شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

مقالتنا بين أيديكم ، ليس فيها الا اثبات ما أثبته الله ورسوله ، فجعلتم هذه المقالة جنة ووقاية لكم من الطعن في النصوص نفسها ، ولكن قصدكم واضح ومفهوم لكل أحد ، وهو أن تجعلوا من مقالتنا وقاية تتقون بها الطعن في نفس القرآن ، ولكل أحد ، وهو أن تجعلوا من مقالتنا وقاية تتقون بها الطعن في نفس القرآن ، ولكن حيلتكم هذه لا تجوز على انسان.

* * *

هذا وثالث ما نجيب به هو استفس

اركم يا فرقة العرفان

ما ذا الذي تعنون بالجسم الذي

ألزمتمونا أوضحوا ببيان

تعنون ما هو قائم بالنفس أو

عال على العرش العظيم الشأن

أو ذا الذي قامت به الأوصاف أو

صاف الكمال عديمة النقصان

أو ما تركب من جواهر فردة

أو صورة حلت هيولى ثان

أو ما هو الجسم الذي في العرف أو

في الوضع عند تخاطب بلسان

أو ما هو الجسم الذي في الذهن ذا

ك يقال تعليم لذي الأذهان

ما ذا الذي في ذاك يلزم من ثبو

ت علوه من فوق كل مكان

فأتوا بتعيين الذي هو لازم

فاذا تعين ظاهر التبيان

فأتوا ببرهانين برهان اللزو

م ونفى لازمه فذان اثنان

والله لو نشرت لكم أشياخكم

عجزوا ولو واطاهم الثقلان

الشرح : وأما جوابنا الثالث على الزامكم فهو أن نسألكم عما تعنون بالجسم اللازم على اثبات الصفات لكي توضحوه لنا ، فهل تعنون به الشيء الذي هو قائم بنفسه بحيث لا يكون مفتقرا الى محل يقوم به ، ولا يكون تحيزه تابعا لتحيز غيره أو تعنون به ما يصح أن يكون فوق العرش عاليا عليه ، أو ما يصح أن تقوم به صفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، فان عنيتم بالجسم الذي يلزم على اثبات الصفات واحدا من هذه الثلاثة فمسلم ومعناه صحيح في حق الله تعالى ، اذ هو قائم بنفسه عال على عرشه ، موصوف بصفات الكمال التي لا كمال وراءها ولكننا نمنع من اطلاق لفظ الجسم لعدم ورود النص به.

١٨١

أم تعنون بالجسم ما تركب من جواهر فردة ، كما هو اصطلاح المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة. أم تعنون به ما تركب من هيولى هي محل وصورة حالة فيها على ما هو اصطلاح الفلاسفة. أم تعنون به الجسم الذي يطلقه أهل العرف أم تعنون به الجسم في اللغة الذي هو الجسد والبدن. أم تعنون به الجسم الكلي الموجود في الأذهان والذي يقال له الجسم التعليمي.

فأي معنى من هذه المعاني التي يستعمل فيها لفظ الجسم هو الذي يلزم من إثبات علوه تعالى فوق عرشه؟ لا بد أن تعينوه لنا ، فإذا عينتموه ببيان صحيح لا لبس فيه ، فعليكم بعد هذا أن تأتوا ببرهانين اثنين : أحدهما برهان على لزوم هذا المعنى لثبوت علوه سبحانه على عرشه والثاني برهان على نفي اللازم ، فذانك برهانان لا يد لكم بهما حتى ولو بعث شيوخكم من قبورهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولو كان الإنس والجن لهم ظهيرا.

* * *

إن كنتم أنتم فحولا فابرزوا

ودعوا الشكاوى حيلة النسوان

وإذا اشتكيتم فاجعلوا الشكوى إل

ى الوحيين لا القاضي ولا السلطان

فنجيب بالتركيب حينئذ جوابا

شافيا فيه هدى الحيران

الحق إثبات الصفات ونفيها

عين المحال وليس في الإمكان

فالجسم إما لازم لثبوتها

فهو الصواب وليس ذا بطلان

أو ليس يلزم من ثبوت صفاته

فشناعة الإلزام بالبهتان

فالمنع في إحدى المقدمتين مع

لوم البيان إذا بلا نكران

المنع إما في اللزوم أو انتقا

ء اللازم المنسوب للبطلان

هذا هو الطاغوت قد أضحى كما

أبصرتموه بمنة الرحمن

الشرح : وإن كنتم كما تدعون فحولا في العلم والمعرفة وجهابذة في التحقيق فأبرزوا للمناجزة ، وحاولوا النقض لهذه الجوابات التي أجبنا بها على إلزامكم ، واتركوا البكاء والشكاية فإنها لا تليق إلا بالنساء الضعيفات ، وإذا كان لا بد

١٨٢

من شكوى فاجعلوا شكواكم إلى الوحيين من الكتاب والسنة ، فإنهما اللذان أمرتم أن تردوا ما تنازعتم فيه إليهما في قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] ولا تجعلوا شكواكم إلى من لا نصفة عنده من قاض أو سلطان تستعدونه وتغرونه بأهل الحق والإيمان.

ونحن نجيبكم حينئذ بمعارضة لدليلكم جوابا فيه الشفاء والهدى لعقولكم الضالة الحائرة.

فنقول لكم : إن إثبات الصفات حق لا ريب فيه ، كما تقتضي ذلك البراهين المكاثرة من العقل والنقل والفطرة ، وحينئذ فالجسم إن كان لازما لثبوتها فهو حق وصواب ونمنع بطلانه وننازعكم في هذا البطلان ، وإن لم يكن لازما على ثبوت الصفات منعنا الملازمة ، ويكون تشنيعكم علينا بهذا الإلزام بهتا ومكابرة. والحل أن منعنا لإحدى المقدمتين من دليلكم أمر بين لا خفاء فيه ، فنحن إما أن نمنع اللزوم ونقول أنه لا يلزم الجسم على ثبوت الصفات ، وإما أن نمنع بطلان اللازم الذي هو الجسم الذي زعمتم بطلانه.

فهذا دليلكم المتهافت الذي نصبتموه طاغوتا نفيتم من أجله صفات الرحمن انظروا إلى ما صار إليه من ذلة وهوان.

* * *

فصل

في مبدأ العداوة الواقعة بين المثبتين الموحدين

وبين النفاة المعطلين

يا قوم تدرون العداوة بيننا

من أجل ما ذا في قديم زمان

انا تحيزنا إلى القرآن والن

قل الصحيح مفسر القرآن

وكذا إلى العقل الصريح وفطرة الر

حمن قبل تغير الإنسان

١٨٣

هي أربع متلازمات بعضها

قد صدقت بعضا على ميزان

والله ما اجتمعت لديكم هذه

أبدا كما أقررتم بلسان

إذ قلتم العقل الصحيح يعارض ال

منقول من أثر ومن قرآن

فتقدم المعقول ثم نصرف ال

منقول بالتأويل ذي الألوان

فإذا عجزنا عنه ألقيناه لم

نعبأ به قصدا إلى الإحسان

الشرح : يخاطب المؤلف في هذه الأبيات أهل النفي والتعطيل وأرباب الجحد والتأويل مبينا لهم سبب العداوة بينهم وبين أهل الإثبات منذ الزمان الأول فيقول أنه لا سبب لذلك إلا أننا أخذنا عقيدتنا في إثبات الصفات من مصادرها الأصلية التي لا يعول في هذا الباب إلا عليها فأخذناها من القرآن العظيم الذي هو أساس كل علم ومعرفة ، ثم من السنن الصحيحة المبينة للكتاب ، ثم من العقل الصريح الخالص من شوائب الهوى والتقليد ، ثم من الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها قبل أن تتغير بالتبعية والتلقين وهي التي عناها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

فهذه المصادر الأربعة متلازمة في الوجود متضافرة على الإثبات يصدق بعضها بعضا على سواء ، ولكنكم لم تعولوا في هذا الباب إلا على أوهام فاسدة وتخيلات كاذبة ، فلم تجتمع لكم أبدا هذه الأمور كما اجتمعت لنا وأنتم تقرون على أنفسكم بذلك حيث تزعمون أن العقل الصحيح قد يعارض النقل من كتاب ومن سنة ، ومن ثم تقدمون المعقول لأنه في زعمكم قطعى يفيد اليقين ، ثم تتصرفون في المنقول بالتأويلات المتعددة على ما فيها من بعد وتكلف سمج ، فإذا عجزتم عن التأويل أنكرتم النصوص وطرحتموها جانبا قصدا منكم إلى الإحسان وما هو إلا النفاق والنكران.

* * *

ولكم بذا سلف لهم تابعتم

لما دعوا للأخذ بالقرآن

صدوا فلما أن أصيبوا أقسموا

لمرادنا توفيق ذي الإحسان

١٨٤

ولقد أصيبوا في قلوبهم وفي

تلك العقول بغاية النقصان

فأتوا بأقوال إذا حصلتها

أسمعت ضحكة هازل مجان

هذا جزاء المعرضين عن الهدى

متعوضين زخارف الهذيان

الشرح : يعني أن لكم في هذا الادعاء الكاذب وهو قصد التوفيق والإحسان بتأويل النصوص سلفا من المنافقين ، جريتم في ذلك على نهجهم ، فقد دعوا إلى التحاكم إلى ما أنزل الله ، وإلى الرسول فأبدوا الأعراض والصدود فلما أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم جاءوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسمون له ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا الإحسان والتوفيق.

والمصنف يشير بذلك إلى قوله تعالى في شأن هؤلاء المنافقين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً* فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً* أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (١) [النساء : ٦٠ ، ٦٣].

ولقد أصيب هؤلاء الحمقى المتهوكون بعمى في قلوبهم وفساد في عقولهم جزاء إعراضهم عما جاءهم به نبيهم من الهدى ، واستعاضتهم عنه بأقوال مزخرفة مموهة ، كلها سفسطة وهذيان ، لا يملك من يطلع عليها إلا أن يضحك ملء شدقيه كما يضحك الهازل المجان.

* * *

__________________

(١) روي في سبب نزول هذه الآيات أنها نزلت في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد ، وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف ، وقيل نزلت في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. والله أعلم.

١٨٥

واضرب لهم مثلا بشيخ القوم إذ

يأبى السجود بكبر ذي طغيان

ثم ارتضى أن صار قوادا لأر

باب الفسوق وكل ذي عصيان

وكذاك أهل الشرك قالوا كيف ذا

بشر أتى بالوحي والقرآن

ثم ارتضوا أن يجعلوا معبودهم

من هذه الأحجار والأوثان

وكذاك عباد الصليب حموا بتا

ركهم من النسوان والولدان

وأتوا إلى رب السموات العلى

جعلوا له ولدا من الذكران

وكذلك الجهمي نزه ربه

عن عرشه من فوق ذي الأكوان

حذرا من الحصر الذي في ظنه

أو أن يرى متحيزا بمكان

فأصاره عدما وليس وجوده

متحققا في خارج الأذهان

الشرح : بعد أن ضرب لهم مثلا بالمنافقين في إعراضهم عن حكم الله ورسوله إلى حكم طواغيتهم ، ضرب لهم مثلا كذلك بإبليس رأس الضلال والشر حيث امتنع عما أمره الله به من السجود لآدم عليه‌السلام كبرا منه ومجاوزة للحد ثم ارتضى بعد أن رجمه الله ولعنه ان يصير قوادا لأهل الفسوق والعصيان يزين لهم الفواحش ويغريهم بالإثم والعدوان.

وكذلك المشركون عبدة الأوثان أنكروا أن يكون الرسول الذي يأتي بالوحي والقرآن بشرا من بني الإنسان ، وقالوا ما حكاه الله عزوجل عنهم (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ثم ارتضوا بعد ذلك ان يكون معبودهم من الأحجار والأوثان.

وكذلك النصارى عباد الصليب لم يرضوا لبطارقتهم وقسيسيهم ان يكون لهم زوجات وأولاد ، ورأوا ذلك عيبا في حقهم ، ثم يعمدون إلى ربهم الأعلى ، رب السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، فينسبون إليه الولد ، ويقولون أن عيسى ابن الله ، قولا بأفواههم يضاهئون به قول الذين كفروا من قبلهم ، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

١٨٦

فانظر كيف أنهم لم يجعلوا ربهم حتى مساويا لرؤسائهم من القسيسين والرهبان فينزهوه عما نزهوهم عنه من النسوان والولدان ، ومثل هؤلاء جميعا ذلك الجهمي الذي ينزه ربه عن أن يكون فوق عرشه ، خوفا من وصفه بالحد والنهاية في زعمه أو أن يكون في حيز ومكان ، ثم رضي أن يصفه بصفات المعدوم الذي لا وجود له إلا في الأذهان.

* * *

لكنما قدماؤهم قالوا بأ

نّ الذات قد وجدت بكل مكان

جعلوه في الآبار والأنجاس وال

حانات والخربات والقيعان

والقصد أنكم تحيزتم إلى الآ

راء وهي كثيرة الهذيان

فتلونت بكم فجئتم أنتم

متلونين عجائب الأكوان

وعرضتم قول الرسول على الذي

قد قاله الأشياخ عرض وزان

وجعلتم أقوالهم ميزان ما

قد قاله والقول في الميزان

ووردتم سفل المياه ولم نكن

نرضى بذاك الورد للظمآن

وأخذتم أنتم بنيات الطريق ونح

ن سرنا في الطريق الأعظم السلطاني

وجعلتم ترس الكلام مجنكم

تبا لذاك الترس عند طعان

الشرح : ولكن قدماء هؤلاء المعطلة كانوا يقولون بحلول الذات في جميع الأمكنة ، فحكموا على ربهم بالوجود في الأماكن القذرة من الآبار ومواضع النجاسات وحانات الخمور وخرائب الدور وقيعان الأرض ، وهي الأراضي المستوية السبخة التي لا تصلح للإنبات.

والقصد أن هؤلاء المعطلة بدلا من أن يتحيزوا إلى القرآن والسنة الصحيحة وحكم العقل الصريح والفطرة السليمة ، تحيزوا إلى آراء فلان وفلان على كثرة ما فيها من خلط وهذيان ، فتلونت بهم هذه الآراء حيث ألبسوها أثوابا من جدلهم وسفسطاتهم ، ثم تلونوا هم بها حتى ظهروا في ألوان مزرية عجيبة ، ثم هم مع تحيزهم لهذه الآراء يقدمونها على قول المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعرضون ما قاله هو على

١٨٧

ما قالته شيوخهم للموازنة بينهما ، ثم يجعلون أقوالهم هي الميزان لما قاله مع العول ، أي النقص في هذا الميزان.

وقد رضي هؤلاء المعطلة لأنفسهم أن يردوا هذه المياه الآجنة وأن يعبوا منها وينهلوا ، مع أنها لا تصلح وردا لذي الصدى الظمآن. ولكننا نحن نرد أعالي المياه فنشرب صفوا خاليا من الكدر والقذى ، وهم يسيرون في الطرق الصغيرة الضيقة ويتركون الجادة الواسعة ، ولكننا نحن نمشي على صراط مستقيم ، وهم يتترسون عند المخاصمة بقواعد الكلام ، ويجعلون منها مجنة يحتمون بها من وقع السهام ، فتبا لهذا الترس الذي لا يقي صاحبه عند الطعان.

* * *

ورميتم أهل الحديث بأسهم

عن قوس موتور الفؤاد جبان

فتترسوا بالوحي والسنن التي

تتلوه نعم الترس للشجعان

هو ترسهم والله من عدوانكم

والترس يوم البعث من نيران

أفتاركوه لقشركم ومحالكم

لا كان ذاك بمنة الرحمن

ودعوتمونا للذي قلتم به

قلنا معاذ الله من خذلان

فاشتد ذاك الحرب بين فريقنا

وفريقكم وتفاقم الأمران

وتأصلت تلك العداوة بيننا

من يوم أمر الله للشيطان

بسجوده فعصى وعارض أمره

بقياسه وبعقله الخوان

فأتى التلاميذ الوقاح فعارضوا

أخباره بالفشر والهذيان

ومعارض للأمر مثل معارض الأ

خبار هم في كفرهم صنوان

الشرح : يعني أنكم حين رميتم أهل الحديث بسهام كلامكم المفلولة بدافع من حقدكم الأسود في جبن ونذالة تترسوا منكم بالوحي ، أي القرآن ، وبالسنن التي تتلوه ، أي تتبعه ، وهما نعم الترس للشجعان. فهذا هو ترسهم في الدنيا من سهام كيدكم وعدوانكم ، وهو ترسهم في الآخرة من عذاب النيران ، أفتظنون أنهم يتركون ذلك من أجل ما تشغبون به من فشر وهذيان ، أن ذلك لا يكون

١٨٨

أبدا بفضل الرحمن ، وحين دعوتمونا لأن ندخل فيما دخلتم فيه من مضايق الشيطان ونقول بالذي قلتموه من زور وبهتان ، قلنا نعوذ بالله ونعتصم به من الخذلان. فاشتدت من أجل ذلك بيننا وبينكم الحرب العوان ، وكانت العداوة قد تأصلت بيننا من قديم الزمان ، حين أمر الله شيخكم وأستاذكم الشيطان بالسجود لآدم ، فأظهر العصيان ، وعارض أمر الله الواحد الديان ، بقياسه الفاسد وعقله الخوان حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].

فجئتم أنتم أيها التلاميذ الوقحاء بعد أستاذكم أمام أهل الخيبة والشقاء فعارضتم أخبار ربكم بالفشر والهراء ، كما عارض هو أمره بالاستكبار والإباء. ومعارض الأخبار النازلة من عند رب السماء هو في الجرم كمعارض أمره من طين.

* * *

من عارض المنصوص بالمعقول قد

ما أخبرونا يا أولي العرفان

أو ما عرفتم أنه القدري وال

جبري أيضا ذاك في القرآن

إذ قال قد أغويتني وفتنتني

لأزينن لهم مدى الأزمان

فاحتج بالمقدور ثم أبان أن ال

فعل منه بغية وزيان

فانظر إلى ميراثهم ذا الشي

خ بالتعصيب والميراث بالسهمان

فسألتكم بالله من وراثه؟

منا ومنكم بعد ذا التبيان

هذا الذي ألقى العداوة بيننا

إذ ذاك واتصلت إلى ذا الآن

أصلتم أصلا وأصل خصمكم

أصلا فحين تقابل الأصلان

ظهر التباين فانتشت ما بيننا ال

حرب العوان وصيح بالأقران

المفردات : قدما : قديما ـ القدري : من لا يؤمن بالقدر السابق. الجبري : نسبة إلى الجبر ، وهو من يقول أن العبد مجبور على فعله. الغية : واحدة الغي وهو ضد الرشد. الزيان: ما يتزين به الميراث ، بالتعصيب : أن يكون الوارث عصبة للمورث كالأب والأخ والعم. أصل الشيء : وضع أصوله وقواعده.

١٨٩

الشرح : يقول المؤلف لهؤلاء الغاوين الذين اتخذوا من إبليس اللعين قدوة لهم في الضلال والغي. من ذا الذي كان أول من استعمل القياس وعارض الأمر المنصوص بالرأي المعقول؟ أخبرونا به إن كنتم كما تدعون من أولي المعرفة والتحقيق. أو لم تعرفوا أنه إبليس رأس الشر. ذلك القدري الجبري الذي جمع بين الضدين ، كما حكى ذلك عنه القرآن العظيم حيث قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٣٩] فاحتج بالمقدور حين قال : (بِما أَغْوَيْتَنِي) فكان جبريا ، ثم أظهر أن أفعال العباد تقع بإغوائه وتزيينه هو فكان قدريا.

فانظر كيف ورث القدرية والمجبرة وغيرهم من فرق الضلال ميراث أستاذهم الأول بطريق التعصيب بحيث أصبح مقسوما بينهم على أسهمهم ونحن نستحلفهم بالله أن يخبرونا من أحق منا ومنهم بميراث هذا الشيطان الرجيم؟ بعد ما وضحنا لهم القول بأنه هو الذي أسس لهم كل باطل من الرأي ذميم. وهو الذي ألقى العداوة بين الفريقين من أوليائه وأعدائه فاستمرت مستعرة حتى الآن ، ولا تزال كذلك ما دام في الأرض حق وباطل حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وذلك لأن أهل الباطل قد أصلوا لأنفسهم أصولا وأصل خصومهم من أهل الحق أصولا ، ولن يتلاقى الأصلان أبدا بل بينهما من التباين ما بين الليل والنهار ولهذا قامت الحرب بيننا ، واشتد أوارها وتنادى الأقران من كل مكان ، وطلبوا المبارزة والطعان.

* * *

أصلتم آرا الرجال وخرصها

من غير برهان ولا سلطان

هذا وكم رأى لهم فبرأي من

نزن النصوص فأوضحوا ببيان

كل له رأي ومعقول له

يدعو ويمنع أخذ رأي فلان

والخصم أصل محكم القرآن مع

قول الرسول وفطرة الرحمن

وبنى عليه فاعتلى بنيانه

نحو السما أعظم بذا البنيان

١٩٠

وعلى شفا جرف بنيتم أنتم

فأتت سيول الوحي والإيمان

قلعت أساس بنائكم فتهدمت

تلك السقوف وخر للأركان

الله أكبر لو رأيتم ذلك البني

ان حين علا كمثل دخان

تسمو إليه نواظر من تحته

وهو الوضيع ولو يرى بعيان

فاصبر له وهنا ورد الطرف تلق

اه قريبا في الحضيض الداني

المفردات : الخرص : التخمين والكذب. سلطان : حجة. شفا جرف : الشفا الحرف والشفير والجرف : البئر التي لم تطو أو الهواة والمعنى على طرف حفرة. خر : سقط ووقع. وهنا : قليلا.

الشرح : أما أصلكم الذي أصلتم فهو تقليد الرجال والأخذ بآرائهم المبنية على التخرص والتخمين بلا حجة ولا دليل. وهذه الآراء كذلك كثيرة ومتضاربة يناقض بعضها بعضا فكل من أصحاب المذاهب والمقالات له رأي يدعو إليه ويمنع من الأخذ برأي غيره ، فقولوا لنا برأي من من هؤلاء نزن نصوص الكتاب والسنة مع تضاربها وتناقضها؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية في هذا الصدد :

(ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج ، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها ، وأنه مضطر فيها إلى التأويل ومن يحيل أن لله علما وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول أن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل ، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش ، يزعم أن العقل أحال ذلك ، وأنه مضطر إلى التأويل.

ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدّعي الآخر أن العقل إحالة. يا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟) أه.

١٩١

وأما خصومكم من أهل الحق فقد اتخذوا أصلا لهم محكم القرآن وسنة الرسول وفطرة الرحمن وهي أقوى الأصول وأثبتها ، ولهذا حين بنوا عليها شمخ بناؤهم وبلغ أجواز السماء ، فما أعظمه من بناء ، وأما أنتم فحين بنيتم على أصلكم الواهي المنهار بنيتم على شفا جرف هار ، فما لبثت سيول الحق أن جرفته أمامها واقتلعته من أساسه فخر سقفه وتداعت أركانه. وهكذا الباطل دائما مهما علا وارتفع لا ثبات له ولا قرار فهو أشبه شيء بالدخان يراه الناظر متصعدا في السماء حتى يغيب في ارتفاعه عن العيون مع أنه أوضع شيء وأسفله لو كانوا يعلمون. وإن شئت أن تعرف ذلك فاصبر له قليلا من الزمان ، ثم رد البصر إليه تلقه قد نزل إلى أسفل مكان ، وما أحسن قول الله عزوجل في وصف الحق والباطل : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧].

* * *

فصل

في بيان أن التعطيل أساس الزندقة والكفران

والاثبات أساس العلم والإيمان

من قال أن الله ليس بفاعل

فعلا يقوم به قيام معان

كلا وليس الأمر أيضا قائما

بالرب بل من جملة الأكوان

كلا وليس الله فوق عباده

بل عرشه خلو من الرحمن

فثلاثة والله لا تبقى من الا

يمان حبة خردل بوزان

وقد استراح معطل هذه الثلا

ث من الاله وجملة القرآن

ومن الرسول ودينه وشريعة الإ

سلام بل من جملة الأديان

وتمام ذاك جحوده لصفاته

والذات دون الوصف ذو بطلان

١٩٢

وتمام ذا الإيمان إقرار الفتى

بالله فاطر هذه الأكوان

فإذا أقرّ به وعطل كل مف

روض ولم يتوق من عصان

لم ينقص الايمان حبة خردل

انى وليس بقابل النقصان

الشرح : يعني أن من أنكر أن يكون الله عزوجل فاعلا بفعل هو وصف له قائم بذاته قيام المعنى بالموصوف. وأنكر أن يكون لله أمر هو آمر به بل جعل أمره من جملة الأشياء المخلوقة. وأنكر كذلك أن يكون الله فوق عرشه بذاته بل عطل عرشه منه ، فما ذا بقى له بعد إنكاره لهذه الثلاثة من الإيمان؟ أنه لم يبق من إيمانه ما يزن حبة خردل ، وقد استراح بهذا التعطيل والإنكار. من الله وكتابه ورسوله ودينه ومن شرائع الإسلام كلها بل من الأديان جملة. وأصبح زنديقا متجردا من جميع الأديان ، ومن تمام ذلك التعطيل والإنكار جحدهم لصفات الرب جل شأنه ، فإنه لا يعقل وجود ذات في الخارج مجردة عن الصفات ، فتعطيل الصفات هو كتعطيل الذات.

ومن تمام ذلك أيضا اعتقاد الجهمية بأن الإيمان هو مجرد الإقرار بالله خالق الأكوان فمتى أقر به فقد كمل إيمانه مهما عطل من فرائض ومهما ارتكب من عصيان ، فإن هذا الإيمان عندهم ليس بقابل للنقصان ، وقد تقدم الكلام عن هذا المذهب في أول الكتاب.

* * *

وتمام هذا قوله أن النب

وة ليس وصفا قام بالإنسان

لكن تعلق ذلك المعنى القدي

م بواحد من جملة الإنسان

هذا وما ذاك التعلق ثابتا

في خارج بل ذاك في الأذهان

فتعلق الأقوال لا يعطى الذي

وقفت عليه الكون في الأعيان

هذا إذا ما حصل المعنى الذي

قلتم هو النفسي في البرهان

لكن جمهور الطوائف لم يروا

ذا ممكنا بل ذاك ذو بطلان

ما قال هذا غيركم من سائر الن

ظار في الآفاق والأزمان

١٩٣

تسعيون وجها بينت بطلانه

لو لا القريض لسقتها بوزان

الشرح : هذه الأبيات فيها إلزام للأشاعرة والكلابية القائلين بالكلام النفسي بأنهم ينفون وصف النبوة وينكرون قيامه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لأن معنى لفظ النبي عندهم قديم قائم بذاته تعالى كغيره من المعاني النفسية التي هي كلامه ، فمعنى النبوة عندهم إذا هو تعلق ذلك المعنى القديم بواحد من الناس فيصير بذلك نبيا ، ومعلوم أن هذه التعلقات أمور عدمية لا وجود لها في الخارج ، بل إنما يفرض وجودها في الأذهان ، فتعلق الأقوال بشيء إذا لا يعطى ما تعلقت به الوجود في الأعيان ما دام هذا التعليق عدميا ، وبذلك لا يكون تعلق لفظ النبي بواحد من الناس بمكسب له صفة النبوة ، هذا إذا ما صح القول بالكلام النفسي وقام البرهان على ثبوته ، مع أن جمهور الطوائف من المتكلمين والفلاسفة ينكره ويراه محالا فلم يقل به أحد من النظار غيركم في سائر الجهات وفي جميع الأزمان.

وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله رسالة في إبطال الكلام النفسي بلغ بها نحوا من ثمانين وجها وقد أوصلها تلميذه ابن القيم رحمه‌الله إلى تسعين وجها ، ثم قال لو لا صعوبة إيرادها في الشعر لسقتها موزونة مقفاة.

* * *

يا قوم أين الرب؟ أين كلامه؟

أين الرسول فأوضحوا ببيان

ما فوق عرش الرب من هو قائل

طه ولا حرفا من القرآن

ولقد شهدتم أن هذا قولكم

والله يشهد مع أولى الإيمان

وا رحمتاه لكم غبنتم حظكم

من كل معرفة ومن ايمان

ونسبتم للكفر أولى منكم

بالله والايمان والقرآن

هذى بضاعتكم فمن يستامها

فقد ارتضى بالجهل والخسران

وتمام هذا قولكم في مبدأ

ومعادنا أعني المعاد الثاني

وتمام هذا قولكم بفناء دا

ر الخلد فالداران فانيتان

١٩٤

يا قومنا بلغ الوجود بأسره الد

نيا مع الأخرى مع الإيمان

والخلق والأمر المنزل والجزا

ومنازل الجنات والنيران

الشرح : فقولوا لنا أين الرب إذا كنتم تنكرون وجوده فوق عرشه وتجحدون قيام كل صفة به ، وأين كلامه إذا كنتم لا تؤمنون بأن هذا القرآن هو كلامه وأنه قائم به قيام المعنى بموضوعه ، وأين الرسول إذا إن كنتم لا تقرون بقيام معنى الرسالة به ، وتردون الأمر إلى التعليق وحده. فالحق إنكم لا تؤمنون بأن فوق العرش ربا قال أو يقول أو هو قائل متكلم بطه أو بغيرها من القرآن ، وأنتم تشهدون على أنفسكم بذلك ، والله يشهد عليكم بذلك أيضا ، والمؤمنون يشهدون. وا حسرتاه عليكم قد أضعتم نصيبكم من كل معرفة وإيمان حين قلتم هذا الزور والبهتان.

ومن العجيب أنكم تنسبون إلى الكفر من هو أولى وأحق منكم بالله والإيمان والقرآن ، فهذه بضاعتكم الفاسدة تنادي على نفسها بالبوار ، فمن يطلبها ويسومها فقد رضي لنفسه بالجهل والخسران.

ومن تمام زندقتكم وإلحادكم قولكم في المبدأ إن هذا العالم بقي معدوما مدة لا نهاية لها من الزمان قبل أن يخلقه الله ، فالله عندكم لم يكن فاعلا ثم فعل ، وقولكم في المعاد أن الله يعدم هذا العالم ويفنيه بالكلية ثم يعيده عن عدم محض.

ومن تمام ذلك أيضا قولكم بأن الجنة والنار غير باقيتين ، بل يجيء عليهما وقت يفنيان فيه هما وأهلهما ، فإنكاركم وجحودكم قد انتظم الوجود كله ، الدنيا والآخرة والإيمان ، والخلق والأمر المنزل ، والثواب والعقاب ، ومنازل الجنات والنيران.

* * *

والناس قد ورثوه بعد فمنهم

ذو السهم والسهمين والسهمان

بئس المورث والمورث والترا

ث ثلاثة أهل لكل هوان

١٩٥

يا وارثين نبيهم بشراكم

ما إرثكم مع إرثهم سيان

شتان بين الوارثين وبين مو

روثيهما وسهام ذي سهمان

يا قوم ما صاح الأئمة جهدهم

بالجهم من أقطارها بأذان

إلا لما عرفوه من أقواله

ومآلها بحقيقة العرفان

قول الرسول وقول جهم عندنا

في قلب عبد ليس يجتمعان

نصحوكم والله جهد نصيحة

ما فيهم والله من خوان

فخذوا بهديهم فربّي ضامن

ورسوله أن تفعلوا بجنان

فإذا أبيتم فالسلام على من اتب

ع الهدى وانقاد للقرآن

الشرح : يعني أن جهما وشيعته قبحهم الله حين وضعوا أصول هذه الضلالات ورثها عنهم من بعدهم من أرباب المذاهب والمقالات ، كالمعتزلة والفلاسفة والأشعرية ، كل على قذر نصيبه منها ، فمنهم صاحب السهم والسهمين والسهمان الكثيرة. فبئس المورث حيث خلف من بعده شرا كثيرا وبلاء مستطيرا ، وبئس الوارث حيث جنح بعقله إلى هذه القاذورات والأوساخ ، واستعاض بها عن هدى الله الذي جاء به نبيه عليه‌السلام وبئست التركة التي لا خير فيها لمن ورثها بل تعود عليه بأفدح الإضرار. فهذه الثلاثة أهل لكل مهانة واحتقار. وأما أنتم أيها الوارثون لهدى نبيهم وعلمه فأبشروا برحمة من الله ورضوان ، فما إرثكم الكريم وإرث هؤلاء الضالين سيان ، بل شتان بينهما شتان.

نعم شتان بين الوارثين ، فهؤلاء ورثوا هدى وإيمانا ، وأولئك ورثوا ضلالا وكفرانا ، وشتان بين الموروثين ، فهذا ورث خيرا وعلما نافعا وهدى مبينا ، وهذا ورث شرا وجهلا وضلالا بعيدا.

ولما ظهرت فتنة الجهم واندلعت ألسنتها في أقطار الإسلام قام أئمة الهدى يصيحون به من كل جانب يعرفون الناس بحقيقة أقواله وما تؤول إليه من هدم قواعد الإيمان ويبينون لهم أن أقواله وآراءه هي وما جاء به الرسول ضدان لا يجتمعان ، فلم يألوا هذه الأمة نصحا ولا قصروا في واجب الاعلام والبيان ، ولا

١٩٦

عمدوا إلى كذب أو خيانة أو كتمان ، فالواجب أن نأخذ بهديهم وأن نسير على نهجهم ، فإن الله ورسوله ضامنان لمن سلك سبيلهم أن يرث عالي الجنان ، فإذا امتنعتم عن اتباع سبيلهم والاستماع لنصحهم ، فاعلموا أن السلام على من اتبع الهدى وأذعن للقرآن.

* * *

سيروا على نجب العزائم واجعلوا

بظهورها المسرى إلى الرحمن

سبق المفرد وهو ذاكر ربه

في كل حال ليس ذا نسيان

لكن أخو الغفلات منقطع به

بين المفاوز تحت ذي الغيلان

صيد السباع وكل وحش كاسر

بئس المضيف لأعجز الضيفان

وكذلك الشيطان يصطاد الذي

لا يذكر الرحمن كل أوان

والذكر أنواع فأعلى نوعه

ذكر الصفات لربنا المنان

وثبوتها أصل لهذا الذكر والن

افي لها داع إلى النسيان

فلذاك كان خليفة الشيطان ذا

لا مرحبا بخليفة الشيطان

والذاكرون على مراتبهم فأع

لاهم أولو الإيمان والعرفان

بصفاته العليا إذا قاموا بحم

د الله في سر وفي إعلان

الشرح : يأمر المؤلف أهل السنة والإيمان أن يمتطوا ركائب الهمم وجياد العزائم ، وأن يجعلوا مسيرهم على صهواتها إلى الرحمن جل شأنه ولا يكونوا كأهل الغفلة الذين خبت منهم العزائم ، فقعدوا عن السباق في مضمار الطاعات ، فقد سبق المفردون (١) وهم الذاكرون لله على كل حال ، بحيث لا ينسونه أبدا في لحظة من اللحظات. وأما أهل الغفلة والغرات من المتبعين للأهواء والشهوات ، فقد انقطعت بهم حمرهم المعقرة بين المفاوز والمتاهات ، فاحتوشتهم هنالك

__________________

(١) روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسير في طريق مكة فمرّ على جبل يقال له جمدان ، فقال سيروا هذا جمدان سبق المفردون ، قيل وما المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات».

١٩٧

الغيلان والحيات ، وصاروا فريسة للسباع الضاريات والوحوش الكاسرات. وكذلك الشيطان يصطاد بشباكه أهل الغفلات الذين لا يذكرون الله في جميع الأوقات ، وفي الحديث الصحيح «أن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا ذكر الله تعالى» وذكر الله عزوجل أنواع ، فأعلاها ذكره سبحانه بما له من الأسماء والصفات. وهذا الذكر لا يتأتى إلا مع الإثبات لها ، وأما من ينفيها ويجحدها فهو داع إلى نسيانها ، ولهذا كان النافي لها خليفة الشيطان ، لأنه يدعو إلى مثل ما يدعو إليه من الغفلة والنسيان. قال تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المجادلة : ١٩].

وكذلك الذاكرون لله على مراتب ودرجات ، فأعلاهم منزلة هم أولو الإيمان والمعرفة بمعاني أسمائه الحسنى وصفاته العليا سبحانه ، وذلك حين يقومون لله بها في السر والإعلان ، فكلما كان العبد أتم إيمانا ومعرفة بصفات الله عزوجل كان أشد خشية له وأقرب إليه زلفى وأعظم عنده جاها ومنزلة.

* * *

وأخص أهل الذكر بالرحمن أع

لمهم بها هم صفوة الرحمن

وكذاك كان محمد وأبوه اب

راهيم والمولود من عمران

وكذاك نوح وابن مريم عندنا

هم خير خلق الله من إنسان

لمعارف حصلت لهم بصفاته

لم يؤتها أحد من الإنسان

وهم أولو العزم الذين بسورة الأ

حزاب والشورى أتوا ببيان

وكذلك القرآن مملوء من الأ

وصاف وهي القصد بالقرآن

ليصير معروفا لنا بصفاته

ويصير مذكورا لنا بجنان

ولسان أيضا مع محبتنا له

فلأجل ذا الاثبات في الإيمان

مثل الأساس من البناء فمن يرم

هدم الأساس فكيف بالبنيان

والله ما قام البناء لدين رس

ل الله بالتعطيل للديّان

١٩٨

ما قام إلا بالصفات مفصلا

إثباتها تفصيل ذي عرفان

فهي الأساس لديننا ولكل دي

ن قبله من سائر الأديان

الشرح : وأكثر الذاكرين اختصاصا بالرحمن جل شأنه وأقربهم إليه منزلة هم أعلمهم بصفاته ، فهم خيرة الله وصفوته من عباده ، ولهذا كان أولو العزم من الرسل وهم الخليلان محمد وابراهيم ، وموسى بن عمران الكليم ، وعيسى ونوح عليهم جميعا أزكى الصلوات وأتم التسليم هم أفضل البشر على الإطلاق لأنهم أوتوا من العلم بصفات الله تعالى ما لم يؤته أحد غيرهم. وهم كذلك متفاوتون فيما بينهم بأكملهم الخليلان محمد وابراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم نوح ، فهم في الفضل على هذا الترتيب ، وهم أولو العزم الذين ذكرهم الله عزوجل في سورتي الأحزاب والشورى كما سبق بيانه.

والقرآن كذلك مملوء من ذكر صفات الرب وأسمائه حتى لا تكاد تخلو من ذلك سورة من سوره ، بل هي المقصود الأول من إنزال القرآن ، فإن أعظم غايات الدين أن يعرف العباد ربهم بما له من الأسماء والصفات ، وأن يذكروه بها ذكرا يواطئ القلب فيه اللسان فيصير مذكورا لهم بقلوبهم وألسنتهم مع شدة محبتهم وتعظيمهم له. ولأجل هذا كان إثبات الصفات للإيمان كالأساس للبناء ، فمن يقصد هدم الأساس بنفي الصفات لم يتم له بناء وكان فؤاده من الدين هواء.

فو الله ما قام لله في أرضه دين بعث به رسول على أساس من الجحد والتعطيل بل ما قامت الأديان والرسالات كلها إلا على إثبات الصفات بالتفصيل فهي الأساس لديننا ، ولكل دين قبله من لدن أول الرسل نوح عليه‌السلام.

* * *

وكذاك زندقة العباد أساسها الت

عطيل يشهد ذا أولو العرفان

والله ما في الأرض زندقة بدت

إلا من التعطيل والنكران

والله ما في الأرض زندقة بدت

من جانب الإثبات والقرآن

١٩٩

هذي زنادقة العباد جميعهم

ومصنفاتهم بكل مكان

ما فيهم أحد يقول الله فو

ق العرش مستول على الأكوان

ويقول إن الله جل جلاله

متكلم بالوحي والقرآن

ويقول إن الله كلم عبده

موسى فأسمعه بذي الآذان

ويقول إن النقل غير معارض

للعقل بل أمران متفقان

والنقل جاء بما يحار العقل في

ه لا المحال البيّن البطلان

فانظر إلى الجهمي كيف أتى إلى

أس الهدى ومعاقل الإيمان

بمعاول التعطيل يقطعها فما

يبقى على التعطيل من إيمان

يدري بهذا عارف بمآخذ ال

أقوال مضطلع بهذا الشأن

والله لو حدقتم لرأيتم

هذا وأعظم منه رأي عيان

لكن على تلك العيون غشاوة

ما حيلة الكحال في العميان

الشرح : وكما أن الإثبات للصفات هو أساس الهدى والإيمان ، فكذلك الجحد والتعطيل سبب لكل زندقة وإلحاد ، يشهد بذلك أهل المعرفة بأديان العباد فما ظهرت في الأرض زندقة إلا من هذا الوادي ، فهؤلاء زنادقة الأرض كلهم من فلاسفة وصوفية ، وقرامطة واتحادية وحلولية. ومصنفاتهم التي أودعوها مذاهبهم موجودة بكل مكان تنطق عليهم بالإلحاد والتعطيل ، والصد عن سواء السبيل ، فليس فيهم أبدا من يقول إن الله موجود فوق عرشه مستول على خلقه ولا من يقول إن الله متكلم بالوحي والقرآن كلاما حقيقيا مسموعا بالآذان ، ولا من يقول بما قاله القرآن إن الله كلم عبده موسى بن عمران ، ولا من يقول إن العقل والنقل لا يتعارضان ، بل هما دائما متفقان. بل كلهم يرى أن النقل قد ورد بما يحيله العقل ويحكم عليه بالبطلان.

فانظر يا أخا العقل إلى ما جناه هذا الجهمي المعطل ، وكيف أتى إلى أصول الهدى وحصون الإيمان فأعمل فيها معاول جحده وتعطيله حتى تداعت منها الأركان ولا يعرف هذا الا خبير بأقوال العباد ومآخذها ممن هو كلف بهذا الشأن. وأنتم أيها الضالون المفتونون لو أمعنتم النظر وصحت منكم العيون لرأيتم

٢٠٠