غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

فذهبت المعتزلة على موجب أصلهم في انقسام الأعراض إلى باقية وغير باقية ، إلى منع جواز إعادة الأعراض الغير الباقية كالحركات والأصوات ونحوها ، وزعموا أنه لو تصور وجودها في وقتين يفصلهما عدم لجاز القول بوجودهما في وقتين متتاليين ، وذلك في الأعراض الغير الباقية محال. ومن الأصحاب من زاد على هؤلاء بحيث منع من جواز إعادة الأعراض مطلقا ، وزعم أن الإعادة لمعنى ، فلو جاز إعادة الأعراض للزم أن يقوم المعنى بالمعنى ، وهو ممتنع.

ومذهب أهل الحق من الإسلاميين : أن إعادة كل ما عدم من الحادثات فجائز عقلا وواقع سمعا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون جوهرا أو عرضا ؛ فإنه لا إحالة في القول بقبوله للوجود وإلا لما وجد ، بل ما قبل الوجود في وقت كان قابلا له في غير ذلك الوقت أيضا ، ومن أنشأه في الأولى قادر على أن ينشئه في الأخرى ، كما قال تعالى في كتابه المبين الوارد على لسان الصادق الأمين : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٩] ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) [الحج : ٦٦].

وما قيل من استحالة إعادة الأعراض المتجددة شاهدا فمأخوذ من القول باستحالة استمرارها وهو غير مسلم ، ثم لا يلزم من جواز وجودها في زمنين منفصلين بينهما عدم أن يقال بوجودهما فيهما من غير انفصال بعدم ، بل من الجائز أن يكون وجودها مشروطا بوقت مقدر ، كما كانت مشروطة بالمحل إجماعا ، وسبق العدم على أصلهم مطلقا. ومن قضى باستحالة إعادة الأعراض لما فيه من قيام المعنى بالمعنى فإنما لزمه ذلك من الجهل بمعنى الإعادة ، والغفلة عن معنى البعث ، وليس المغنيّ به غير الخلق ثانيا ، كما في الخلق الأول ، وتسميته إعادة إنما كان بالإضافة إلى النشأة الأولى ، وذلك مما لا يوجب قيام المعنى بالمعنى ، وإلا للزم القول باستحالة وجودها أولا ، وهو ممتنع. فإذا قد

٢٦١

ثبت مذهب أهل الحق ، وفاز أهل السبق.

ولم يبق إلا القول في العدم ، وهو أنه هل هو للجواهر والأعراض أم للأعراض دون الجواهر؟

والجواب : أن ذلك كله ممكن من جهة العقل ، وليس تعيين ذلك واقعا من ضرورة عقلية ولا نقلية ، فتعيين شيء من ذلك يكون غباء.

هذا حكم الحشر والنشر ، وعذاب القبر ومساءلته ، ونصب الصراط ، والميزان ، وخلق النيران والجنان ، والحوض ، والشفاعة للمؤمن والعاصي ، والثواب ، والعقاب ، فكل ذلك ممكن في نفسه أيضا ، وقد وردت به القواطع السمعية ، والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، من السلف ومن تابعهم من الخلف ، مما اشتهاره مغن عن ذكره. فوجب التصديق به والإذعان لقبوله ، والانقياد إليه والتعويل عليه ، على وفق ما اشتهر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته والعلماء من أمته.

فإن قال قائل من المعتزلة المقرين بالدين ، الخارقين لقواعد المسلمين : كيف يمكن القول بعذاب القبر ومساءلته ، مع أنا نرى الميت ونشاهده ، ولا نحس عند وضعه في اللحد بصوت سؤال ولا جواب ، ولا نشاهد في حاله لا نعيما ، ولا عذابا ، لا سيما إذا افترست لحمه الوحوش والسباع ، وأكلته طيور الهواء أو سمك الماء.

أم كيف يمكن القول بوضع الصراط والميزان ، وخلق الجنة والنار في الآن؟ فإنه إما أن يكون ذلك كله لفائدة أو لا لفائدة ، فالفائدة المطلوبة من نصب الصراط ليست إلا العبور عليه ، وذلك متعذر جدا بالنسبة إلى الطائع والعاص معا ؛ لكونه كما قيل أحد من السيف وأدق من الشعرة ، والفائدة من نصب الميزان ليست إلا وزن الأعمال وذلك أيضا متعذر ؛ لأنها إما أن توزن في حال عدمها أو بعد إعدامها : القسم الأول محال جدا. والقسم الثاني محال لما بيناه فيما مضى. ثم ولو قدر إعادة الأعراض المتجددة فوزنها لا محالة أيضا

٢٦٢

متعذر ، وحركة الميزان بها ممتنعة ، وإن كانت حركة الميزان بسبب ثقل ما خلقت منه الحركة فليس ذلك وزن الحركة. وأما الفائدة في خلق الجنة والنار فليس إلا لأجل الثواب والعقاب ، وذلك قبل يوم الحشر والحساب متعذر لا محالة.

بل وكيف يمكن القول بقبول الشفاعة وإثبات العفو للعاصي ، ومن اقترف شيئا من المعاصي؟ وبم الإنكار على الجبائي حيث زعم أن من زادت زلاته على طاعاته في المقدار ، واخترم على الإصرار ، من غير توبة ، كان مسلوب الإيمان مخلدا في النار؟ وبم الرد على غيره من المعتزلة حيث أوجب ذلك باقتراف كبيرة واحدة ، كانت ناقصة عن الطاعة أو زائدة؟ أم بم الإنكار على الخوارج حيث أوجبوا التكفير بارتكاب ذنب واحد ، مستندين في ذلك إلى ما عرف من قضية إبليس ، وما ورد في القرآن من الآيات الدالة على تخليد العاصي مثل قوله تعالى (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٨١] وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [النساء : ١٤] ، وقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣]. إلى غير ذلك من الآيات والدلالات الواضحات ، ومن استحق الخلود في النار ، وكان مغضوبا عليه ، كيف يستحق الغفران؟

قلنا : أما إنكار عذاب القبر ، مع ما اشتهر من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة من الاستعاذة منه والخوف والحذر ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حيث عبر على قبرين فقال : «إنهما يعذبان» (١) وقول الله تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٥ ، ٤٦] ، فلا سبيل إليه ، ولا معول

__________________

(١) صحيح : رواه البخاري (٢١٣ ، ١٢٩٥ ، ١٣١٢ ، ٥٧٠٥ ، ٥٧٠٦) ، ومسلم (٢٩٢).

٢٦٣

لأرباب العقول عليه. واستبعاد ذلك على أنه غير محسوس من الميت ، فمن أدرك بعقله حال النائم في منامه وما يناله من اللذات والتألمات بسبب ما يشاهده من حسن وقبيح ، مع ما هو عليه من سكون ظاهر جسمه وخمود جوارحه ، بل وكذا حال المحموم ، والمريض في حالة انغماره ، لم يتقاصر فهمه عن درك عذاب القبر ونعيمه ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أجزاء البدن مجتمعة أو مفرقة ، فإن من أسكنه الألم في حالة الاجتماع قادر أن يسكنه ذلك في حالة الافتراق ، وذلك لا يستدعي أن يكون محسوسا ولا مشاهدا ، وعلى هذا يخرج استبعاد سؤاله وجوابه أيضا.

ومما يؤكد رفع هذا الاستبعاد ما علم من حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حالة الوحي ومخاطبة جبريل له ، والناس حوله لا يسمعون ، وإنما كان كذلك لأن الأجزاء المستقلة بالفهم والجواب من الإنسان إنما هي أجزاء باطنة يعلمها الله تعالى في القلب ، فيجوز أن يخلق الله لها الحياة والفهم والجواب ، وإن كان باقي الجسم معطلا لا يشعر به صاحبه ، وذلك كما نشاهده ونعلمه من حال النائم ، والمغمي عليه ، لصرع أو مرض أو غيره ، عند مخاطبته ، أو محاورته لمن يتخيل له فيما هو عليه من حالته.

وليس الخطاب والسؤال لمجرد الروح المفارقة التي أجرى الله تعالى العادة بوجود حياة البدن عند مقارنتها والفوات عند فواتها ؛ إذ هو مخالف للظواهر الواردة به ، ولا هو للبدن على هيئته ؛ إذ هو مخالف للحس والعيان وذلك محال ، وإنكار الصراط الصراط والميزان ، وخلق الجنة والنار في الآن ، بناء على إنكار حصول الفائدة ، فمأخوذ من أصولهم الفاسدة في وجوب الغرض في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه ثم ولو قدر ذلك ، فلعل له فيه لطفا وصلاحا لا تقف العقول عليه. ولا تهتدي الأذهان إليه ، بل الباري تعالى هو المستأثر بعلمه وحده ، لا يعلم تأويله غيره ثم كيف ينكر جواز العبور على الصراط والمشي عليه مع أن ذلك بالنسبة إلى مقدورات الله تعالى ، وخلق السموات

٢٦٤

والأرض وما فيهن ، والمشي في الهواء ، والوقوف على الماء ، وشق البحر ، وقلب العصا حية ، وغير ذلك من المعجزات ، والأمور الخارقة للعادات أيسر وأسهل ، فغير بعيد أن يخلق الله تعالى القدرة على ذلك لمن أطاعه ، ولا يخلقها لمن عصاه.

وأما الوزن بالميزان فإنه يحتمل أن يكون للصحف المشتملة على الحسنات والسيئات المكتوب فيها أفعال العبد ، من خيره وشره ، ونفعه وضره ، ويخلق الله تعالى فيها ثقلا وخفة على حسب التفاوت الذي يعلمه تعالى في حسناته وسيئاته ، ويحتمل أن يكون ميزان الأفعال عند الله تعالى بما يليق بالأفعال ، وهو المستأثر بعلمه وحده ، لا على نحو الميزان اللائق بالكميات من المدخرات والمعدودات ، وغيرها من الموزونات شاهدا.

وأما إنكار الشفاعة للمذنبين والعصاة من المسلمين ، فذلك هو فرع مذهب أهل الضلال في القول بوجوب الثواب ولزوم العقاب على الله تعالى ، وقد بينا ما في ذلك من الخلل ، وأوضحنا ما فيه من الزلل ؛ فإن الثواب من الله تعالى ليس إلا بفضله ، والعقاب ليس إلا بعدله ، وهو المتحكم بما يشاء في خلقه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤].

وما ذكروه من الآيات ، والظواهر السمعيات ، فمحمول على الكافرين المستحلين لما يأتونه المستوجبين لما يقترفونه ، دون العصاة من المؤمنين ، ومن أذنب ذنبا من المسلمين ، ودليل التخصيص في ذلك قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، ومع قيام الدليل المخصص لها يمتنع القول بتعميمها.

فإن قيل : إن هذه الآية محمولة على حالة التوبة ومخصوصة بها ، وهذا وإن كان على خلاف الظاهر لكن يجب القول به ومحافظة على ما ذكرناه من الظواهر ؛ إذ ليس تخصيص ما ذكرناه محافظة على الظاهر بأولى من العكس ، بل هو الأولى ؛ لما فيه من تخصيص ظاهر واحد بظواهر متعددة ، ثم إن في الآية

٢٦٥

ما يدل على أن المغفرة والشفاعة لا تحصل إلا أن تتعلق المشيئة بمغفرته ، وإلا لما كان لتخصيص المغفرة بحالة المشيئة معنى ، وذلك مما يوجب خلود بعض المذنبين وهو خلاف ما تعتقده.

قلنا : أما ما ذكروه من جهة التخصيص ، فحمل دلالة الآية عليها ممتنع ، وذلك أن العفو والغفران حالة التوبة عندهم واجب جزم ولازم حتم ، وهو مما يمنع تعليقه بالمشيئة ، وأيضا فإنه فرق في الآية بين المعصية بالكفر وغيره في حالة التوبة ، فالفرق غير متحقق لا محالة ، فلو صح ما ذكروه من جهة التخصيص ، لم يلزم تخصيص عموم الآية ، بما دون الكفر من المعاصي ، وتأويل الظواهر لما ذكروه من الظواهر كيف وأن ما ذكروه من الظواهر فمنهم من قيدها بفعل الكبائر دون الصغائر ، ومنهم من زادها تقييدا حتى اشترط في ذلك زيادة مقدار الكبيرة على ما له من الحسنات ، وبالجملة فلا ريب في تخصيصها بما بعد التوبة ، وليس شيء من ذلك متحققا فيما ذكرنا من الظواهر ، فالمحافظة عليه يكون أولى ، لا سيما وأن ما من ظاهر أبدوه إلا وقد اقترن بما يدل على تخصيصه بما نذكره ، فإن مخالفة جميع الحدود وتعديها ، وإحاطة الخطيئة من كل وجه ، إنما يتحقق في حق الكافر دون المسلم ، وكذلك اللعنة والغضب في حق من قتل إنما يتحقق في حق من كان لذلك مستحلا معتقدا.

وبما حققناه يقع التقصي عن كل ما يهول به من هذا القبيل ، وليس في تعليق الغفران لما دون الكفران بالمشيئة ما يوجب امتناع وقوع الغفران بالنسبة إلى جملة المذنبين بما دون الشرك ، ولا يلزم منه مخالفة شيء من الآية أصلا ؛ لجواز تعلق المشيئة بالمغفرة للجميع.

فإن قيل ، فإن استمر لكم في هذه الظواهر ما ذكرتموه من التأويلات ، واستقام ما أشرتم إليه من التخصيصات ، فكيف يحمل قوله عليه‌السلام : «لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي» على معصية الكفر مع أنه قد أدرجهم

٢٦٦

في أمته وأدخلهم في ملته؟

قلنا : هذا الحديث مع ضعفه في سنده فليس في إضافتهم إلى ملته ما ينافي كون الكبيرة الصادرة منهم هي الكفران ، والشرك بعد الإيمان ؛ فإنه قد يسمى الشيء باسم ما كان عليه تجوزا وتوسعا وهو الأولى ؛ فإنه قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرواية الصحيحة المشهورة أنه قال : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١) فلو لم يكن الحديث الأول محمولا على كبيرة الكفر للزم منه تعطيل أحد الحديثين عن العمل به مطلقا ، ولا يخفي أن التعطيل أبعد من التأويل على ما لا يخفى ، كيف وأن الأدلة الواردة في باب الشفاعة مع اختلاف ألفاظها أكثر من أن تحصى ؛ فهي إلى التمسك بها أقرب وأولى ، فمن ذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أثناء حديث مطول مشهور أنه قال : «إذا كان يوم القيامة أخر ساجدا بين يدي ربي فيقول لي : يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ، فأقول : يا رب أمتي ، أمتي فيقال : انطلق من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأخرجه وأنطلق وأخرجه ، ثم أسجد ثانية وثالثة ، فإذا كان الرابعة قلت : رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله ، فيقول الرب : وعزتي وجلالي لأخرجن منها كل من قال : لا إله إلا الله» (٢) وهو حديث مروي في الصحاح.

وأما القضاء بانتفاء إيمان من اخترم عاصيا قبل التوبة والقول بتكفيره ، فالانفصال عنه يستدعي تحقيق معنى الإيمان والكفران والكشف عن معنى التوبة ، وتحقيق الأوبة :

__________________

(١) صحيح : ورواه بنحو هذا اللفظ البيهقي في الاعتقاد (١٨٩) ، وأصل الحديث في الصحاح بلفظ : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

(٢) صحيح : رواه البخاري (٧٠٧٢) ، ومسلم (١٩٤) ، وأبو نعيم في المسند المستخرج على مسلم (١ / ٢٦٧).

٢٦٧

وأما الإيمان :

فهو في اللغة عبارة عن التصديق ، ومنه قول بني يعقوب : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٢] ، أي بمصدق ، وفي عرف استعمال أهل الحق من المتكلمين عبارة عن التصديق بالله وصفاته وما جاءت به أنبياؤه ورسالاته ، وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام : «الإيمان هو التصديق بالله وباليوم الآخر كأنك تراه» (١) فمن وفقه الله لهذا التصديق وأرشده إلى هذا التحقيق فهو المؤمن الحق عند الله وعند الخلق ، وإلا فقد شقي الشقاوة الكبرى ، وحكم بكفره في الدنيا والأخرى ؛ لأن الكفر وإن كان في اللغة عبارة عن التغطية والستر ، فهو في عرف أهل الحق من المتكلمين عبارة عن : الستر والتغطية للقدر الذي يصير به المؤمن مؤمنا لا غير ، وليس الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، كما زعمت الكرامية ، ولا إقامة العبادات والتمسك بالطاعات كما زعمت الخارجية ؛ فإنا نعلم من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إظهار الدعوة أنه لم يكتف من الناس بمجرد الإقرار باللسان ، ولا العمل بالأركان مع تكذيب الجنان ، بل كان يسمى من كانت حاله كذلك كاذبا ومنافقا ، ومنه قوله تعالى تكذيبا للمنافقين عند قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ، ومنه أيضا شهادة الكتاب العزيز بكذبه ، وسلب إيمانه في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨] ، وما ورد في الكتاب والسنة وأقوال الأمة في ذلك أكثر من أن يحصى.

ثم لا يخفى قبح القول بأن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ؛ من حيث إفضائه إلى تكفير من لم يظهر ما أبطنه من التصديق والطاعة ، وامتناع

__________________

(١) أنظره في شرح الطحاوية (٢٣٣) وهو جزء من حديث عمر المتفق عليه من سؤال جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان والإحسان.

٢٦٨

استحقاقه للشفاعة والحكم ، بنقيضه لمن أظهر ضد ما أبطن من الكفر بالله تعالى ورسوله ، والطغاوة في الدين ، والعداوة للمسلمين ، بل أشد قبحا منه جعل الإيمان مجرد الإتيان بالطاعات ، والتمسك بالعبادات ؛ لما فيه من الإفضاء إلى هدم القواعد السمعية ، وحل نظام الأحكام الشرعية ، وإبطال ما ورد في الكتاب والسنة ، من جواز خطاب العاصي بما دون الشرك ، قبل التوبة بالعبادات البدنية ، وسائر الأحكام الشرعية ، وصحتها منه أن لو أتى بها ، وبإدخاله في زمرة المؤمنين ، وإدراجه في جملة المسلمين ، حتى إنه لو مات فإنه يغسل ويصلى عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، ولو لم يكن مؤمنا لما جاز القول بصحة ما أتى به من العبادات ، ولا غير ذلك مما عددناه.

وبهذا يتبين أيضا فساد قول الحشوية : إن الإيمان هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، نعم ، لا ننكر جواز إطلاق اسم الإيمان على هذه الأفعال ، وعلى الإقرار باللسان ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ، أي صلاتكم ، وقوله عليه‌السلام : «الإيمان بضع وسبعون بابا أولها شهادة أن لا إله إلا الله ، وآخرها إماطة الأذى عن الطريق» (١) لكن إنما كان ذلك لها من جهة أنها دالة على التصديق بالجنان ظاهرا ، والعرب قد تستعير اسم المدلول لدليله ، بجهة التجوز والتوسع ، كما تستعير اسم السبب لمسببه ، فعلى هذا مهما كان مصدقا بالجنان ، على الوجه الذي ذكرناه ، وإن أخل بشيء من الأركان فهو مؤمن حقا ، وانتفاء الكفر عنه واجب ، وإن صح تسميته فاسقا بالنسبة إلى ما أخل به من الطاعات وارتكب

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (٢ / ٨٧١) ، (٢٣٣٥) ، (٥١٥٣) ، ومسلم (٣٥) ، (١ / ٥٣) وابن خزيمة في صحيحه (٢ / ٢٧٦) ، وابن حبان (١ / ٣٨٤ ، ٣٨٨) ، ٤٠٧) والترمذي (١٩٥٨) ، وأبو داود (٢٨٤٠) (٤٦٧٦) ، والنسائي (٥٠٠٤) ، (٨ / ١١٠) ، وابن ماجه (٥٧) ، (٣٦٨١) ، وأحمد (٢ / ٣٧٩ ، ٤١٤ ، ٤٤٥) ، والبيهقي في الشعب (١ / ٣٣ ، ٣٤).

٢٦٩

من المنهيات ولذلك صح إدراجه ، في خطاب المؤمنين وإدخاله في جملة تكليفات المسلمين بقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣].

ونحو ذلك من الآيات. وقوله عليه‌السلام : «لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يزني حين يزني وهو مؤمن» (١) فإنه وإن صح لم يصح حمله على نفي الإيمان بمعنى الطاعة والإذعان ، لتعذر الاشتقاق من اسم إيمان ، فيحتمل أنه أراد حالة الاستحلال ، ويحتمل أنه أورده في معرض المبالغة في الزجر والردع ، وهو وإن كان خلاف الظاهر لكنه أولى ؛ لما فيه من الجمع بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة على كونه مؤمنا ، وإبطال التعطيل لما ذكرناه مطلقا ، نعم لا ننكر إمكان دخول الشك والريبة لما يحصل من التصديق بالجنان ثابتا ، بالنسبة إلى من ليس بمعصوم ، بناء على شبهة وخيال ؛ ولذلك كان بعض السلف يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وليس المراد بما علقه على المشيئة إلا استمرار ما هو حاصل عنده ، عند الله ، من التصديق والطمأنينة ، لا نفس التصديق الحاصلة ؛ فإن تعليق ما حصل بالمشيئة محال ، ولا بدّ من هذا التأويل وإن فسر الإيمان بالطاعة أو القول أيضا وبهذا الاعتبار أيضا يصح القول بزيادة إيمان النبي المعصوم على إيمان غيره ، أي من جهة تطرق الشك إلى غير المعصوم دون المعصوم أما أن يكون من جهة تطرق الزيادة والنقصان إليه من حيث هو تصديق فلا ، كما لا يصح ذلك بين علم وعلم أصلا.

وأما التوبة :

فهي وإن كانت في اللغة عبارة عن الرجوع ، فهي في عرف استعمال المتكلمين عبارة عن الندم على ما وقع به التفريط من الحقوق ، من جهة كونه حقا ، ومنه قوله عليه‌السلام «الندم توبة» (٢) ، فعلى هذا من ترك المعصية من

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم في الصحيح ، وهو حديث صحيح متفق عليه.

(٢) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، وهو معنى صحيح.

٢٧٠

غير عزم على ترك معاودتها عند كونه لذلك أهلا ، والندم والتألم على ما اقترف أولا ؛ من جهة أنه لم يكن له ذلك مستحقا ، لم يكن إطلاق اسم التوبة في حقه بالنظر إلى عرف المتكلمين ، مما يجوز ، لكن ذلك مما لا يجب على العبد استدامته في سائر أوقاته ، وتذكره في جميع حالاته ، وإلا لزم منه اختلال الصلوات أو لا يكون تائبا في بعض الأوقات ، وهو خلاف ، إجماع المسلمين ، وليس من شرط صحة التوبة ، والإقلاع عن ذنب في زمن من الأزمان ، ألا يعاوده في زمن آخر ؛ إذ التوبة مهما وجدت فهي عبادة ومأمور بها ، وليس من شرط صحة العبادة المأتى بها في زمن ألا يتركها في زمن آخر.

وليس من شرط صحة التوبة أيضا ، والإقلاع عن ذنب ، الإقلاع عن غيره من الذنوب ، كما زعم أبو هاشم ، وإلا كان من أسلم بعد كفره ، وآمن بعد شقائه ونفاقه ، إذا استدام زلة من الزلات ، وهفوة من الهفوات ، ألا يكون مقلعا عما التزمه من أوزار كفره ، وألا يترقى على من هو على غيه وجحوده وذلك مما يخالف إجماع المسلمين ، وما ورد به الشرع المنقول ، واتفق عليه أرباب العقول.

وبهذا يندفع قول القائل : إن ما وجبت التوبة عنه فإنما كان لقبحه ، وذلك لا يختلف فيه ذنب وذنب ، فلا يصح الندم على قبيح مع الإصرار على قبيح غيره.

والله الهادي إلى الرشاد ..

٢٧١

القانون السابع

في النبوات والأفعال الخارقة للعادات

ويشتمل على طرفين :

تمهيد في النبوات (١) :

__________________

(١) أما في وضع اللغة : فالنبي مأخوذ من النبوة : وهي الارتفاع ، ومنه يقال : تنبئ فلان : إذا ارتفع وعلا. وقيل : النبي هو الطريق. ومنه يقال للرسل عن الله ـ تعالى ـ أنبياء ، لكونهم طرق الهداية إليه. وقيل : أنه مأخوذ من الإنباء : وهو الإخبار ، ولذلك يقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ، لإنبائه عن الله عزوجل. وأما في اصطلاح النظار : فقد اختلف فيه : فقالت الفلاسفة : النبي هو من كان مختصا بخواص ثلاثة : الأولى : أن يكون مطلعا على الغائبات ، لصفاء جوهر نفسه ، وشدة اتصالها بالمبادئ الأول من غير تعليم وتعلم ، ولا بعد في ذلك ، فإن التفاوت بين الناس فيما يرجع إلى إدراك المعقولات ظاهر. حتى إن بعضهم قد يكون إدراكه لمعنى في زمن أقل من زمن إدراك الأخر له. ولا حد لذلك ، بل هو في درجة الزيادة ، والنقصان ذاهب إلى من له قوة حدس الأشياء كلها في أقرب زمان ، وإلى من لا حدس له البتة. وما مثل هذه القوة التي بها إدراك المعقولات من غير تعليم وتعلم هي المسماة عندهم بالعقل القدسي. قالوا : وقد يمكن أن يوجد مثل ذلك أيضا في حق من قلت شواغله البدنية لنفسه بالرياضات ، وأنواع المجاهدات. وإما بسبب نوم أو مرض ، أو صرع ، أو غير ذلك على ما هو مشاهد من بعض الناس. الخاصة الثانية : أن يكون بحيث تطيعه الهيولي القابلة للصور الكائنة الفاسدة وهذه أيضا ممكن ، فإن النفوس الإنسانية مؤثرة في المواد كالذي نشاهده من تأثيرات الأنفس في المادة بالاحمرار ، والاصفرار والتسخين عند الخجل ، والوجل ، والغضب ، والسقوط من الأماكن العالية عند توهم النفس ذلك. فغير بعيد ممن كانت نفس نبوية متصلة بالعوالم العقلية أن تتأثر المادة بسبب تعلقها بها بحيث يحدث في العالم عجائب ، وغرائب من ريح شديدة ، وخسف وزلازل ، وإحراق ، وغرق ، إلى غير ذلك. قالوا : وقد يتأتى مثل ذلك لبعض أهل الخلوص ، والصفاء على ما هو معلوم في كل عصر من آحاد الصلحاء. الخاصة الثالثة : أن يكون ممن يرى ملائكة الله ـ تعالى ـ على صور متخيلة ، ويسمع كلام ربه بالوحي وذلك أيضا ممكن بطريقة أن القوتين وهما الخيالية ، والحس المشترك قد تنفعل كل واحدة منهما عن الأخرى ولهذا فإنه قد ينطبع في الخيالية ما كان قد انطبع في الحس المشترك متأديا إليها من الحواس

٢٧٢

الطرف الأول من هذا القانون : في بيان جوازها في العقل.

والثاني : في بيان وقوعها بالفعل.

وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من تفسير معنى النبوة لكي يكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد ، فنقول :

ليست النبوة هي معنى يعود إلى ذاتي من ذاتيات النبي ، ولا إلى عرض من أعراضه ، استحقها بكسبه ، وعمله ، ولا إلى العلم بربه ، فإن ذلك مما يثبت قبل

__________________

ـ الظاهرة من الصور المحسوسة. وعلى هذا : فغير بعيد أن يحصل في الخيال صور ، وأصوات لا وجود لها في الحس الظاهر ، ويتأتى ذلك الانطباع إلى الحس المشترك وبواسطته إلى الحواس الظاهرة كما كان بالعلتين ، فإن القوى الحاسة كالمرايا المتقابلة في انطباع ما في بعضها في بعض. وعند ذلك : فقد يسمع من الأصوات ويرى من الصور حسب ما وقع في الخيال وإن كان لا يراه ، ولا يسمعه أحد من الحاضرين. قالوا : وقد يحصل أيضا نوع من هذا لبعض من قلت شواغله البدنية وإن كان مستيقظا لأم غلب على مزاجه كبعض المجانين والمتكهنين ، والمرضى ، غير أن هذه حالة نقص. والأولى حالة كمال. قالوا : ولا شك أن المادة القابلة لهذا الشخص ممكن أن تقبل مثله في كل وقت. وقال آخرون : النبي من يعلم كونه نبيا ، والنبوة علمه بنبوته. وقال آخرون : النبي هو العالم بربه ، والنبوة علمه بربه. وقال آخرون : النبوة سفارة العبد بين الله ـ تعالى ـ وبين الخلق. وهذه المذاهب فاسدة. أما مذهب الفلاسفة : وقولهم في الخاصة الأولى أن النبي هو الذي يكون مطلعا على الغائبات من غير تعليم وتعلم ، فهو فاسد من ثلاثة أوجه : الأول : أنهم إما أن يريدوا بذلك الاطلاع على جميع الغائبات أو على بعضها. فإن كان الأول : فليس بشرط في كون النبي نبيا بالاتفاق منا ، ومنهم ، ولهذا فإنا نعلم علما ضروريا أن من وجد من الأنبياء ودلت المعجزة القاطعة على نبوته ـ كما يأتي تحقيقه ـ لم يكن عالما بجميع المغيبات ولا مطلعا عليها ، ولهذا قال أفضل المرسلين (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) [الأعراف : ١٨٨] ، وإن كان الثاني : فما من أحد عندهم إلا ويجوز أن يكون مطلعا على بعض المغيبات من غير تعليم ، وتعلم وإن لم يكن نبيا ، فلا يكون ذلك خاصة للنبي ، انظر الأبكار (٥ / ٦٥٨) ، وكذلك الفصوص لابن عربي (١ / ١٨١) (٢ / ٢٥٨) ، أصول الدين للبغدادي (ص ١٥٤) ، والمغني لعبد الجبار (١٥ / ٣٧ ، ٩٧) ، رسائل إخوان الصفا (٣ / ٣٢) (٤ / ١٧٨).

٢٧٣

النبوة ، ولا إلى علمه بنبوته ؛ إذ العلم بالشيء غير الشيء ، (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : ١١] ؛ فليست إلا موهبة من الله تعالى ، ونعمة منه على عبده ، وهو قوله لمن اصطفاه واجتباه : إنك رسولي ونبيي.

وإذا عرف محز الخلاف ، فنعود إلى بيان الأطراف :

الطرف الأول

في بيان الجواز العقلي

مذهب أهل الحق أن النبوات ليست واجبة أن تكون ولا ممتنعة أن تكون ، بل الكون وأن لا كون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجحها سيان ، وهما بالنظر إليه سيان ، وأما أهل الطعان فحزبان : حزب انتمى إلى القول بالوجوب عقلا ، كالفلاسفة والمعتزلة.

وحزب انتمى إلى القول بالامتناع كالبراهمة والصابئة والتناسخية ، إلا أن من البراهمة من اعترف برسالة آدم دون غيره ، ومنهم من لم يعترف بغير إبراهيم ، وأما الصابئة فإنهم اعترفوا برسالة شيث وإدريس دون غيرهما ، ولا بدّ من التفصيل في الرد على أهل التضليل :

فأما الفلاسفة والمعتزلة :

فإنهم قالوا : لما كان نوع الإنسان أشرف موجود في عالم الكون ؛ لكونه مستعدا لقبول النفس الناطقة ، القريبة النسبة من الجواهر الكروبية ، والجواهر الروحانية ، لم يكن في العقل بد من حصول لطف المبدأ الأول ، وإفاضة الجود منه عليهم ، لتتم لهم النعمة في الدنيا والسعادة في الأخرى ، وكل واحد من الناس قلما يستقل بنفسه وفكرته ، وحوله وقوته ، في تحصيل أغراضه الدنياوية ، ومقاصده الأخروية إلا بمعين ومساعد له من نوعه ، وإذ ذاك فلا بد من أن تكون بينهم معاملات ، من عقود بياعات وإجارات ومناكحات ، إلى غير ذلك ، مما تتعلق به الحاجات ، وذلك لا يتم إلا بالانقياد ، والاستسخار من البعض للبعض ، وقلما يحصل الانخضاع والانقياد من المرء لصاحبه بنفسه ، مع

٢٧٤

قطع النظر عن مخوفات ومرغبات ، دينية وأخروية ، وسنن يتبعونها ، وآثار يقتدون بها ، وذلك كله إنما يتم ببيان ، ومشرع يخاطبهم ويفهمهم من نوعهم ؛ وفاء بموجب عناية المبدأ الأول بهم.

ثم يجب أن يكون البيان مؤيدا من عند الله تعالى بالمعجزات والأفعال الخارقة للعادات ، التي تتقاصر عنها قوى غيره من نوعه ، بحيث يكون ذلك موجبا لقبول قوله ، والانقياد له فيما يسنه ويشرعه ، ويدعو به إلى الله تعالى وإلى عبادته والانقياد لطاعته ، وما الله عليه من وجوب الوجود له ، وما يليق به وما لا يليق به ، وأحكام المعاد ، وأحكام المعاش ؛ ليتم لهم النظام ، ويتكامل لهم اللطف والإنعام ، وذلك كله فالعقل يوجبه لكونه حسنا ، ويحرم انتفاءه لكونه قبيحا.

واعلم أن مبنى هذا الكلام إنما هو على فاسد أصول الخصوم ، في الحسن والقبح ، ورعاية الصلاح والأصلح ووجوبه ، وقد سبق إبطاله بما فيه مقنع وكفاية ، وأما الغلاة من النفاة الجاحدين لوجوب الوجود فإنهم قالوا : النبوة ليست من صفة راجعة إلى نفس النبي ، بل لا معنى لها إلا التنزيل من عند رب العالمين ، وعند ذلك فالرسول لا بدّ له أن يعلم أنه من عند الله تعالى ، وذلك لا يكون إلا بكلام ينزل عليه أو بكتاب يلقى إليه ؛ إذ المرسل ليس بمحسوس ولا ملموس ، وما الذي يؤمنه من أن يكون المخاطب له ملكا أو جنيا؟ وما ألقى إليه ليس هو من عند الله تعالى؟ ومع هذه الاحتمالات فقد وقع شكه في رسالته وامتنع القول الجزم بنبوته ، ثم إن ما يكلمه وينزل عليه إما أن يكون جرمانيا أو روحانيا : فإن كان جرمانيا وجب أن يكون مشاهدا مرئيا ، وإن كان روحانيا فذلك منه مستحيل ، كيف وأن ما جاء به لم يخل إما أن يكون مدركا بالعقول أو غير مدرك بها ، فإن كان الأول فلا حاجة إلى الرسول ، بل البعثة تكون عبثا وسفها ، وهو قبيح في الشرع وإن كان الثاني فما يأتي لا يكون مقبولا ؛ لكونه غير معقول ، فالبعثة على كل حال لا تفيد ، وأيضا فإن

٢٧٥

النفوس الإنسانية كلها من نوع واحد فوجب أن يستقل كل منها بدرك ما أدركته الأخرى ، ولا تتوقف على من يحكم عليها فيما تهتدي إليه وما لا تهتدي إليه ؛ فإن ذلك مما يقبح من الحكيم عقلا.

ومما يدل على العبث في بعثته تعذر الوقوف على صدق مقالته ؛ فإن وجوب التصديق له بنفس دعواه ، مع أن الخبر ما يصح دخول الصدق والكذب فيه ، مستحيل ، وإن كان بأمر خارج ، إما بأن تقع المشافهة من الله تعالى بتصديقه ، أو باقتران أمر ما بقوله يدل على صدقه ، فهو أيضا مستحيل ؛ إذ المشافهة من الله تعالى بالخطاب متعذرة ، ولو لم تكن متعذرة لاستغنى عن الرسول ، وما يقترن بقوله إما أن يكون مقدورا له أو لله تعالى : فإن كان مقدورا له فهو أيضا مقدورا لنا ، فلا حجة له في صدقه ، وإن كان مقدورا لله تعالى ، فإما أن يكون معتادا أو غير معتاد فإن كان معتادا فلا حجة فيه أيضا ، وإن كان غير معتاد بأن يكون خارقا للعادات فليس في ذلك ما يدل على صدقه في دعوته ؛ إذ هو فعل الله تعالى وهو مشروط بمشيئته ، وتخصصه منوط بإرادته ، وربما لا يتصور في جميع الحالات ، ولا يساعد في سائر الأوقات ، وكم من نبي سأل إظهار المعجزات في بعض الأوقات فلم يتفق له ما سأله ، فإذا كان كذلك ، فلعل اقترانها بدعوته ، في بعض الأوقات ، كان من قبيل الاتفاقات ، لا بقصد التصديق له فيما يقوله ، والتحقيق له ، ثم إن كان ظهور هذه الآيات واقترانها بقوله في بعض الأوقات دليلا على صدقه فعدم اقترانها به في بعض الأوقات دليل على كذبه ، وليس أحد الأمرين بأولى من الآخر ، والذي يدل على ذلك أنا ألفينا كل مدع قد أباح ما تحظره العقول ؛ مثل ذبح الحيوان وإيلامه وتسخيره ، ومثل السعي بين الصفا والمروة ، والطواف بالبيت ، وتقبيل الحجر ، والعطش في أيام الصيام ، والمنع من الملاذ التي بها صلاح الأبدان ، وذلك كله قبيح ، والقبيح لا يأمر به الحكيم ، فهم فيما ادعوه كاذبون ، وفيما انتحوه متخرصون ، ثم وإن قارنت لدعواه في جميع الأوقات ، ولم توجد في غيرها من

٢٧٦

الحالات ، فهي مما لا تمييز فيها عن الكرامات والسحر والطلسمات ، وغير ذلك من العلوم كالسحر والتنجيم ؛ فإنها من الأفعال العجيبة والأمور المعجزة الغريبة ، التي لا وقوع لها في جميع الأوقات ، ولا سبيل إليها في سائر الحالات ، بل هي على نمط المعجزات والأمور الخارقة للعادات ، ومع جواز أن يكون ما أتى به من هذا القبيل فليس على القول بصدقه تعويل ، ثم وإن تميز ما أتى به عن هذه الأحوال ، وتجرد عن هذه الأفعال ، فلا محالة أن من أصلكم جواز انقلاب العوائد واطراد ما لم يعهد ، وعند اطرادها فلا يخفى أنها تخرج عن أن تكون معجزة ؛ لكونها لا اختصاص لها به ، وإذا كان كذلك فما الذي يؤمننا من اطراد معجزته وعموم وقوعها بعد تحديه بنبوته ، ثم ولو قدر عدم اطرادها فذلك أيضا مما لا يدل على صدقه ، بل لعله كاذب في دعوته ، والباري تعالى مريد لضلالنا برسالته ، وأن ما يدعو إليه من الخير هو عين الشر ، وما ينهى عنه من الشر هو عين الخير ؛ فإنه لا إحالة فيه على أصلكم حيث أحلتم كون الحسن والقبح ذاتيا ، ثم وإن استحال ذلك في حق الله تعالى فلا محالة أن العلم برسالة الرسول ، والقول بتصديقه ، يتوقف على معرفة المرسل وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ؛ يتوسط الحادثات والكائنات والممكنات ، وذلك كله ليس هو مما يقع بديهة ؛ فإنه لو خلى الإنسان ودواعي نفسه مبدأ نشوئه ، من غير التفات إلى أمر آخر ، لم يحصل له العلم بشيء من ذلك أصلا ، فعند إرسال الرسول إما أن يجوز للمرسل إليه النظر ، والابتهال بالفكر ، والاعتبار بالعبر أو لا يجوز له ذلك ، فإن قيل بالجواز فلا يخفى أن زمان النظر غير مقدر بقدر ، بل هو مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وتقلب أحوالهم ، والاشتداد والضعف في أفهامهم ، وذلك مما يفضي إلى تعطيل النبي عن التبليغ لرسالاته ، وإفحامه في دعوته ، ولا فائدة إذ ذاك في بعثته ، وإن لم يمهل في النظر فذلك قبيح لا محالة ؛ من جهة أنه كلفه التصديق بما لا يطيق ، أوجب عليه التقليد والانقياد ، من غير دليل إلى الاعتقاد ، وذلك قبيح لا تستحسنه العقول.

٢٧٧

ثم إنه إما أن يكون مرسلا إلى من علم الله أنه لا يؤمن ، أو لا يكون مرسلا إليه ، فإن كان مرسلا إليه فالعقاب على مخالفته ظلم ، وهو قبيح من الحكم العدل.

وزادت التناسخية على هؤلاء ، فقالوا : الأفعال الإنسانية إن كانت على منهاج قويم ، وسنن مستقيم ، ارتفعت نفس فاعلها إلى الملكوت ، بحيث تصير نبيا أو ملكا ، وإن كانت أفعاله على منهاج أفعال الحيوانات ، والتشبه بالسفليات ، والانغماس في الرذائل والشهوات ، انحطت نفسه إلى درجة الحيوانات أو أسفل منها ، وهكذا على الدوام كلما انقضى عصر ودور ، وليس ثم عالم جزاء ولا حساب ، ولا كتاب ولا حشر ولا عقاب ، وذلك كله مما عرف بالعقول ، على طول الدهر ، فلا حاجة بالإنسان إلى من هو مثله ، يحسن له فعلا أو يقبح له فعلا ؛ إذ لا يزال في فعل يجزى أو في جزاء على فعل ، وهكذا على الدوام.

والطريق : في الانفصال عن كلمات أهل الضلال أن يقال : أما ما أشاروا إليه من تعذر علمه بمرسله فبعيد ؛ إذ لا مانع من أن يعلمه المرسل له أنه هو الله تعالى وذلك بأن يجعل له على ذلك آيات ودلائل ومعجزات ، بحيث تتقاصر عنها قوى سائر الحيوانات المخلوقات ، أو بأن يكون ما أنزل إليه وألقى عليه ، يتضمن الإخبار عن الغائبات والأمور الخفيات التي لا يمكن معرفتها إلا لخالق البريات ، أو بأن يخلق له العلم الضروري بذلك ؛ إن الله على كل شيء قدير ، وليس المطلوب لهذا الشخص من قبل الله تعالى بمستحيل ، ولا نزول الوحي إليه مع الأمين جبريل ؛ فإنه غير بعيد أن تشمله العناية من المبدئ الأول ، بتكميل فطرته وتصفية جوهر نفسه ، وتنقيته ، بحيث يتهيأ لقبول هذه الأسرار ويستعد لدرك هذه الأنوار ، فيرى ملائكة الله على صور مختلفة ، ويسمع وحيها وحده دون غيره من الحاضرين ، ويختص به دونهم أجمعين ؛ إن الله تعالى (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] ، وليس ما

٢٧٨

يراه النبي من اختلاف صور الملك ؛ لتبدل حقيقته أو لتبدل صورته وشكله ، بل الذي يظهر أنها أنوار روحانية ، وجواهر عقلية ، تظهر في الخيال على اختلاف تلك الأشكال ، ويكون تعلقها به في ضرب المثال على نحو تعلق الأنفس الناطقة بالأبدان ، فإذا اشتد صفاء نفسه ، بحيث صارت متصلة بعالم الغيب ، انطبعت تلك الأشكال في القوة الخيالية ، وارتقمت فيها تلك الكمالات اللاهوتية ، ثم انطبع ما حصل في الخيال من الإدراكات الظاهرة ، في الحواس الباطنة ، فإذا ذاك يرى من الأشخاص والصور ، ويسمع من الأصوات ما تتقاصر عن الإحاطة به قوى البشر ، فما يراه من الصور هي ملائكة الله ، وما يسمعه من الكلام هو كلام الله ووحيه الموحى به إليه.

وأقرب مثال يقربه إلى الذهن ، ويصوره في الوهم ما نشاهده في بعض الناس ؛ فإنه قد يقل شواغله البدنية ، وينصرف عن اشتغاله بمتعلقات حواسه الظاهرة ؛ بسبب يبوسة تغلب على مزاجه ، أو لأمر ما بحيث يصير كالمبهوت وحينئذ قد يرى من الصور ويسمع من الأصوات حسب ما يراه النائم في منامه ، وإن كان مستيقظا ، بل ومثل هذا قد وجد لبعض المرضى والمصروعين ، وبعض المتكهنين ، والمقصود من هذا إنما هو التقريب بالمثال وإلا فهذه صفة نقص ، والأولى صفة تمام وكمال.

وما أشير إليه من الشبهة الثانية فمندفعة ؛ وذلك أنه لا مانع من أن يرد النبي بما هو في نفسه معقول ، ويكون تحذيره وترغيبه تأكيدا ، ويكون ذلك بمثابة إقامة أدلة متعددة.

والمدلول واحد ، وهو لا يسمى عبثا. كيف وإنا قد بينا أن العبث والقبح منفي عن واجب الوجود في جميع أفعاله.

ثم نقول : إن الرسول لا يأتي إلا بما لا تستقل به العقول ، بل هي متوقفة فيه على المنقول ؛ وذلك كما مسالك العبادات ، ومناهج الديانات ، والخفي مما يضر وينفع من الأقوال والأفعال ، وغير ذلك مما تتعلق به السعادة والشقاوة

٢٧٩

في الأولى والأخرى ، وتكون نسبة النبي إلى تعريف هذه الأحوال ، كنسبة الطبيب إلى تعريف خواص الأدوية والعقاقير ، التي يتعلق بها ضرر الأبدان ونفعها ؛ فإن عقول العوام قد لا تستقل بدركها ، وإن عقلتها عند ما ينبه الطبيب عليها ، وكما لا يمكن الاستغناء عن الطبيب في تعريف هذه الأمور مع أنه قد يمكن الوقوف عليها ، والتوصل بطول التجارب إليها لما يفضي إليه من الوقوع في الهلاك والإضرار ؛ لخفاء المسالك ، فكذلك النبي ، وبهذا التحقيق يندفع ما وقعت الإشارة إليه من الشبهة الثالثة أيضا.

فإن قيل : إن تخصيص هذا الشخص بالتعريف دون غيره من نوعه ميل إليه وحيف على غيره ، وهو قبيح قلنا : فعلى هذا يلزم التسوية بين الخلائق في أحوالهم ، وألا تفاوت بين أفعالهم ، بحيث لا يكون هذا عالما وهذا جاهلا ، ولا هذا زمنا وهذا ماشيا ، ولا هذا أعمى وهذا بصيرا ، إلى غير ذلك من أنواع التفاوت في الكمالات ، وحصول الملاذ والشهوات ، وإلا عد ذلك منه قبيحا ، وهو محال ، لكنه واقع ، فإذا ما هو الاعتذار هاهنا للخصم هو الاعتذار بعينه لنا في محز الخلاف ، وأما ما ذكروه من تعذر الوقوف بالعقول على صدق الرسول فتصريح بتعجيز الله تعالى عن تصديق من اصطفاه ونبأه ، واتخذه وسيلة إلى إصلاح نظام الخلق بالإرشاد إلى السبيل الحق (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف : ٥] ، بل من له الخلق والأمر ، وله التصرف في عباده بالبذل والمنع ، والشطر والجمع ، كما كان قادرا على تعريف الخلائق بنفس ربوبيته ، والتصديق بإلهيته ، قادر على أن يعرفهم صدق من اصطفاه واجتباه لحمل أمانته ، إما بأن يخلق لهم علما ضروريا بذلك ، أو بالإخبار عن كونه رسولا ، كما قال تعالى في حق آدم للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، ولا يلزم من تصور الخطاب من المرسل الاستغناء عن الرسول ؛ فإن ذلك حجر وتحكم على الحاكم في مملكته وهو خلاف المعقول ، بل لله تعالى أن يصطفى من عباده : (اللهُ

٢٨٠