الشيخ جعفر السبحاني
المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
«مشكاة الصدق» الذي طبع في لاهور عام ١٩٠١ م قد سطّر هذه الشبهة في كتابه المذكور وسبق بقية الكتّاب المسيحيين في إثارة تلك الشبهة ، واستشهد بآيات من القرآن الكريم على مزعمته هذه.
ثمّ إنّ بعض كتّاب السيرة المعاصرين قد نقل تلك الشبهة وطريقة الاستدلال عليها واعتبرها من بنات أفكاره مدّعياً أنّ الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّما واجهه قومه بطلب المعجزة منه قابلهم بالسكوت أو الانصراف وكان يكتفي بالردّ عليهم : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١) ، وما عليّ إلّا البلاغ ، وقوله : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ). (٢)
إنّ هذا الكاتب لم يُشر إلى جذور تلك الشبهة في أوساط الكتّاب المسيحيين ، وكأنّه المؤسّس والباني لهذه الفكرة وهذا البحث!!
المحاسبة العقلية تفنّد مزعمة القساوسة
إنّنا سواء قلنا : إنّ النبي منتخب من قبل الله ، أو قلنا إنّه نابغة من النوابغ ومصلح اجتماعي ، فعلى كلّ حال نجد الرسول الأعظم قد قرن نفسه في القرآن الكريم بباقي الأنبياء كموسى وعيسى عليهمالسلام ، بل أنّه وصف نفسه بأنّه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب ، وهذا يعني أنّه في مرتبة أسمى وأعلى من باقي الأنبياء عليهمالسلام.
وهذا الرسول الإلهي أو المصلح الاجتماعي حسب تعبير البعض حينما تحدّث عن حياة الأنبياء السابقين أخبر عن وقوع معاجز كثيرة على أيديهم ، فقال في شأن موسىعليهالسلام : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ...) (٣)
__________________
(١). الكهف : ١١٠.
(٢). الأعراف : ١٨٨.
(٣). الإسراء : ١٠١.
وقال في حقّه أيضاً : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ...). (١)
ثمّ إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عند ما يتحدّث عن المسيح عليهالسلام ودعوته يصفه بوحي من الله بقوله :
(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (٢)
ثمّ إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يثبت لهذين النبيين عليهماالسلام الإتيان بالمعاجز فحسب ، بل أثبتها لكثير من الأنبياء من قبله ، وهذا واضح لمن راجع القرآن الكريم والآيات التي تعرّضت لذكر أحوال الأنبياء وقصصهم.
فهل من الصحيح يا ترى أن يأتي إنسان ويدّعي النبوة والرسالة ، ويدّعي أيضاً أنّ جميع الدعوات والرسالات كانت مقرونة بالمعجزات والأُمور الخارقة للعادة ثمّ يذكر لإثبات مدّعاه مجموعة من المعاجز لمن سبقه من الأنبياء ، ولكنّه حينما يطلب منه الإتيان بالمعجزة يواجه ذلك إمّا بالسكوت أو الانصراف؟!
فالمحاسبة العقلية تدعم وبكلّ قوة موقف النبي الأكرم في مقابل طلب المعجزة منه ، لأنّه نبيّ كباقي الأنبياء ، ولا بدّ أن يأتي بالمعجزة في الحالات التي
__________________
(١). النمل : ١٢.
(٢). آل عمران : ٤٩.
يكون فيها الإتيان بالمعجزة نافعاً ومفيداً لهداية الناس وإرشادهم إلى الطريق القويم ، حكمه في ذلك حكم من سبقه من الأنبياء الذين ذكرهم في كتابه.
وأمّا إذا قلنا : إنّه نابغة من النوابغ ، وإنّه مصلح اجتماعي ، وإنّه يريد من خلال نبوغه الفكري وقوة شخصيته هداية البشرية وإن كان قد صبغ أفكاره ونظرياته بصبغة النبوّة وأوحى إلى الناس بأنّه نبي مرسل ، فلا ريب أنّ مثل هكذا إنسان والذي يتميّز بالعبقرية والنبوغ لا يخفى عليه خطورة البحث عن حياة الأنبياء السابقين ، وادّعاء أنّ كلّ نبيّ لا بدّ أن تكون دعوته مقرونة بالمعجزة ، لأنّه حينئذٍ يكون قد أعطى الناس الذريعة بل الورقة الرابحة في مطالبته بالإتيان بالمعجزة كباقي الأنبياء إلزاماً له بما ادّعاه ، وليس بإمكانه حينئذٍ السكوت أمام ذلك الطلب أو الهروب منه.
ولهذا السبب نجد أنّ منتحلي النبوة كذباً ينكرون معاجز الأنبياء ، أو يحاولون وبكلّ جهد تأويل ما يدلّ على صدور المعجزة من الأنبياء ، وما ذلك إلّا تخلّصاً من الإحراج فيما إذا طالبهم الناس بالمعجزة ولكي لا يفتضح أمرهم وينكشف زيفهم أمام الملأ ، وهذا على العكس تماماً من سيرة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث كان يؤكّد دائماً وباختيار منه ـ أي من دون أن يطلب الناس منه ذلك ـ وبصراحة تامّة على معاجز الأنبياء السابقين ، بل يؤكد على أنّ دعوى الرسالة مقرونة دائماً بطلب المعجزة.
وعلى هذا الأساس كيف يمكن لمثل هذا الإنسان أن يتخلّص من طلب المعجزة؟ وكيف يتسنّى له الهروب من ذلك الموقف الحرج إذا كان كاذباً ، نعوذ بالله من ذلك؟!
خلاصة القول : إنّ الإمعان فيما ذكرناه يوضّح لنا بما لا ريب فيه أنّ النبي
لم يكن فاقداً للمعجزة ، وإنّ ما زعمه القساوسة ـ في هذا المجال ـ باطل ، وذلك لأنّه :
١. انّه صلىاللهعليهوآلهوسلم صرح بما لا ريب فيه أنّ ادّعاء النبوة والرسالة يلازم طلب المعجزة ، أي أنّ مدّعي النبوة يطالبه الناس بالإتيان بالمعجزة والأُمور الخارقة للعادة لإثبات صدق مدّعاه.
٢. انّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أثبت وبضرس قاطع صدور المعجزة والأُمور الخارقة للعادة على أيدي الأنبياء السابقين.
٣. انّه ادّعى كونه خاتم الأنبياء والمرسلين وانّه أفضلهم. ومن المعلوم أنّ «الأفضلية» تقتضي أن تجري المعجزة على يديه كباقي الأنبياء إن لم نقل بجريانها بصورة أكمل وأفضل ، لأنّه من غير الصحيح أن يدّعي الإنسان الأفضلية لنفسه على الآخرين ولكنّه في نفس الوقت فاقد لصفات كمالية متوفرة عند من هم أدنى منه مرتبة وفضلاً. فهل من الصحيح أن يدّعي إنسان أنّه سيد الأطباء والعالم الذي لا يجارى في ميدان الطب وأنّه أفضل من جميع أطباء الدنيا وفي نفس الوقت يعترف بعجزه عن معالجة بعض الأمراض ويرى أنّ من هو أدنى منه رتبة أقدر على علاج تلك الأمراض المستعصية؟!
فكلّما قلنا : إنّ النبي محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم رسول مبعوث من قبل الله ، فلازم ذلك أن يكون مزوّداً بالمعجزة كباقي الأنبياء ، وأمّا إذا قلنا : إنّه مفكّر ومصلح اجتماعي فحينئذٍ لا ينبغي له الاعتراف بنظرية المعجزة وإنّ كلّ نبيّ لا بدّ أن يأتي بأُمورٍ خارقة للعادة ، بل ينبغي عليه كسائر المدّعين للنبوة كذباً أن ينكر أصل المعجزة وبصورة كليّة لكي لا يقع في الحرج.
إنّ هذه المحاسبات الإجمالية تكفي أن تكون دليلاً للمنصفين
وللواقعيين ، أضف إلى ذلك أنّ آيات الذكر الحكيم قد أثبتت للنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم معاجز أُخرى بالإضافة إلى معجزة القرآن الكريم ، ولو فرضنا أنّ القرآن الكريم لا يعتبر كتاباً سماوياً بالنسبة إلى الإنسان المسيحي ، ولكنّه على أقل تقدير يُعدّ سنداً تاريخياً قطعياً ، ومن هذا المنطلق سوف نتعرض لذكر سلسلة من الآيات التي أكّدت على معاجز النبي الأُخرى.
معاجز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في القرآن الكريم
تشهد آيات الذكر الحكيم على أنّ النبيّ الأكرم جاء ـ وبالإضافة إلى المعجزة الخالدة: القرآن الكريم ـ بعدد من المعاجز والأفعال الخارقة للعادة ولم يكتف لهداية الناس وإرشادهم بالقرآن فقط ، بل كلّما اقتضت الحاجة ودعت الضرورة جاء وبإذن الله بالمعجزة اللازمة ، ومن هذه المعاجز التي أشار لها القرآن الكريم :
المعجزة الأُولى : انشقاق القمر
قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ). (١)
أطبق المفسّرون المسلمون كالزمخشري في كشافه ، والطبرسي في مجمعه ، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب ، وابن مسعود في تفسيره و ... على ما يلي : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالوا : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين ، فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن فعلت تؤمنون؟ قالوا : نعم ، وكان ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه
__________________
(١). القمر : ١ ـ ٢.
أن يعطيه ما قالوا وأشار بإصبعه إلى القمر فانشق القمر فلقتين ، ورسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ينادي : يا فلان يا فلان اشهدوا.
ونحن هنا لا نريد التعرض إلى خصوصيات هذه المعجزة والإشكالات الصبيانية التي أُثيرت حولها ، بل المهم هو دلالة الآية على وقوع المعجزة ، وحينئذٍ لا بدّ من أن نشرع في تفسير الآية :
قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) انّ الآية تشير إلى قرب وقوع القيامة حسب النظرة القرآنية وإن كان ذلك بعيداً في نظر الكافرين ، وقد أكّد القرآن هذه الحقيقة في آية أُخرى حيث قال سبحانه : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً). (١)
ثمّ قال سبحانه بعد إخباره عن اقتراب الساعة : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
ومن المعلوم أنّ «انشق» فعل ماض ولا يمكن حمله ومن دون دليل على المستقبل ، أي انّ الجملة تكون بمعنى الإخبار عن وقوع الانشقاق في المستقبل وحسب المصطلح لا يمكن القول : إنّ «انشق» يعني «ينشق».
أضف إلى ذلك انّ الجملة السابقة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) جاءت بصيغة الماضي وبمعنى تحقّق الاقتراب فعلاً ، وبالطبع انّ جملة انشق القمر معطوفة عليها ، فلا بدّ أن تكون الجملة المعطوفة أيضاً بمعنى الماضي. وبالنتيجة لا يمكن لنا وبدون دليل أن نحمل لفظ «انشق» على المضارع ، وانّه إخبار بأنّه حينما تقوم القيامة في المستقبل سوف ينشق القمر فلقتين.
ولكن قد يُثار التساؤل التالي : ما هو وجه المناسبة بين اقتراب الساعة وبين انشقاق القمر على يد الرسول الأكرم؟
والجواب عن هذا التساؤل واضح ، لأنّ انشقاق القمر وظهور النبي
__________________
(١). المعارج : ٦ ـ ٧.
الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم من شرائط وعلامات القيامة ، فمن هذه الجهة عطفت الجملتان إحداهما على الأُخرى. ولا ريب أنّ علامات القيامة محقّقة حسب الرؤية القرآنية حيث قال سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). (١)
وقال سبحانه في آية أُخرى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).
ومن المعلوم أنّ المراد من (آيَةً) هو العلامة ، وهي غير القرآن الكريم ، والشاهد على ذلك انّه استعمل الفعل «يروا» ولو كان المقصود من الآية هو القرآن لكان من المناسب أن يأتي بفعلٍ ينسجم مع القرآن الكريم كالنزول وغير ذلك.
ولا ريب أنّ قوله : (يَرَوْا آيَةً) إشارة إلى معجزة شق القمر التي ذكرت في الآية السابقة.
ثمّ إنّ الإمعان في أجواء الآية يوضح وبجلاء انّ ظرف وزمان انشقاق القمر هو في هذه الدنيا لا في عالم الآخرة ، وذلك لأنّه لا يمكن لأي أحد أن يصف تلك المعجزة في عالم الآخرة بأنّها سحر مستمر وانّهم سحروا كما سُحِر آباؤهم الأوّلون.
وخلاصة القول : إنّ قوله : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) إشارة واضحة إلى عملية «شقّ القمر» التي جرت على يد النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم. وقد نقل لنا المفسّرون أنّ أبا جهل حينما رأى هذه المعجزة العظمى خاطب المشركين بقوله : «سَحَرَكُمْ ابْنُ أَبي كَبشَةَ» وأبو كبشة هو أحد أجداد الرسول الأكرم من جهة الأُمّ ، ولذلك كان المشركون يصفون النبي بأنّه ابن أبي كبشة.
__________________
(١). الزخرف : ٦٦.
المعجزة الثانية : معراج النبي
إنّ الإسراء بالنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من المعاجز التي ادّعاها النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم لنفسه وأكّدها القرآن الكريم وبصراحة تامّة حيث قال سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (١)
ولا شك أنّ هذه الرحلة الطويلة وفي منتصف الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والتي تمّت في فترة قياسية في زمن كانت فيه وسائط النقل بدائية جداً يُعدُّ معجزة كبيرة من معاجز النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد أثبت القرآن الكريم تلك المعجزة ودافع عنها بقوة في سورة النجم بحيث لم يبقِ شكّاً في القضية ، بل انّ القرآن الكريم يخبرنا انّ هذه الرحلة النبوية لم تنحصر بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، بل تجاوزت ذلك إلى عالم آخر أبعد من هذه المسافة كثيراً ، إذ تشير انّ هذه الرحلة قد انتهت عند «سدرة المنتهى». (٢)
ونحن لسنا بصدد البحث في تفاصيل حادثة المعراج تلك ، وهل انّ هذا المعراج كان جسمانياً أو روحانياً؟ أو ... ، كذلك لسنا بصدد الردّ على الإشكالات الصبيانية الواهية التي قد تثار بوجه تلك القضية والدفاع عنها.
بل إنّنا في مقام التركيز على نقطة واحدة وهي أنّ القرآن الكريم قد أثبت هذه المعجزة للنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وتطرق لها في سورتي الإسراء والنجم ودافع عنها بقوة. ومع ذلك كلّه كيف جاز للمسيحيّين ومقلّديهم الادّعاء : «انّ المسلمين ينسبون إلى نبيهم مجموعة من المعاجز ، ولكنّ الإنسان تنتابه الحيرة والعجب
__________________
(١). الإسراء : ١.
(٢). النجم : ١٣ ـ ١٨.
حينما يرى أنّ القرآن الكريم لم يذكر من تلك المعاجز شيئاً ولا أخبر عنها».
ونحن بدورنا أيضاً نتعجب من هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى العلم والفكر كيف يا ترى يفسّرون هذه الآيات الواردة في القرآن الكريم؟! وكيف جاز لهم القول بأنّ القرآن الكريم لم ينسب للنبي أي معجزة؟!
ثمّ إنّ الروايات والأحاديث الإسلامية حول معراج النبي بدرجة من الكثرة بحيث يستحيل القول إنّها جميعاً من الأحاديث المجعولة والموضوعة.
والحقّ انّ الإنسان ينتابه العجب والحيرة من منهج هؤلاء الذين يدرسون حياة النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث تراهم يذعنون ويسلّمون أمام خرافة وقصّة خيالية ينقلها الطبري عن طريق الآحاد ، وهي قصة «الغرانيق» ، ويستدلّون بذلك لإثبات روح المساومة والخضوع عند النبي الأكرم ، أو أنّهم يعتمدون على ما نسب للسيدة خديجة عليهاالسلام مع «ورقة بن نوفل» حول رسالة النبي ، وينطلقون من تلك القصة لإثبات أنّ النبي لم يكن على يقين من أمره ، ولكنّهم في نفس الوقت يتجاهلون الأحاديث والروايات المتواترة التي نقلها الطبري نفسه وغيره من المفسّرين والمؤرّخين ويشطبون على ذلك كلّه.
إنّ هؤلاء الكتّاب المتعصبين قد حكموا مسبقاً ثمّ راحوا يبحثون عن الدليل لدعم مدعاهم ، فتشبّثوا بما يناسب حكمهم ونظريتهم بكلّ غثٍّ واكتفوا حتّى بالخبر الواحد ، ولكنّهم أعرضوا عن المئات من الروايات والأحاديث ، لا لشيء إلّا لأنّها لم تنسجم مع معتقدهم وحكمهم ، بل تنافيه بصراحة تامة.
المعجزة الثالثة : مباهلة النبي لأهل الكتاب
إنّ موضوع مباهلة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لنصارى نجران من القضايا التي تعرّض لها
القرآن الكريم في سورة آل عمران الآية ٦١ ، وأثبت أنّ النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم كان على استعداد تام ولإثبات أحقيّة رسالته أن يباهل كبار نصارى نجران ، وقد ضرب لذلك موعداً محدداً معهم وأخبرهم بصورة قطعية بهلاكهم وفنائهم إذا ما باهلوه ، ولم يكتف النبي بإظهار استعداده للمباهلة مع نصارى نجران فقط ، بل أعلن ذلك للعالم كلّه حيث قال سبحانه :
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ). (١)
وقد استعدّ النصارى للمباهلة ، ولكنّهم حينما رأوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بتلك الهيبة العظيمة حيث جاء صلىاللهعليهوآلهوسلم محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليٌّ يمشي خلفها ، راعهم ذلك المنظر المهيب وأعلنوا انصرافهم عن المباهلة حيث أدركوا بما لا ريب فيه أنّ هذه المباهلة لا تكون نتيجتها إلّا العذاب القطعي والإبادة من على وجه الأرض.
ثمّ إنّه لم ينحصر الأمر في نصارى نجران فقط ، بل إنّنا نجد أنّه لم يتصد أحدٌ وطيلة حياة الرسول الأكرم لطلب المباهلة معه. صحيح انّ إعجاز النبي في إبادة نصارى نجران لم يتحقّق بالفعل ، ولكنّ استعداد النبي للقيام بتلك المعجزة يُعدُّ صفعة محكمة لمن يدّعي انّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن على استعداد للإتيان بالمعجزة حينما يطلب ذلك منه ، وانّه كان يواجه تلك الطلبات بالسكوت والانصراف والهروب والاكتفاء بالقول ما أنا إلّا بشير ونذير.
__________________
(١). آل عمران : ٦١.
المعجزة الرابعة : النبي الأعظم وبيّناته
تفيد الآية التالية أنّ النبيّ الأعظم جاء إلى الناس بالكثير من البيّنات ، وهي المعجزات حيث قال سبحانه :
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ...). (١)
والشاهد في الآية جملة (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) و «البيّنات» جمع «البيّنة» بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر.
ومن الممكن القول ـ ابتداءً ـ : إنّ المراد من البيّنات في الآية هو القرآن الكريم ، أو يُراد البشائر الواردة في الكتب السماوية النازلة قبل القرآن حول النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ولكن ملاحظة الآيات الأُخر التي استعملت فيها هذه الكلمة وأُريد منها المعاجز والأعمال الخارقة للعادة توجب القول : إنّ المراد من البيّنات إمّا خصوص المعاجز والأُمور الخارقة للعادة ، أو الأعمّ منها ومن غيرها الذي يشمل المعجزات أيضاً ، ولا دليل على حصر مفاد الآية في القرآن الكريم أو البشائر الواردة في الكتب السماوية.
إذا عرفنا ذلك نشير إلى طائفة من الآيات :
١. (... وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ...). (٢)
٢. (... ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ...). (٣)
__________________
(١). آل عمران : ٨٦.
(٢). البقرة : ٨٧.
(٣). النساء : ٥٣.
٣. (... إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ ...). (١)
٤. (... وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) (٢). (٣)
المعجزة الخامسة : إخبار النبي عن الغيب كالمسيح عليهالسلام
يعتبر القرآن الكريم الإخبار عن المغيبات من معاجز السيد المسيح عليهالسلام حيث قال سبحانه :
(... وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ...). (٤)
ولقد جاءت هذه الجملة إلى جنب الآيات التي تعرضت لذكر سائر معاجز السيد المسيح عليهالسلام ، ومن المعلوم أنّ النبيّ الأكرم قد أخبر عن طائفة من المغيّبات بواسطة الوحي الذي يوحى إليه (٥) ، نذكر نماذج من تلك الإخبارات
__________________
(١). المائدة : ١١٠.
(٢). الأعراف : ١٠١.
(٣). هناك آيات أُخرى جاءت فيها لفظة البيّنات بمعنى المعجزات والأُمور الخارقة للعادة ، ومن هذه الآيات : سورة يونس الآيات ١٣ و ٧٤ ، سورة النحل الآية ٤٤ ، سورة طه الآية ٧٢ ، سورة غافر الآية ٢٨ ، سورة الحديد الآية ٢٥ ، وسورة التغابن الآية ١٦ و ....
صحيح انّ المعنى اللغوي لكلمة «البيّنات» هو المعجزات والأُمور الخارقة للعادة ، ولكن معناها أوسع وأشمل وانّ إحدى مصاديق البيّنات هو المعجزة ، والبيّنة بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر والكاشف له ، وإذا ما أطلق لفظ البيّنة على المعجزة فانّما يطلق بلحاظ انّ المعجزة توضّح وتكشف ارتباط النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالله سبحانه وتكشف عن صدق رسالته ودعوته ، ولكن لما استعملت تلك اللفظة في آيات كثيرة وأُريد منها خصوص المعجزة على هذا الأساس نفسّر لفظة البيّنات في الآية المذكورة بنحو تشمل المعجزات والأُمور الخارقة للعادة.
(٤). آل عمران : ٤٩.
(٥). لقد بسط سماحة الشيخ السبحاني البحث في الإخبار عن المغيبات وبصورة مفصّلة في المجلد الثالث من مفاهيم القرآن ، ص ٥٠٣ ـ ٥٠٨ ، فمن أراد المزيد من الاطّلاع عليه مراجعة المصدر المذكور.
الغيبية التي جاءت في القرآن :
منها : إخبارهم بانتصار الروم بعد الهزيمة التي منوا بها على يد الفرس حيث قال سبحانه : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ). (١)
كما أخبر عن موت أبي لهب وامرأته أُمّ جميل على الكفر : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ). (٢)
كذلك أخبر عن موت الوليد بن المغيرة على الكفر والشرك (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ). (٣)
كذلك أخبر عن هزيمة قريش في معركة بدر : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). (٤)
أفلا تُعدّ كلّ هذه الإخبارات شاهداً على امتلاك النبي لمعجزات أُخرى غير القرآن؟!
معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث الإسلامية
قد ورد في الكثير من الأحاديث والروايات الصحيحة التي تنص على أنّ الرسول أظهر الكثير من المعاجز والأفعال الخارقة للعادة ، وقد ألّف العلماء المسلمون العديد من الكتب في هذا المجال حيث جمعوا فيها تلك المعجزات ، فمَن أراد الاطّلاع عليها بصورة مفصّلة فعليه مراجعة تلك المؤلّفات
__________________
(١). الروم : ١ ـ ٤.
(٢). سورة المسد إلى آخر السورة.
(٣). المدثر : ٢٦ ـ ٢٧.
(٤). القمر : ٤٥.
القيّمة ، وبالخصوص ما كتبه الشيخ العاملي في كتابه «إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات».
ثمّ إنّ هناك نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي انّ الأحاديث والروايات الإسلامية التي تتعلّق بمعجزات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تمتاز عن روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم بميزتين رئيسيّتين هما :
الأُولى : من المعلوم جداً انّ الفاصلة الزمنية بين عصرنا وعصر حوادث العهد النبوي أقصر بكثير ممّا بيننا وبين حوادث عهد النبيّين عيسى وموسى عليهماالسلام ، ومن المعلوم أنّ قصر الفاصلة الزمنية يوجب الاطمئنان بالروايات الإسلامية بدرجة أعلى بكثير من روايات اليهود والنصارى.
الثانية : انّ الروايات الإسلامية نقلت بصورة متواترة ، وذلك لأنّ الذين رووا تلك الروايات واهتموا بها هم أكثر من الذين رووا واهتموا بمعجزات المسيح وموسى عليهماالسلام ، بل انّ رواياتهم تنتهي إلى الآحاد ، ومن الطبيعي جدّاً انّ درجة الاطمئنان الحاصلة من الخبر المتواتر أعلى بكثير ممّا يحصل من خبر الآحاد الذي لا يفيد على أحسن الاحتمالات إلّا الظنّ.
وقد يقال : إنّ روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم هي متواترة أيضاً.
والجواب : لو سلّمنا بصحّة هذه الدعوة ، فإنّ صدقها على تواتر معاجز النبي الأكرم يكون صحيحاً بطريق أولى ، على أنّنا لا نسلّم بتلك الدعوة أساساً ، فإنّ رواياتهم لم تنقل بطريق التواتر أبداً. (١)
__________________
(١). منشور جاويد : ٧ / ٢٠٩ ـ ٢٢٣.
٥٥
مسألة سهو النبي
سؤال : هناك بعض الروايات التي تشير إلى قضية سهو النبي نرجو تسليط الأضواء على هذه القضية وبيان المراد من السهو في هذه الروايات؟
الجواب : إنّ مجموع الروايات التي رواها الفريقان الشيعة والسنّة حول هذا الموضوع لا يتجاوز اثني عشر حديثاً. (١)
وقد انقسم المتكلّمون والفقهاء الإمامية في هذا المجال إلى طائفتين :
الطائفة الأُولى : وهي الأكثرية الغالبة ذهبت إلى استحالة السهو ، ومن أبرز أعلام هذه الطائفة : الشيخ المفيد ، الشيخ الطوسي ، الخواجة نصير الدين الطوسي ، المحقّق الحلّي صاحب شرائع الإسلام ، الشهيد الأوّل ، العلّامة الحلّي ، وغيرهم من الأعلام.
ومن بين هذه الطائفة امتاز الشيخ المفيد بإصراره على النفي وقد بذل جهداً كبيراً في إثبات عدم سهو النبي في عدد من مؤلّفاته ، بل لم يكتف بذلك حيث ألّف رسالة مفردة ردّ فيها على القائلين بجواز سهو النبي الأكرم ، وقد
__________________
(١). صحيح البخاري : ٢ / ٦٨ ؛ بحار الأنوار : ١٧ / ٩٧ ـ ١٢٩.
أدرجها العلّامة المجلسي في بحاره. (١)
ونذكر هنا نماذج من كلمات العلماء الأعلام منها :
١. قال المحقّق الطوسي في «تجريد الاعتقاد» : وتجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق والاطمئنان بكلامه وأيضاً يجب عدم السهو. (٢)
٢. وقال العلّامة الحلّي في شرحه لكلام الخواجة الطوسي : وان لا يصحّ عليه السهو لئلّا يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه. (٣)
٣. وقال المحقّق الحلّي في «المختصر النافع» : والحقّ رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة. (٤)
٤. وقال العلّامة الحلّي في بعض كتبه الفقهية في بحث مسألة التكبير في سجدتي السهو : احتج المخالف بما رواه أبو هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : ثمّ كبّر وسجد.
والجواب : انّ هذا الحديث عندنا باطل لاستحالة السهو على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال في مسألة أُخرى : قال الشيخ (الطوسي) : وقول مالك باطل ، لاستحالة السهو على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. (٥)
٥. قال الشهيد في «الذكرى» : وخبر ذي اليدين متروك بين الإمامية ، لقيام
__________________
(١). بحار الأنوار : ١٧ / ١٢٢ ـ ١٢٩.
(٢). كشف المراد : ١٩٥.
(٣). كشف المراد : ١٩٥.
(٤). المختصر النافع : ٤٥.
(٥). منتهى المطلب : ١ / ٤١٨ ـ ٤١٩.
الدليل العقلي على عصمة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن السهو. (١) هذا هو الرأي السائد بين الإمامية.
الطائفة الثانية : وهم :
ألف : انّ الشيخ الصدوق (المتوفّى ٣٨١ ه) وأُستاذه محمد بن الحسن بن الوليد (المتوفّى ٣٤٣ ه) هما أوّل من ذهب إلى جواز سهو النبي ، واعتبر القول بعدم سهو النبي بأنّه من شعار الغلاة والمفوّضة.
ولكن لا بدّ من الالتفات إلى نكتة مهمة ، وهي أنّ الشيخ الصدوق لا يقول بجواز سهو النبي مطلقاً ، بل انّه يرى أنّ للنبيّ الأكرم حالات بعضها خاصة به والأُخرى مشتركة بينه وبين سائر المكلّفين ، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوة والتبليغ لا يجوز فيها السهو ، وأمّا الحالات المشتركة كالعبادات فالسهو فيها جائز. ثمّ إنّه رحمهالله يفصل بين سهو النبي والسهو الصادر من الناس العاديين حيث يعتبره عند الناس العاديين نتيجة نفوذ وسيطرة الشيطان ، ولكنّ سهو النبي والمعصومين ناتج من الإرادة الإلهية «إنساء الله» ، وهذا ما يظهر من كلامه قدسسره حيث قال : وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم فيها ما يقع على غيره ... فالحالة التي اختصّ بها هي النبوة ، والتبليغ من شرائطها ، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة ، لأنّها عبادة مخصوصة ، والصلاة عبادة مشتركة ، وبها تثبت له العبودية ، وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزوجل من غير إرادة له وقصد منه إليه ، نفي الربوبية عنه ، لأنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحيّ القيوم ، وليس سهو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كسهونا ، لأنّ سهوه من الله عزوجل ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتّخذ ربّاً معبوداً دونه ، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا ،
__________________
(١). الذكرى : ٢١٥.
وسهونا عن الشيطان ، وليس للشيطان على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ سلطان : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ). (١)
ثمّ نقل عن أُستاذه ابن الوليد أنّه كان يقول : أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي. (٢)
ب : ثمّ الظاهر من السيد المرتضى (المتوفّى ٤٣٦ ه) أنّه يقول في تفصيل آخر وهو : انّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه عن الله تعالى ، أو في شرعه ، أو في أمرٍ يقتضي التنفير عنه. فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه فلا مانع من النسيان. (٣)
ج : كذلك ذهب إلى القول بالتفصيل أمين الإسلام الطبرسي صاحب «مجمع البيان». (٤)
د. وأمّا العلّامة المجلسي فقد قال : إنّ هذه المسألة في غاية الإشكال ، لدلالة كثير من الآيات والأخبار على صدور السهو عنهم عليهمالسلام ... وإطباق الأصحاب إلّا ما شذّ منهم على عدم جواز السهو عليهم ، مع دلالة بعض الآيات والأخبار عليه في الجملة ، وشهادة بعض الدلائل الكلامية والأُصول المبرهن عليه ، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل والاضطراب ، وقبول الآيات ـ الدالّة على جواز السهو ـ للتأويل ، والله يهدي إلى سواء السبيل. (٥)
__________________
(١). النحل : ١٠٠.
(٢). من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٣٢.
(٣). تنزيه الأنبياء : ٨٧.
(٤). انظر مجمع البيان : ٢ / ٣١٧.
(٥). بحار الأنوار : ١٧ / ١١٨ ـ ١١٩.
وبما أنّه قدسسره لم يذكر رأيه هنا بصورة قاطعة يمكن القول : إنّه من المتوقّفين في المسألة ، إلّا أنّه يمكن الاستفادة من ذيل كلامه بأنّه من المخالفين لنظرية سهو النبي.
التحقيق في المسألة
يظهر ومن خلال ملاحظة آراء المحقّقين أنّ نظرية المرحوم الشيخ الصدوق ـ على فرض صحّة الأخبار التي استند إليها وحجّيتها في البحوث العقائدية ـ هي أقرب إلى الواقعية ، إذ من الممكن أن تقتضي المصالح الإلهية أن يتطرق السهو إلى النبي الأكرم من خلال إنساء الله له ، وخاصة إذا كان ذلك العمل يكون سبباً للحد من غلو المغالين وتنزيه النبي ممّا يصفونه به ، فتكون حينئذٍ المصلحة في الإنساء والسهو كبيرة ، وعلى كلّ حال فالقضية قضية «إنساء الله» لا غلبة الشيطان على أفكاره ومشاعره صلىاللهعليهوآلهوسلم.
هذا ولكنّ الكلام في حجّية تلك الروايات بنحو تصلح للاستناد إليها والاحتجاج بها في باب العقائد ، وقد تتّبع الباحث المعاصر الشيخ الشوشتري في رسالة خاصة جميع تلك الروايات في آخر المجلد الحادي عشر من «قاموس الرجال» ، ومن أراد التحقيق في تلك الروايات والأحاديث فعليه مراجعة الرسالة المذكورة.
٥٦
حادثة المباهلة
سؤال : لقد تمّت الإشارة إلى حادثة المباهلة عند البحث عن معاجز النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بما يناسب المقام هناك ونودّ هنا العودة إلى دراسة تلك الحادثة بصورة مفصّلة نرجو تسليط المزيد من الأضواء على هذه الواقعة التاريخية المهمة؟
الجواب : قبل البدء في بيان حادثة المباهلة أودّ الإشارة إلى بيان الموقع التاريخي ل «نجران» ، تقع نجران بقراها السبعين التابعة لها في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية ، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الإسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معينة واعتنقوا الديانة المسيحية (١) ، من بين مناطق الحجاز.
وحينما بدأ الرسول الأكرم في مخاطبة ملوك العالم ورؤسائهم ودعوتهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام واعتناق الدين الإسلامي الحنيف كان من بين الذين دعاهم الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم أُسقف نجران (٢) (أبو حارثة) ، فكتب إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم كتاباً يدعوه
__________________
(١). ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان : ٥ / ٢٦٦ ـ ٢٧٧ علل اعتناقهم للمسيحية.
(٢). الأُسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ ، وتعني : الرقيب والمناظر ، وهو اليوم أعلى من منصب القسيس.