الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

كذلك ، فإن حجتهم قول الله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة يونس ٦٢].

وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [سورة النمل آية رقم ٩٠].

وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة يونس : ٢٧].

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [سورة النساء آية رقم ١٤].

وبقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [سورة النساء آية رقم ٩٣].

وقوله (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) [سورة الفرقان آية رقم ٦٨].

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [سورة النساء آية رقم ١٠].

وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [سورة النور آية رقم ٢٣] الآية.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة الأنفال آية رقم ١٦].

وقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) إلى قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة المائدة آية رقم ٣٣].

وقوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) [سورة البقرة آية رقم ٢٧٥] الآية.

وذكروا أحاديث صحت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وعيد شارب الخمر وقاتل الهرة ، ومن قتل نفسه بسم أو حديدة أو تردى من جبل ، فإنه يفعل ذلك به في جهنم خالدا ، ومن قتل نفسه حرم الله عليه الجنة ، وأوجب له النار.

وذكروا أن الكبيرة تزيل اسم الإيمان ، فبعضهم قال إلى شرك ، وبعضهم قال إلى

٣٤١

كفر نعمة ، وبعضهم قال إلى نفاق ، وبعضهم قال إلى فسق ، قالوا : فإذ ليس مؤمنا فلا يدخل الجنة ، لأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ، هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا ، وأما من خص القاتل بالتخليد فإنهم احتجوا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [سورة النساء آية رقم ٩٣] فقط وأما من قطع بإسقاط الوعيد عن كل مسلم فإنهم احتجوا بقول الله تعالى (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل آية رقم ١٥ و ١٦].

قالوا : وهذه الآية مثبتة أن كل من توعده الله عزوجل على قتل أو زنا أو ربا أو غير ذلك فإنما هم الكفار خاصة لا غيرهم. واحتجوا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة». (١) و «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر ، على رغم أنف أبي ذر» (٢).

وقول الله عزوجل : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة الأعراف آية رقم ٥٦].

قالوا : ومن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد أحسن فهو محسن فرحمة الله قريب منه ، ومن رحمه‌الله فلا يعذب. وقالوا : كما أن الكفر محبط لكل حسنة ، فإن الإيمان يكفر كل سيئة والرحمة والعفو أولى بالله عزوجل.

قال أبو محمد : هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا أو يدخل فيما ذكرنا ولا يخرج عنه. وبالله تعالى التوفيق.

وأما من قال : إن الله تعالى يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء ، وقد يعذب من هو أقل ذنوبا ممن يغفر لهم فإنهم احتجوا بقول الله عزوجل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية رقم ٤٨] وبقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس صلوات كتبهن الله على العبد من جاء بهنّ لم ينقص من حدودهن شيئا كان له عند الله عهد أن يدخله الجنّة ، ومن لم يأت بهنّ لم يكن له عند الله عهد ، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له» (٣) وجعلوا الآيتين اللتين ذكرنا قاضيتين

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند (٣ / ٤٥١ ، ٤٦٧).

(٢) رواه البخاري في اللباس باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٥٤ ، وأحمد في المسند (٥ / ١٦٦).

(٣) رواه من حديث عبادة بن الصامت الإمام مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل ، باب ٣ ، حديث ١٤) وأبو داود في الوتر باب ٢ ، والنسائي في الصلاة باب ٦ ، وابن ماجة في الإقامة باب

٣٤٢

على جميع الآيات التي تعلقت بها سائر الطوائف ، وقالوا : لله الأمر كله لا معقب لحكمه فهو يفعل ما يشاء ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا.

قال أبو محمد : وأما من قال بمثل هذا إلا أنه قال الله تعالى إن عذب واحدا منهم عذب الجميع ، وإن غفر لواحد منهم غفر للجميع ، فإنهم قدرية ، جنحوا بهذا القول نحو العدل ، ورأوا أن المغفرة لواحد وتعذيب من له مثل ذنوبه جور ومحاباة ، ولا يوصف الله عزوجل بذلك.

وأما من قال بالموازنة فإنهم احتجوا فقالوا : إن آيات الوعيد ، وأخبار الوعيد ، التي احتج بها من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج ، فإنها لا يجوز أن تخص بالتعليق بها دون آيات العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط الوعيد ، وكذلك الآيات التي احتج بها من أسقط الوعيد ، لا يجوز التعلق بها دون الآيات التي احتج بها من أثبت الوعيد بل الواجب جمع جميع تلك الآيات ، وتلك الأخبار ، وكلها حق وكلها من عند الله ، وكلها مجمل يفسرها آيات الموازنة ، وأحاديث الشفاعة ، التي هي بيان لعموم تلك الآيات ، وتلك الأخبار ، وكلها من عند الله ، قالوا : ووجدنا الله عزوجل قد قال : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [سورة الكهف آية رقم ٤٩].

وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) [سورة الأنبياء آية رقم ٤٧] الآية.

وقال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة آية رقم ٧ ، ٨].

وقال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة آية رقم ١٤٣].

وقال تعالى : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [سورة يس آية رقم ٥٣ ، ٥٤] الآية.

وقال تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [سورة إبراهيم آية رقم ٥١].

وقال تعالى : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [سورة البقرة آية رقم ٢٨١].

__________________

١٩٤ ، والدارمي في الصلاة باب ٢٠٨.

٣٤٣

وقال تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [سورة طه آية رقم ١٥].

وقال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) إلى قوله : (الْجَزاءَ الْأَوْفى) [سورة النجم آية رقم ٣٩ إلى ٤١].

وقال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) [سورة الطور آية رقم ٤٧].

وقال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) [سورة النجم آية رقم ٣١]. الآية.

وقال تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) [سورة يونس آية رقم ٣٠].

وقال تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [سورة هود آية رقم ١١١].

وقال تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ) الآية [سورة النساء آية رقم ١٢٣].

وقال تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [سورة آل عمران آية رقم ١١٥].

وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [سورة آل عمران آية رقم ١٩٥].

وقال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) إلى قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) إلى قوله تعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة ق آية رقم ٢٢ إلى ٢٩].

وقال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [سورة القارعة آية رقم ٦ إلى ١١] إلى آخر السورة.

وقال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود آية رقم ١١٤].

وقال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢١٧].

وقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام آية رقم ١٦٠].

وقال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [سورة غافر آية رقم ١٧].

هذا نص كلامه يوم القيامة ، وهو القاضي على كل مجمل. قالوا : فنص الله عز

٣٤٤

وجل أنه يضع الموازين القسط ، وأنه لا يظلم أحدا شيئا ، ولا مثقال حبة خردل ، ولا مثقال ذرة من خير ، أو من شر ، فصح أن السيئة لا تحبط الحسنة ، وأن الإيمان لا يسقط الكبائر.

ونص الله تعالى أنه تجزى كل نفس بما كسبت وما عملت وما سعت وأنه ليس لأحد إلا ما سعى وأنه سيجزى بذلك من أساء بما عمل ومن أحسن بالحسنى ، وأنه تعالى يوفي الناس أعمالهم ، فدخل في ذلك الخير والشر.

وأنه تعالى يجازي بكل خير عمل وبكل سوء عمل ، وهذا كله يبطل قول من قال بالتخليد ضرورة ، وقول من قال بإسقاط الوعيد جملة ، لأن المعتزلة تقول : إن الإيمان يضيع ويحبط. وهذا خلاف قول الله تعالى أنه لا يضيع إيماننا ولا عمل عامل منا.

وقالوا هم : إن الخير ساقط بسيئة واحدة.

وقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود آية رقم ١١٤].

فقالوا لهم : إن السيئات يذهبن الحسنات.

وقد نص تعالى أن الأعمال لا يحبطها إلا الشرك والموت عليه.

وقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام آية رقم ١٦٠].

فلو كانت كل سيئة ، أو كل كبيرة ، توجب الخلود في جهنم ، وتحبط الأعمال الحسنة ، لكانت كل سيئة ، أو كل كبيرة كفرا ، ولتساوت السيئات كلها ، وهذا خلاف النصوص ، وعلمنا بما ذكرنا أن الذين قال الله تعالى فيهم : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة آية رقم ٦٢] هم الذين رجحت حسناتهم على سيئاتهم ، فسقط كل سيئة قدموها وصح أن قوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [سورة النمل آية رقم ٩٠] هم من رجحت كبائرهم وحسناتهم ، وأن السيئة الموجبة للخلود هي الكفر ، لأن النصوص جاءت بتقسيم السيئات ، فقال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة النساء آية رقم ٣١] فهذه سيئات مغفورة باجتناب الكبائر.

وقال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى آية رقم ٤٠].

وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة آية رقم ٨].

فأخبر تعالى أن من السيئات المجازى بها ما هو مقدار ذرة ، ومنها ما هو أكبر ،

٣٤٥

ولا شك في أن الكفر أكبر السيئات ، فلو كانت كل كبيرة جزاؤها الخلود ، لكانت كلها كفرا ولكانت كلها سواء ، وليست كذلك بالنص.

وأما وعيد الله بالخلود في القاتل وغيره ، فلو لم يأت إلا هذه النصوص لوجب الوقوف عندها ، لكنه قد قال تعالى (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل آية رقم ١٥ و ١٦] وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض ، وقد صح أن القاتل ليس كافرا ، وأن الزاني ليس كافرا ، وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفارا بما ذكرنا قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات ، وأنهم مأمورون بالصلوات ، وأن زكاة أموالهم مقبوضة ، وأنهم لا يقتلون ، وأنه إن عفي عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل به ، وأنه يرث ويورث ، وتؤكل ذبيحته ، فإذ ليس كافرا فبيقين ندري أن خلوده إنما هو مقام مدة ما ، وأن الصّليّ الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلّى الخلود ، ولا يجوز البتة غير هذا.

وبهذا تتآلف النصوص وتتفق. ومن المعهود في المخاطبة أن من وفد من بلد إلى بلد فحبس فيه مدة ما لأمر أوجب احتباسه فيه مدة ما ، فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذي حبس فيه ، فمن دخل في النار ثم أخرج منها فقد انقضى عنه صلّاها ، فليس من أهلها ، وإنما أهلها وأهل صلّاها على الاطلاق ، والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبدا ، فهكذا جاء في الحديث الصحيح فقد ذكر عليه‌السلام فيه من يدخل النار بذنوبه ، ثم يخرج منها ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأما أهل النار الذين هم أهلها» (١) يعني الكفار المخلدين فيها.

وقد قال عزوجل (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [سورة مريم آية رقم ٧١]. فقد بين عليه‌السلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح : «ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم» (٢) فبالقرآن

__________________

(١) تمام الحديث : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ـ أو قال : بخطاياهم ـ فأماتهم إماتة ، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر فبثّوا على أنهار الجنة ، ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل». رواه مسلم في الإيمان (حديث ٣٠٦) وابن ماجة في الزهد باب ٣٧ ، وأحمد في المسند (٣ / ٥).

(٢) رواه البخاري في الأذان باب ١٢٩ ، والتوحيد باب ٢٤. ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩. وابن ماجة في الزهد باب ٣٣. وأحمد في المسند (٢ / ٢٩٣ ، ٣ / ١١ ، ١٧).

٣٤٦

وكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صح أن ممر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط جهنم ، وينجي الله تعالى أولياءه من حرها وهم الذين لا كبائر لهم أو لهم كبائر تابوا عنها ، ورجحت حسناتهم بكبائرهم ، أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم ، وأنه تعالى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ، ثم يخرجهم عنها إلى الجنة بإيمانهم ، ويمحق الكفار بتخليدهم في النار ، كما قال تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [سورة آل عمران آية رقم ١٤١] وأيضا فإن كل آية وعيد ، وخبر وعيد ، تعلق به من قال بتخليد المذنبين فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها ، لأنهم يقولون إن من أتى بتلك الكبائر ثم تاب سقط عنه الوعيد ، فقد تركوا ظاهر تلك النصوص. فإن قالوا : إنما قلنا ذلك بنصوص أخر أوجبت ذلك. قيل لهم : نعم. وكذلك فعلنا نحن بنصوص أخر ، وهي آيات الموازنة ، وأنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق. ويقال لمن أسقط آيات الوعيد جملة ، وقال إنها كلها إنما جاءت في الكفار : إن هذا باطل لأن نص القرآن بالوعيد على الفار من الزحف ، ليس إلا على المؤمن بيقين ، وبنص الآية في قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [سورة الأنفال آية رقم ١٦].

ولا يمكن أن يكون هذا في كافر أصلا ، فسقط قول من قال بالتخليد ، وقول من قال بإسقاط الوعيد ، ولم يبق إلا قول من أجمل جواز المغفرة ، وجواز العقاب.

قال أبو محمد : فوجدنا هذا القول مجملا قد فسرته آيات الموازنة ، وقوله تعالى الذي تعلقوا به (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية رقم ٤٨ و ١١٦] حق على ظاهرها ، وعلى عمومها ، وقد فسرتها بإقرارهم آيات أخر ، لأنه لا يختلف في أن الله تعالى يغفر أن يشرك به لمن تاب من الشرك بلا شك.

وكذلك قوله تعالى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

فهذا كله حق إلا أنه قد بين من هم الذين شاء أن يغفر لهم ، فإن صرتم إلى بيان الله تعالى فهو الحق ، وإن أبيتم إلا الثبات على الإجمال فأخبرونا عن قول الله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [سورة الزمر آية رقم ٥٣].

وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [سورة المائدة آية رقم ١٨].

أترون أن هذا العموم تقولون به فتجيزون أن يغفر الكفر لأنه ذنب من الذنوب أم

٣٤٧

لا؟ وأخبرونا عن قول الله عزوجل حاكيا عن عيسى عليه‌السلام ، أنه يقول له تعالى يوم القيامة : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) إلى قوله : (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) إلى قوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [سورة المائدة الآيات : ١١٦ ـ ١١٨] أيدخل النصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه إلهين من دون الله تعالى في جواز المغفرة لهم وقد صدقه الله تعالى في هذا القول من التخيير بين المغفرة لهم أو يعذبهم؟ وأخبرونا عن قوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [سورة الأعراف آية رقم ١٥٦].

فمن قولهم : إن المغفرة لا تكون البتة لمن كفر ومات كافرا ، وأنهم خارجون من هذا العموم ومن هذه الجملة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية رقم ٤٨].

قيل لهم : ولم خصصتم هذه الجملة بهذا النص ولم تخصصوا قوله تعالى :

(وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) بقوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [سورة القارعة آية رقم ٦ ، ٧].

وبقوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النمل آية رقم ٩٠].

وبقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة غافر آية رقم ١٧].

وهذا خبر لا نسخ فيه. فإن قالوا : نعم إلا أن يشاء أن يغفر لهم. قيل لهم : قد أخبر تعالى أنه لا يشاء ذلك بإخباره تعالى أنه في ذلك اليوم يجزي كل نفس ما كسبت ولا فرق.

قال أبو محمد : وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ الرّجل يأتي يوم القيامة وله صدقة ، وصيام ، وصلاة ، فيوجد قد سفك دم هذا ، وشتم هذا ، فتؤخذ حسناته كلّها ، فيقتصّ لهم منها ، فإذا لم يبق له حسنة قذف من سيّئاتهم عليه ورمي في النّار» (١).

__________________

(١) تمام الحديث عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدرون ما المفلس؟» قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال : «إن المفلس من أمّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت

٣٤٨

وهكذا أخبر عليه‌السلام في قوم يخرجون من النار حتى إذا نقوا وهذبوا أدخلوا الجنة. (١)

وقد بين عليه‌السلام ذلك بأنه يخرج من النّار من في قلبه مثقال حبّة شعير من خير ثمّ من في قلبه مثقال برّة من خير ، ثمّ من في قلبه مثقال حبّة من خردل ، ثمّ من في قلبه مثقال ذرّة .. إلى أدنى أدنى من ذلك. ثمّ من لا يعمل خيرا قط إلّا شهادة الإسلام. (٢)

فوجب الوقوف عند هذه النصوص كلها المفسرة للنص المجمل. ثم يقال لهم : أخبرونا عمن لم يعمل شرا قط إلا اللمم ، ومن همّ بالشر فلم يفعله ..؟ فمن قول أهل الحق : إنه مغفور له جملة ، بقوله تعالى : (إِلَّا اللَّمَمَ) [سورة النجم : ٣٢] وبقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تخرجه بقول أو عمل». (٣)

قال أبو محمد : وهذا ينقسم أقساما أحدها : من هم بسيئة أي شيء كانت من السيئات ، ثم تركها مختارا لله تعالى ، فهذا تكتب له حسنة ، فإن تركها مغلوبا لا مختارا

__________________

عليه ثم طرح في النار». رواه مسلم في البر والصلة والآداب (حديث ٥٩) والترمذي في القيامة باب ٢ ، وأحمد في المسند (٢ / ٣٠٢ ، ٣٣٤ ، ٣٧٢).

(١) لفظ الحديث كما رواه البخاري في المظالم ، باب ١ (حديث رقم ٢٤٤٠) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار ، فيتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا نقّوا وهذّبوا أذن لهم بدخول الجنة. فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدلّ بمنزله كان في الدنيا». ورواه أيضا في الرقاق باب ٤٨ (حديث ٦٥٣٥). ورواه أيضا الإمام أحمد في المسند (٣ / ١٣ ، ٦٣ ، ٧٤).

(٢) رواه من طرق متعددة : البخاري في الإيمان باب ١٥ ، والرقاق باب ٣٥ و ٥١ ، والفتن باب ١٣ ، والتوحيد باب ٣٦. ومسلم في الإيمان حديث ٨٠ و ١٤٨ و ٢٣٠ و ٣٠٤ و ٣٢٦ ، والفتن حديث ٥٢. وأبو داود في اللباس باب ٦٨. والترمذي في الفتن باب ١٧. وابن ماجة في الزهد باب ١٦. وأحمد في المسند (٣ / ٢٥٦ ، ١٤٤ ، ٣٢٦ ، ٥ / ٣٨٣).

(٣) رواه من حديث أبي هريرة : البخاري في الإيمان باب ١٥ والطلاق باب ١١. ومسلم في الإيمان حديث ٢٠١ و ٢٠٢ ، والرؤيا حديث ١٥. وأبو داود في الطلاق باب ١٥. والترمذي في الطلاق باب ٨ ، وتفسير سورة البقرة باب ٣٧. وابن ماجة في الطلاق باب ١٤. وأحمد في المسند (٢ / ٢٥٥ ، ٣٩٣ ، ٤٢٥ ، ٤٧٤ ، ٤٨١ ، ٤٩١). ولفظه عند البخاري (حديث رقم ٦٦٦٤) : «إنّ الله تجاوز لأمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلّم».

٣٤٩

لم تكتب له حسنة ولا سيئة تفضلا من الله عزوجل ، ولو عملها كتبت له سيئة واحدة ، ولو هم بحسنة ولم يعملها ، كتبت له حسنة واحدة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها. وهذا كله نص كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١). وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا فذهب إلى أن الهم بالسيئة إصرار عليها ، فقلت له : هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تماد على نية أن يفعله ، وأما من همّ بما لم يفعل بعد فليس إصرارا. قال الله تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة آل عمران آية رقم ١٣٥].

ثم نسألهم عمن عمل السيئات ، حاشا الكبائر عددا عظيما ولم يأت كبيرة قط ومات على ذلك ، أيجوّزون أن يعذبه الله تعالى على ما عمل من السيئات أم تقولون إنها مغفورة له ولا بدّ ...؟

فإن قالوا : إنها مغفورة له ولا بد صدقوا ، وكانوا قد خصوا قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية رقم ٤٨].

وتركوا حمل هذه الآية على عمومها فلا ينكروا ذلك على من خصها أيضا بنص آخر.

وإن قالوا : بل جائز أن يعذبهم الله تعالى على ذلك ، أكذبهم الله تعالى بقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [سورة النساء آية رقم ٣١].

ونعوذ بالله من تكذيب الله عزوجل.

ثم نسألهم عمن عمل من الكبائر ومات عليها ، وعمل حسنات رجحت بكبائره عند الموازنة ، أيجوز أن يعذبه الله تعالى بما عمل من تلك الكبائر ، أم هي مغفورة له ساقطة عنه ...؟

فإن قالوا : بل هي مغفورة له وساقطة عنه صدقوا ، وكانوا قد خصوا عموم قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وجعلوا هؤلاء ممن شاء ، ولا بد أن يغفر لهم ، وإن قالوا : بل جائز أن يعذبهم ، أكذبهم الله تعالى بقوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [سورة القارعة ٦ ، ٧]. وبقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود آية رقم ١١٤].

__________________

(١) رواه من طرق : البخاري في الرقاق باب ٣١. ومسلم في الإيمان حديث ٢٠٣ و ٢٠٤ و ٢٠٦ و ٢٠٧ و ٢٥٩. والترمذي في تفسير سورة ٦ باب ١٠. والدارمي في الرقاق باب ٧٠. وأحمد في المسند (١ / ٢٢٧ ، ٢٧٩ ، ٣١٠ ، ٣٦١ ، ٢ / ٢٣٤ ، ٤٤١ ، ٤٩٨ ، ٣ / ١٤٩).

٣٥٠

قال أبو محمد : وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلا.

فقد صح يقينا أن هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك ، فبقي الذين لم يشإ الله تعالى أن يغفر لهم ، ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في الموازنة على حسناته ، فهم الذين يجازون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة ، وبرحمة الله عزوجل. فقالوا : من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ، ومنهم من يعذبه ، قلنا لهم : أعندكم بهذا البيان نص؟ وهم لا يجدونه أبدا فظهر تحكمهم بلا برهان ، وخلافهم لجميع الآيات والأخبار والآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة ، لأن الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية رقم ٤٨].

ولا خلاف في أنه تعالى يغفر الشرك لمن آمن ، فصح أنها مجملة يفسرها سائر الآيات والأخبار ، وكذلك حديث عبادة : «خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئا كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه». (١)

فإنهم متفقون على أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئا إلا أنه قتل ، وزنا ، وسرق ، فإنه قد يعذب ، ويقولون إن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأبيد ، بل يعذب ثم يخرج عن النار.

قال أبو محمد : هذا ترك منهم أيضا لظاهر هذا الخبر.

قال أبو محمد : ولا فرق بين قول الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وبين قوله : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [سورة القارعة آية رقم ٦]. كلاهما خبر ، إن جاز إبطال أحدهما جاز إبطال الآخر ، ومعاذ الله من هذا القول. وكذلك قد منع الله تعالى من هذا القول ، بقوله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة ق آية رقم ٢٨ و ٢٩].

ونحن نقول إن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وأنّ كل أحد فهو في مشيئة الله تعالى ، إلا أننا نقول : إنه تعالى

__________________

(١) رواه أبو داود في الوتر باب ٢ ، والنسائي في الصلاة باب ٦ ، والدارمي في الصلاة باب ٢٠٨ ، ومالك في صلاة الليل حديث ١٤ ، وأحمد في المسند (٥ / ٣١٥ ، ٣١٩).

٣٥١

قد بين من يغفر لهم ، ومن يعذب ، وأن الموازين حق ، والموازنة حق ، والشفاعة حق ، وبالله تعالى التوفيق.

حدثنا محمد بن سعيد بن بيان ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا وكيع بن الجراح ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [سورة هود آية رقم ١٠٩] قال : «ما وعدوا فيه من خير وشر» وهذا هو نص قولنا.

وقد ادعى قوم أن إخلاف الوعيد حسن عند العرب ، وأنشدوا :

وإنّي وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز وعدي (١)

قال أبو محمد : وهذا لا شيء ، ما جعل الله فخر صبي أحمق كافر حجة على الله تعالى قال الراجز :

أحيا أباه هاشم بن حرملة

يرى الملوك حوله مغربله

يقتل ذا الذنب ، ومن لا ذنب له (٢) وقد جعلت العرب مخلف الوعد كاذبا. قال الشاعر أنشده أبو عبيدة معمر بن المثنى :

أتوعدني وراء بني رباح

كذبت لتقصرن يداك دوني (٣)

__________________

(١) البيت لعامر بن الطفيل في ديوانه (ص ٥٨) ولسان العرب (٣ / ٤٦٤) مادة (وعد) و (١٤ / ٢٢٣) مادة (ختا). وبلا نسبة في إنباه الرواة (٤ / ١٣٩) ومراتب النحويين (ص ٣٨). وقبله :

ولا يرهب ابن العمّ منّي صولة

ولا أختفي من صولة المتهدّد

(٢) وتروى هذه الأبيات أيضا كما يلي :

أحيا أباه هاشم بن حرملة

يوم الهباءات ويوم اليعمله

ترى الملوك حوله مغربله

ورمحه للوالدات مثكله

يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له

وهي لعامر الخصفي في تاج العروس (مادة عمل وغربل) ، وللصحاري في تاج العروس (مادة ضرم) ، وبلا نسبة في لسان العرب (١١ / ٨٩ ـ ثكل) و (١١ / ١٥٠ ـ حرمل) و (١١ / ٢٩٠ ـ رعبل) و (١١ / ٢٩١ ـ غربل) وتهذيب اللغة (٨ / ٢٤٣) وجمهرة اللغة (ص ١١٢٣) ومقاييس اللغة (٢ / ٥٠٩) ومجمل اللغة (٢ / ٤٨٤) وديوان الأدب (٢ / ٤٨٤) والمخصص (٦ / ١١٤) وتاج العروس (مادة رعبل).

(٣) البيت لجرير في ديوانه (ص ٤٢٩) ولسان العرب (١٥ / ٣٩٠ ـ وري) وتاج العروس (وري).

٣٥٢

فإن قالوا : خصوا وعيد الشرك بالموازنة. قلنا : لا يجوز ، لأن الله تعالى منع من ذلك ، قال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢١٧].

فمن حبط عمله فلا خير له.

قال أبو محمد : وأهل النار متفاضلون في عذاب النار فأقلهم عذابا أبو طالب فإنه توضع جمرتان من النار في أخمصيه (١) إلى أن يبلغ الأمر إلى قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر آية رقم ٤٦].

وقال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [سورة النساء آية رقم ١٤٥] ولا يكون الأشد إلا إلى جنب الأدون.

وقال تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) [سورة السجدة آية رقم ٢١].

قال أبو محمد : والكفار معذبون على المعاصي التي عملوا من غير الكفر. برهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) [سورة المدثر آية رقم ٤٠ إلى ٤٧].

فنص تعالى على أن الكفار يعذبون على ترك الصلاة وعلى ترك الطعام للمسكين.

قال أبو محمد : وأما من عمل منهم العتق ، والصدقة ، أو نحو ذلك من أعمال البر فحابط كل ذلك ، لأن الله عزوجل قال : إنه من مات كافرا حبط عمله. لكن لا يعذب الله أحدا إلا على ما عمل ، لا على ما لم يعمل.

قال الله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النمل آية رقم ٩٠].

__________________

(١) روى البخاري في الرقاق باب ٥١ (حديث ٦٥٦١ و ٦٥٦٢) عن النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه» ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب ٩١ (حديث ٣٦٣). وروى مسلم في الإيمان (حديث ٣٦٢) عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أهون أهل النار عذابا أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» ، ورواه أيضا عن النعمان بن بشير (برقم ٣٦٤) ولفظه : «إنّ أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، ما يرى أن أحدا أشدّ منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا».

٣٥٣

فلما كان من لا يطعم المسكين من الكفار يعذب على ذلك عذابا زائدا لأنه لم يطعم المسكين فالذي أطعم المسكين مع كفره لا يعذب ذلك العذاب الزائد ، فهو أقل عندنا عذابا لأنه لم يعمل من الشر ما عمل من هو أشد عذابا منه لا لأنه عمل خيرا.

قال أبو محمد : وكل كافر عمل خيرا وشرا ثم أسلم فإن كان ما عمل من خير يكون له مجازى به في الجنة ، وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه ، وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه.

برهان ذلك : حديث حكيم بن حزام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يا رسول الله أشياء كنت أتحنّث بها في الجاهليّة من عتق وصدقة وصلة رحم؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلمت على ما سلف لك من خير» (١) فأخبر أنه خير وأنه له إذ أسلم.

وقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه يصل الرّحم ، ويقري الضّيف ، أينفعه ذلك؟ قال : «لا. لأنّه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين» (٢). فأخبر عليه‌السلام أنه لم ينتفع بذلك لأنه لم يسلم.

فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك.

وأما مؤاخذته بما عمل فحديث ابن مسعود رضي الله عنه بنص ما قلنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قلناه.

فإن اعترض معترض بقوله الله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر آية رقم ٦٥].

قلنا : إنما هذا لمن مات مشركا فقط.

برهان ذلك أن الله تعالى قال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وبيقين ندري أن من أسلم فليس من الخاسرين فقد بين ذلك بقوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢١٧] وإن اعترضوا فيما قلنا من المؤاخذة بما عمل في الكفر لقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [سورة الأنفال آية رقم ٣٨].

__________________

(١) رواه البخاري في الزكاة باب ٢٤ ، والأدب باب ١٦ ، والبيوع باب ١٠٠ ، والعتق باب ١٢. ومسلم في الإيمان حديث ١٩٤ و ١٩٥ و ١٩٦. وأحمد في المسند (٣ / ٤٠٢).

(٢) رواه البخاري في الدعوات باب ٦١. ومسلم في الإيمان حديث ٣٦٥ ، والذكر حديث ٧٠. وأحمد في المسند (٤ / ٤١٧).

٣٥٤

قلنا لهم : هذا حجة لنا لأن من انتهى عن الكفر غفر له ، وإن انتهى عن الزنا غفر له ، وإن لم ينته عن الزنا لم يغفر له ، فإنما يغفر له ما انتهى عنه ، ولم يغفر له ما لم ينته عنه.

ولم يقل تعالى : إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم سائر ذنوبهم.

والزيادة في الآية كذب على الله تعالى وهي أعمال متغايرة كما ترى ليست التوبة عن بعضها توبة عن سائرها. فلكل واحد منهما حكمه ، فإن ذكروا حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإسلام يجبّ ما قبله». (١)

فقد قلنا : إن الإسلام اسم لجميع الطاعات ، فمن أصر على المعصية فليس فعله في المعصية التي يتمادى عليها إسلاما ، ولا إيمانا ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن». (٢)

فصح أن الإسلام ، والإيمان هو جميع الطاعات ، فإذا أسلم من الكفر وتاب من جميع معاصيه فهو الإسلام الذي يجبّ ما قبله.

وإذا لم يتب من معاصيه فلم يحسن في الإسلام ، فهو مأخوذ بالأول والآخر ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبهذا تتفق الأحاديث وكذلك قوله عليه‌السلام : «والهجرة تجبّ ما قبلها». (٣)

فقد صح عنه عليه‌السلام أنّ «المهاجر من هجر ما نهاه الله عنه» (٤) فمن تاب من جميع المعاصي التي سلفت منه فقد هجر ما نهاه الله عنه فهذه هي الهجرة التي تجبّ ما قبلها.

وأما قوله عليه‌السلام : «والحجّ يجبّ ما قبله» (٥) فقد جاء «أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنة» (٦). فهذا على

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند (٤ / ١٩٩ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥).

(٢) رواه ابن ماجة في الفتن باب ٣.

(٣) رواه أبو داود في الوتر باب ١١ ، والنسائي في الزكاة باب ٤٩ ، والبيعة باب ١٢ ، والدارمي في الصلاة باب ١٣٥ ، وأحمد في المسند (٢ / ١٦٠ ، ١٩١ ، ١٩٣).

(٤) جزء من حديث طويل رواه مسلم في الإيمان باب ٥٤ (حديث ١٩٢) وفيه : «.. وأن الحجّ يهدم ما كان قبله».

(٥) رواه البخاري في الإيمان باب ١٨ ، والحج باب ٤ و ٣٤ و ١٠٣. ومسلم في الإيمان (حديث ١٣٥) والحج (حديث ٢٠٤) والترمذي في فضائل الجهاد باب ٢٢. وابن ماجة في المناسك باب ٣.

٣٥٥

الموازنة التي ربنا عزوجل عالم بمراتبها ، ومقاديرها ، وإنما نقف حيث وقفنا الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : واستدركنا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قاتل نفسه : «حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» (١) ، مع قوله : «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه حرّم الله عليه النّار وأوجب له الجنّة». (٢)

قال أبو محمد : قال الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم آية رقم ٣ و ٤] فصح أن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كله وحي من عند الله وقال عزوجل (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء آية رقم ٨٣] فصح أن كل ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن عند الله تعالى ، وأنه لا اختلاف في شيء منه وأنه كله متفق عليه ، فإذ ذلك كذلك فواجب ضم هذه الأخبار بعضها إلى بعض فيلوح الحق حينئذ بحول الله وقوته ، فمعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القاتل : «حرم الله عليه الجنة ، وأوجب له النار» (٣) ، مبني على الموازنة فإن رجحت كبيرة قتله نفسه على حسناته حرم الله عليه الجنة ، حتى يقتص منه بالنار ، التي أوجبها الله تعالى جزاء على فعله ، وبرهان هذا الحديث الذي أسلم وهاجر مع عمرو بن حممة الدوسي ثم قتل نفسه لجراح جرح به فتألم منه فقطع عروق يده فنزف حتى مات فرآه بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال حسنة إلا يده وذكر أنه قيل له لن يصلح منك ما أفسدت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم وليديه فاغفر» ... (٤) ومعنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال لا

__________________

(١) روى نحوه البخاري في الجنائز باب ٨٣ ، والأدب باب ٤٤ و ٧٣. ومسلم في الإيمان حديث ١٧٥ ـ ١٧٧. والترمذي في الإيمان باب ١٦ ، والطب باب ٧. والنسائي في الإيمان باب ٧ و ٣١ ، والجنائز باب ٦٨. والدارمي في الديات باب ١٠. وأحمد في المسند (٢ / ٢٥٤ ، ٤٧٨ ، ٤٨٨ ، ٤ / ٣٣ ، ٣٤). ولفظ الحديث كما رواه مسلم في الإيمان (حديث رقم ١٧٥) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا أبدا. ومن شرب سمّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا».

(٢) رواه البخاري في العلم باب ٤٩ ، والجمعة باب ١٨. ومسلم في الإيمان حديث ٥٣. والترمذي في الصلاة باب ٢٠٠. وابن ماجة في الزهد باب ١٩. والدارمي في الجهاد باب ٨.

(٣) رواه مسلم في الإيمان باب ٤٩ (حديث ١٨٤) عن جابر : أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة؟ ـ قال : حصن كان لدوس في الجاهلية ـ فأبى ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للذي ذخر الله للأنصار. فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ،

٣٥٦

إله إلا الله مخلصا من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة» فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهره منفردا لكن يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام ، ومعناه حينئذ أن الله عزوجل أوجب له الجنة ولا بد ، إما بعد الاقتصاص ، وإما دون الاقتصاص على ما توجبه الموازنة ، وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها القاطنين فيها على ما بينا قبل من قوله تعالى : (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [سورة آل عمران آية رقم ١٥٣] (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [سورة النساء آية رقم ١٢٣].

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة آية رقم ١٤٣].

(ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [سورة آل عمران آية رقم ١١٥].

وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [سورة المائدة آية رقم ١٣٧] فنص الآية أنها في الكفار هكذا في نص الآية.

قال أبو محمد : وأما الكبائر فإن الله تعالى قال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [سورة النساء آية رقم ٣١].

قال أبو محمد : فمن المحال أن يحرم الله تعالى علينا أمرا ويفرق بين أحكامه ويجعل بعضه مغفورا باجتناب بعض ومؤاخذا به إن لم يجتنب البعض الآخر ، ثم لا يبين لنا المهلكات من غيرها فنظرنا في ذلك فوجدنا قوما يقولون إن كل ذنب فهو كبيرة.

قال أبو محمد : وهذا خطأ لأن نص القرآن مفرق كما قلنا بين الكبائر وغيرها وبالضرورة ندري أنه لا تكون كبيرة إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها ، والكبائر أيضا تتفاضل فالشرك أكبر مما دونه ، والقتل أكبر من غيره.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير (وإنه لكبير) أمّا أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأمّا الآخر فكان يمشي بالنّميمة» (١) فأخبر عليه

__________________

هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه. فاجتووا المدينة ، فمرض ، فجزع ، فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه ، فشخبت يداه حتى مات. فرآه الطفيل بن عمرو في منامه ، فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يده ، فقال له : ما صنع بك ربّك؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال : قيل لي : لن نصلح منك ما أفسدت. فقصّها الطفيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم! وليديه فاغفر».

(١) رواه البخاري في الوضوء باب ٥٥ و ٦٥ ، والأدب باب ٤٦ ، والجنائز باب ٨٩. ومسلم في الطهارة حديث ١١١. وأبو داود في الطهارة باب ١١ و ٦٥. والترمذي في الطهارة باب ٥٢. والنسائي في الطهارة باب ٢٦.

٣٥٧

السلام أنهما كبير ، وما هما بكبير ، وهذا بين لأنهما كبيران بالإضافة إلى الصغائر المغفورة باجتناب الكبائر ، وليسا بكبيرين بالإضافة إلى الكفر والقتل.

قال أبو محمد : فبطل القول المذكور ، فنظرنا في ذلك فوجدنا معرفة الكبير من الذنوب مما ليس بكبير منها لا يعلم البتة إلا بنص وارد فيها ، إذ هذا من أحكام الله تعالى التي لا يعرف إلا من عنده تعالى فبحثنا عن ذلك فوجدنا الله تعالى قد نص بالوعيد على ذنوب في القرآن وعلى لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد وجدنا ذنوبا أخر لم ينص عليها بوعيد ، فعلمنا يقينا أن كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار أو توعد عليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنار فهو كبير وكل ما نص عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستعظامه فهو كبير ، كقوله عليه‌السلام :

«اتّقوا السّبع الموبقات ... الشّرك والسّحر والقتل والزّنا» (١) وذكر الحديث.

وكقوله عليه‌السلام : «عقوق الوالدين من الكبائر» (٢).

وكل ما لم يأت نص باستعظامه ، ولا جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير ، ولا يمكن أن يكون الوعيد بالنار على الصغائر على انفرادها لأنها مغفورة باجتناب الكبائر فصح ما قلناه.

وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) لفظ الحديث كما رواه البخاري في الوصايا باب ٢٣ (حديث ٢٧٦٦) عن أبي هريرة : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا : يا رسول الله وما هنّ؟ قال : «الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولّي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». ورواه أيضا في الطبّ باب ٤٨ ، والحدود باب ٤٤. ورواه مسلم في الإيمان حديث ١٤٥ ، وأبو داود في الوصايا باب ١٠ ، والنسائي في الوصايا باب ١٢.

(٢) لفظ الحديث كما رواه مسلم في الإيمان (حديث ١٤٤) عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الكبائر ، قال : «الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، وقول الزور». ورواه بنحوه من طرق : البخاري في الأدب باب ٦ ، والاستئذان باب ٣٥ ، والإيمان باب ١٦ ، واستتابة المرتدين باب ١ ، والديات باب ٢ ، والشهادات باب ١٠. ومسلم في الإيمان حديث ١٤٣. وأبو داود في الوصايا باب ١٠. والترمذي في البر باب ٤ ، والبيوع باب ٣ ، والشهادات باب ٣ ، وتفسير سورة ٤ باب ٤ ـ ٧. والنسائي في تحريم الدم باب ٣ ، والقسامة باب ٤٩. والدارمي في الديات باب ٩. وأحمد في المسند (٢ / ٢٠١ ، ٢٠٣ ، ٢١٤ ، ٣ / ١٣١ ، ١٣٤ ، ٤٩٥ ، ٥ / ٣٦ ، ٣٨).

٣٥٨

الموافاة

قال أبو محمد : اختلف المتكلّمون في معنى عبروا عنه بلفظ الموافاة وهم أنهم قالوا في إنسان مؤمن صالح مجتهد في العبادة ثم مات مرتدا كافرا وآخر كافر متمرد ، أو فاسق ، ثم مات مسلما تائبا : كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله تعالى.؟

فذهب هشام بن عمرو الفوطي وجميع الأشعرية ، إلى أن الله عزوجل لم يزل راضيا عن الذي مات مسلما تائبا ، ولم يزل ساخطا على الذي مات كافرا أو فاسقا.

واحتجوا في ذلك بأن الله عزوجل لا يتغير علمه ، ولا يرضى ما سخط ، ولا يسخط ما رضي.

وقالت الأشعرية : الرضا من الله عزوجل والسخط منه تعالى من صفات الذات لم يزالا ولا يتغيران ، وذهب سائر المسلمين إلى أن الله عزوجل كان ساخطا على الكافر والفاسق ، ثم رضي الله عنهما إذ أسلم الكافر ، وتاب الفاسق. وأنه تعالى كان راضيا عن المسلم وعن الصالح ثم سخط عليهما إذ كفر المسلم وفسق الصالح.

قال أبو محمد : احتجاج الأشعرية هاهنا هو احتجاج اليهود في إبطال النسخ ولا فرق ، ونحن نبين بطلان احتجاجهم ، وبطلان قولهم ، وبالله تعالى التوفيق ، فنقول وبالله عزوجل نتأيد :

أما قولهم : إن علم الله عزوجل لا يتغير فصحيح ، ولكن معلوماته تتغير ، ولم نقل إن علمه يتغير ، ومعاذ الله من هذا ، ولم يزل علمه تعالى واحدا يعلم كل شيء على تصرفه في جميع حالاته.

فلم يزل يعلم أن زيدا سيكون صغيرا ، ثم شابا ثم كهلا ، ثم شيخا ، ثم ميتا ، ثم مبعوثا ، ثم في الجنة ، أو في النار ، ولم يزل يعلم أنه سيؤمن ثم يكفر ، أو أنه يكفر ثم يؤمن ، أو أنه يكفر ولا يؤمن ، أو أنه يؤمن ولا يكفر.

وكذلك القول في الفسق والصلاح ، ومعلوماته تعالى في كل ذلك متغيرة مختلفة ومن كابر هذا فقد كابر العيان والمشاهدات.

٣٥٩

وأما قولهم : إن الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ، ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه ثم نسخ كل ذلك وأبطله فرضي منهم أكل الشحوم والعمل في السبت وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر ، ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ، ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان ، والبقاء بلا صلاة ، وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كما قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [سورة طه آية رقم ١١٤]. ثم فرض علينا الصلاة والصوم ، وحرم علينا الخمر ، فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان ، وشرب الخمر ، ورضي لنا خلاف ذلك ، وهذا لا ينكره مسلم. ولم يزل الله تعالى عليما أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ، ثم إنه سيحرمه ويسخطه وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم إنه يحله ويرضاه كما علم عزوجل أنه سيحيي من أحياه مدة كذا ثم يميته ، وأنه يعز من أعزه مدة ثم يذله ، وهكذا جميع ما في العالم من آثار صنعه عزوجل لا يخفى ذلك على من له أدنى حس ، وهكذا المؤمن يموت مرتدا ، والكافر يموت مسلما ، فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخط فعل الكافر ما دام كافرا ، ثم إنه يرضى عنه إذا أسلم ، وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم ، وأفعال البر ، ثم إنه يسخط أفعاله إذا ارتد ، أو فسق ، ونص القرآن يشهد بذلك قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [سورة الزمر آية رقم ٧].

فصح يقينا أن الله تعالى يرضى الشكر ، ممن شكره إذا شكره فيما شكره ، ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر ، كيف كان انتقال هذه الأحوال من الإنسان الواحد ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢١٧] فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط ، ومن المحال أن يحبط عمل لم يكن محسوبا قط ، فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم مات كافرا أنه كان محسوبا ثم حبط إذ ارتد وكذلك قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [سورة الرعد آية رقم ٣٩].

فصح أنه لا يمحو إلا ما كان قد كتبه ومن المحال أن يمحي ما لم يكن مكتوبا وهذا بطلان قولهم يقينا ولله الحمد ، وكذلك نص قوله تعالى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [سورة الفرقان آية رقم ٧٠].

٣٦٠