهُ) أي نادت زكريا (الْمَلائِكَةُ وَهُوَ) أي والحال أن زكريا (قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي بولد اسمه يحيى عليه‌السلام (مُصَدِّقاً) أي في حال كون يحيي عليه‌السلام يصدق (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بالمسيح عليه‌السلام (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) في حال كون يحيى عليه‌السلام يحصر نفسه عن الإتيان بالموبقات ، أو المراد به الذي لا يتزوج (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) مقابل الفاسد.

[٤٠] (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استفهام عن كيفية حدوث الولد (وَ) الحال (قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي الشيخوخة (وَ) الحال إن (امْرَأَتِي عاقِرٌ) عقيم لا تلد (قالَ كَذلِكَ) أي هكذا الذي ذكرنا من إعطاء الولد (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

[٤١] (قالَ) زكريا عليه‌السلام (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة أعرف بها حمل الزوجة بالولد ، لاستقبل ذلك بالشكر والفرح (قالَ) الله (آيَتُكَ) أي علامة الحمل (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي لا تقدر على التكلم في هذه المدة (إِلَّا رَمْزاً) إيماء وإشارة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِ) عصرا (وَالْإِبْكارِ) صبحا.

[٤٢] (وَإِذْ) واذكر يا رسول الله زمان (قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) اختارك (وَطَهَّرَكِ) من الأقذار التي تصيب النساء (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) عالمي زمانك وهو المنساق عند الإطلاق كما لو قيل الدولة الفلانية أقوى الدول فان ظاهرها من الدول المعاصرة ، والاختيار أولا لذاتها وثانيا لتفضيلها على سائر النساء.

[٤٣] (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) من القنوت بمعنى الخضوع أو هو العمل المخصوص (لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) لعل الإتيان بالمذكر لأجل كون أهل بيت المقدس كانوا رجالا.

[٤٤] (ذلِكَ) الذي ذكرنا من القصص (مِنْ أَنْباءِ) أخبار (الْغَيْبِ) أي الغائب عن الحواس ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشهد القصص (١) ، أو أن المسلمين لم يشهدوها (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نلقيه عليك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي لدى أهل بيت المقدس (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) فإنهم اختلفوا فيمن يكفل مريم عليها‌السلام في بيت المقدس ، وجعلوا الحكم أن يلقوا أقلامهم الحديدية التي كانت بأيديهم وكانوا يكتبون بها التوراة في الماء ، فأي الأقلام وقف على الماء بالإعجاز أخذ صاحب القلم مريم لكفالتها (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (لَدَيْهِمْ) أي لدى أولئك العباد (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يتشاحون في أمر كفالة مريم عليها‌السلام.

[٤٥] (إِذْ) اذكر يا رسول الله زمان (قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي من قبل الله ، والكلمة معناها الشيء الملقى ، ويسمى الكلام كلاما لأنه يلقى ، وسمي كلمة الله لأنه ولد من غير أب كأن الله ألقاه مباشرة بلا واسطة ، أي خلقه (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً) أي في حال كون المسيح عليه‌السلام موجها (فِي الدُّنْيا) بالنبوة ورفعة الاسم (وَالْآخِرَةِ) بالمقام الرفيع (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إلى الله تعالى قرب شرف وسؤدد.

__________________

(١) حسب ظاهر الأمر.

٦٦

[٤٦] (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي في حال الصبا الذي لم يؤلف تكلم مثله (وَكَهْلاً) أي ويكلم الناس في حالة الكهولة أي قبل الشيب ، ولعل المراد انه يتكلم في الحالين على حد سواء وهذه معجزة ، أو المراد يكلمهم كهلا بالوحي والإنجيل (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) في مقابل الفاسدين.

[٤٧] (قالَتْ) مريم عليها‌السلام (رَبِّ أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) مسا يوجب الحبل وهذا استفهام تعجب (قالَ) جبرئيل عليه‌السلام (كَذلِكِ) أي هكذا وكاف للخطاب (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى) أراد (تعالى) (أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

[٤٨] (وَيُعَلِّمُهُ) يعلم الله المسيح عليه‌السلام (الْكِتابَ) جنس الكتب المنزلة من السماء (وَالْحِكْمَةَ) معرفة وضع الأشياء مواضعها (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ).

[٤٩] (وَ) يرسله (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) معجزة دالة على صدقي ، وهذا كلام عيسى عليه‌السلام (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) مثل صورة الطائر (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ) أشفي (الْأَكْمَهَ) الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) الذي تغير لون جلده فظهرت بقع بيضاء (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ) تجعلونه ذخيرة (فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت من الآيات (لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالمعجزات ، أي في صدد تصديق الحق ، مقابل المعاند.

[٥٠] (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي ما تقدم علي من الكتاب السماوي (مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَ) عطف على (مصدقا) (لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في شريعة موسى عليه‌السلام (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) تأكيد لما تقدم (مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

[٥١] (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا) ما أبينه لكم من الدين (صِراطٌ) طريق (مُسْتَقِيمٌ).

[٥٢] (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي تحقق كفرهم لديه (قالَ) عيسى عليه‌السلام (مَنْ أَنْصارِي) جمع ناصر (إِلَى اللهِ) أي في سلوكي إلى الله (قالَ الْحَوارِيُّونَ) جمع حواري وهو خاصة الرجل (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فإن يوم القيامة يشهد الأنبياء عليهم‌السلام على الناس.

٦٧

[٥٣] ثم قال الحواريون (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي عيسى عليه‌السلام (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) بالوحدانية وباتباع الأنبياء عليهم‌السلام.

[٥٤] (وَمَكَرُوا) اليهود الذين أحس عيسى عليه‌السلام منهم الكفر ، فتآمروا على قتل المسيح عليه‌السلام (وَمَكَرَ اللهُ) المكر هو علاج الأمر من طريق خفي ومكر الله هو رفع عيسى عليه‌السلام وإلقاء شبهه على رئيس اليهود فصلب بدل المسيح عليه‌السلام (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أنفذهم كيدا وأحسنهم علاجا للأمر.

[٥٥] (إِذْ) ظرف ل (ماكرين) أو بمعنى اذكر (قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) آخذك أخذا وافيا ، بأخذ جسمك وروحك ، كما تقول : وفي الدين ، إذا أعطاه إعطاء كاملا (وَرافِعُكَ إِلَيَ) إلى محل كرامتي في السماء (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) من النصارى في زمان حقيتهم والمسلمين بعد مجيء رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه حقيقة واقعة نشاهدها إلى اليوم (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أعلى منهم رتبة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَ) إلى جزائي (مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم أنت والمتبعون والكافرون (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين حكما يتبعه الجزاء.

[٥٦] (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالذلة والقتل وتسلط المؤمنين عليهم (وَ) في (الْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم العذاب والذلة.

[٥٧] (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) يعطيهم ثواب أعمالهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر.

[٥٨] (ذلِكَ) الذي تقدم من أخبار يحيى وزكريا ومريم والمسيح عليهم‌السلام (نَتْلُوهُ) نقرأه (عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ) من جملة الآيات الدالة على قدرتنا (وَالذِّكْرِ) من جملة القرآن (الْحَكِيمِ) المحكم.

[٥٩] (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ) أي خلق الله آدم عليه‌السلام (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) بشرا (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضية أي فكان ، وهكذا عيسى عليه‌السلام خلق بدون أب بأمر الله تعالى.

[٦٠] (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ) أيها السامع (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين في الحق.

[٦١] (فَمَنْ حَاجَّكَ) خاصمك وجادلك (فِيهِ) أي في الحق ، وأراد الجدال والتعنت (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ) لهم يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تَعالَوْا) ائتوا عندي (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي يدعو كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ومن هو بمنزلة نفسه (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نطلب من الله لعن الكاذب منا ، فقد دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصارى نجران إلى قبول انه رسول وان عيسى عليه‌السلام عبد الله ، ولما لم يقبلوا دعاهم إلى المباهلة ، وجاء هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلي وفاطمة والحسنين عليهم أفضل الصلاة والسلام للابتهال ، لكن النصارى خافوا وتراجعوا وقرروا إعطاء الجزية (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

٦٨

[٦٢] (إِنَّ هذا) الذي ذكر من القصص السابقة (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) فليس المسيح عليه‌السلام إلها كما يزعمون (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[٦٣] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن اتباعك (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) فإن كل من تولى عن الحق مفسد.

[٦٤] (قُلْ) يا رسول الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) كل من عنده كتاب سماوي (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) مستوية (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) كلنا نعترف بتلك الكلمة (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي لا نجعل أحدا شريكا لله تعالى ، فلا نتخذ عزير والمسيح شركاء لله (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فان من أطاع أحدا (١) فقد اتخذه ربا كما فعل أهل الكتاب بأحبارهم ورهبانهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد (فَقُولُوا) أيها المسلمون (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) بالتوحيد.

[٦٥] (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ) أي تجادلون (فِي إِبْراهِيمَ) فتقولون إنه كان يهوديا أو نصرانيا (وَما) أي والحال أنه ما (أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) فكيف يمكن أن يكون إبراهيم عليه‌السلام تابعا لكتاب وطريقة متأخرين عنه؟.

[٦٦] (ها) للتنبيه (أَنْتُمْ) يا أهل الكتاب (هؤُلاءِ) أي جماعة (حاجَجْتُمْ) أي جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي في مطالب التوراة والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي من أمر إبراهيم عليه‌السلام وأنه كان على أي دين ، فانه لم يذكر في كتبكم انه كان على أي دين (وَاللهُ يَعْلَمُ) دين إبراهيم عليه‌السلام (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

[٦٧] (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مائلا عن الباطل إلى الحق (مُسْلِماً) موحدا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأهل الكتاب حيث أشركوا بالله باتخاذ عزيز والمسيح إلها.

[٦٨] (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) أولاهم بأن ينسب إلى إبراهيم عليه‌السلام ويقول أنا من جماعته عليه‌السلام (لَلَّذِينَ) اللام للتأكيد (اتَّبَعُوهُ) في توحيده وشريعته من الأمم السابقة (وَهذَا) عطف على (للذين) (النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) لا أهل الكتاب ولا المشركون (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ناصرهم ومتولي شؤونهم.

[٦٩] (وَدَّتْ) أي أحبت واهتمت (طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فان وبال إضلالهم يرجع إليهم (وَما يَشْعُرُونَ) لا يعلمون أن وبال إضلالهم يرجع إليهم.

[٧٠] (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) القرآن الكريم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) في قرارة أنفسكم بأنها آيات الله.

__________________

(١) إطاعة عمياء.

٦٩

[٧١] (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) بأن تموهون الحقيقة ، بحيث ترون الناس أنها باطل (وَتَكْتُمُونَ) تخفون (الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بأنه حق.

[٧٢] (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا) أي أظهروا الإيمان (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي القرآن (وَجْهَ النَّهارِ) أوله (وَاكْفُرُوا) به (آخِرَهُ) عصرا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن ميلهم إلى الإسلام ، أرادوا المكر فإنهم إذا آمنوا صباحا يرونهم الناس منصفين ، ثم إذا كفروا عصرا زعم الكفار بأن القرآن والإسلام باطل ، لان المنصفين كفروا به.

[٧٣] (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي قالت الطائفة : لا تظهروا إيمانكم إلا لضعفاء أهل الكتاب الذين يتبعون دينكم ، لأن القصد إبقاء هؤلاء على دينهم ودفع الشك عن قلوبهم (قُلْ) يا رسول الله (إِنَّ الْهُدى) الكامل (هُدَى اللهِ) فمن يوفقه الله للإيمان لا يضره كيد هؤلاء ، وهذه جملة معترضة بين كلام تلك الطائفة (أَنْ يُؤْتى) أي قالت الطائفة لا تأمنوا أن يعطى (أَحَدٌ) من الناس (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من الشريعة والكتاب ، أي أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتمكن أن يأتي مثل التوراة (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي لا تؤمنوا أن يتمكن أحد أن يحاجكم ويخاصمكم عند ربكم ، وهذا تأكيد لقولهم (أن يؤتي) يعني لا يتمكن أحد من أن يبطل دينكم في يوم القيامة (قُلْ) يا رسول الله (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) فليس الفضل خاصا بأهل الكتاب حتى يقولوا : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) في فضله (عَلِيمٌ).

[٧٤ ـ ٧٥] (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ) أي تجعله أمينا وتودع عنده (بِقِنْطارٍ) المال الكثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي يرده إليك عند المطالبة (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) وهو مال قليل (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي ينكره فلا يؤده (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي مطالبا منه بعنف وشدة (ذلِكَ) أي تركهم الأداء (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أن هؤلاء الذين لا يؤدون (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ) أي المسلمين المنسوبين إلى أم القرى (سَبِيلٌ) فلا يتمكنون من مطالبتنا يوم القيامة ، لان أموالهم حلال لنا (وَيَقُولُونَ) هؤلاء الذين قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فان الله لم يبح أموال المسلمين للكافرين (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون.

[٧٦] (بَلى) ليس سبيل على (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) مع الله بأن آمن وعمل صالحا (وَاتَّقى) المعاصي (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

[٧٧] (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) بأن ينقضوا عهد الله في مقابل ثمن قليل وهو رئاستهم الدنيوية ، وهم أهل الكتاب (أُولئِكَ لا خَلاقَ) لا نصيب (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) كلاما يسرهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) بنظر رحمته (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يطهرهم من المعاصي (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

٧٠

[٧٨] (وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب المحرفين (لَفَرِيقاً) اللام للتأكيد ، و(فريقا) اسم (إن) (يَلْوُونَ) أي يحرفون (أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي بالتوراة بأن يزيدوا فيه وينقصوا منه (لِتَحْسَبُوهُ) أي تحسبوا هذا المحرف (مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) أي والحال انه ليس من التوراة (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فقولهم هذا من عند الله كذب (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن هذا كذب.

[٧٩] (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) أي يعطيه الله (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) الحكومة (وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي) بأن تعبدوني ، كما أن اليهود والنصارى ينسبون إلى أنبيائهم كالمسيح وعزيز انهم قالوا للبشر اعبدونا (مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ) الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يقولون للناس (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) الرباني منسوب إلى الرب ، وهو المطيع الكامل للرب (بِما كُنْتُمْ) أي بسبب أنكم (تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) معلمين للكتاب المنزل ، فكونكم علماء يقتضي أن تكونوا ربانيين ، لا أن تكونوا مشركين (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي تقرؤون ، فالعالم المعلم يلزم أن يكون ربانيا.

[٨٠] (وَلا) أن (يَأْمُرَكُمْ) عطف على (يؤتيه) أي ما كان لبشر أن يأمركم (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) أي لا يقول الأنبياء للناس اتخذوا الملائكة وسائر الأنبياء آلهة (أَيَأْمُرُكُمْ) استفهام إنكار ، أي لا يأمركم الأنبياء عليهم‌السلام (بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) بالتوحيد ، فإن قول الأنبياء للناس آمنوا بالله يسبب إسلامهم ، فكيف يقولون لهم اكفروا؟

[٨١] (وَإِذْ) أي اذكر يا رسول الله (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) أي عهدهم الشديد (لَما آتَيْتُكُمْ) أي لأجل إعطائي لكم (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَ) أي بعد إعطائي لكم (جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) أي بذلك الرسول ، وهذا متعلق ب (لما) أي أخذ الله ميثاق الأنبياء السابقين بان يؤمنوا بالأنبياء اللاحقين ، لأنه تعالى أعطى السابقين الكتاب والحكمة ، وهذا مثل أن تقول : حيث أكرمتك ، فافعل كذا .. (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وإيمان السابق ونصرته للاحق كناية عن إعلام أممهم بوجوب ذلك (قالَ) الله (أَأَقْرَرْتُمْ) أيها الأنبياء السابقون واعترفتم بالأنبياء اللاحقين (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ) على الإيمان بالأنبياء اللاحقين (إِصْرِي) عهدي الشديد (قالُوا) أي الأنبياء السابقون (أَقْرَرْنا ، قالَ) الله (فَاشْهَدُوا) على أممكم بأنهم بلّغوا وجوب الإيمان بالأنبياء اللاحقين (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) على أممكم.

[٨٢] (فَمَنْ تَوَلَّى) أعرض عن الإيمان بالنبي اللاحق (بَعْدَ ذلِكَ) الأخذ للإصر (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله.

[٨٣] (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) يطلبون (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فان الكون كله خاضع لله تعالى في جميع شؤونه الكونية ، والإنسان المسلم تابع لله تعالى في شؤونه الإرادية (طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يوم القيامة.

٧١

[٨٤] (قُلْ) يا رسول الله (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أولاد يعقوب عليه‌السلام فان بعضهم كيوسف عليه‌السلام كان نبيا ، وكان ذرية بعضهم نبيا ككثير من أنبياء بني إسرائيل (وَما أُوتِيَ) أعطي (مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي من قبل الله (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بأن نؤمن ببعض دون بعض كما فعل اليهود والنصارى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) منقادون.

[٨٥] (وَمَنْ يَبْتَغِ) يطلب (غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لأن الإسلام دين الله الوحيد (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا رأس مالهم ، وهو العمر إذ حصلوا جهنم بذلك.

[٨٦] (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) فان قسما من الناس دخلوا في الإسلام طوعا ، ثم كفروا أو نافقوا ومثل هؤلاء لا يلطف الله بهم لطفه الخفي لأنهم أعرضوا عن الحق بعد المعرفة ، والاستفهام للإنكار (وَ) بعد أن (شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحات (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين تعمدوا الضلال وظلموا أنفسهم بذلك.

[٨٧] (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) طردهم عن رحمته ، وعذابه (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

[٨٨] (خالِدِينَ فِيها) أي في تلك اللعنة (لا يُخَفَّفُ) بأن يقلّ (عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا ينظرهم الله نظر رحمة ولطف.

[٨٩] (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الارتداد (وَأَصْلَحُوا) أمورهم باتباع الشرع والعقل (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٩٠] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بأن أصروا على الكفر حتى تمكن الكفر في قلوبهم مما سبب أن يكون إظهارهم الإيمان بعد ذلك نفاقا (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لان توبتهم صورية (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) الذين ضلوا عن الطريق المستقيم.

[٩١] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ) أي بقدر (الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) الفدية البدل أي لا تنجيه الفدية من عذاب الله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرهم بدفع العذاب عنهم.

٧٢

[٩٢] (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) أي لن تبلغوا بر الله ، أي رحمته (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي بعض ما تحبون من المال والجاه وما أشبه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) بيان (ما) (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

[٩٣] (كُلُّ الطَّعامِ) المأكولات (كانَ حِلًّا) أي حلالا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي [بني يعقوب] (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) فانه حرم أكل لحم الإبل على نفسه (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) والتوراة إنما حرم بعض الأشياء على بني إسرائيل لظلمهم وبغيهم ، وعليه فالأطعمة الطيبة حلال على المسلمين لأنهم لم يظلموا كما ظلم اليهود أنفسهم فحرم الله عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن التحريم كان قديما على نزول التوراة فإنه لا يشير التوراة إلى قدم التحريم.

[٩٤] (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بان قال إن الله حرم بعض الطيبات من القديم وقبل نزول التوراة (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي قيام الحجة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم لأنهم يأتون بالباطل وهم يعلمون بطلان كلامهم.

[٩٥] (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في أن هذه الطيبات كانت حلالا من القديم (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ) أي طريقة (إِبْراهِيمَ) وهي حلية الطيبات (حَنِيفاً) أي في حال كون إبراهيم عليه‌السلام مائلا عن الشرك (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فإن أهل الكتاب كانوا يقولون إن إبراهيم عليه‌السلام على دينهم الذي هو الشرك.

[٩٦] (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) بأن يكون معبدا لهم (لَلَّذِي) أي البيت الذي (بِبَكَّةَ) اسم لمكة المكرمة ، في حال كون ذلك البيت (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) فان الناس يهتدون بسبب مكة لأنهم يتوجهون إليها في الصلاة وغيرها.

[٩٧] (فِيهِ) أي في البيت (آياتٌ بَيِّناتٌ) أدلة واضحات (مَقامُ إِبْراهِيمَ) بدل لآيات بينات وهو المحل الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه‌السلام فيبني البيت (وَمَنْ دَخَلَهُ) أي البيت ، والمراد الحرم (كانَ آمِناً) لا يمس بسوء حتى يخرج عن البيت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) أي قصده لإتيان المناسك (مَنِ اسْتَطاعَ) بدل (الناس) (إِلَيْهِ) أي إلى البيت (سَبِيلاً) أي طريقا (وَمَنْ كَفَرَ) بأن لم يذهب إلى الحج وهو مستطيع ، والمراد كفر عمل لا كفر عقيدة (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فإنه تعالى لا يحتاج إلى البشر والى عبادته وإنما أمرهم بالأحكام لأجل أنفسهم.

[٩٨] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه.

[٩٩] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ) أي تمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فإن أهل الكتاب كانوا يمنعون الناس عن سلوك سبيل الإسلام (مَنْ آمَنَ) مفعول تصدون (تَبْغُونَها عِوَجاً) أي طالبين لسبيل الله اعوجاجا ، فإن من يقول : المعوج طريق الله ، يطلب اعوجاج الطريق (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي تشهدون على الطريق المستقيم لأنهم كانوا يعلمون أن الإسلام هو طريق الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه.

[١٠٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً) أي جماعة ، وهذا نهي للمسلمين أن يتبعوا كلام الكفار (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ) يرجعوكم (بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ).

٧٣

[١٠١] (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) فإن من يقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه آيات الله يلزم أن يكون بعيدا عن الكفر (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم لهدايتكم فكيف تكفرون (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) بأن يتمسك بدين الله (فَقَدْ هُدِيَ) اهتدى (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو طريق الإسلام.

[١٠٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي خافوه (حَقَّ تُقاتِهِ) أي حق التقوى وحق اتباع الأوامر (وَلا تَمُوتُنَ) نهي عن الكفر الموجب لأن يموت الإنسان كافرا (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

[١٠٣] (وَاعْتَصِمُوا) أي تمسكوا (بِحَبْلِ اللهِ) أي دينه (جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) أي لا تختلفوا في الحق (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي الإيمان (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) في الجاهلية (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) أي بسبب نعمة الله (إِخْواناً) حال أحدكم بالنسبة إلى الآخر كحال الأخ بالنسبة إلى أخيه (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا) شفه ، طرف (حُفْرَةٍ) يراد بها جهنم (مِنَ النَّارِ) بيان (حفرة) فإنهم إذا ماتوا في حالة الجاهلية وقعوا في جهنم (فَأَنْقَذَكُمْ) الله أي نجاكم (مِنْها) أي من النار بهدايتكم إلى الإسلام (كَذلِكَ) أي هكذا (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لأجل هدايتكم.

[١٠٤] (وَلْتَكُنْ) أمر (مِنْكُمْ) للنشوء لا للتبعيض وذلك بدليل آخر الآية (المفلحون) وإلا لزم عدم فلاح غير الآمر الناهي (أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

[١٠٥] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) كاليهود والنصارى (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحات (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

[١٠٦] (يَوْمَ) أي ذلك العذاب العظيم إنما هو في يوم (تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) ببياض النور والسرور (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) بسواد الحزن والظلمة (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) أي يقال لهم على طريق التعنيف والتوبيخ (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) إما المراد أهل الكتاب والذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إيمانهم بالأنبياء السابقين أو مطلق من كفر بعد إيمانه (فَذُوقُوا) أمر إهانة (الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم.

[١٠٧] (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) أي المؤمنون (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها) في رحمة ، كرر للتأكيد (خالِدُونَ).

[١٠٨] (تِلْكَ) التي ذكرناها من الوعد والوعيد (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْحَقِ) فليست الآيات باطلة (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) فعقابه إنما هو عدل وبالاستحقاق.

٧٤

[١٠٩] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) التي منها أعمال العباد فيجازيهم بحسبها.

[١١٠] (كُنْتُمْ) أيها المسلمون (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) ظهرت (لِلنَّاسِ) أي للبشر ، وإنما كنتم خير أمة لأنكم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في دنياهم وأخراهم (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله ببقائهم على الكفر.

[١١١] (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) أيها المسلمون (إِلَّا أَذىً) يسيرا ، فلا تهتموا بأمرهم (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي ينهزمون ، وأدبار جمع (دبر) (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) لا ينصرهم قومهم.

[١١٢] (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي إن الله طبعهم بطابع أنهم أذلاء (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) بأن يسلموا (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) بان يدخلوا تحت حماية الناس ، كحكومة قوية وهذا من معاجز القرآن فان اليهود إلى اليوم أذلة (١) (وَباؤُ) أي رجع اليهود ، كأنهم جاءوا لأخذ الحق فلم يأخذوه فرجعوا (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي والله ساخط عليهم (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) النفسية فإن نفسهم تتطلب المال مهما أثروا ، فنفسهم دائمة المسكنة (ذلِكَ) إنما فعل الله باليهود ذلك (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ) الكفر والقتل (بِما عَصَوْا) أي بسبب عصيانهم وابتنائهم على المعصية (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي تماديهم في الاعتداء.

[١١٣] (لَيْسُوا سَواءً) أي متساويين (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ) فاعل (ليسوا) (قائِمَةٌ) أي قائمة على الحق ، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) أي في ساعاته (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) لله تعالى تواضعا.

[١١٤] (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى الأعمال الحسنة (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).

[١١٥] (وَما) أي والذي (يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) بيان (ما) (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي لن يحرموه بل الله يعطيهم ثواب أعمالهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي الذين يجتنبون المعاصي.

__________________

(١) ودولة إسرائيل إنما هي تحت حماية الحكومات الاستعمارية (منه).

٧٥

[١١٦] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ) أي لن تفيد في دفع العذاب (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله (شَيْئاً) أي ولا جزءا صغيرا من العذاب (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

[١١٧] (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) هؤلاء الكفار (فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة ، مقابل حياة الآخرة (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي برد شديد (أَصابَتْ) تلك الريح (حَرْثَ) أي زراعة (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر (فَأَهْلَكَتْهُ) أي أهلكت تلك الريح حرثهم ، وذلك لأن كفرهم يبطل إنفاقهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) حيث لم يثبهم على إنفاقهم ، لأن الله شرط قبول الطاعة بالتقوى حيث قال : (إنما يتقبل الله من المتقين) (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث إن كفرهم سبب بطلان إنفاقهم.

[١١٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) وهو الذي يطلع على أسرار الرجل ، لأنه موضع ثقته ، شبه ببطانة الثوب للصوقها به (مِنْ دُونِكُمْ) أي من الكافرين (لا يَأْلُونَكُمْ) أي يقصرون بالنسبة إلى المسلمين (خَبالاً) أي فسادا (وَدُّوا) تمنوا وأحبوا (ما عَنِتُّمْ) أي عنتكم وضرركم (قَدْ بَدَتِ) أي ظهرت (الْبَغْضاءُ) العداوة (مِنْ أَفْواهِهِمْ) فان كلامهم كلام العدو فيه تلميح إلى عدائكم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من العداوة (أَكْبَرُ) مما ظهر على لسانهم (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الأدلة الدالة على الأمور المربوطة بدينكم ودنياكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

[١١٩] (ها) تنبيه (أَنْتُمْ أُولاءِ) أي الجماعة الذين (تُحِبُّونَهُمْ) أي الكفار (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) فإن الكافر لا يحب المسلم (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ) أي بجنس كتب السماء (كُلِّهِ) حتى بكتابهم التوراة ، وهم لا يؤمنون بكتابكم ، والمعنى لا يحبونكم مع إنكم تؤمنون بكتابهم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا (وَإِذا خَلَوْا) بعضهم إلى بعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) من أجل الغيظ (قُلْ) يا رسول الله (مُوتُوا) أيها الكفار (بِغَيْظِكُمْ) وهو دعاء عليهم بزيادة قوة الإسلام حتى يهلكوا بذلك (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما في صدوركم أيها الكفار فيجازيكم عليه.

[١٢٠] (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) تصبكم (حَسَنَةٌ) خير ونعمة (تَسُؤْهُمْ) أي ساء الكفار ذلك (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) أي بإصابتكم السيئة (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم (وَتَتَّقُوا) من الله سبحانه بأن تعملوا لله تعالى (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) أي مكر الكفار لكم (شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) إحاطة علم وقدرة.

[١٢١] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ غَدَوْتَ) خرجت غدوة (مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أي تهيئ للمؤمنين (مَقاعِدَ) أي مواطن ومواقف (لِلْقِتالِ) في غزوة أحد (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

٧٦

[١٢٢] (إِذْ) بدل (إذ غدوت) (هَمَّتْ) قصدت (طائِفَتانِ مِنْكُمْ) بنو سلمة وبنو حارثة (أَنْ تَفْشَلا) تجبنا عن القتال (وَاللهُ وَلِيُّهُما) يتولى شؤونهما فلم تفشلا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

[١٢٣] (وَلَقَدْ) أي والحال أنه (نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) في غزوة بدر (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي في حال كونكم أذلة ، لقوة الكفار وضعفكم (فَاتَّقُوا اللهَ) واثبتوا في الحرب (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

[١٢٤] (إِذْ) ظرف ل (نصركم) (تَقُولُ) يا رسول الله (لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) فان المسلمين كانوا كالآيس من النصر ولذا قوى الله قلوبهم بإنزال الملائكة ، والاستفهام للإنكار ، أي تجبنون مع نزول الملائكة.

[١٢٥] (بَلى) يكفيكم ذلك (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) المشركون (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) في هذه الساعة ، إذ هم في تلك الحال أشد بأسا وأقوى عزيمة ، كما هو كذلك في أول كل حركة (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) معلمين بأنهم ملائكة ، قالوا : كانت عليهم العمائم البيض.

[١٢٦] (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي إمداد الملائكة (إِلَّا بُشْرى) بشارة (لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي بالنصر (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فليس بكثرة العدد.

[١٢٧] (لِيَقْطَعَ) نصركم ويهلك (طَرَفاً) جماعة (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يخزيهم (فَيَنْقَلِبُوا) يرجعوا إلى بلادهم (خائِبِينَ) خاسرين لم ينالوا ما أرادوا.

[١٢٨] (لَيْسَ لَكَ) يا رسول الله (مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي أمر كبتهم أو عذاب الله لهم أو توبته عليهم ، وهذه جملة معترضة ، (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بان يسلموا (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) استحقوا العذاب بظلمهم.

[١٢٩] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استحق العقاب (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[١٣٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) زيادة مكررة ، وهذا طبيعة الربا (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لرجاء الفلاح.

[١٣١] (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ) هيئت (لِلْكافِرِينَ).

[١٣٢] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي يرحمكم الله تعالى.

٧٧

[١٣٣] (وَسارِعُوا) أي بادروا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سبب الغفران وهو العمل الصالح (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا) أي سعتها (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ) هيئت (لِلْمُتَّقِينَ).

[١٣٤] (الَّذِينَ) صفة المتقين (يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) في حالة اليسر (وَالضَّرَّاءِ) في حالة العسر (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الذين يوقفون سورة غضبهم مع تمكنهم على إمضائه (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) يتركون عقاب من استحق العقاب ، حيث لم يوجب الشرع العقوبة كما في الحدود (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم.

[١٣٥] (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الذنب العظيم (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بإتيان معصيته (ذَكَرُوا اللهَ) تذكروا عظمته وعقابه (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) استفهام إنكار ، أي ليس هناك غافر للذنوب سواه تعالى (وَلَمْ يُصِرُّوا) لم يقيموا (عَلى ما فَعَلُوا) من الذنب (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي في حال علمهم بقبح ما فعلوا.

[١٣٦] (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ) غفران لذنبهم (مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ) تلك الجنات (أَجْرُ الْعامِلِينَ) الذين يعملون للآخرة.

[١٣٧] (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي طرق للأمم السابقة سلكوها فسببت هلاكهم (فَسِيرُوا) أي اذهبوا وسافروا (فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الذين أهلكوا ، فان الإنسان إذا ذهب إلى بلادهم علم أخبارهم ورأى آثارهم.

[١٣٨] (هذا) القرآن (بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً) يهديهم إلى الحق (وَمَوْعِظَةٌ) إرشاد (لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم هم المستفيدون بالقرآن.

[١٣٩] (وَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا عن مقاومة الأعداء (وَلا تَحْزَنُوا) بما أصابكم من الشدائد (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي والحال أنتم أعلى من الكفار (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن صح إيمانكم.

[١٤٠] (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) أي مسكم أيها المسلمون وأصابكم في حرب أحد (قَرْحٌ) جراح (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) أي الكفار (قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي مثل ما أصابكم وهذه تسلية للمسلمين (وَتِلْكَ) أي هذه (الْأَيَّامُ نُداوِلُها) نصرفها تارة لهؤلاء وأخرى لغيرهم (بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليتميز المؤمنون الثابتون عن غيرهم ، فان التمييز إنما يكون في الشدائد (وَ) ل (يَتَّخِذَ) الله (مِنْكُمْ شُهَداءَ) يكرم بعضكم بالشهادة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالانسحاب لدى الشدائد.

٧٨

[١٤١] (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يخلصهم من ذنوبهم ، فإن الذنب يذهب عند الشدائد إذا صبر عليها الإنسان (وَيَمْحَقَ) أي يهلك (الْكافِرِينَ).

[١٤٢] (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي هل زعمتم ، وهذا استفهام إنكار (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي وبعد لم تجاهدوا (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي وبعد لم تصبروا على الشدائد.

[١٤٣] (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) وذلك حيث إنهم تمنوا الشهادة في بدر حيث لم يستشهدوا هناك ، وهذا تذكير لهم بأنهم كيف يخافون في أحد وهم قد تمنوا الموت قبل ذلك (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) في أحد ، حيث رأوا القتلى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) نظر عين ، لا رؤية علمية فقط.

[١٤٤] (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فهو يموت أيضا كما ماتوا ، وهذا توبيخ لهم بأنهم كيف يضعفون عن مقاومة الكفار بمجرد سماعهم بموت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَفَإِنْ ماتَ) موتة عادية (أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) رجعتم إلى الكفر (عَلى أَعْقابِكُمْ) جمع عقب ، فان الإنسان المتقهقر يضع عقبه أولا على الأرض (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بل يضر نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) لنعمة الإسلام بثباتهم عليه ، فاللازم عليكم أن تثبتوا على الإيمان وإن مات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أن الأمم السابقة بقيت على دينها بعد موت أنبيائها.

[١٤٥] (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإجازته في موتها ، وفيه تشجيع على الجهاد (كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي كتب الموت على الإنسان كتابا موقتا فليس يموت الإنسان قبل ذلك (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا) خيرها (نُؤْتِهِ مِنْها) كما نرى أن الكفار يؤتون من خيرات الدنيا (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) إذا عمل صالحا (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين يشكرون الله بإطاعته.

[١٤٦] (وَكَأَيِّنْ) أي وكم وهو للتكثير ، وفيه تشجيع للمسلمين (مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) ربانيون المربوطون بالبر علما وعملا (كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا) ما وهن عزم أولئك الربيون (لِما أَصابَهُمْ) من القتل والشدة (فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا) عن القتال (وَمَا اسْتَكانُوا) خضعوا لعدوهم (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

[١٤٧] (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) أي قول أولئك الربيون (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا) الإسراف مجاوزة الحد (فِي أَمْرِنا) أيّ أمر كان (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في جهاد العدو (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

[١٤٨] (فَآتاهُمُ اللهُ) أعطاهم (ثَوابَ الدُّنْيا) النصر على العدو وسائر خيرات الدنيا (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) بالجنة ، أي ثواب الآخرة الحسن ، وهذا تأكيد (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) في أقوالهم وأفعالهم.

٧٩

[١٤٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث قال المنافقون في غزوة أحد للمؤمنين : ارجعوا إلى دينكم السابق ، حتى تنجوا من هذه المشاكل (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا) أي ترجعوا (خاسِرِينَ) قد خسرتم الدين والدنيا.

[١٥٠] (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أولى بكم ، فاللازم أن تطيعوه لا أن تطيعوا الكفار (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) سينصركم على الكفار.

[١٥١] (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف من المسلمين وذلك يسبب انهزامهم أمام زحف الإسلام (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) أي بسبب إشراكهم بالله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي إشراكا لم ينزل الله عليه دليل (وَمَأْواهُمُ) أي محلهم (النَّارُ وَبِئْسَ) النار (مَثْوَى) أي محل ومنزل (الظَّالِمِينَ).

[١٥٢] (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) بنصركم على الكفار ، فان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر جماعة من الرماة بلزوم أماكنهم ، ولما حارب المسلمون الكفار هزموهم ، ثم خالف الرماة الأمر ، ولذا غلب الكفار على المسلمين (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي تبطلون حسن الكفار بقتلهم وتشريدهم (بِإِذْنِهِ) فقد أذن الله للمسلمين بذلك (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) ضعف رأيكم وجبنتم (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن قسما من الرماة قالوا : نسمع قول الرسول ، وقسما آخر منهم قالوا : نذهب لجمع الغنيمة (وَعَصَيْتُمْ) بأن خالفتم أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الله (ما تُحِبُّونَ) من نصر الله لكم (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين خالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقصد جمع الغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين بقوا ممتثلين لأمره (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) أيها المسلمون ، أي كفكم (عَنْهُمْ) عن الكفار ، وذلك حين كر الكفار على المسلمين (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي يمتحنكم ، حيث إن الكفار قتلوهم وجرحوهم (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أي عن مخالفتكم بأن قبل توبة من خالف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يقوي عزيمتهم للغلبة ويعفو عن مسيئهم.

[١٥٣] (إِذْ تُصْعِدُونَ) كان صرف المسلمين عن الكفار في زمان فرارهم ، وتصعدون أي تفرون (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) لا يقف أحد لأحد (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) يناديكم (فِي أُخْراكُمْ) في ساقتكم التي كانت باقية مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَأَثابَكُمْ) أي جازاكم الله (غَمًّا بِغَمٍ) أي حزنا بالانهزام بسبب غمكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعصيان أمره أو حزنكم على فوت الغنيمة وإنما أصابكم الله بهذا الغم (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الغنيمة فان حزنهم على فوت الغنيمة سبب مخالفتهم التي أوجبت غلبة الكفار (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الاضرار ، ومعنى هذه الجملة أنه إذا أصابكم بسبب إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحزن بضرر أو فوت نفع ، فان أردتم زوال ذلك الحزن بمخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصيبكم الله حزنا آخر ، فلا يفيد الفرار عن الحزن (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه.

٨٠