تراثنا ـ العددان [ 83 و 84 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 83 و 84 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٢

مصادر البحث

١ ـ القرآن الكريم.

٢ ـ إيضاح الفرائد في شرح الرسائل ، السيّد محمّـد الحسيني التنكابني.

٣ ـ بحر الفوائد ، المحقّق الأشتياني ، منشورات آية الله المرعشي النجفي ، قم ، الطبعة حجرية.

٤ ـ بحوث في شرح العروة الوثقى ، السيد الشهيد محمّـد باقر الصدر ، مجتمع الشهيد الصدر العلمي ، قم ، الطبعة الثانية.

٥ ـ بلغة الفقيه ، السيّد محمّـد بحر العلوم ، طبعة مكتبة الصادق عليه‌السلام ، طهران ، الطبعة الرابعة.

٦ ـ تاج العروس ، محب الدين أبي الفيض السيّد محمّـد مرتضى الحسيني الحنفي ، مكتبة الحياة ، بيروت.

٧ ـ تحرير الأحكام ، العلاّمة الحلي ، الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي ، مؤسّسة الإمام الصادق عليه‌السلام ، قم ، الطبعة الأولى.

٨ ـ تذكرة الفقهاء ، العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي ، مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام ، قم ، الطبعة الأولى.

٩ ـ التنقيح في شرح العروة الوثقى ، للسيّد الخوئي ، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي ، قم.

١٠ ـ جامع المقاصد ، المحقّق الكركي ، علي بن الحسن ، مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام ، قم ، الطبعة الأولى.

١١ ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ، محمّـد حسن النجفي ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة السابعة.

١٢ ـ ذخيرة المعاد ، ملاّ محمّـد باقر السبزواري ، مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام ، قم ، الطبعة حجرية.

١٣ ـ ذكرى الشيعة ، الشهيد الأوّل ، محمّـد بن جمال الدين مكي العاملي ،

١٨١

طبع وتحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام ، الطبعة الأولى.

١٤ ـ الرسالة العددية ، الشيخ المفيد ، أبو عبد الله محمّـد بن محمّـد بن النعمان العكبري ، المؤتمر العالمي في ذكرى ألفية الشيخ المفيد ، قم ، الطبعة الأولى.

١٥ ـ الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، الشهيد الثاني ، زين الدين الجبعي العاملي ، دار العالم الاسلامي ، بيروت.

١٦ ـ سفينة البحار ، الشيخ عباس القمّي ، طبعة دار الأُسوة للطباعة والنشر ، قم ، الطبعة الأولى.

١٧ ـ شرايع الإسلام ، المحقّق الحلّي ، نجم الدين جعفر بن الحسن ، طبعة النجف الأشرف.

١٨ ـ الصحاح ، إسماعيل بن حماد الجوهري ، دار العلم للملايين ، بيروت (الطبعة الثالثة).

١٩ ـ العين ، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي ، منشورات دار الهجرة ، قم ، الطبعة الأولى.

٢٠ ـ فرائد الأُصول ، الشيخ الأنصاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

٢١ ـ القاموس المحيط ، مجد الدين محمّـد بن يعقوب الفيروزآبادي.

٢٢ ـ قواعد الأحكام ، العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهر ، المطبوع ضمن سلسلة الينابيع الفقهية.

٢٣ ـ الكافي ، الشيخ الكليني ، أبي جعفر محمّـد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، الطبعة الثالثة.

٢٤ ـ كتاب الطهارة ، للشيخ الأنصاري قدس‌سره ، حجري ، طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥ ـ كتاب الطهارة ، للسيد الخوئي ، طبعة صدر ، قم ، الطبعة الثالثة.

٢٦ ـ كشف الغطاء ، الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، الطبعة الأولى.

٢٧ ـ كشف اللثام عن قواعد الأحكام ، فاضل الهندي بهاء الدين محمّـد بن

١٨٢

الحسن الاصفهاني ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي ، قم ، حجرية.

٢٨ ـ لسان العرب ، أبو الفضل جمال الدين محمّـد بن مكرم ابن منظور ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة الأولى.

٢٩ ـ مباني تكملة المنهاج ، السيّد الخوئي ، طبعة دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت.

٣٠ ـ مجمع الفائدة والبرهان ، المحقّق الاردبيلي ، أحمد الاردبيلي ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة الأولى.

٣١ ـ مصباح الفقيه ، آقا رضا الهمداني ، المؤسّسة الجعفرية ، قم ، الطبعة الأولى.

٣٢ ـ مرآة العقول ، العلاّمة المجلسي ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، الطبعة الثانية.

٣٣ ـ معجم رجال الحديث ، للسيّد الخوئي ، مركز نشر الثقافة الإسلامية ، قم ، الطبعة الخامسة.

٣٤ ـ معجم مقاييس اللغة ، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ، مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، تحقيق عبد السلام محمّـد هارون.

٣٥ ـ مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة ، السيّد محمّـد جواد الحسيني العاملي ، الطبعة الحديثة.

٣٦ ـ المفردات في غريب القرآن ، أبو القاسم بن محمّـد الراغب الاصفهاني.

٣٧ ـ من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق ، محمّـد بن علي بن الحسين ابن بابويه ، دار صعب ودار التعارف للمطبوعات ، بيروت.

٣٨ ـ وسائل الشيعة ، محمّـد بن الحسين الحرّ العاملي ، طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام ، قم ، الطبعة الأولى.

١٨٣

النظرية الأُصولية .. نشوؤها وتطوّرها

تاريخ علم الأُصول

وتطور الأفكار الأُصولية

(٢)

السـيّد زهير الأعرجي

تعرضنا إلى تاريخ علم الأُصول ، وتطور الافكار الأُصولية ، مروراً بالمدارس الأُصولية في التاريخ الامامي ، وعوداً على بدء نستأنف البحث ...

الشيخ الطوسي : عصر تطبيق النظرية الأُصولية :

ارتبط عصر التأسيس العلمي لأُصول الفقه بانتقال الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ) إلى النجف سنة ٤٤٨ هـ واستقراره فيها وفتح باب التدريس لمصنّفاته الشهيرة : المبسوط وعُدّة الأُصول وتهذيب الأحكام والاستبصار والتبيان والفهرست في أسماء المصنّفين من الشيعة.

النجف وتأسيس الحوزة :

فالنجف ، كمدينة مقدّسة ، بدأ تاريخها منذ اكتشاف قبر الإمام علي عليه‌السلام سنة ١٧٠ هـ بعد أن كان مجهولاً للناس عدا القلّة المنتخَبة من الأصحاب ، أمّا تاريخها العلمي ، فإنّه بدأ ـ حسب المشهور ـ بهجرة الشيخ الطوسي إليها سنة ٤٤٨ هـ وتأسيس المؤسّسة العلمية الشريفة التي عُرفت في ما بعد بـ (الحوزة العلمية) ...

١٨٤

ولكنّ ابن طاووس ذكر في كتابه فرحة الغري أنّ : «عضد الدولة البويهي (فناخسرو) زار النجف الأشرف سنة ٣٧١ هـ ، وقام أثناء زيارته هذه بتوزيع المال على الفقهاء» (١). وهذا النصّ ـ فيما لو ثبت سنده ـ يدلّ على ظهور الحركة العلمية الشيعية قبل أقلّ من قرن من الزمان من المشهور عن زمن تأسيس الحوزة العلمية ، ويؤيّده أنّ اختيار الشيخ الطوسي للتوجّه نحو النجف لتنشيط الحوزة العلمية لم يكن قراراً منفرداً ، بل كانت له حيثيّاته الموضوعية والتاريخية التي شجّعته على التوجّه إلى تلك المدينة المشرّفة مباشرة دون غيرها من مدن الطائفة ، ولو أُضيف إلى ذلك الإلهام الذي يستمدّه الفقيه بمجاورته مرقد باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لازدادت قناعتنا بأنّ تلك المدينة العريقة كانت أهلاً لاحتضان علوم الشريعة بأرقى مستوياتها ، وما ميّز النجف في عصر الشيخ الطوسي عن غيره من العصور أنّ علمي الفقه والأُصول انتقلا إلى طراز متطوّر في عمرهما المديد.

موارد بناء علم الأُصول :

ولا شكّ أنّنا لا نستطيع استيعاب فكرة النظريات الأُصولية التي طرحها الشيخ الطوسي في حوزة النجف العلمية في منتصف القرن الخامس الهجري ما لم ندرس بإسهاب أربعة موارد أصولية مهمّة للغاية في بناء علم الأُصول وتطوّره لاحقاً على أيدي فقهائنا الأعلام ، وهي :

أ ـ تطبيق النظريات الأُصولية في الفقه.

__________________

(١) فرحة الغري : الباب الرابع عشر : فيما ورد عن جماعة أعيان من العلماء والفضلاء.

١٨٥

ب ـ التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية.

ج ـ حجّية خبر الواحد.

د ـ حجّية الإجماع.

أ ـ تطبيق النظريات الأُصولية في الفقه :

لقد كان الشيخ الطوسي يطمح إلى تطوير شامل في علمي الفقه والأُصول خصوصاً بعد أن أحسّ بالحاجة إلى منهجة الفقه الإمامي منهجة علمية استدلالية بعيدة عن العرض المجرّد للنصوص ، وقد كان كتاب عدّة الأُصول مرآة لذلك التطوير النوعي ، وكان كتاب المبسوط في الفقه تعبيـراً واضحاً عن التطوّر الملحوظ الذي وصلت إليه البحوث الفقهية ، وكتاب تهذيب الأحكام كان محاولة استدلالية رائعة لتطبيق النظريّات الأُصولية التي آمن بها على المفردات الفقهية الخاصّة ، وقد عبـّرت مقدّمة كتاب التهذيب عن ذلك ؛ فقال في خطبة الكتاب : «... وأن أترجم كلّ باب على حسب ما ترجمه [يعني أستاذه الشيخ المفيد في كتاب المقنعة] ، وأذكر مسألة مسألة ، فأسـتدلّ عليها :

* إمّا من ظاهر القرآن ، أو من صريحه ، أو فحواه ، أو دليله ، أو معناه.

* وإمّا السنّة المقطوع بها من الأخبار المتواترة أو الأخبار التي تقترن إليها القرائن التي تدلّ على صحّتها.

* وإمّا من إجماع المسلمين إن كان فيها ، أو إجماع الفرقة المحقّة.

* ثمّ أذكر بعد ذلك من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك.

* وأنظر في ما ورد ـ بعد ذلك ـ ممّا ينافيها ويضادّها ، وأبيّن الوجه فيها : إمّا بتأويل أجمع بينها وبينها ، أو أذكر وجه الفساد فيها ، إمّا من ضعف

١٨٦

إسنادها ، أو عمل العصابة بخلاف متضمّنها.

* فإذا اتّفق الخبران على وجه لا ترجيح لأحدها على الآخر ، بينتُ أنّ العمل يجب أن يكون بما يوافق دلالة الأصل وترك العمل بما يخالفه.

* وكذلك إن كان الحكم مما لا نصّ فيه على التعيين حملته على ما يقتضي الأصل.

* ومهما تمكّنتُ من تأويل بعض الأحاديث من غير أن أطعن في إسنادها ، فإنّي لا أتعدّاه. وأجتهد أن أروي في معنى ما أتأوّل الحديث عليه حديثاً آخر يتضمّن ذلك المعنى ، إمّا من صريحه ، أو فحواه ، حتّى أكون على الفتيا والتأويل بالأثر ، وإنّ هذا ممّا لا يجب علينا ، لكنّه ممّا يؤنس بالتمسّك بالأحاديث.

وأجري على عادتي هذه إلى آخر الكتاب ، وأوضّح إيضاحاً لا يلتبس الوجه على أحد ممّن نظر فيه» (١).

أمّا في كتاب المبسوط في فقه الإمامية فقد كسر الشيخ الطوسي حاجز الاستعراض الروائي ودخل بقدرة فائقة إلى رحاب الاستدلال الشرعي والعقلي للمسائل الفقهية ، وكان ذلك يتمّ عبر تسليط الضوء على الجوانب الاستدلالية للمفردات الفقهية في التحليل والتعليل والتأصيل والتفريع والنقد والتجريح ، وكان تطبيق القواعد الأُصولية إلى جانب استنطاق النصوص من أهمّ ميّزات الاستدلال في كتاب المبسوط في فقه الإمامية ؛ فقد ذكر في شرح منهجية بحثه الاستدلالي نحواً من القواعد منها :

* ... وإذا كانت المسألة أو الفرع ظاهراً أقنع فيه بمجرّد الفتيا.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : المقدّمة.

١٨٧

* وإذا كانت المسألة أو الفرع غريباً أو مشكلاً أومئ إلى تعليلها ووجه دليلها ليكون الناظر فيها غير مقلّد ولا متحيّر.

* وإذا كانت المسألة أو الفرع ممّا فيه أقوال العلماء ذكرتها وبيّنت عللها والصحيح منها والأقوى ، وأنبّه على جهة دليلها ، لا على وجه القياس ، وإذا شبّهتُ شيئاً بشيء فعلى جهة المثال ، لا على وجه حمل إحداهما على الأخرى أو على وجه الحكاية عن المخالفين دون الاعتبار الصحيح (١).

ب ـ التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية :

وقد حاول الشيخ الطوسي التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية ، وكان يقصد بالأدلّة الإجمالية القواعد المشتركة في علم الأُصول ، ويقصد بالأدلّة التفصيلية الأدلّة الفقهية الخاصّة بمواردها الموضوعية ؛ فيقول في الفصل الأوّل من عدّة الأُصول في معرض حديثه عن ماهية أصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها : (أصول الفقه هي أدلّة الفقه ، فإذا تكلّمنا في هذه الأدلّة فقد نتكلّم في ما تقتضيه من إيجاب وندب وإباحة وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة. وليس يلزم عليها أن تكون الأدلّة الموصلة إلى فروع الفقه الكلام على ما في أصول الفقه ؛ لأنّ هذه الأدلّة أدلّة على تعيين المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل) (٢).

ولا شكّ أنّ التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية لم يكن نتيجة مجرّدة من نتائج عدم الاقتصار على استعراض نصوص الكتاب

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ١ / ٣.

(٢) عُدّة الأُصول ١ / ٣.

١٨٨

المجيد وما يصحّ من السنّة المطهّرة فحسب ، بل إنّ ذلك التمييز نشأ لمعالجة الإشكاليّات المنبثقة عن استخدام القواعد الفقهية أو الأُصولية في عملية الاستنباط الشرعي أكثر من مرّة.

وقد لمحنا أوّل مرّة في كتب الشيخ الطوسي الفقهية طبيعة الصناعة الأُصولية التي لها أصولها وقواعدها المتميّزة ، ومع أنّ كتاب عُدّة الأُصول لم يتجاوز على الأغلب مباحث الألفاظ من الأوامر والنواهي ، ودلالات هيئات الألفاظ وموادّها ، إلاّ أنّ القيام بدراسة المسائل الأُصولية وتنقيح مواردها بشكل منفصل عن الفقه بصورة موضوعية يشعرنا بإدراك الشيخ الطوسي لأهميّة التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية. وهو ما توضّحت أهميّته الموضوعية لاحقاً في تشخيص بعض الموارد على صعيد مبادئ علم الاستنباط.

ج ـ حجّية خبر الواحد :

وكان التشابك بين علم الأُصول وعلم الكلام (أي علم أصول الدين) قد أدّى إلى إنكار حجّية خبر الواحد في تلك الفترة التأسيسية لعلم الأُصول ، فقد آمن بعض الفقهاء ، ومنهم السيّد المرتضى ، بأنّ خبر الواحد ـ وهو الرواية الظنّية التي لا نعلم صدقها بشكل قطعي ـ لا يمكن الاستدلال به على النطاق الفقهي ، لأنّ الدليل الأُصولي ينبغي أن يكون قطعياً ؛ فقالوا بعدم جواز التعبّد بخبر الواحد شرعاً وجعلوه بمنـزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً عند الشيعة ، وإن كان العقل يحكم بجواز التعبّد به ؛ ولذلك فإنّهم وجدوا أنفسهم في غنىً عن مناقشة مسائل التعارض والتراجيح والتخيير وطبيعة المراسيل.

فقد قال السيّد المرتضى في الذريعة : «اعلم إنّا إذا كنّا قد دلّلنا على

١٨٩

أنّ خبر الواحد غير مقبول في الأحكام الشرعية فلا وجه لكلامنا في فروع هذا الأصل الذي دلّلنا على بطلانه ؛ لأنّ الفرع تابع لأصله ، فلا حاجة بنا إلى الكلام على أنّ المراسيل مقبولة أو مردودة ، ولا على وجه ترجيح بعض الأخبار على بعض ، وفي ما يردّ له الخبر أو لا يردّ في تعارض الأخبار ، فذلك كلّه شغل قد سقط عنّا بإبطالنا ما هو أصل لهذه الفروع ، وإنّما يتكلّف الكلام على هذه الفروع من ذهب إلى صحّة أصلها ، وهو العمل بخبر الواحد ...) (١).

وذكر الشيخ ابن إدريس في مقدمة كتاب السرائر نقلاً عن السيّد المرتضى في الموصليّات قوله : «لابدّ في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم ... ولذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علماً ولا عملاً ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعاً للعلم ، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلاً فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذباً» (٢).

ولكنّ الشيخ الطوسي خالف أُستاذه السيّد المرتضى وأعلن إيمانه بحجّية خبر الواحد ؛ فقد رأى بخبر الواحد دليلاً قاطعاً يجوز التعبد به ، وإلى ذلك أشار شيخ الطائفة في عُدّة الأُصول : «من عمل بخبر الواحد فإنّما يعمل به إذا دلّ دليل على وجوب العمل به إمّا من الكتاب أو السنّة أو الإجماع ، فلا يكون قد عمل بغير علم» (٣). وقال في مكان آخر : «فأمّا ما اخترته من المذهب فهو إنّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا

__________________

(١) الذريعة ٢ / ٥٥٤ ـ ٥٥٥.

(٢) السرائر : المقدّمة ، طبعة حجرية.

(٣) عدة الأُصول ١ / ٤٤.

١٩٠

القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويّاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن واحد من الأئمّة عليهم‌السلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديداً في نقله ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبـر ـ لأنّه إن كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجباً للعلم ، ونحن نذكر القرائن فيما بعد ـ جاز العمل به» (١).

وقد كانت نظرية (حجّية خبر الواحد) للشيخ الطوسي موفّقة إلى أبعد الحدود ؛ فقد بقي الفقهاء يناقشونها منذ عصر الشيخ الطوسي حتّى عصر الشيخ الأنصاري ، وقد انقسم أصحاب الرأي فيها ـ منذ عهد الشيخ الطوسي حتى عهد المحقّق الحلّي وما بعده ـ إلى معسكرين.

الأوّل : المعسكر المنكِر لحجّية العمل بخبر الواحد.

الثاني : المعسكر المؤيّد لحجّية العمل بخبر الواحد.

ولا شكّ أنّ المعسكر الثاني كان قد انتصر في معركته الفكرية منذ عهد المحقّق الحلّي ، وفي هذا الحيّز من الفكر الأُصولي ؛ فإنّ من المهمّ ملاحظة الأدلّة التي قُدّمت لاحقاً من قبل الفقهاء على مدى القرون العشرة اللاحقة على انتهاء عصر الشيخ الطوسي ؛ فإنّنا بذلك اللحاظ سوف ندرك قوّة تفكير الشيخ رضوان الله عليه.

أدلّة المنكرين للعمل بخبر الواحد :

وقد استدلّ هذا المذهب القائل بعدم حجّية خبر الواحد على نظريته بثلاثة وجوه :

__________________

(١) عدة الأُصول ١ / ٥١.

١٩١

الأوّل : دعوى الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، وقد أُشكل على هذا الدليل بأنّ الإجماع المنقول هو من أفراد خبر الواحـد ، ولا شكّ أنّ عدم حجّية خبر الواحد تُثبِت بالضرورة عدم حجّية الإجماع المنقول ، ولذلك فإنّنا لا نستطيع نفي حجّية خبر الواحد عن طريق الإجماع المنقول ...

يضاف إلى ذلك أنّ المشهور بين الفقهاء هو حجّية خبر الواحد ، عدا خمسة فقهاء هم : السيّد المرتضى والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس الذين آمنوا جميعاً بعدم حجّيته ، ولكن هؤلاء الفقهاء بمجموع آرائهم وفتاويهم لا يمكن أن يشكّلوا إجماعاً منقولاً.

الثاني : الروايات الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب والسنّة وكذلك الروايات الناهية عن العمل بالخبر الذي لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو سنّة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد رُدّ على هذا الإشكال بالقول : بأنّ المراد من المخالفة في هذه الأخبار هي تلك المخالفة التي تقع بحيث لا يكون بين الخبر وكتاب الله جمع عرفي ، كما في حالتي كون الخبر مخالفاً للقرآن بنحو التباين أو العموم من وجه ، وفي هاتين الحالتين لا يكون الخبر حجّة بكل تأكيد ، وهو بحث خارج عن نقاشنا هنا ، أمّا الأخبار المخالفة للقرآن بنحو التخصيص أو التقييد فلا تندرج تحت هذا اللون من الروايات ، لأنّنا نعلم بصدور المخصّص لعمومات القرآن المجيد والمقيد لإطلاقاته عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وفي حالة الأخبار الدالة على المنع عن العمل بخبر الواحد عندما لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب أو سنّة ، فقد ورد : أن هناك أخباراً متعارضة يُعلم بصدورها ولا شاهد لها من الكتاب والسنّة ؛ فلابدّ من حمل

١٩٢

هذه الأخبار على صورة التعارض ، كما نوقش في محلّه في علم الأُصول.

الثالث : الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، كقوله تعالى : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) ، وقوله تعالى : (اَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ...) (٢) وقد رُدّ على هذا الدليل بالقول بأنّ تلك الآيات الشريفة لا دلالة لها على عدم حجّية خبر الواحد أصلاً ، بل إنّ مفادها هو حكم إرشادي وهو إرشاد المكلّف إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم كمؤمِّن له من العقاب ، وعدم جواز الاكتفاء بالظنّ به بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل.

أدلّة المجوّزين للعمل بخبر الواحد :

وقد استدلّ هذا المذهب الذي يرى جواز حجّية خبر الواحد على نظريّته بالأدلّة الأربعة ، وهي :

الأوّل : الكتاب المجيد ومنها : آية النبأ وهي قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (٣). وقد استدلّ على هذه الآية بتقريبات ثلاثة وهي :

التقريب الأوّل : إنّ خبر الفاسق له جهتان ، الأولى : ذاتية ، وهو كونه خبر واحد ، والثانية : عرضية ، وهي كونه خبر فاسق ، حيث إنّ الفسق ليس ذاتيّاً للإنسان الفاسق ، ومقتضى التحقيق هو الجهة الثانية ، أي الجهة

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٣٦.

(٢) سورة يونس ١٠ : ٣٦.

(٣) سورة الحجرات ٤٩ : ٦.

١٩٣

العرضية ..

كما قال الشيخ الأنصاري في رسائله (١) :

«فوجوب التبيّن في خبر الفاسق إنّما كان من أجل فسقه ، إذ لو كانت العلّة في وجوب التبيّن هي الجهة الذاتية ، لكان العدول عن الذاتي إلى العرضي قبيحاً». أي وبمعنى آخر لكان العدول عن خبر الواحد إلى خبر الفاسق خارجاً عن طريق المحاورة العرفية.

التقريب الثاني : وهو الاستدلال بمفهوم الشرط ، فقد عُلّق وجوب التبيّن في خبر الواحد على كون الآتي به فاسقاً ؛ فينتفي المشروط ـ وهو وجوب التبيّن ـ عند انتفاء الشرط ، كما هو متّفق عليه في القضايا الشرطية ، أمّا إذا كان حامل الخبر غير فاسق ، بل ولنفترض أنّه كان عادلاً ، فلا يجب التبيّن حينئذ.

التقريب الثالث : وهو الاستدلال بمفهوم الوصف ؛ فقد أوجب المولى عزّ وجلّ التبيّن عن خبر الفاسق ، ولكنّ التبيّن ـ ذاته ـ ليس من الواجبات النفسية أو الذاتية ، بل إنّ وجوب التبيّن في خبر الفاسق هو من أجل ترتيب الأثر عليه ، فيكون ـ عندئذ ـ مقتضى التعليق على الوصف أنّ العمل بخبر غير الفاسق لا يوجب التبيّن ، وإلاّ لكان التعليق بخبر الفاسق لغواً.

وقد استدلّ بآيات أخر مفصّلة يمكن مراجعتها من مظانّها.

الثاني : الروايات التي استدل بها على حجّية خبر الواحد :

ومنها : الأخبار العلاجية الواردة في الخبرين المتعارضين من الأخذ

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ / ١١٦.

١٩٤

بالأعدل والأصدق والمشهور ، والتخيير عند التساوي ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة ، حيث يقول : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث» (١) ، ورواية غوالي اللئالي المروية عن العلاّمة والمرفوعة إلى زرارة : «قال : يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نأخذ؟ قال : خُذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ، قلت : فإنّهما معاً مشهوران ، قال : خُذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك» (٢) ، ودلالة هذه الروايات ونحوها على اعتبار الخبر غير المقطوع الصدور واضحة ولا تحتاج إلى مزيد من البيان.

ومنها : الأخبار الآمرة بالرجوع إلى رواة معيّنين بأسمائهم ، مثل إرجاعه عليه‌السلام إلى زرارة بقوله عليه‌السلام إلى أحد السائلين : «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس مشيراً إلى زرارة» (٣).

ومنها : الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الثقات كقوله عليه‌السلام لعلي بن المسيّب بعد السؤال عمّن يأخذ عنه معالم الدين : «عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا» (٤) ، وظاهر هذه الرواية أنّ قبول قول الثقة كان من الأمور المفروغ منها عند الراوي ؛ فسأل عن وثاقة من يأخذ عنه معالم الدين حتّى يُرتّب عليها أخذ القضايا الشرعية منه.

وبكلمة ، فإنّ المتيقّن من حجّية العمل بخبر الثقة هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء بل يقبّحون

__________________

(١) الكافي ١ / ٦٨.

(٢) غوالي اللئالي ٤ / ١٣٣.

(٣) بحار الانوار ٢ / ٢٤٦ ، رجال الكشي : ١٣٦.

(٤) بحار الأنوار ٢ / ٢٥١ ، رجال الكشي : ٥٩٥.

١٩٥

التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال ، كما آمن بذلك فقهاؤنا العظام رضوان الله عليهم جميعاً.

الثالث : الإجماع ، وقد استدلّ لحجّية خبر الواحد بالإجماع ، وهو تتبّع أقوال العلماء خلال العصور المتعاقبة ، فيحصل من ذلك القطع بالاتفاق الكاشف عن رضا الإمام عليه‌السلام بالحكم أو وجود نصّ معتبر في المسألة ، ولم يحضَ رأي السيّد المرتضى وأتباعه المخالِف للمشهور بعناية ما ، كما أشار الشيخ الطوسي إلى ذلك في (عدّة الأُصول) ، وقد أجمع علماء الشيعة بعد الشيخ الطوسي على حجّية خبر الواحد ، ما عدا ابن زهرة وابن إدريس كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً.

الرابع : العقل ، وقد استدلّ به في إثبات حجّية خبر الواحد ؛ فممّا يطمئننا بعد أكثر من ألف عام على انقضاء عصر النصّ أنّ أكثر الأخبار بل جُلّها ، إلاّ ما شذّ وندر ، قد صدرت يقيناً عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ووصلتنا كما هي دون زيادة أو نقصان ، ويؤيّد ذلك اعتناء رواة الشيعة الأجلاّء من أصحاب الأئمّة وفقهائهم بنقل الأحاديث ؛ فقد روي عن حمدويه ، عن أيوب بن نوح : «إنّه دفع إليه دفتراً فيه أحاديث محمّـد بن سنان ، فقال : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا ، فإنّي كتبتُ عن محمّـد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه شيئاً ، فأنّه قال قبل موته : كلّ ما حدّثتكم به فليس بسماع ولا برواية ، وإنّما وجدته» (١) ..

فهذا الاحتياط في الرواية عمّن لم يسمع من الثقات دليل قوي على شدّة عناية الأصحاب بالروايات المنقولة إلينا وصحّتها. ولكن ، ومع كلّ

__________________

(١) رجال الكشي : ٥٠٧.

١٩٦

ذلك ، لابدّ من البحث عن الرواة الثقات بحثاً علميّاً دقيقاً ، وهذا ما سنتناوله في كتاب آخر عند مناقشتنا النظرية الرجالية ؛ فنحن نعلمُ إجمالاً بقطعية صدور الكثير مما بأيدينا من الأخبار عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام ، ولعلّ الداعي إلى شدّة الاهتمام بالروايات يكمن في أنّ في نقلها بصدق : أساس الدين وقوام الشريعة ؛ فليس غريباً أن نلمس آثار قول الإمام عليه‌السلام في شأن جماعة من الرواة الثقات : «لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست» (١).

د ـ حجّية الإجماع :

ولا شكّ أنّ توسّع البحوث الفقهية وتغيّر الحياة الاجتماعية وبعدها عن عصر النصوص الشرعية ، دفع الفقهاء إلى التفتيش عن أدلّة جديدة للاستنباط خصوصاً في حالات عدم وجود نصّ معيّن أو في حالات عدم اقتناعهم بسلامة ذلك النصّ من حيث السند أو الدلالة.

وقد أثمر ذلك التفتيش العلمي الدقيق فكرة مفادها : إنّ إجماع فقهاء الطائفة في عصر واحد على حكم شرعي يعدّ دليلاً على وجود نصّ من الشارع يجوّز الاعتماد عليه ، إذ يستحيل عقلاً أن يجمع فقهاء الأمّة على حكم ما من دون أن يحصل منهم من ينشقّ عليهم ويصيب الواقع.

الإجماع أداة كشف :

فالإجماع ـ في واقعه ـ ليس دليلاً بذاته ، بل أداة من أدوات الكشف المشروطة عن السنّة ، أي أنّ الإجماع لا يكون دليلاً ما لم يؤيّده دليل قاطع

__________________

(١) الوسائل ١٨ / ١٠٣.

١٩٧

من الكتاب والسنّة ، وبموجب هذا الفهم ، فإنّ مصادر التشريع تبقى محصورة في الكتاب والسنّة ، وهذا التقريب قد يفسّر لنا تحفّظ السيّد المرتضى على إدراج مسألة الإجماع في الأدلّة الأربعة ، فقال في جوابات المسائل الموصليّات الثالثة جواباً عن سؤال كان قد ورده عن (حكم المسألة الشرعية التي لا دليل عليها من الكتاب والسنّة) : «هذا الذي فرضتموه قد أمنّا وقوعه ، لأنّا قد علمنا أنّ الله تعالى لا يخلي المكلّف من حجّة وطريق إلى العلم بما كلّف ، وهذه الحادثة التي ذكرتموها ، وإن كان لله تعالى فيها حكم شرعي ، واختلفت الإمامية في وقتنا هذا فيها ، فلم يمكن الاعتماد على إجماعهم الذي نتيقّن بأنّ الحجّة فيه لأجل وجود الإمام في جملتهم ؛ فلابدّ من أن يكون على هذه المسألة دليل قاطع من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، حتّى لا يفوّت المكلّف طريق العلم الذي يصل به إلى تكليفه ...) (١).

ولكن برزت حجّية الإجماع بقوّة على الصعيد العلمي على يد الشيخ الطوسي بشكل خاصّ ، فهو بعد أن عقد باباً خاصّاً عن (الكلام في الإجماع) فإنّه فصّل فيه القول ، فذكر أوجهاً لدليلية الإجماع فقال : «والذي نذهب إليه أنّ الأمّة لا يجوز أن تجتمع على خطأ وأنّ ما يجمع عليه لا يكون إلاّ صواباً وحجّة ، لأنّ عندنا أنّه لا يخلو عصر من الأعصار من إمام معصوم حافظ للشرع يكون قوله حجّة يجب الرجوع إليه كما يجب الرجوع إلى قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد دلّلنا على ذلك في كتابنا (تلخيص الشافي) واستوفينا كلّ ما يُسأل عن ذلك من الأسئلة ...» (٢) ..

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ / ٢١٠.

(٢) عدّة الأُصول ٢ / ٢٣٢.

١٩٨

وفي موضع آخر يتعرّض بشكل أدقّ لنظريّته في حجّية الإجماع ، فيقول : «فالذي نقوله : إنّهم إذا أجمعوا [أي الفقهاء] على العمل بمخبـر خبر وكان الخبر من أخبار الآحاد ـ لأنّه إذا كان من باب المتواتر فهو يوجب العلم فلا يحتاج إلى الإجماع ـ فيكون قرينة في صحّته فإنّه يحتاج أن ينظر في ذلك : فإن أجمعوا على أنّهم قالوا ما قالوه لأجل ذلك الخبر قطعنا بذلك على أنّ الخبر صحيح صدق ، وإن لم يظهر لنا من أين قالوه ولم ينصّوا لنا على ذلك فإنّا نعلم بإجماعهم أن ما تضمّنه الخبر صحيح ، ولا يعلم بذلك صحّة الخبر لأنّه لا يمتنع أن يكونوا [قد] قالوا بما وافق مخبر الخبر بدليل آخر أو خبر آخر أقوى منه في باب العلم أو سمعوه من الإمام المعصوم عليه‌السلام فأجمعوا عليه ولم ينقلوا ما لأجله أجمعوا اتكالا على الإجماع».

ويتبيّن من هذا النـصّ أنّ الاستدلال بحجّية الإجماع ـ باعتباره كاشفاً مستقلاًّ عن الخبر ـ طريقة من الطرق العقلية أو الشرعية في إصابة الواقع ، عند الشيخ الطوسي ، وهذا الاستدلال ألغى تحفّظ السيّد المرتضى بشأن اشتراط وجود دليل قاطع بأيدينا من كتاب أو سنّة ؛ فلربّما توفّر ذلك الدليل القاطع من كتاب أو سنّة عند المجمعين السابقين لا عندنا ، وهذا الدليل قدّم سنداً قوياً لعملية الاستنباط ، فبفضله أصبحت العملية الاجتهادية الشرعية تقوم على أربعة عناصر بدل ثلاثة كما كان معروفاً في السابق ، وهي : الكتاب والسنّة والعقل والإجماع ، وعندها أصبح التعبّد بخبر الواحد والإجماع من أدوات الاجتهاد ، بحيث يمكن الاستدلال بهما على النطاق الفقهي في عملية الاستنباط.

١٩٩

الفصل الثالث

العقبات التاريخية التي حاولت تقويض

المباني الأُصولية

مقدّمة :

لا شكّ أنّ أهمّ العقبات التي وقفت بوجه علم الأُصول ، كانت قد تمثّلت في الاتجاهات الفلسفية والدينية التي وقفت ضدّ العقل والإدراك العقلي كحجّة معتبرة متطابقة مع الحجج الشرعية ، وبطبيعة الحال فإنّ علم الأُصول لم يتناول يوماً ما الإدراكات العقلية مجرّدة فحسب ، بل تناول أيضاً البيانات الشرعية في الكتاب المجيد والسنّة المطهّرة من قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

إلاّ أنّ تلك العقبات على ضخامتها وتحدّيها الصارخ لدور العقل والدليل العقلي في احتلال موقعه الطبيعي في ساحة الكشف عن الأحكام الشرعية ، لم تستطع تحطيم الأساس الفكري الذي بُني عليه علم الأُصول ؛ فقد وقف علم الأُصول ـ على لسان الفقهاء المؤمنين بدوره الحساس في عملية استنباط الأحكام الشرعية ـ فوق كلّ تلك التحدّيات الفكرية التي لبست إطاراً شرعيّاً وتاريخيّاً مقنّعاً بظاهر الدليل ، بل إنّ تلك العقبات التي صُمّمت بالأصل لتحطيم علم الأُصول وضعت في أحشائه ـ من دون قصد ـ بذور النمو والتطوّر نحو مراحل عليا في الإدراك والفهم الإنساني للوظيفة الشرعية ، في ما يخصّ التكليف الإلهي ، وسوف نناقش بعض تلك العقبات ، ومنها : الفلسفة الأخبارية والمذهب الحسّي والنـزعة الصوفية.

٢٠٠