عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

عباداتهم وحركاتهم أمثلة لعبادات أهل الحق ، وأشباحا لنسك العارفين.

والشقية نفوس منغمسة في عالم الطبيعة ، متنكّسة رؤوسها لانكبابها على الشهوات واللذّات الحسّية ، والتغلّبات الحيوانية ، فهي الّتي كفرت بأنعم الله ، وصرفت قواها الشهوية والغضبية في غير ما خلقت لأجله ، وضلّت ضلالا بعيدا ، وخسرت خسرانا مبينا.

وهي مع هذه الشقاوة والفاحشة غير خالية عن عشق وشوق إلى طلب الخير الأقصى، والحق الأعلى ، بحسب غريزتها وطبيعتها الفطرية الّتي فطر الناس عليها ؛ وذلك لأنها إنّما طلبت ما طلبت ، وعشقت ما عشقت من المشتهيات الدنية والحظّ الأدنى ؛ لأنها تصوّرت فيها الخيرية.

وقد دريت أن الوجود كله خير ، وأن الشرور إنّما هي بالإضافة ، فما هو شرّ بالنسبة إلى أمر ، فهو خير في نفسه ، أو بالإضافة إلى أمر آخر ، فالنفوس إنّما عشقت مستلذّاتها من جهة خيريّتها ، ولكنها لجهلها وعماها ذاهلة عن استلزام ذلك فوات الخيرات الكثيرة الّتي لا نسبة لها إلى هذه ، فرجع عشقها ـ إذن ـ إلى الخير ليس إلّا ، وبيّن أنّ الخير كله من عند الله عزوجل ، وبيده ، ومنه ، وبه ، بل إنّما سائر الخيرات رشح من خيره ، كما أن الوجودات كلّها رشح من وجوده ، فهي ـ إذن ـ ليس عشقها إلّا لله سبحانه بالحقيقة ، سواء كان بحسب الظاهر للمال والجاه ، أو الحسن والجمال ، أو غير ذلك.

من هنا قال صاحب الفتوحات : ما أحبّ أحد غير خالقه ، ولكن احتجب عنه تعالى ، بحب (١) زينب ، وسعاد ، وهند ، وليلى ، والدرهم ، والدينار ، والجاه ، وكلّ ما في العالم ، فأفنت الشعراء كلامها في الموجودات ، وهم لا يشعرون ،

__________________

(١) ـ في المخطوطة : تحت.

٤٢١

والعارفون بالله لم يسمعوا شعرا ، ولا لغزا ، ولا غزلا ، إلّا فيه من خلف حجاب العبودية ، فإنّ الحب سببه الجمال ، وهو له ؛ لأنّ الجمال محبوب لذاته ، والله جميل ، يحبّ الجمال ، فيحبّ نفسه.

وسببه الآخر الإحسان ، وما ثمّ إحسان إلّا من الله ، ولا محسن إلّا الله ، فإن أحببت للجمال فما أحببت إلّا الله ؛ لأنّه الجميل ، وإن أحببت للإحسان ، فما أحببت إلّا الله ؛ لأنّه المحسن ، فعلى كلّ وجه ما متعلّق المحبّة إلّا الله (١).

فصل

وليعلم أن النفس النطقية ، والحيوانية أيضا بجوار النطقية ، أبدا تعشقان كلّ شيء حسن النظم والتأليف والاعتدال ، مثل المسموعات الموزونة وزنا متناسبا ، والمذوقات المركّبة من أطعمة مختلفة بحسب التناسب ، وما شابه ذلك.

أما النفس الحيوانية فبنوع تقليد طبيعي ، وأمّا النفس الناطقة فإنّها إذا سعدت بتصوّر المعاني الغالبة على الطبيعة ، وعرفت أن كلّ ما قرب من المعشوق الأوّل فهو أقوم نظاما ، وأحسن اعتدالا ، وبالعكس ، إذ ما يليه أفوز بالوحدة وتوابعها ، كالاعتدال والاتفاق ، وما يبعد عنه أقرب إلى الكثرة وتوابعها ، كالتفاوت والاختلاف ، على ما أوضحه الإلهيّون.

فمهما ظفر بشيء حسن التركيب لاحظه بعين المقة ويلتذّ به ، ولمّا كانت لذّته رشحا للذّة أمر عقلي ذاتا ، أو صفة ، أعني ربّ نوعه الّذي هو من عالم العقل ، كما أن وجوده تابع لوجوده ، وكانت آثار الجواهر العقلية في هوية

__________________

(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٢ : ٣٢٦.

٤٢٢

الإنسان الطبيعي لكونه تامّ الخلقة أكثر ، كان الالتذاذ به أكثر من سائر المركّبات والبسائط الطبيعية.

فصل

والعلّة في كون حدث السنّ من أهل الزينة والجمال مرغوبا مشتهى ، دون الممعن في السنّ منهم ، أن الإنسان متقلّب الهوية في درجات الوجود ؛ لأنّ وجوده في أوّل الأمر بالقوة، ثمّ في مقام الطبيعة ، ثمّ في مقام الحسّ ، ثمّ في مقام النفس ، على مراتبها ، ثمّ في مقام العقل على درجاته.

وهذه اللّذات الشهوية أكثرها حسّية محضة ، أو نفسانية ممزوجة بآثار الطبع ، ولهذا يتعلّق الميل الشهوي بأوائل وجود الإنسان الجميل ، دون ثوانيه ، وأواخره ، سيّما وقد يحدث فيها من ذمائم الصفات ما يحدث في مقام النفس ، ويسري حكمها من الباطن إلى الظاهر.

وقد تجتمع هذه النشآت في شخص واحد ، طالب ، أو مطلوب ، فيلتذّ رجل واحد من صحبة الأحداث والنسوان ، وأهل الطرب ، والرقص ، والغناء ، بحصة طبيعته وحسّه ، ومن صحبة الظرفاء والشعراء ، وأهل الصناعات والعلوم الجزئية ، بحصّة نفسه وخياله ، ومن صحبة الحكماء الكاملين ، وأهل التقوى والزهادة ، بحصّة عقله وروحه.

فصل

وأمّا الحكمة في ذلك ، فهي أن الأطفال والصبيان لمّا استغنوا عن تربية الآباء والأمّهات ، فهم بعد محتاجون إلى تعليم الاستاذ من المعلّمين لهم العلوم

٤٢٣

والصنائع ، ليبلغهم إلى التمام والكمال ، فمن أجل ذلك يوجد في الرجال البالغين رغبة في الصبيان ، ومحبّة للغلمان ، ليكون ذلك داعيا لهم إلى تأديبهم ، وتهذيبهم ، وتكميلهم إلى البلوغ إلى الغايات المقصودة بهم ، وهذا موجود في جبلّة أكثر الأمم الّتي لها تعليم العلم ، والصنائع ، والآداب ، والرياضات ، مثل أهل فارس ، وأهل العراق ، وأهل الشام ، والروم ، دون غيرهم من الأمم الّتي لا تتعاطى العلوم والصنائع والآداب ، مثل الأكراد ، والأعراب ، والزنج ، والترك ، فإنّه قلّما يوجد فيهم ، وفي طبائعهم ، محبّة الغلمان ، وعشق المردان.

وهكذا الحكمة في سائر أنواع المحبّة من محبّة من محبّة الرجال للنساء ، وبالعكس ، ومحبّة الوالدين للولد ، والرؤساء للرئاسات ، وأهل الصنائع لصنائعهم ، إلى غير ذلك ، فإنّ ذلك كله إنّما ركزت في جبلّتهم لحفظ نظام العالم.

فصل

ثم إنّ الإنسان إذا أحبّ الصور المستحسنة لأجل لذّة حيوانية ، فهو مستحقّ للذم ، بل هو من اللئام ، مثل الفرقة الزانية ، والمتلوّطة ، وبالجملة الأمّة الفاسقة.

وعلامة ذلك أن يكون أكثر إعجابه بصورة المعشوق ، وخلقته ، ولونه ، وتخاطيط أعضائه ؛ لأنها أمور بدنية ، وهذا ممّا يقتضيه استيلاء النفس الأمّارة ، وهو معين لها على استخدامها القوّة العاقلة ، ويكون في الأكثر مقارنا للفجور ، والحرص عليه.

ومهما أحبّ الصورة المليحة باعتبار عقلي على ما أوضحناه ، عدّ ذلك

٤٢٤

وسيلة إلى الرفعة ، والزيادة في الخيرية ، لولهه لما هو أقرب في التأثير من المؤثر الأوّل ، والمعشوق المحض ، وأشبه بالأمور العالية الشريفة ، وذلك ممّا يؤهّله لأن يكون ظريفا ، وفتى لطيفا ؛ ولذلك لا يكاد أهل الفطنة من الظرفاء والحكماء ، ممّن لا يسلك طريقة المتعفّفين ، يوجد خاليا عن شغل قلب بصور حسنة إنسانية ؛ وذلك أن الإنسان مع ما فيه من زيادة فضيلة الإنسانية إذا وجد فائزا بفضيلة اعتدال الصورة الّتي هي مستفادة من تقويم الطبيعة ، واعتدالها ، بظهور أثر إلهي فيه جدّا ، استحقّ لأن ينحل من ثمرة الفؤاد مخزونها ، ومن صفر صفاء الوداد طيبه.

ومبدأ هذا العشق مشاكلة نفس العاشق لنفس المعشوق في الجوهر ، وعلامته أن يكون أكثر إعجابه بشمائل المعشوق ، وجودة تركيبه ، واعتدال مزاجه ، وحسن أخلاقه ، وتناسب حركاته ، وأفعاله ، وغنجه ، ودلاله ؛ لأنها آثار صادرة عن نفسه ، وهو يجعل نفس العاشق ليّنة شيّقة ، ذات وجد ورقّة ، منقطعة عن الشواغل الدنياوية ، معرضة عمّا سوى معشوقه ، جاعلة جميع الهموم همّا واحدا ، ولذلك يكون الإقبال على المعشوق الحقيقي أسهل على صاحبه من غيره ، فإنه لا يحتاج إلى الإعراض عن أشياء كثيرة ، وإليه أشار من قال : من عشق وعفّ ، وكتم ، ومات ، مات شهيدا (١).

وقيل : العشق العفيف أدنى سبب في تلطيف النفس ، وتنوير القلب ، إلّا أن ذلك أيضا إنّما يكون للمتوسّطين من الناس الّذين لم يشتغلوا بعد بالله سبحانه ، فإنّ من اشتغل بالله لم يشغله شيء عنه ، جلّ ذكره ، ولذلك لما سئل مولانا الصادق عليه‌السلام عن العشق ، فقال : «قلوب خلت من ذكر الله ، فأذاقها الله حبّ

__________________

(١) ـ تاريخ بغداد : ١٣ : ١٨٥ ، ح ٧١٦٠ ، وفيه «ثم مات» بدل «ومات».

٤٢٥

غيره» (١).

وقال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : إن هذا العشق وإن كان معدودا من جملة الفضائل ، إلّا أنه من الفضائل الّتي يتوسّط الموصوف بها بين العقل المفارق المحض ، وبين النفس الحيوانية ، ومثل هذه الفضائل لا تكون محمودة شريفة على الإطلاق في كلّ وقت ، وعلى كلّ حال من الأحوال ، وفي كلّ أحد من الناس ، بل ينبغي استعمال هذه المحبّة في أواسط السلوك العرفاني ، وفي حال ترقيق النفس وتنبيهها عن نوم الغفلة ، ورقدة الطبيعة ، وإخراجها عن بحر الشهوات الحيوانية.

وأمّا عند استكمال النفس بالعلوم الإلهية ، وصيرورتها عقلا بالفعل ، محيطا بالعلوم الكلية ، ذا ملكة الاتّصال بعالم القدس ، فلا ينبغي لها عند ذلك الاشتغال بعشق هذه الصورة المحسنة اللخمية ، والشمائل اللطيفة البشرية ؛ لأنّ مقامها صار أرفع من هذا المقام ، ولهذا قيل : المجاز قنطرة الحقيقة ، وإذا وقع العبور من القنطرة إلى عالم الحقيقة ، فالرجوع إلى ما وقع العبور عنه تارة أخرى يكون قبيحا ، معدودا من الرذائل.

ولا يبعد أن يكون اختلاف الأوائل في مدح العشق وذمّه ، من هذا السبب الذي ذكرناه ، أو من جهة أنه يشتبه العشق العفيف النفساني الّذي منشؤه لطافة النفس ، واستحسانها ، لتناسب الأعضاء ، واعتدال المزاج ، وحسن الأشكال ، وجودة التركيب بالشهوة البهيمية الّتي منشؤها إفراط القوّة الشهوانية.

وأمّا الّذين ذهبوا إلى أن هذا العشق من فعل البطّالين الفارغي الهمم ، فلأنّهم لا خبرة لهم بالأمور الخفيّة ، والأسرار اللطيفة ، ولا يعرفون من الأمور إلّا

__________________

(١) ـ أمالي الصدوق : ٦٦٨ ، ح ٣.

٤٢٦

ما تجلّى للحواس [وظهر للمشاعر الظاهرة] (١) ، ولم يعلموا أن الله لم يخلق شيئا في جبلّة النفوس إلّا لحكمة جليلة ، وغاية عظيمة (٢).

فصل

ثم إنّ عشق الصور الحسّية من الإنسان قد تتبعه أمور ثلاثة :

أحدها : حبّ معانقته.

والثاني : حبّ تقبيله.

والثالث : حبّ مباضعته.

فأما حبّ المباضعة ، فمهما تأمّل فيما سبق تيقّن عنده أن هذا العشق ليس إلّا خاصّا بالنفس الحيوانية ، وإن حصّتها فيه أنها فيه على مقام الشريك ، بل المستخدم لا على مقام الآلة ، وذلك قبيح جدا ، بل أنّى تخلص العشق النطقي ما لم تنقمع القوّة الحيوانية ، غاية الانقماع ، ولذلك بالحري أن يتّهم العاشق إذا راود معشوقه بهذه الحاجة. اللهمّ إلّا أن تكون هذه الحاجة منه بضرب نطقي ، يعني إن قصد به توليد المثل ، وذلك في الذكر من الناس محال ، وفي الأنثى المحرمة في الشرع قبيح ، بل لا ينساغ هذا القصد ، ولا يستحسن إلّا للرجل في امرأته ، أو مملوكته.

وأمّا المعانقة والتقبيل ، فإذا كان الغرض فيهما هو التقارب والاتّحاد ؛ وذلك لأنّ النفس تودّ أن تنال معشوقها بحسّها اللمسي ، نيلها بحسّها البصري ،

__________________

(١) ـ ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.

(٢) ـ الأسفار الأربعة : ٧ : ١٧٥.

٤٢٧

فتشتاق إلى معانقته ، وتنزع إلى أن يختلط سهم مبدأ الأفاعيل النفسانية ، وهو القلب ، بسهم مثله من المعشوق ، فتشتاق إلى تقبيله ، فليسا بمنكرين في ذاتيهما ، لكن استتباعهما بالعرض أمورا شهوانية فاحشة توجب التوقي عنهما ، إلّا إذا تيقّن من ميولهما خمود الشهوة والبراءة من البهيمية ، ولذلك لم يستنكر تقبيل الأولاد ، وإن كان مبدؤه مزعجا لتلك ؛ إذ كان الغرض فيه التداني والاتحاد ، لا الهمّ على فحش ، أو فساد.

فصل

إنّ مبدأ العشق وأوّله نظرة ، أو التفات نحو شخص من الأشخاص ، فيكون مثلها كمثل حبّة زرعت ، أو غصن غرس ، أو نطفة سقطت في الرحم ، ثمّ يكون ما باقي النظرات واللحظات بمنزلة ماء ينصبّ إلى هناك ، ويزيد وينشأ وينمو على ممرّ الأيام ، إلى أن يصير شجرة ، أو جسما ، وذلك أنّ أوّل همّة العاشق ومناه هو الدنوّ منه ، والقرب من ذلك الشخص ، فإذا اتّفق ذلك سهل تمنّي الخلوة والمحاورة ، فإذا سهل ذلك تمنّى المعانقة والقبلة ، فإن سهل ذلك تمنّى الدخول في ثوب واحد ، والالتزام بجميع الجوارح أكثر ما يمكن، ومع هذه كلّها الشوق بحاله لم ينقص شيئا ، بل ازداد ، كما قال قائلها :

أعانقها والنفس بعد مشوقة

إليها وهل بعد العناق تداني

وألثم فاها كي تزول حرارتي

فيزداد ما ألقى من الهيجان

فإنّ فؤادي ليس يشفي غليله

سوى أن يرى الروحين يتّحدان

٤٢٨

فصل

قيل : إذا تعانق العاشق والمعشوق جميعا ، وامتص كلّ واحد منهما ريق صاحبه ، وبلعه ، وصلت تلك الرطوبة إلى معدة كلّ واحد منهما ، وامتزجت هناك مع رطوبات المعدة، ووصلت إلى جرم الكبد ، واختلطت بأجزاء الدم هناك ، وانتشر في العروق الواردة إلى سائر أطراف الجسد ، فاختلط بجميع أجزاء البدن ، فصار لحما ، ودما ، وعروقا ، وعصبا ، وما شاكل ذلك.

وهكذا أيضا إذا تنفّس كلّ واحد منهما في وجه صاحبه ، خرج مع تلك الأنفاس شيء من نسيم روح كلّ واحد منهما ، واختلط بأجزاء الهواء ، فإذا استنشقا من ذلك الهواء دخل إلى خياشيمهما من أجزاء ذلك النسيم مع الهواء المستنشق ، ووصل بعضه إلى مقدّم الدماغ ، وسرى فيه كسريان النور في جرم البلور ، فاستلذّ كلّ واحد منهما ذلك النسيم.

ووصل أيضا أجزاء ذلك الهواء المستنشق إلى جرم الرئة في الحلقوم ، وما شاكل ذلك من أجزاء الجسد ، وانعقد في بدن هذا ما تحلّل من جسد هذا ، وفي جسد هذا ما تحلّل من بدن هذا ، فيكون من ذلك ضروبا من الامتزاجات ، ومن تلك الأمزجة ضروب الأخلاط ، كلّ ذلك بحسب أمزجة أبدانهما.

ومن شأن النفس أن تتبع مزاج الجسد في إظهار أفعالها وأخلاقها ؛ لأنّ مزاج الجسد وأعضاء البدن ومفاصله للنفس بمنزلة الآلات والأدوات للصانع الحكيم ، يظهر بها ، ومنها أفعاله ، فلهذه الأسباب والعلل الّتي ذكرناها يتولد العشق والمحبّة على ممرّ الأيام بين المتحابّين، وينشأ وينمو.

٤٢٩

فأما الّذي يتغيّر من المحبة وينفد بعد التأكيد فلأسباب يطول شرحها.

وكلّ محبّ لشيء من الأشياء مشتاق إليه ، هائم به ، متى وصل إليه ونال ما يهواه منه ، وبلغ حاجته من الاستمتاع والتلذّذ بقربه ، فإنّه لا بدّ يوما أن يفارقه ، أو يمله ، أو يتغيّر عليه ، وتذهب تلك الحلاوة ، وتتلاشى تلك البشاشة ، ويخمد لهب ذلك الاشتياق والهيمان ، إلّا المحبّين لله تعالى من المؤمنين والمشتاقين إليه من عباده وأوليائه الصالحين ، فإنّ لهم في كلّ يوم من محبوبهم قربة ومزيدا أبد الآبدين ، بلا نهاية ، ولا غاية.

أقول : وإلى هذا أشير بقوله عزوجل : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (١).

وقال مولانا الصادق عليه‌السلام : «ألا كلّ خلّة كانت في الدنيا في غير الله ، فإنّها تصير عداوة يوم القيامة» (٢).

فصل

وأمّا النفوس الفلكية ، فقد مرّ أنهم عشّاق لله ، مشتاقون إليه ، دائرون حول جنابه ، قد نالوا نيلا من حيث التفاتهم لفتة ، وعشقهم بما لديه ، وحجبوا عنه حجابا من حيث هواهم إلى عالم الطبع ، فيكون لهم ضرب من الشقاوة الضرورية ، إلّا أنه تنجبر في كلّ دهرهم لأجل استكمالهم التدريجي ، وخروجهم من القوّة إلى الفعل ، فيما ليس لهم من الكمال اللائق بحالهم ، فعند حصوله يحصل

__________________

(١) ـ سورة الزخرف ، الآية ٦٧.

(٢) ـ تفسير القمّي : ٢ : ٢٨٧.

٤٣٠

لهم القرب والمنزلة عند الله ، وتكون لهم بهجة جديدة بحسبها ، وبقدر ما يكون بالقوّة لها شوق ، والشوق لا يخلو عن أذى ، إلّا أن الأذى إذا كان من جهة معشوق نيل منه شيء عظيم ، وبقي شيء يسير ، يكون لذيذا.

وقد مثّلوا ذلك بالدغدغة ؛ لأنها مركّبة من لذّة وألم ، فهم واجدون في عين الحرمان ، واصلون حين الفرقان ، فلا محالة يغشاهم نوع دهشة وحيرة ، ويتأذّون أذى لذيذا ، لكونه من قبل أرحم الراحمين ، ومعشوق العالمين.

وهاتان الجهتان فيهم بإزاء الرجاء والخوف في الإنسان العالم الصالح.

فصل

وأمّا العقول المقدّسة فهم العشّاق بالحقيقة ؛ لأنّ ابتهاجهم به سبحانه لا غير ، وأمّا ابتهاجهم بذواتهم فليس من حيث هم هم ، بل من حيث كونهم مبتهجين به ؛ لأنهم إنّما يعرفون أنفسهم بالله سبحانه ، وكونهم عبيدا وخدما له ، مسخّرين ، فلذّتهم أيضا بذاته ، فهم على الدوام في مطالعة ذلك الجمال ، لا يرتدّ إلى أنفسهم طرفهم طرفة عين ؛ لاستهلاكهم في ذات الحبيب الأوّل.

ونحن نلتذّ بإدراك روائح الحقّ في أوقات متفرّقة من أيام دهرنا ، ما لا تقدر الألسن وصفها ، ونحن مصروفون عنه ، مردودون في قضاء حاجات ، منغمسون في تدبير الطبيعة البدنية ، إذا تعرّضنا على سبيل الاختلاس لنفحات الله في زمان قليل جدّا تكون كسعادة عجيبة.

وهذه الحالة للمقرّبين أبدا من غير مشوّش ، فكيف بهجتهم وسعادتهم؟ وكيف من بهّجهم وأسعدهم ، تعالى شأنه؟

٤٣١

فصل

ولمّا كانت العبادة متسبّبة عن العشق ، كما أشرنا إليه ، فإنّ العاشق عابد لمعشوقه لا محالة ؛ إذ العبادة ليست إلّا الإطاعة والانقياد ، وصرف الهمّة نحو الشيء ، وذلك إنّما يكون بالعشق ، أو يرجع إليه ، بل ورد في الحديث : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (١).

وكذلك الذكر متسبّب عن الشعور البسيط ، وقد تبيّن لك أنّ جميع الموجودات ذوات عشق وشعور ينتهيان إلى الله سبحانه ، فكلّهم عابدون له ، جلّ جلاله ، مطيعون إيّاه ، كما أنّهم عاشقون له ، شائقون إليه ، ولهم دين فطريّ ، جبلّية له لا يتصوّر فيها عصيان أصلا ، فلكلّ وجهة هو مولّيها ، يحنّ إليها ويقتبس بنار الشوق نور الوصول لديها ، وإليه أشير له بقوله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٢).

قال صاحب الفتوحات : خلق الله الخلق ليسبّحوه ، فنطقهم بالتسبيح له ، والثناء عليه ، والسجود له ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٣).

وقال أيضا : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) ـ الكافي : ٦ : ٤٣٤ ، ح ٢٤ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ـ سورة الإسراء ، الآية ٤٤.

(٣) ـ سورة النور ، الآية ٤١.

٤٣٢

وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) (١).

وخاطب بهاتين الآيتين نبيّه الّذي أشهده ذلك ، ورآه ، فقال : «ألم تر» ، ولم يقل: «ألم تروا» ، فإنّا ما رأيناه ، فهو لنا إيمان ، ولمحمّد عيان ، فأشهده سجود كلّ شيء ، وتواضعه لله ، وكلّ من أشهده الله ذلك ورآه دخل تحت هذا الخطاب ، وهذا تسبيح فطري، وسجود ذاتي ، عن تجلّ تجلّى لهم ، فأحبّوه ، فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف ، بل اقتضاء ذاتي.

وهذه هي العبادة الذاتية الّتي أقامهم الله فيها بحكم الاستحقاق الّذي يستحقّه.

وقال في أهل الكشف وعامّة الإنس وكلّ عاقل : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٢) ، أخبرهم أنّ ذلك التفيّؤ يمينا وشمالا سجود لله ، وعبودية ، وصغار ، وذلّة لجلاله ، فقال : (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ، فوصفهم بتعبّدهم أنفسهم ، حتّى سجدوا لله داخرين.

ثم أخبر فقال متمّما : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) (٣) ، أي من يدبّ عليها ، ثمّ قال : (وَهُمْ) يعني أهل السماوات ، والملائكة ، يعني الّتي ليست في سماء ، ولا أرض (لا يَسْتَكْبِرُونَ) يعني عن عبادتهم ربّهم ، ثمّ وصفهم بالخوف ليعلمنا أنهم عالمون بمن سجدوا له ، ثمّ وصف

__________________

(١) ـ سورة الحج ، الآية ١٨.

(٢) ـ سورة النحل ، الآية ٤٨.

(٣) ـ سورة النحل ، الآية ٤٩.

٤٣٣

المأمورين منهم أنهم (يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١).

ثمّ قال في الّذين هم عند ربهم : (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٢) أي لا يملّون ، ولا يفترون ، كلّ ذلك يدلّ على أن العالم كلّه في مقام الشهود والعبادة ، ألا كلّ مخلوق له قوّة التفكّر وليس إلّا النفوس الناطقة الإنسانية ، والحيوانية خاصّة ، من حيث أعيان أنفسهم ، لا من حيث هياكلهم ، فإنّ هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له والسجود، فأعضاء البدن كلّها مسبّحة ناطقة ، ألا تراها تشهد على النفوس المسخّرة لها يوم القيامة ، من الجلود ، والأيدي ، والأرجل ، والألسنة ، والسّمع ، والبصر ، وجميع القوى ، فالحكم لله العلي الكبير (٣).

وقال في موضع آخر : إنّ المسمّى بالجماد والنبات ، لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إيّاها في العادة ، فلا يحسّ بها مثل ما يحسّها من الحيوان ، فالكلّ عند أهل الكشف حيوان ناطق ، بل حيّ ناطق ، غير أنّ هذا المزاج الخاصّ يسمّى إنسانا ، لا غير ، ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف ، فقد سمعنا الأحجار تذكر الله ، رؤية عين ، بلسان تسمعه آذاننا منها ، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله ، ممّا ليس يدركه كلّ إنسان (٤).

وقال في موضع آخر : وليس هذا التسبيح بلسان الحال ، كما يقوله أهل النظر ممّن لا كشف له.

__________________

(١) ـ سورة النحل ، الآية ٥٠.

(٢) ـ سورة فصلت ، الآية ٣٨.

(٣) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٢ : ٣٢٧ و ٣٢٨.

(٤) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ١ : ١٤٧.

٤٣٤

فصل

قد ظهر من تضاعيف ما ذكرناه : أنّ القوى الأرضية كلّها كالنفوس الفلكية في أنّ الغاية في أفاعيلها ما فوقها ؛ إذ هي لا تحرك المادّة لتحصيل ما تحتها من المزاج وغيره ، وإن كانت هذه تحصل بالتبع اللازم ، بل الغاية في تحريكاتها كونها على أفضل ما يمكن لها ، ليحصل لها التشبّه بما فوقها ، كما في تحريكات نفوس الأفلاك أجرامها بلا تفاوت إلى أن تنتهي سلسلة التشبّهات والاستكمالات إلى الغاية الأخيرة ، والخير الأقصى ، الّذي يسكن عنده السّلّاك ، وتطمئنّ به القلوب ، وهو الله جلّ جلاله.

ومن هنا قيل : لو لا عشق العالي لانطمس السافل ، فالكائنات البائدات ، كالسابقات الباديات.

وفاعل التسكين كالطبيعة الأرضية ، كفاعل التحريك كالقوى السماوية ، في أنّ مطلوبه ليس ما تحته في الوجود ، بل كونه على أحسن ما يمكن في حقّه.

وما أحسن ما قيل : صلّت السماء بدوراتها ، والأرض برجحانها ، والماء بسيلانه ، والمطر بهطلانه ، وقد يصلّى له ، ولا يشعر ، ولذكر الله أكبر.

فالسماوات بسرعة وجدها ، والأرض بفرط سكونها ، لسيّان في هذا الشأن ، ولعمر إلهك لقد اتّصل بالسماء والأرض من لذيذ الخطاب في قوله عز سبحانه : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (١) ، من مشاهدة جمال القهر ما طربت السماء طربا رقّصها ، فهي بعد في ذلك الرقص والنشاط ، وغشي به على الأرض لقوّة

__________________

(١) ـ سورة فصلت ، الآية ١١.

٤٣٥

الوارد ، فألقيت مطروحة على البساط ، فسريان لذّة القهر هو الّذي عبدهما ، ومشاهدة لطف الجلال هي الّتي سلبت أفئدتهما ، حتّى قالا قول الوامق ذي الحنين : (أَتَيْنا طائِعِينَ)(١).

فذلك من عميم اللطف شكر

وهذا من رحيق الشوق سكر

وظهر بما ذكرنا أيضا أنّ جميع الناس إنّما يعبدون الله بوجه ، حتّى عبدة الأصنام ، فإنهم يعبدونها لظنهم الإلهية فيها ، فهم أيضا يعبدون ما تصوّروه إله العالم بالحق ، إلّا أن كفرهم لأجل تصديقهم غير الله أنه هو الله ، فقد أصابوا في التصوّر ، وأخطأوا في التصديق ، فلا فرق بينهم وبين كثير من الإسلاميين من هذا الوجه.

ومن هنا قال الله جلّ جلاله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢).

وقال عزوجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٣).

وقال : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤).

ومع هذا فأكثر الناس يعبدون غير الله ، كما قال سبحانه : (وَما يُؤْمِنُ

__________________

(١) ـ سورة فصلت ، الآية ١١.

(٢) ـ سورة الإسراء ، الآية ٢٣.

(٣) ـ سورة لقمان ، الآية ٢٥ ؛ وسورة الزمر ، الآية ٣٨.

(٤) ـ سورة الأنعام ، الآية ٤٠ و ٤١.

٤٣٦

أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١) ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (٢) ، وآيات كثيرة في هذا المعنى ، فإنّ جميعهم ـ غير العارف الربّاني ـ لا يعبدون الله ، فإنّ آلهتهم هي بالحقيقة صور أصنام ينحتونها بآلات أوهامهم ، فلا فرق كثيرا بينهم وبين عبّاد الأوثان ، إلّا بالألفاظ ، فإنّ المعبود لكلّ أحد ما تخيّله في وهمه ، وتصوّره في خياله ، إلّا الإلهيين الّذين وصلوا إلى معرفة الله بنور هدايته ، وهو وليّهم ، ومتولّي أمورهم.

كما أن وليّ العاكفين على عبادة صور الأجسام ، وأصنام الأوهام ، هو الهوى والشيطان ، كما قال عزوجل : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٣) ، وإليه أشار أيضا بقوله جل وعز : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٤) ، وكانوا يعتقدون أنهم يعبدون عيسى عليه‌السلام ، فجادلوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية ، فقال : معبودكم الطاغوت ، أشار عليه‌السلام إلى ما تصوّروه في أوهامهم الفاسدة.

__________________

(١) ـ سورة يوسف ، الآية ١٠٦.

(٢) ـ سورة النساء ، الآية ١٣٦.

(٣) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٧.

(٤) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٩٨.

٤٣٧

في أنّ مصير كلّ شيء إلى الله سبحانه

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (١)

فصل

ولعلّك لا تحتاج إلى مزيد بيان لذلك بعد وقوفك على تضاعيف ما سردنا ذكره ، ولكنّا نشير الآن إلى ذلك بوجه آخر تفصيلي ، فإنّه مطلب عال ، ومقصد غال ، قد نبّه الله سبحانه عليه في مواضع كثيرة من كتابه.

قال عزوجل : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٢) ، وقال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٣) ، (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤) ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (٥) ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٦) ، و (إِلَيْنا راجِعُونَ) (٧) ، و (إِلى رَبِّكَ

__________________

(١) ـ سورة الشورى ، الآية ٥٣.

(٢) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٦.

(٣) ـ سورة آل عمران ، الآية ٢٨.

(٤) ـ سورة البقرة ، الآية ١٥٦.

(٥) ـ سورة الزخرف ، الآية ١٤.

(٦) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٤٥.

(٧) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٩٣.

٤٣٨

يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (١) ، و (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٢) ، و (إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (٣) ، و (إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤) ، (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٥) ، و (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (٦) ، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٧) ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٨). إلى غير ذلك من الآيات ، فاسمع لما يتلى عليك ، وهو من إفادات أستاذنا ـ دام ظلّه ـ.

فصل

إنّ هذا الشوق والطلب الّذي أثبتناهما للموجودات لو لم يكن لهما فائدة وغاية طبيعية ، لكان ارتكازه في الجبلّة والغريزة عبثا ، وهباء معطّلا ، ولا تعطيل في الوجود ، ولا عبث في فعل الله سبحانه ، كما قال عزوجل : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)(٩) ، تعالى الله عن ذلك ، وتقدّس.

فلكلّ سافل إمكان الوصول إلى ما هو أعلى منه ، ولا يجوز أن يكون المطلوب نيل النسبة إليه ، والتشبّه به ، أو القرب منه دون الوصلة ؛ وذلك لأنّ هذه

__________________

(١) ـ سورة القيامة ، الآية ١٢.

(٢) ـ سورة القيامة ، الآية ٣٠.

(٣) ـ سورة العلق ، الآية ٨.

(٤) ـ سورة النجم ، الآية ٤٢.

(٥) ـ سورة الفجر ، الآية ٢٨.

(٦) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٩٣.

(٧) ـ سورة مريم ، الآية ٩٣.

(٨) ـ سورة مريم ، الآية ٩٥.

(٩) ـ سورة المؤمنون ، الآية ١١٥.

٤٣٩

الأمور إن أريد بها نفس المعاني الإضافية ، فمعلوم بالضرورة أنّ مجرّد الإضافة ليس من المطالب الصحيحة ؛ إذ لا وجود لها بالذات ، سيّما في الذوات العالية (١).

وكذا إن أريد به معنى عرضي ؛ لأنّ العرض أخسّ رتبة من أن يكون غاية ذاتية لأمر جوهري ، فإنّ غاية الشيء ومطلوبه يجب أن تكون أشرف وأعلى منه ، والجوهر أشرف من العرض ، فلو كان كذلك لزم كون شيء واحد شريفا وخسيسا معا ، بالقياس إلى أمر واحد، وهو محال.

ثم لو تكلّف أحد وقال : يجوز أن تكون الغاية المطلوبة كون ذلك الجوهر مجامعا لتلك الصفة العرضية الكمالية.

قلنا : ذلك ـ على تقدير صحّته ـ لا يضرّنا ؛ لأنّ الكلام عائد في أنه مع كونه على تلك الصفة إمّا على غاية الخير والتمام الّذي لا أتمّ منه ، أم يكون فوقه كمال أتمّ ، وخيرية أعلى.

فعلى الأوّل يلزم المطلوب ، وعلى الثاني تتحقّق له غاية أخرى يقتضي الوصول إليها ؛ إذ ما من موجود سوى الله سبحانه إلّا وله غاية مطلوبة فوقه ، كما مرّ بيانه ، والكلام جار في غاية غايته ، وهكذا إلى أن يتسلسل ، أو يدور ، وهما مستحيلان ، أو ينتهي إلى غاية أصلية لا غاية فوقها ، وهو البارىء للكل ، جلّ اسمه.

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٥ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢ ، فصل ٢.

٤٤٠