تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ١٨

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

فأمسك أبو عبد الله. فلم يزل يجري علينا حتّى مات المتوكّل.

وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي في ذلك كلام كثير ، وقال : يا عمّ ، ما بقي من أعمارنا؟ كأنّك بالأمر قد نزل بنا ، فالله الله فإنّ أولادنا إنّما يريدون يتأكّلون بنا ، وإنّما هي أيام قلائل. لو كشف للعبد عمّا قد حجب عنه لعرف ما هو عليه من خير أو شرّ ، صبر قليل وثواب طويل ، وإنّما هذه فتنة.

قال أبي : فقلت : أرجو أن يؤمنك الله ممّا تحذر.

قال : فكيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم ، لو تركتموها لتركوكم.

وقال : ما ننتظر؟ إنّما هو الموت ، فإمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار ، فطوبى لمن قدم على خير.

قال أبي : فقلت له : أليس قد أمرت ، ما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس أن تأخذه.

قال : قد أخذت مرّة بلا إشراف نفسي فالثانية والثالثة ، فما بال نفسك ألم تستشرف؟

فقلت : ألم يأخذ ابن عمر وابن عبّاس؟

فقال : ما هذا وذاك؟

وقال : لو أعلم أنّ هذا المال يؤخذ من وجهه ولا يكون فيه ظلم ولا حيف لم أبال.

قال حنبل : فلمّا طالت علّة أبي عبد الله كان المتوكّل يبعث بابن ماسويه المتطبّب فيصف له الأدوية ، فلا يتعالج ، ودخل المطبّب على المتوكّل فقال : يا أمير المؤمنين ، أحمد ليست به علّة في بدنه ، إنّما هو من قلّة الطّعام والصّيام والعبادة.

فسكت المتوكّل.

وبلغ أمّ المتوكّل خبر أبي عبد الله ، فقالت لابنها : أشتهي أن أرى هذا الرجل.

فوجّه المتوكّل إلى أبي عبد الله يسأله أن يدخل على ابنه المعتزّ ويسلّم

١٢١

عليه ويدعو له ويجعله في حجره. فامتنع أبو عبد الله من ذلك ، ثم أجاب رجاء أن يطلق وينحدر إلى بغداد.

فوجّه إليه المتوكّل خلعة ، وأتوه بدابّة يركبها إلى المعتزّ ، فامتنع ، وكانت عليها مثيرة نمور. فقدّم إليه بغل لرجل من التّجّار فركبه ، وجلس المتوكّل مع أمّه في مجلس من المكان ، وعلى المجلس ستر رقيق. فدخل أبو عبد الله على المعتزّ ، ونظر إليه المتوكّل وأمّه ، فلمّا رأته قالت : يا بنيّ ، الله الله في هذا الرجل ، فليس هذا ممّن يريد ما عندكم ، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله ، فأذن له فليذهب.

فدخل أبو عبد الله على المعتزّ فقال : السّلام عليكم ، وجلس ولم يسلّم عليه بالإمرة.

قال : فسمعت أبا عبد الله بعد ذلك ببغداد يقول : لمّا دخلت عليه وجلست قال مؤدّب الصّبيّ : أصلح الله الأمير ، هذا الّذي أمره أمير المؤمنين يؤدّبك ويعلّمك.

فردّ عليه الغلام وقال : إن علّمني شيئا تعلّمته.

قال أبو عبد الله : فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره. وكان صغيرا.

قال : ودامت علّة أبي عبد الله وبلغ الخليفة ما هو فيه ، وكلّمه يحيى بن خاقان أيضا وأخبره أنّه رجل لا يريد الدّنيا. فأذن له بالانصراف. فجاء عبيد الله ابن يحيى وقت العصر فقال : إنّ أمير المؤمنين قد أذن لك ، وأمر أن تفرش لك حرّاقة تنحدر فيها.

فقال أبو عبد الله : اطلبوا لي زورقا فأنحدر فيه السّاعة.

فطلبوا له زورقا فانحدر فيه من ساعته.

قال حنبل : فما علمنا بقدومه حتّى قيل لي إنّه قد وافى ، فاستقبلته بناحية القطيعة ، وقد خرج من الزّورق ، فمشيت معه فقال لي : تقدّم لا يراك النّاس فيعرفوني.

فتقدّمت بين يديه حتّى وصل إلى المنزل ، فلمّا دخل ألقى نفسه على قفاه

١٢٢

من التعب والعياء. وكان في حياته ربما استعار الشّيء من منزلنا ومنزل ولده. فلمّا صار إلينا من مال السّلطان ما صار امتنع من ذلك ، حتّى لقد وصف له في علّته قرعة تشوى ويؤخذ ماؤها. فلمّا جاءوا بالقرعة قال بعض من حضر : اجعلوها في تنّور ، يعني في دار صالح ، فإنّهم قد خبزوا. فقال بيده : لا. ومثل هذا كثير.

وقد ذكر صالح بن أحمد قصّة خروج أبيه إلى العساكر ورجوعه ، وتفتيش بيوتهم على العلويّ ، ثمّ ورود يعقوب قرقرة ومعه العشرة آلاف ، وأنّ بعضها كان مائتي دينار والباقي دراهم.

قال : فجئت بأجّانة خضراء ، فأكببتها (١) على البدرة ، فلمّا كان عند المغرب قال : يا صالح خذ هذا صيّره عندك.

فصيّرته عند رأسي فوق البيت. فلمّا كان سحر إذا هو ينادي : يا صالح. فقمت وصعدت إليه ، فقال : ما نمت. قلت : لم يا أبه؟

فجعل يبكي وقال : سلمت من هؤلاء ، حتّى إذا كان في آخر عمري بليت بهم. وقد عزمت عليك أن تفرّق هذا الشيء إذا أصبحت.

فقلت : ذاك إليك.

فلمّا أصبح جاءه الحسن (٢) بن البزّار فقال : جئني يا صالح بميزان. وجّهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار. ثمّ وجّه إلى فلان حتّى يفرّق في ناحيته ، وإلى فلان ، حتّى فرّقها كلّها ، ونحن في حالة الله بها عليم.

فجاءني ابن لي فقال : يا أبه أعطني درهما.

فأخرجت قطعة فأعطيته.

وكتب صاحب البريد إنّه تصدّق بالدّراهم في يومه ، حتّى تصدّق بالكيس.

قال عليّ بن الجهم : فقلت : يا أمير المؤمنين قد تصدّق بها. وعلم النّاس أنّه قد قبل منك.

__________________

(١) في الحلية ٩ / ٢٠٧ «كفأتها».

(٢) في الحلية ٩ / ٢٠٧ : «الحسين».

١٢٣

ما يصنع أحمد بالمال وإنّما قوته رغيف؟!

قال : فقال لي : صدقت يا عليّ (١).

قال صالح : ثم أخرج أبي ليلا ، ومعنا حرّاس معهم النّفاطات ، فلمّا أصبح وأضاء الفجر قال لي : صالح معك دراهم؟ قلت : نعم.

قال : أعطهم.

فلمّا أصبحنا جعل يعقوب يسير معه ، فقال له : يا أبا عبد الله (٢) ، ابن الثّلجي بلغني أنّه كان يذكرك.

فقال له : يا أبا يوسف سل الله العافية.

فقال له : يا أبا عبد الله تريد أن نؤدّي عنك رسالة إلى أمير المؤمنين؟

فسكت.

فقال : إنّ عبد الله بن إسحاق أخبرني أنّ الوابصيّ قال له إنّي أشهد عليه أنّه قال : إنّ أحمد يعبد ماني.

فقال : يا أبا يوسف يكفي الله.

فغضب يعقوب والتفت إليّ فقال : ما رأيت أعجب ممّا نحن فيه ، أسأله أن يطلق لي كلمة أخبر أمير المؤمنين ، فلا يفعل.

قال : ووجّه يعقوب إلى المتوكّل بما عمل ، ودخلنا العسكر وأبي منكّس الرأس ، ورأسه مغطّى ، فقال له يعقوب : اكشف رأسك يا أبا عبد الله ، فكشفه.

ثمّ جاء وصيف يريد الدّار ، ووجّه إليه بعد ما جاز بيحيى بن هرثمة فقال : يقرئك أمير المؤمنين السّلام ويقول : الحمد لله الّذي لم يشمت بك أهل البدع. قد علمت ما كان من حال ابن أبي دؤاد ، فينبغي أن تتكلّم بما يحبّ الله (٣). ومضى يحيى وأنزل أبي دار إيتاخ. فجاء عليّ بن الجهم وقال : قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان تلك الّتي فرّقتها ، وأمر أن لا يعلم شيخكم بذلك

__________________

(١) الحلية ٩ / ٢٠٧ ، ٢٠٨.

(٢) حتى هنا في الحلية ٩ / ٢٠٨.

(٣) في الحلية ٩ / ٢٠٨ : «بما يجب لله».

١٢٤

فيغتمّ. ثمّ جاءه محمد بن معاوية فقال : إنّ أمير المؤمنين يكثر من ذكرك ويقول : يقيم هاهنا يحدّث.

فقال : أنا ضعيف (١).

ثمّ صار إليه يحيى بن خاقان فقال : يا أبا عبد الله قد أمر أمير المؤمنين أن أصير إليك لتركب إلى ابنه أبي عبد الله ، يعني المعتزّ.

ثم قال لي : قد أمرني أمير المؤمنين [أن] يجرى عليك وعلى قراباتك أربعة آلاف درهم ، ففرّقها عليهم (٢).

ثم عاد يحيى من الغد فقال : يا أبا عبد الله تركب؟

فقال : ذاك إليكم.

ولبس إزاره وخفّه. وكان خفّه له عنده نحو من خمسة عشر عاما ، قد رقّع برقاع عدّة. فأشار يحيى أن يلبس قلنسوة.

قلت : ما له قلنسوة.

إلى أن قال : فدخل دار المعتزّ ، وكان قاعدا على دكّان في الدّار ، فلمّا صعد الدّكّان قعد فقال له يحيى : يا أبا عبد الله إنّ أمير المؤمنين جاء بك ليسرّ بقربك ، ويصيّر أبا عبد الله ابنه في حجرك. فأخبرني بعض الخدم أنّ المتوكّل كان قاعدا وراء ستر. فلمّا دخل أبي الدّار قال لأمّه : يا أمه قد نارت الدّار.

ثم جاء خادم بمنديل ، فأخذ يحيى المنديل ، وذكر قصّة في إلباسه القميص والطّيلسان والقلنسوة وهو لا يحرّك يده. ثمّ انصرف. وكانوا قد تحدّثوا أنّه يخلع عليه سوادا. فلمّا صار إلى الدّار نزع الثّياب ، ثم جعل يبكي وقال : سلمت من هؤلاء منذ ستّين سنة ، حتّى إذا كان في آخر عمري بليت بهم. ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام ، فكيف بمن يجب عليّ نصحه من وقت تقع عيني عليه ، إلى أن أخرج من عنده. يا صالح وجّه بهذه الثّياب إلى بغداد تباع ويتصدّق بثمنها ، ولا يشتري أحد منكم منها شيئا.

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢٠٨.

(٢) الحلية ٩ / ٢٠٩.

١٢٥

فوجّهت بها إلى يعقوب بن بختان (١) ، فباعها وصرف ثمنها ، وبقيت عندي القلنسوة (٢). قال : ومكث خمسة عشر يوما يفطر في كلّ ثلاثة على تمر سويق ، ثم جعل بعد ذلك يفطر ليلة على رغيف ، وليلة لا يفطر. وكان إذا جيء بالمائدة توضع بالدّهليز لئلّا يراها ، فيأكل من حضر. فكان إذا أجهده الحرّ بلّ خرقة فيضعها على صدره. وفي كلّ يوم يوجّه إليه بابن ماسويه فينظر إليه ويقول : يا أبا عبد الله أنا أميل إليك وإلى أصحابك ، وما بك علّة إلّا الضّعف وقلّة الزّاد (٣).

إلى أن قال : وجعل يعقوب وغياث يصيران إليه ويقولان له : يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول في ابن أبي دؤاد وفي حاله؟

فلا يجيب في ذلك بشيء.

وجعل يعقوب ويحيى يخبراه بما يحدث في أمر ابن أبي دؤاد في كلّ يوم ، ثمّ أحدر إلى بغداد بعد ما أشهد عليه ببيع ضياعه (٤).

وكان ربّما صار إليه يحيى بن خاقان وهو يصلّي ، فيجلس في الدّهليز حتّى يفرغ.

وأمر المتوكّل أن يشترى لنا دار فقال : أبا صالح. قلت : لبّيك. قال : لئن أقررت لهم بشراء دار لتكوننّ القطيعة بيني وبينكم. إنّما يريدون أن يصيّروا هذا البلد لي مأوى ومسكنا.

فلم نزل ندفع بشراء الدّار حتّى اندفع (٥).

وجعلت رسل المتوكّل تأتيه يسألونه عن خبره ، ويصيرون إليه فيقولون : هو ضعيف. وفي خلال ذلك يقولون : يا أبا عبد الله لا بدّ من أن يراك (٦).

وجاءه يعقوب فقال : يا أبا عبد الله ، أمير المؤمنين مشتاق إليك ويقول :

__________________

(١) في الحلية ٩ / ٢١٠ : «التختكان».

(٢) حلية الأولياء ٩ / ٢٠٩ ، ٢١٠.

(٣) في الحلية ٩ / ٢١٠ «وقلّة البر».

(٤) حلية الأولياء ٩ / ٢١٠.

(٥) الحلية ٩ / ٢١٠ ، ٢١١.

(٦) الحلية ٩ / ٢١١.

١٢٦

انظر يوما تصير فيه أيّ يوم هو حتّى أعرفه.

فقال : ذاك إليكم.

فقال : يوم الأربعاء يوم خال.

وخرج يعقوب ، فلمّا كان من الغد جاء يعقوب فقال : البشرى يا أبا عبد الله ، أمير المؤمنين يقرأ عليك السّلام ويقول : قد أعفيتك عن لبس السّواد والرّكوب إلى ولاة العهود وإلى الدّار. فإن شئت فالبس القطن ، وإن شئت فالبس الصّوف.

فجعل يحمد الله على ذلك (١).

ثم قال يعقوب : إنّ لي ابنا وأنا به معجب ، وإنّ له من قلبي موقعا ، فأحبّ أن تحدّثه بأحاديث.

فسكت ، فلمّا خرج قال : أتراه لا يرى ما أنا فيه؟!

وكان يختم من جمعة إلى جمعة. فإذا ختم دعا فيدعو ونؤمّن ، فلمّا كان غداة الجمعة وجّه إليّ وإلى أخي ، فلمّا ختم جعل يدعو ونحن نؤمّن ، فلمّا فرغ جعل يقول : أستخير الله مرّات. فجعلت أقول ما يريد. ثمّ قال : إنّي أعطي الله عهدا ، إنّ عهده كان مسئولا. وقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) إنّي لا أحدّث حديث تمام أبدا حتّى ألقى الله ، ولا أستثني منكم أحدا.

فخرجنا وجاء عليّ بن الجهم ، فأخبرناه فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وأخبر المتوكّل بذلك وقال : إنّما يريدون أن أحدّث ويكون هذا البلد حبسي. وإنّما كان سبب الّذين أقاموا بهذا البلد لما أعطوا فقبلوا وأمروا فحدّثوا (٣).

وجعل أبي يقول : والله لقد تمنّيت الموت في الأمر الّذي كان ، وإنّي

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢١١.

(٢) أول سورة المائدة.

(٣) حلية الأولياء ٩ / ٢١١.

١٢٧

لأتمنّى الموت في هذا ، وذلك أنّ هذا فتنة الدّنيا ، وذاك كان فتنة الدّين.

ثم جعل يضمّ أصابعه ويقول : لو كان نفسي في يدي لأرسلتها. ثمّ يفتح أصابعه (١).

وكان المتوكّل كلّ يوم يوجّه في كلّ وقت يسأله عن حاله ، وكان في خلال ذلك يأمر لنا بالمال ويقول : يوصل إليهم ، ولا يعلم شيخهم فيغتمّ. ما يريد منهم إن كان هو لا يريد الدّنيا ، فلم يمنعهم (٢)؟

وقالوا للمتوكّل : إنّه لا يأكل من طعامك ، ولا يجلس على فراشك ، ويحرّم الّذي تشرب. فقال لهم : لو نشر المعتصم وقال فيه شيئا لم أقبل منه (٣).

قال صالح : ثمّ انحدرت إلى بغداد ، وخلّفت عبد الله عنده ، فإذا عبد الله قد قدم ، وجاء بثيابي الّتي كانت عنده. فقلت : ما جاء بك؟

فقال : قال لي : انحدر ، وقل لصالح لا يخرج ، فأنتم كنتم آفتي. والله ، لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أخرجت واحدا منكم معي. لولاكم لمن كانت توضع هذه المائدة؟ ولمن كان تفرش هذه الفرش ويجرى [هذا] الإجراء؟

فكتبت إليه أعلمه ما قال لي عبد الله ، فكتب إليّ بخطه : أحسن الله عاقبتك ، ودفع عنك كلّ مكروه ومحذور ، الّذي حملني على الكتاب إليك الّذي قلت لعبد الله : لا يأتيني منكم أحد رجاء أن ينقطع ذكري ويخمل. إذا كنتم هنا فشا (٤) ذكري. وكان يجتمع إليكم قوم ينقلون أخبارنا ، ولم يكن إلّا خيرا (٥). فإن أقمت فلم تأتني أنت ولا أخوك فهو رضائي ، ولا تجعل في نفسك إلّا خيرا ، والسّلام عليك ورحمة الله.

قال : ولمّا خرجنا من العساكر رفعت المائدة والفرش وكلّ ما أقيم لنا.

__________________

(١) الحلية ٩ / ٢١١.

(٢) في الحلية ٩ / ٢١٢ : «فما يمنعهم».

(٣) الحلية ٩ / ٢١٢.

(٤) في الأصل : «فشى».

(٥) في الأصل : «خير» ، والتحرير من : الحلية ٩ / ٢١٢.

١٢٨

ثم ذكر صالح كتاب وصيّته ثم قال : وبعث إليه المتوكّل بألف دينار ليقسمها ، فجاء عليّ بن الجهم في جوف اللّيل ، فأخبره أنّه يهيّئ له حرّاقة لينحدر فيها. ثم جاء عبيد الله ومعه ألف دينار وقال : إنّ أمير المؤمنين قد أذن لك ، وقد أمر لك بهذه.

قال : قد أعفاني أمير المؤمنين ممّا أكره ، فردّها.

وقال : أنا رقيق على البرد ، والظّهر (١) أرفق بي. فكتب له جواز ، وكتب إلى محمد بن عبد الله في برّه وتعاهده ، فقدم علينا.

ثم قال بعد قليل : يا صالح. قلت : لبّيك.

قال : أحبّ أن تدع هذا الرزق ، فإنّما تأخذونه بسببي.

فسكتّ ، فقال : ما لك؟

قلت : أكره أن أعطيك بلساني وأخالف إلى غيره ، وليس في القوم أكثر عيالا منّي ولا أعذر. وقد كنت أشكو إليك وتقول. أمرك منعقد بأمري ، ولعلّ الله أن يحلّ عنّي هذه العقدة. وقد كنت تدعو لي. فأرجو أن يكون الله قد استجاب لك.

فقال : والله لا تفعل.

فقلت : لا.

فقال : لم فعل الله بك وفعل (٢)؟

ثم ذكر قصّة في دخول عبد الله ، وقوله له وجوابه له ، ثم دخول عمّه عليه وإنكاره الأخذ ، إلى أن قال : فهجرنا وسدّ الباب بيننا وبينه ، وتحامى منازلنا أن يدخل منّا إلى منزله شيء. ثمّ أخبر بأخذ عمّه فقال : نافقني ، وكذبني. ثم هجره وترك الصّلاة في المسجد ، وخرج إلى مسجد خارج يصلّي فيه (٣).

ثم ذكر قصّة دعائه صالحا ومعاقبته في ذكره ، ثمّ في كتابته إلى يحيى بن

__________________

(١) في الأصل ، وحلية الأولياء ٩ / ٢١٣ «والطهر» بالطاء المهملة ، وما أثبتناه يتفق مع : سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٧٨.

(٢) حلية الأولياء ٩ / ٢١٣.

(٣) الحلية ٩ / ٢١٤.

١٢٩

خاقان ليترك معاوية وأولاده. وبلغ الخبر إلى المتوكّل ، فأمر بحمل ما اجتمع لهم في عشرة أشهر ، وهو أربعون ألف درهم إليهم. وإنه أخبر بذلك ، فسكت قليلا وضرب بذقنه على صدره ، ثم رفع رأسه فقال : ما حيلتي إن أردت أمرا وأراد الله أمرا؟! (١).

قال أبو الفضل صالح : وكان رسول المتوكّل يأتي أبي يبلّغه السّلام ، ويسأله عن حاله ، فتأخذه نفضة حتّى ندثّره ، ثم يقول : والله ، لو أنّ نفسي بيدي لأرسلتها. وجاء رسول المتوكّل إلى أبي يقول : لو سلم أحد من النّاس سلمت. رفع رجل إليّ أن علويّا قدم من خراسان ، وأنّك وجّهت إليه من يلقاه ، وقد حبست الرجل وأردت ضربه فكرهت أن تغتمّ فمر فيه.

قال : هذا باطل ، يخلى سبيله (٢).

ثم ذكر قصّة في قدوم المتوكّل بغداد ، وإشارته على صالح بأن لا يذهب إليهم ، ثم في مجيء يحيى بن خاقان من عند المتوكّل ، وما كان من احترامه ومجيئه بألف دينار ليفرّقها ، وقوله : قد أعفاني أمير المؤمنين من كلّ ما أكره.

وفي توجيه محمد بن عبد الله بن طاهر ليحضره وامتناعه من حضوره وقوله : أنا رجل لم أخالط السلطان ، وقد أعفاني أمير المؤمنين ممّا أكره. وهذا ممّا أكره.

قال : وكان قد أدمن الصّوم لما قدم ، وجعل لا يأكل الدّسم. وكان قبل ذلك يشترى له الشحم بدرهم ، فيأكل منه شهرا ، فترك أكل الشّحم وأدمن الصّوم والعمل ، فتوهّمت أنّه قد كان جعل على نفسه إن سلم أن يفعل ذلك.

وقال الخلّال أبو بكر : حدّثني محمد بن الحسين أن أبا بكر المرّوذيّ حدّثهم : كان أبو عبد الله بالعساكر يقول : انظر هل تجد لي ماء الباقلّاء.

فكنت ربّما بللت خبزه بالماء فيأكله بالملح. وربّما أنّه منذ دخلنا العساكر إلى أن خرجنا ما ذاق طبخا ولا دسما.

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢١٥.

(٢) الحلية ٩ / ٢١٥.

١٣٠

وعن المرّوذيّ قال : أنبهني أبو عبد الله ذات ليلة وكان قد واصل ، فإذا هو قاعد فقال : هو ذا يدار بي من الجوع ، فأطعمني شيئا ، فجئته بأقلّ من رغيف ، فأكله وقال : لو لا أنّي أخاف العون على نفسي ما أكلت.

وكان يقوم من فراشه إلى المخرج ، فيقعد يستريح من الضّعف من الجوع حتّى أن كنت لأبل الخرقة فيلقها على وجهه لترجع إليه نفسه ، حتّى وأوصى من الضعف من غير مرض ، فسمعته يقول عند وصيّته ونحن بالعساكر ، وأشهد على وصيّته :

هذا ما أوصى به أحمد بن محمد ، أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وذكر ما يأتي.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : مكث أبي بالعساكر عند الخليفة ستّة عشر يوما ، ما ذاق شيئا إلّا مقدار ربع سويق ، ورأيت ما في عينيه قد دخلا في حدقتيه (١).

وقال صالح بن أحمد : وأوصى أبي بالعساكر هذه الوصيّة :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هذا ما أوصى به أحمد بن محمد بن حنبل :

أوصى أنه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون.

وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين ، ويحمدوه في الحامدين ، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين. وأوصي أنّي قد رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا. وأوصي أن لعبد الله بن محمد المعروف بفوزان عليّ نحوا من خمسين دينارا ، وهو مصدّق فيما قال ، فيقضى ما له عليّ من غلّة الدّار إن شاء الله ، فإذا استوفي أعطي ولد صالح وعبد الله ابني أحمد بن محمد بن حنبل ، كلّ ذكر وأنثى عشرة دراهم بعد وفاء مال أبي محمد.

شهد أبو يوسف ، وصالح ، وعبد الله بن أحمد.

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ١٧٩ وفيه : «ورأيت موقيه دخلتا في حدقتيه».

١٣١

أنبئت عمّن سمع أبا عليّ الحدّاد ، أنا أبو نعيم في «الحلية» (١) ، ثنا سليمان بن أحمد ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : كتب عبيد الله بن يحيى إلى أبي يخبره أنّ أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك فأسألك عن أمر القرآن ، لا مسألة امتحان ، ولكن مسألة معرفة وتبصرة.

فأملى عليّ أبي رحمه‌الله إلى عبيد الله بن يحيى وحدي ما معي أحد :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، أحسن الله عاقبتك أبا الحسن في الأمور كلّها ، ودفع عنك مكاره الدّنيا والآخرة برحمته. قد كتبت إليك رضي الله عنك بالّذي سأل أمير المؤمنين بأمر القرآن بما حضرني. وإنّي أسأل الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين ، فقد كان النّاس في خوض من الباطل واختلاف شديد ينغمسون فيه ، حتّى أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين ، فنفى الله بأمير المؤمنين كلّ بدعة ، وانجلى عن النّاس ما كانوا فيه من الذّلّ وضيق المجالس ، فصرف الله ذلك كلّه وذهب به بأمير المؤمنين ، ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما ، ودعوا الله لأمير المؤمنين وأن يزيد في نيّته ، وأن يعينه على ما هو عليه. فقد ذكر عن عبد الله بن عبّاس أنّه قال : لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، فإنّ ذلك يوقع الشّكّ في قلوبكم.

وذكر عن عبد الله بن عمرو أنّ نفرا كانوا جلوسا بباب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقال بعضهم : ألم يقل الله كذا؟

وقال بعضهم : ألم يقل الله كذا؟

فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج كأنّما فقئ في وجهه حبّ الرّمّان وقال : «أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلّت الأمم قبلكم في مثل هذا. إنّكم لستم ممّا هاهنا في شيء. انظروا الّذي أمرتم فاعملوا به ، وانظروا الّذي نهيتم عنه ، فانتهوا عنه» (٢).

وروي عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مراء في القرآن كفر» (٣).

__________________

(١) ج ٩ / ٢١٦ ـ ٢١٩.

(٢) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ / ١١٨ و ١٩٥ و ١٩٦ ، وابن ماجة ٥ (٨٥).

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٨٦ و ٣٠٠ و ٤٢٤ و ٤٧٥ و ٥٠٣ و ٥٢٨ ، وأبو داود في السّنّة =

١٣٢

وروي عن أبي جهم ، رجل من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تماروا في القرآن ، فإنّ مراء فيه كفر» (١).

وقال ابن عبّاس : قدم على عمر بن الخطاب رجل ، فجعل عمر يسأله عن النّاس ، فقال : يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا.

فقال ابن عبّاس : فقلت : والله ما أحبّ أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة.

قال : فزبرني عمر وقال : مه.

فانطلقت إلى منزلي مكتئبا حزينا ، فبينا أنا كذلك إذ أتاني رجل فقال : أجب أمير المؤمنين. فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرني ، فأخذ بيدي ، فخلا بي وقال : ما الّذي كرهت؟

قلت : يا أمير المؤمنين متى يتسارعوا هذه المسارعة يحتقّوا (٢) ، ومتى ما يحتقوا يختصموا ، ومتى ما يختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا.

قال : لله أبوك ، والله إن كنت لأكتمها النّاس حتّى جئت بها.

وروي عن جابر قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه على النّاس بالموقف فيقول : «هل من رجل يحملني إلى قومه ، فإنّ قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي» (٣).

وروي عن جبير بن نفير قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل ممّا خرج منه ، يعني القرآن» (٤).

__________________

= (٤٦٠٣) باب : النهي عن الجدال في القرآن ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٢٢٣ وقد صحّحه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٧٠.

(٢) في الحلية ٩ / ٢١٧ : «يختلفوا» ، والمثبت يتّفق مع : مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ٢١٧ ، وسير أعلام النبلاء ١١ / ٢٨٣ ، والمعنى أن يقول أحدهم : الحقّ معي.

(٣) أخرجه أبو داود في السّنّة (٤٧٣٤ باب : في القرآن ، والترمذي في ثواب القرآن (٢٩٢٦) باب : حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تبليغ القرآن ، وابن ماجة في المقدّمة (٢٠١) باب : فيما أنكرت الجهمية.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب صحيح.

(٤) أخرجه الترمذي (٢٩١٢).

١٣٣

وروي عن ابن مسعود أنّه قال : جرّدوا القرآن ولا تكتبوا فيه شيئا إلّا كلام الله عزوجل.

وروي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : إنّ هذا القرآن كلام الله ، فضعوه مواضعه.

وقال رجل لحسن البصريّ : يا أبا سعيد ، إنّي إذا قرأت كتاب الله وتدبّرته كدت أن آيس ، وينقطع رجائي.

فقال : إنّ القرآن كلام الله ، وأعمال ابن آدم إلى الضّعف والتّقصير ، فاعمل وأبشر.

وقال فروة بن نوفل الأشجعيّ : كنت جارا لخبّاب ، وهو من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجت معه يوما من المسجد وهو آخذ بيدي فقال : يا هناه ، تقرّب إلى الله بما استطعت ، فإنّك لن تتقرّب إليه بشيء أحبّ إليه من كلامه.

وقال رجل للحكم بن عتيبة (١) : ما يحمل أهل الأهواء على هذا؟

قال : الخصومات.

وقال معاوية بن قرّة ـ وكان أبوه ممّن أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إيّاكم وهذه الخصومات فإنّما تحبط الأعمال.

وقال أبو قلابة ـ وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لا تجالسوا أهل الأهواء ، وقال : أصحاب الخصومات ، فإنّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.

ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين فقالا : يا أبا بكر نحدّثك بحديث؟

قال : لا.

قالا : فنقرأ عليك آية؟

قال : لا ، لتقومان عنّي أو لأقومنّه. فقاما.

__________________

(١) في الحلية ٩ / ٢١٧ «عتبة».

١٣٤

فقال بعض القوم : يا أبا بكر ، وما عليك أن يقرءا عليك آية؟

قال : إنّي خشيت أن يقرءا عليّ آية فيحرّفانها ، فيقرّ ذلك في قلبي ، ولو أعلم أنّي أكون مثلي (١) السّاعة لتركتهما.

وقال رجل من أهل البدع لأيّوب السّختيانيّ : يا أبا بكر أسألك عن كلمة ، فولّى وهو يقول بيده : ولا نصف كلمة.

وقال ابن طاووس لابن له يكلّمه رجل من أهل البدع : يا بنيّ ، أدخل إصبعيك في أذنيك حتّى لا تسمع ما يقول. ثم قال : اشدد اشدد.

وقال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التّنقّل.

وقال إبراهيم النّخعيّ : إنّ القوم لم يدّخر (٢) عنهم شيء خبّيء لكم لفضل عندكم.

وكان الحسن رحمه‌الله يقول : شرّ داء خالط قلبا ، يعني : الأهواء.

وقال حذيفة بن اليمان : اتّقوا الله ، وخذوا طريق من كان قبلكم ، والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن تركتموه يمينا وشمالا فقد ضللتم ضلالا بعيدا ، أو قال : مبينا.

قال أبي : وإنّما تركت ذكر الأسانيد لما تقدّم من اليمين الّتي قد حلفت بها ممّا قد علمه أمير المؤمنين. لو لا ذاك ذكرتها بأسانيدها. وقد قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٣).

وقال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٤) ، فأخبر بالخلق.

ثم قال : (وَالْأَمْرُ) فأخبر أنّ الأمر غير الخلق.

__________________

(١) في الحلية ٩ / ٢١٨ : «متبلى». وهذه الجملة الأخيرة لم يثبتها المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ في : سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٨٥.

(٢) في الحلية ٩ / ٢١٨ : «لم يدخل».

(٣) سورة التوبة ، الآية ٦.

(٤) سورة الأعراف ، الآية ٥٤.

١٣٥

وقال عزوجل : (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (١) فأخبر أنّ القرآن من علمه.

وقال تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ، قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢).

وقال : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ، وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ، وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣).

وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) (٤). فالقرآن من علم الله. وفي هذه الآيات دليل على أنّ الّذي جاءه هو القرآن ، لقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (٥).

وقد روي عن غير واحد ممّن مضى من سلفنا أنّهم كانوا يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق. وهو الّذي أذهب إليه. لست بصاحب كلام ، ولا أرى الكلام في شيء من هذا ، إلّا ما كان في كتاب الله ، أو في حديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن أصحابه ، أو عن التّابعين. فأمّا غير ذلك فإنّ الكلام فيه غير محمود (٦).

قلت : رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمّة أثبات ، أشهد بالله أنّه أملاها على ولده. وأمّا غيرها من الرسائل المنسوبة إليه كرسالة الإصطخريّ (٧) ففيها نظر. والله أعلم.

__________________

(١) أول سورة الرحمن.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٢٠.

(٣) سورة البقرة ، الآية ١٤٥.

(٤) سورة الرعد ، الآية ٣٧.

(٥) سورة البقرة ، الآية ١٤٥.

(٦) إلى هنا عن : حلية الأولياء ٩ / ٢١٩ ، والخبر في : مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ٩ / ٢١٦ ـ ٢١٩ ، وسير أعلام النبلاء ١١ / ٢٨١ ـ ٢٨٦.

(٧) هو : أحمد بن جعفر بن يعقوب الفارسيّ ، ورسالته في : طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ١ / ٢٤ ـ ٣٦.

١٣٦

ذكر مرضه رحمه‌الله

قال ابنه عبد الله : سمعت أبي يقول : استكملت سبعا وسبعين سنة ، فحمّ من ليلته ، ومات يوم العاشر.

وقال صالح : لمّا كان في أوّل يوم من ربيع الأوّل من سنة إحدى وأربعين ومائتين. حمّ أبي ليلة الأربعاء (١) ، وبات وهو محموم يتنفّس نفسا شديدا ، وكنت قد عرفت علّته. وكنت أمرّضه إذا اعتلّ. فقلت له : يا أبه ، على ما أفطرت البارحة؟

قال : على ماء باقلاء.

ثمّ أراد القيام فقال : خذ بيدي. فأخذت بيده ، فلمّا صار إلى الخلاء ضعفت رجلاه حتّى توكّأ عليّ. وكان يختلف إليه غير متطبّب ، كلّهم مسلمون ، فوصف له متطبّب قرعة تشوى ويسقى ماؤها ، وهذا يوم الثلاثاء وتوفّي يوم الجمعة ، فقال : يا صالح. قلت : لبّيك.

قال : لا تشوى في منزلك ولا في منزل أخيك.

وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبه ، وأتى ابن عليّ بن الجعد فحجبه ، وكثر النّاس ، فقال : أيّ شيء ترى؟

قلت : تأذن لهم فيدعون لك.

قال : أستخير الله تعالى.

فجعلوا يدخون عليه أفواجا حتّى تمتلئ الدّار ، فيسألونه ويدعون له ثمّ يخرجون ، ويدخل فوج آخر. وكثر النّاس ، فامتلأ الشّارع ، وأغلقنا باب الزّقاق ، وجاء رجل من جيراننا قد خضب ، فقال أبي : إنّي لأرى الرجل يحيى شيئا من السّنّة فأفرح به.

وكان له في خريقة قطيعات ، فإذا أراد الشّيء أعطينا من يشتري له.

وقال لي يوم الثّلاثاء : انظر في خريقتي شيء.

فنظرت ، فإذ فيها درهم ، فقال : وجّه اقتض بعض السّكّان.

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢٢٠.

١٣٧

فوجّهت فأعطيت شيئا ، فقال وجّه فاشتر تمرا وكفّر عنّي كفّارة يمين ، وبقي ثلاثة دراهم أو نحو ذلك ، فأخبرته فقال : الحمد لله (١). وقال : اقرأ عليّ الوصيّة. فقرأتها عليه فأقرّها. وكنت أنام إلى جنبه ، فإذا أراد حاجة حرّكني فأناوله.

وجعل يحرّك لسانه ولم يئنّ إلّا في اللّيلة الّتي توفّي فيها. ولم يزل يصلّي قائما ، أمسكه فيركع ويسجد ، وأرفعه في ركوعه.

واجتمعت عليه أوجاع الحصر (٢) وغير ذلك ، ولم يزل عقله ثابتا ، فلمّا كان يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل لساعتين من النّهار توفّي (٣).

وقال المرّوذيّ : مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأوّل ، مرض تسعة أيّام ، وكان ربّما أذن للنّاس ، فيدخلون عليه أفواجا يسلّمون عليه ، ويردّ عليهم بيده.

وتسامع النّاس وكثروا ، وسمع السّلطان بكثرة النّاس ، فوكّل السّلطان ببابه وبباب الزّقاق الرابطة وأصحاب الأخبار. ثمّ أغلق باب الزّقاق ، فكان النّاس في الشّوارع والمساجد ، حتّى تعطل بعض الباعة ، وحيل بينهم وبين الباعة والشّراء (٤).

وكان الرجل إذا أراد أن يدخل إليه ربّما دخل من بعض الدّور وطرز الحاكة ، وربّما تسلّق.

وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الأبواب.

وجاءه حاجب ابن طاهر فقال : إنّ الأمير يقرئك السّلام وهو يشتهي أن يراك. فقال : هذا ممّا أكره ، وأمير المؤمنين أعفاني ممّا أكره (٥).

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢٢٠.

(٢) في الحلية ٩ / ٢٢٠ : «أوجاع الخصر» بالخاء ، وما أثبتناه يتفق مع : سير أعلام النبلاء ١١ / ٣٣٥.

(٣) الحلية ٩ / ٢٢٠.

(٤) سير أعلام النبلاء ١١ / ٣٣٦.

(٥) السير ١١ / ٣٣٦.

١٣٨

وأصحاب الخبر يكتبون بخبره إلى العساكر ، والبرد (١) تختلف كلّ يوم.

وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه وجعلوا يبكون عليه ، وجاء قوم من القضاة وغيرهم ، فلم يؤذن لهم.

ودخل عليه شيخ فقال : أذكر وقوفك بين يدي الله. فشهق أبو عبد الله وسالت دموعه على خدّيه.

فلمّا كان قبل وفاته بيوم أو بيومين قال : أدعوا لي الصّبيان ، بلسان ثقيل. فجعلوا ينضمّون إليه ، وجعل يشمّهم ويمسح بيده على رءوسهم وعينه تدمع. وأدخلت الطّست تحته ، فرأيت بوله دما عبيطا ليس فيه بول ، فقلت للطّبيب فقال : هذا رجل قد فتّت الحزن والغمّ جوفه.

واشتدّت علّته يوم الخميس [ووضّأته (٢)] فقال : خلال (٣) الأصابع. فلمّا كانت ليلة الجمعة ، ثقل ، وقبض صدرا ، فصاح النّاس ، وعلت الأصوات بالبكاء ، حتّى كأن الدّنيا قد ارتجّت ، وامتلأت السّكك والشّوارع (٤).

وقال أبو بكر الخلّال : أخبرني عصمة بن عصام : ثنا حنبل قال : أعطى ولد الفضل بن إبراهيم أبا عبد الله وهو في الحبس ثلاث شعرات وقال : هذه من شعر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأوصى عند موته أن يجعل على كلّ عين شعرة ، وشعرة على لسانه.

ففعل به ذلك عند موته (٥).

وقال حنبل : توفّي يوم الجمعة في ربيع الأوّل.

وقال مطيّن : في ثاني عشر ربيع الأوّل.

وكذلك قال عبد الله بن أحمد ، وعبّاس الدّوريّ.

وقال البخاريّ : مرض أحمد بن حنبل لليلتين خلتا من ربيع الأوّل ، ومات

__________________

(١) البرد : مفردها : بريد.

(٢) في الأصل بياض ، استدركته من : سير أعلام النبلاء ١١ / ٣٣٧.

(٣) في السير : فقال : خلّل.

(٤) السير ١١ / ٣٣٧.

(٥) السير ١١ / ٣٣٧.

١٣٩

يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأوّل (١).

قلت : غلط ابن قانع ، وغيره ، فقالوا في ربيع الآخر ، فليعرف ذلك.

وقال الخلّال : ثنا المروذيّ قال : أخرجت الجنازة بعد منصرف النّاس من الجمعة.

قلت : وقد روى الإمام أحمد في «مسندة» (٢) : ثنا أبو عامر ، ثنا هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلّا وقاه الله فتنة القبر» (٣).

وقال صالح : وجّه ابن طاهر ، يعني نائب بغداد ، بحاجبه مظفّر ، ومعه غلامين معهما مناديل ، فيها ثياب وطيب فقالوا : الأمير يقرئك السّلام ويقول : قد فعلت ما لو كان أمير المؤمنين حاضره كان يفعل ذلك.

فقلت : أقرئ الأمير السّلام وقل له : إنّ أمير المؤمنين قد كان أعفاه في حياته ممّا كان يكره ، ولا أحبّ أن أتبعه بعد موته بما كان يكره في حياته. فعاد وقال : يكون شعاره ، فأعدت عليه مثل ذلك (٤).

وقد كان غزلت له الجارية ثوبا عشاريا قوّم بثمانية وعشرين درهما ليقطع منه قميصين ، فقطعنا له لفافتين ، وأخذ منه فوزان لفافة أخرى ، فأدرجناه في ثلاث لفائف ، واشترينا له حنوطا ، وفرغ من غسله ، وكفّناه. وحضر نحو مائة من بني هاشم ونحن نكفّنه ، وجعلوا يقبّلون جبهته حتّى رفعناه على السّرير (٥).

وقال عبد الله بن أحمد : صلّى على أبي محمد بن عبد الله بن طاهر ، غلبنا على الصّلاة عليه. وقد كنّا صلّينا عليه نحن والهاشميّون في الدّار (٦).

__________________

(١) السير ١١ / ٣٣٧.

(٢) ج ٢ / ١٦٩.

(٣) وأخرجه الترمذي (١٠٧٤) من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي عامر العقدي ، عن هشام بن سعد.

(٤) السير ١١ / ٣٣٨.

(٥) مناقب الإمام أحمد ٤١٢.

(٦) سير أعلام النبلاء ١١ / ٣٣٨.

١٤٠