أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠
فإذا قيل : إن العالم معدوم فى الأزل ، والأزل زمان [كان حاصله أن الزمان (١)] معدوم مع وجود الزمان ؛ وهو محال.
وأما الشبهة التاسعة (٢) :
فمقابلة بمثلها فى جانب القدم. وهو أن يقال : فلو كان العالم قديما : فقدمه زائد على ذاته.
لما ذكروه من الوجهين الأولين في الحدوث ، وإذا كان زائدا على ذاته : فإما (١١) / / أن يكون وجودا ، أو عدما.
لا جائز أن يكون عدما : لأن نقيض العدم ، لا عدم. ولا عدم وصف عدمى ؛ لاتصاف الأعدام المتجددة به والعدم وصف وجودى : وهو إما قديم ، أو حادث.
لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان ما لا أول له. له أول ؛ وذلك محال. وإن كان قديما : بما لزم أن يكون قديما بقدم آخر ؛ فهو تسلسل ممتنع.
وكل ما هو عذر فى قدمه ؛ فهو عذر فى حدوثه.
وأما الشبهة العاشرة (٣) :
فالمختار من أقسامها : إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحادث [من وجه أن يكون مماثلا (٤) للحادث] من جهة كونه حادثا ؛ بل لا مانع من الاختلاف بينهما فى صفة القدم والحدوث ، وإن تماثلا بأمر آخر. وهذا كما أن السواد ، والبياض مختلفان من وجه دون وجه (٥) ؛ لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا فى العرضية ، واللونية ، والحدوث ، واستحالة تماثلهما من كل وجه ، وإلا كان
__________________
(١) ساقط من (أ).
(٢) الرد على الشبهة التاسعة من شبه الخصوم الواردة فى ل ٩٧ / ب وخلاصتها : «أنه لو كان العالم محدثا ؛ فحدوثه وصف زائد على ذاته ويدل عليه أمور ثلاثة ... إلخ».
(١١)/ / أول ٥٤ / ب من النسخة ب.
(٣) الرد على الشبهة العاشرة من شبه القائلين بقدم العالم والواردة فى ل ٩٧ / ب وخلاصتها : «لو كان العالم محدثا ؛ فحدوثه : إما أن يكون مساويا له من كل وجه ، أو مخالفا له من كل وجه ... إلخ».
(٤) ساقط من (أ).
(٥) ساقط من (ب).
السواد بياضا ، ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه ، أن يكون مماثلا له فى صفة البياضية.
وأما الشبهة الحادية عشرة (١) :
وإن سلمنا أن القول بحدوث العالم فيه مخالفة للعادة من وجود إنسان ؛ لا من إنسان. وبيضة لا من دجاجة ، أو دجاجة لا من بيضة ، إلا أنه قد قام الدليل العقلى القاطع عليه ولم يقم على مخالفة غير ذلك من العادات المستشهد بها ، حتى أنه لو قام الدليل القاطع على مخالفتها ؛ لخالفناها ، واعتقدنا نقائضها.
وأما الشبهة الثانية عشرة (٢) :
فيلزمهم عليها أجزاء الزمان ؛ فإن كل واحد منهما حادث ، حتى أن الماضى منه لا يوجد مع الحاضر ، والمستقبل ، ولا الحاضر منه مع المستقبل.
وليس لحدوث كل جزء من أجزاء الزمان ، وقت متميز عن وقت الجزء الآخر ، وإلا كان الزمان فى زمان. والكلام فى ذلك الزمان كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.
/ ومع ذلك فلا يمتنع حدوث كل واحد منها ؛ فما هو جوابهم فى حدوث آحاد أجزاء الزمان : هو الجواب فى حدوث العالم ، مع عدم قدم الزمان.
وأما الشبهة الثالثة عشرة (٣) :
فيلزمهم عليها امتناع وجود الحوادث أصلا فإن كل ما ذكروه فى امتناع حدوث العالم بتقدير عدمه أزلا ؛ فهو جار فى كل حادث حدث ، وكان معدوما أزلا من غير اختلاف ؛ وذلك يجر إلى امتناع حدوث الحوادث ؛ وهو خلاف الحس والشاهد ؛ فكل ما هو عذر عن حدوث الحوادث ؛ فهو عذر فى حدوث العالم.
__________________
(١) الرد على الشبهة الحادية عشرة من شبه الخصوم والتى أوردها الآمدي فى ل ٩٨ / أوخلاصتها : «أنا لم نشاهد إنسانا إلا من إنسان ، ولا بيضة إلا من دجاجة ، ولا دجاجة إلا من بيضة ... إلخ».
(٢) الرد على الشبهة الثانية عشرة من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم والواردة فى ل ٩٨ / أوخلاصتها : «لو كان العالم حادثا ؛ لكان الزمان حادثا ؛ لكونه من العالم ... إلخ».
(٣) الرد على الشبهة الثالثة عشرة من شبه الخصوم والواردة فى ل ٩٨ / ب وخلاصتها : «أنه لو كان العالم حادثا ؛ لما كان حادثا وبيان الملازمة ... إلخ».
وأما الشبهة الرابعة عشرة (١) :
أنه تارك الفعل العالم فى الأزل ؛ لكن لا بمعنى أنه فاعل وجود ضده ؛ بل بمعنى أنه لم يفعل ، ولا وازع عنه من جهة اللغة كما حققناه فى فصل الترك (٢).
__________________
(١) الرد على الشبهة الرابعة عشرة من شبه المخالفين القائلين بقدم العالم والواردة فى ل ٩٨ / ب وخلاصتها : لو كان العالم حادثا : فإما أن يكون الرب ـ تعالى ـ تاركا له فى الأزل ، أو لا يكون ... إلخ.
(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع السابع ـ الفصل الحادى والعشرون : فى الترك وتحقيق معناه. ل ٢٥٧ / أ.
الأصل الخامس
فى فناء الجواهر والإعراض (١)
وقد اختلف فى ذلك :
فذهبت الفلاسفة : إلى أنّ أجسام السموات ، ونفوسها ، والعقول التى هى مبادي لها ، والجسم المشترك بين العناصر والنفوس الإنسانية لا يتصور عليها الفناء والعدم.
وأما الأزمنة والحركات الدورية الفلكية : فإن آحاد أشخاصها وإن تصور عليها الفناء والعدم ؛ فلا يتصور الفناء والعدم على جملتها : بمعنى أنه ما من زمان وحركة ، إلا وبعده زمان وحركة.
وذهب الجاحظ ، وابن الراوندى ، وجماعة من الكرامية : إلى أن ما وجد من الجواهر لا يتصور عدمه مطلقا. وأن الله ـ تعالى ـ لو أراد إعدامه ؛ لم يكن ذلك ممكنا له.
والّذي عليه اتفاق أهل الحق من الاسلاميين وغيرهم : القضاء بصحة فناء العالم جواهره ، وأعراضه.
ثم اختلفوا فى طريق وقوع الفناء ، وفى معرفة صحته :
أما طريق الفناء : أما فناء الأعراض ، وعدمها : فعند أصحابنا بذواتها ؛ لاستحالة بقائها على ما تقدم (٢).
وأما المعتزلة :
فذهب البصريون منهم : إلى أن فناء الأعراض النامية بعدم محالها وهى الجواهر. وفناء ما ليس باقيا بنفسه.
__________________
(١) اهتم الإمام الأشعرى بهذا المبحث فى كتابه مقالات الإسلامين الجزء الثانى ص ٤٦ وما بعدها. وذكر بالتفصيل مقالات الإسلاميين واختلافهم فى فقرات عدة.
ففى الفقرة ٢٨ ـ هل تبقى الأعراض؟ تحدث على الآراء فيها بالتفصيل ٢ / ٤٦ ـ ٤٨.
وفى الفقرة ٢٩ ـ هل تفنى الأعراض؟ ذكر اختلاف العلماء فيها ص ٤٨.
وفى الفقرة ٣٠ ـ هل للأعراض بقاء؟ ذكر اختلاف العلماء فيها بإيجاز.
وفى الفقرة ٣١ ـ قولهم فى فناء الأعراض؟ ذكر اختلاف العلماء فيها بإيجاز.
ولمزيد من البحث والدراسة : انظر فى هذا المبحث : أصول الدين للبغدادى ص ٥٠ ـ ٥٢.
وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٣٨ ـ ٥٥.
(٢) راجع ما سبق فى الفرع الرابع : فى تجدد الأعراض ، واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب وما بعدها.
وأما فناء الجواهر : فمنهم من قال : إنه باعدام معدم.
ثم اختلف هؤلاء.
فذهب أبو القاضى أبو بكر فى أحد قوليه ؛ والجاحظ.
إلى أن إعدامها بقدرة الرب ـ تعالى ـ
وذهب أبو الهذيل (١) وغيره : إلى أن فناء الجواهر بقول الله ـ تعالى ـ له افن فيفنى : كما أن حدوثه وتكوينه بقوله (كُنْ فَيَكُونُ) (٢)
ومنهم من قال : فناء الجواهر إنما يكون بحدوث ضد الجواهر وعبروا عن ذلك الضد بالفناء.
وزعموا أن ذلك الفناء عرض غير متصور البقاء ، وإلا لافتقر فى / عدمه إلى ضد آخر ؛ وهو تسلسل ممتنع.
وهذا هو مذهب أكثر المعتزلة : ثم اختلفوا :
فمنهم من زعم أن الله تعالى بخلق فى كل جوهر فناء يقتضي عدم ذلك الجوهر فى الزمان الثانى من وجوده ؛ لاستحالة قيام العرض بنفسه
ومنهم من زعم : أن الله ـ تعالى ـ يخلق الفناء المضاد للجوهر لا فى محل.
ثم اختلف هؤلاء.
فذهب أبو هاشم (١١) / / وعبد الجبار من المعتزلة (٣) :
إلى أن ذلك الفناء واحد ، وأنه ضد لجميع الجواهر متى وجد ؛ عدمت جميع الجواهر
وأنه لا يتصور عدم بعض الجواهر مع وجود ذلك الفناء دون البعض ؛ بل إما أن تنعدم جميعها معا ، أو تبقى معا.
__________________
(١) انظر مقالات الإسلاميين ٢ / ٥٣ وما بعدها قولهم : فى البقاء والفناء فقد تحدث عن آراء المعتزلة بالتفصيل.
(٢) سورة يس ٣٦ / ٨٢.
(١١)/ / أول ل ٥٥ / أمن النسخة ب.
(٣) انظر آراء المعتزلة فى الفناء فى مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ٥٣ ـ ٥٦.
وذهب الجبائى : إلى أن الفناء الواحد لا يكفى فى عدم جميع الجواهر ؛ بل لا بد وأن يخلق الله ـ تعالى ـ لكل جوهر فناء يخصه (١).
ومن المتكلمين من قال :
فناء الجواهر : إنما يكون بفوات شرط من شروط بقائه
ثم اختلف هؤلاء :
فمنهم من قال ـ تفريعا على أن الجواهر باقية ببقاء ـ أن طريق فناء الجواهر : إنما يكون بقطع بقائها ؛ وذلك بأن لا يخلقه الله ـ تعالى ـ لها.
لكن منهم من قال : بأن بقاء كل جوهر قائم به ، وهذا هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى.
ومنهم من قال : بأن كل جوهر باق ببقاء قائم ، لا فى محل وهذا هو مذهب بشر المريسى (٢) من المعتزلة.
ومنهم من قال : طريق فناء الجواهر : إنما يكون بقطع الأعراض التى لا خلو للجواهر عنها بأن لا يخلقها الله ـ تعالى ـ لها ؛ فتنعدم ضرورة استحالة خلوها عنها
وهذا هو مذهب القاضى أبى بكر فى قول آخر.
وأما معرفة صحة الفناء فقد قال المتأخرون من المعتزلة : كأبي هاشم وأتباعه ، أنه لا طريق إلى معرفة ذلك غير السمع.
وذهب الباقون من القائلين بالفناء : إلى جواز معرفة ذلك عقلا.
وإذ أتينا على شرح المذاهب ، وتفصيلها. فلا بد من إبطال المذاهب الواهية منها ، وما هو المختار.
__________________
(١) انظر المصدر السابق.
(٢) بشر المريسى : ... ـ ٢١٨ ه ـ ... ـ ٨٣٣ م.
بشر بن غياث بن أبى كريمة عبد الرحمن المريسى ، أبو عبد الرحمن. فقيه معتزلى عارف بالفلسفة ، يرمى بالزندقة. وهو شيخ الطائفة (المريسية) القائلة بالإرجاء ؛ كما قال برأى جهم ، وأوذى فى دولة الرشيد. وهو من أهل بغداد ، وعاش ما يقرب من سبعين عاما وتوفى سنة ٢١٨ ه وللدارمى كتاب فى الرد على المريسى.
كما ناظره الإمام الشافعى وأبطل مذهبه.
[وفيات الأعيان ١ / ٩١ وتاريخ بغداد ٧ / ٥٦ ولسان الميزان ٢ / ٢٩].
أما طريق الرد على الفلاسفة ، والجاحظ ، وكل من أنكر جواز فناء العالم [أو شيء منه (١)] أن يقال :
قد ثبت أن العالم ، وكل جزء من أجزائه ، ممكن الوجود لذاته وكل ما هو ممكن الوجود لذاته ؛ فهو لذاته قابل للوجود ، والعدم بحيث لو فرض موجودا بعد العدم ، أو معدوما ، بعد الوجود ؛ لم يعرض عنه المحال لذاته.
فإنه لو عرض عنه المحال من فرض وجوده ؛ لكان قسما ممتنعا لذاته.
ولو كان كذلك ، لما وجد ولا بغيره. ولو عرض المحال عنه من فرض عدمه ؛ لكان واجبا لذاته. ولو كان كذلك ؛ لما تصور عليه العدم.
وقد كان العالم / معدوما قبل وجوده على ما تقرر فى مسألة حدوث العالم (٢).
فإذن قد ثبت جواز الفناء على العالم ، وأجزائه عقلا.
فإن قيل : العالم وإن كان ممكن الوجود ، والعدم لذاته ؛ غير أن امتناع قيامه باعتبار غيره.
وبيانه : أن كل ما كان من العالم موجودا باقيا ، لو عدم :
فإما أن يكون عدمه فى وقت عدمه ؛ واجبا لذاته ، أو جائزا لذاته.
لا جائز أن يكون واجبا لذاته :
فإنا لو فرضناه موجودا وقت عدمه بدلا من عدمه ، لم يعرض عنه لذاته المحال.
وما هذا شأنه لا يكون عدمه واجبا لذاته.
وإن كان جائزا لذاته : فإما أن يفتقر عدمه إلى مقتض للعدم ؛ أو لا يفتقر ، فإن افتقر إلى مقتض للعدم ؛ [فذلك المقتضى : إما أن يكون وجوديا أو عدميا.
وعلى كل تقدير. فالعدم ممتنع ؛ لما سبق فى مسألة بقاء العرض.
__________________
(١) ساقط من «أ».
(٢) راجع ما سبق فى الأصل الرابع : فى حدوث العالم ل ٨٢ / ب وما بعدها.
وإن لم يفتقر إلى مقتض للعدم (١)] فيلزم منه ترجيح أحد الجائزين من غير مرجح ؛ وهو ممتنع ؛ لما سبق فى مسألة إثبات واجب الوجود (٢).
وأيضا : فإنه ثبت بما بيّنّاه فى مسألة حدوث العالم (٣) أنّ وجود العالم لا بد وأن يستند إلى علة واجبة الوجود لذاتها غير قابلة للتغير ، فلو تغير معلولها ؛ للزم تغيرها ؛ وهو محال.
وأيضا : فإن كل ما عدم بعد وجوده ؛ فلا بد وأن يكون عدمه ممكنا فى حالة عدمه
والإمكان صفة وجودية ، ولا بد له من محل يقوم به ، ويكون وجوديا ؛ وذلك المحل هو الهيولى (٤)
فإذن الهيولى أبديّة غير منقطعة
وأيضا : فإن كل ما عدم بعد وجوده :
فإما أن يكون له بعد هو فيه معدوم ، أو لا بعد له.
فإن كان الأول : فذلك البعد هو الزمان ؛ وتقريره على ما تقدم فى القبل
فإذن الزمان لا يكون منقطعا.
وإن لم يكن بعد ؛ فهو أبدى
وأيضا : فإنّا بينا فيما تقدم (٥) ، امتناع العدم على الأفلاك ، وسنبين امتناع العدم على الأنفس الإنسانية (٦).
قلنا : أما قولهم : إن الفناء ممتنع باعتبار أمر خارج ممنوع.
__________________
(١) ساقط من «أ».
(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود ل ٤١ / أوما بعدها.
(٣) راجع ما سبق فى الأصل الرابع : فى حدوث العالم. ل ٨٢ / ب وما بعدها.
(٤) الهيولى : لفظ يونانى بمعنى الأصل والمادة. وفى الاصطلاح هى جوهر فى الجسم ، قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال ، محل للصورتين الجسمية والنوعية. (التعريفات للجرجانى ص ٢٨٧)
(٥) راجع ما سبق فى النوع الثالث ـ الفرع السادس ل ٣١ / أ.
(٦) انظر ما سيأتى فى القاعدة السادسة ل ٢٠٦ / أوما بعدها.
قولهم : عدمه إما واجب ، أو جائز.
قلنا : بل جائز.
وما ذكروه من الأقسام : فالمختار فى جوابها :
أما فى الأعراض : فهو أن يقال : بانعدامها لذاتها فى الزمن الثانى من وجودها ؛ ضرورة استحالة بقائها (١١) / / كما سبق (١).
وأما فى الجواهر : فالحق فى جوابها لا يخرج عن أحد قولى : القاضى أبى بكر ، وقد حققناهما ؛ فيما تقدم (٢).
كيف : وأن ما ذكروه لازم على الفلاسفة ، فى اعترافهم بعدم الجواهر الصورية العنصرية مع بقائهما.
وكذلك فى اعترافهم بعدم الأعراض الباقية. فما هو جوابهم فى هذه الصور ؛ هو جوابنا فى محل النزاع.
قولهم : لو تغير / معلول واجب الوجود ؛ للزم تغيّره إنما يلزم ذلك أن لو لم يكن تغير المعلول مستندا إلى القصد ، والاختيار ، أو إلى عدم خلق الأعراض التى لا بقاء للجواهر إلا بها ؛ وليس كذلك. على ما قررناه من مذهبنا (٣).
قولهم : إن الإمكان صفة وجودية ؛ ممنوع على ما سبق.
[وقولهم : إن البعدية زمان كالقبلية ممنوع. وتقريره ما سبق (٤)] فى القبلية ، وما ذكروه فى امتناع فناء الأفلاك ؛ فقد أبطلناه (٥) وسيأتى إبطال ما يذكرونه فى امتناع عدم الأنفس الإنسانية (٦).
__________________
(١١)/ / أول ل ٥٥ / ب من النسخة ب.
(١) راجع ما سبق فى الأعراض وأحكامها ـ الفرع الرابع : فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب وما بعدها.
(٢) راجع ما سبق ل ١٠٣ / أوما بعدها.
(٣) راجع ما سبق فى أول الأصل الخامس ل ١٠٣ / أوما بعدها.
(٤) ساقط من أ.
(٥) راجع ما سبق فى النوع الثالث ـ الفصل السادس ل ٣١ / أ.
(٦) انظر ما سيأتى فى القاعدة السادسة ل ٢٠٦ / أوما بعدها.
وأما الرد على البصريين فى قولهم :
إن فناء الإعراض الباقية بعدم محالها ؛ وهى الجواهر فمن جهة أن ذلك مبنى على القول ببقاء الأعراض ؛ وقد أبطلناه فيما تقدم (١)
وبتقدير بقاء الأعراض ؛ فليس القول بأن عدمها بعدم محالها ضرورة توقفها على وجود محلها ، أولى من القول بعدم محالها لعدمها ؛ ضرورة استحالة عرو الجواهر عنها كما تقدم ؛ ولا مخلص عنه.
وأما طريق الرد على أبى الهذيل فى قوله :
إن طريق فناء الجواهر إنما هو قوله ـ تعالى ـ للجوهر افن فما هو طريق الرد على من قال بأن الوجود بقوله كن ؛ وقد سبق (٢)
وأما الرد على من قال : بأن عدم الجواهر بخلق ضدها : وهو الفناء ؛ فهو أن يقال :
أما المذهب الأول : القائل : بأن الله ـ تعالى ـ يخلق فى كل جوهر فناء ، يقتضي عدمه فى الزمن الثانى من وجوده فلا يخلو. إما أن يقال : بأن ذلك الفناء يكون موجودا حالة عدم الجوهر ، أو غير موجود.
الأول : محال ؛ لأنه لا وجود له إلا فى الجوهر. والجوهر حالة عدمه غير موجود ، ولا يتصور وجود الفناء الّذي لا وجود له إلا فيه مع عدمه.
وأيضا : فإنّه لو كان ضدا للجوهر ؛ [الّذي اقتضى عدمه ؛ لما تصور قيامه بالجوهر] (٣) ؛ لاستحالة اجتماع الضدين.
وإن كان غير موجود : لزم منه تأثير العدم فى الوجود ؛ وهو محال.
وأما المذهب الثانى القائل :
بأن الفناء المضاد للجوهر قائم لا فى محل. فإما أن يكون جوهرا أو عرضا.
فإن كان جوهرا ؛ فيلزم أن يكون باقيا ، ويكون مفتقرا فى عدمه إلى فناء آخر ؛ وهو تسلسل ممتنع.
__________________
(١) راجع ما سبق فى الأصل الثانى : فى الأعراض وأحكامها ـ الفصل الرابع : فى تجدد الأعراض ، واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب وما بعدها.
(٢) راجع ما سبق ل ١٠٣ / أ.
(٣) ساقط من «أ».
كيف : وأنه لا قائل بكونه جوهرا.
وإن كان عرضا : فيمتنع قيامه بنفسه ، كما تقدم تعريفه.
وإن سلمنا أنه عرض قائم لا فى محل.
ولكن لم قالوا : إن الجواهر لها ضد ، فإن العلم بذلك غير ضرورى والنظرى لا بد له من وجود دليل.
وإن سلمنا : أن الجواهر لها ضد ؛ ولكن لم قالوا إن الفناء ضد لها؟
فإن قيل : إنما قلنا : بأن الجواهر لها ضد ؛ لأنا وجدنا الحوادث منقسمة إلى جواهر وأعراض / ثم لكل عرض ضد ، فليكن للجواهر ضدا.
وإنما قلنا : إن العناصر للجواهر ؛ لأن بقاء الجواهر ، وعدمها متفق عليه.
ولا طريق إلى عدم الباقى إلا بضد عدمه ؛ وذلك هو ما سميناه بالفناء
قلنا : أما الأول : فلا نسلم أن كل عرض له ضد ؛ فإن الاعتمادات عندنا ، وعند أكثر المعتزلة أعراض ، ولا ضد لها.
وبتقدير أن يكون لكل عرض ضد.
فلم قالوا : إنه إذا كان للأعراض أضداد ، يلزم أن تكون الجواهر كذلك ، وهذه مطالبة ، لا مخلص لهم عنها.
كيف : وأنه لو ثبت لكل واحد من قسمى الحوادث ، ما ثبت للآخر ؛ لأمكن أن يقال :
فيلزم من كون الأعراض منقسمة على أصلهم إلى باق ، وغير باق ، [انقسام الجواهر إلى باق ، وغير باق (١)] ؛ وهو محال.
ويلزم من كون الجواهر باقية ؛ أن تكون الأعراض كلها باقية ؛ ولم يقولوا به.
وأما الثانى : فباطل أيضا.
فإن دعوى الإجماع على بقاء الجواهر ، وعدمها مع مخالفة النظام فى بقاء الجواهر ، ومخالفة الجاحظ ، وابن الراوندى فى عدمها ؛ ممتنع.
__________________
(١) ساقط من «أ».
وبتقدير التسليم لذلك ؛ فلا نسلم أنه لا طريق إلى عدم الجواهر إلا بالفناء ؛ على ما عرف من أصلنا.
كيف : وأن القول بأنه لا طريق إلى عدم الجواهر إلا بوجود ضدها ؛ باطل بما أسلفناه فى استحالة بقاء الأعراض (١).
وإن سلمنا : إمكان عدم الجواهر بالفناء. ولكن (١١) / / لا يخلوا : إما أن يكون واحدا كما قاله : أبو هاشم وعبد الجبار ، أو متعددا : كما قاله الجبائى.
فإن كان الأول : فما المانع من عدم بعض الجواهر به دون البعض.
فلأن قالوا : لأن الفناء إذا كان قائما لا فى محل ، فنسبته إلى جميع الجواهر نسبة واحدة
فإذا اقتضى ذلك عدم البعض منها ، اقتضى عدم الباقى ؛ ضرورة الاستواء فى النسبة ، وعدم الأولوية.
قلنا : فيلزم أن تقولوا : بأن الإرادة الثانية عندكم لا فى محل يجب أن يكون كل موجود مرادا بها ؛ ضرورة تساوى نسبتها إلى كل موجود ، ومع ذلك قلتم : إنها على صفة توجب اختصاص حكمها بالقديم تعالى دون غيره.
وكل ما يذكرونه فى وجوب الاختصاص بالقديم ـ تعالى ـ فقد أبطلناه فى الصفات (٢).
وإن كان الثانى : وهو مذهب الجبائى : فكل واحد من آحاد الفناء إذا كان قائما لا فى محل ؛ فنسبته إلى جميع الجواهر نسبة واحدة.
وعند ذلك فليس القول :
بجعل كل واحد منها فناء لبعض الجواهر بعينه ، أولى من غيره.
__________________
(١) راجع ما سبق فى الأصل الثانى ـ الفرع الرابع : فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب وما بعدها.
(١١)/ / أول ل ٥٦ / أمن النسخة ب.
(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع الثانى المسألة الأولى : فى إثبات الصفات ل ٥٤ / ب وما بعدها.
وأما الرد على من قال بأن طريق فناء الجواهر ؛ قطع بقائها ؛ فمبنى على أن الباقى باق ببقاء وقد / أبطلناه (١).
والّذي يخص القائل ببقاء قائم لا فى محل : أنه عرض والعرض يستحيل قيامه بنفسه ، كما تقدم (٢) ؛ فالحق وما عليه اختيار الأئمة المحصلين من أصحابنا.
أن فناء الأعراض ؛ بذواتها كما سلف (٣).
وأما فناء الجواهر :
فإما بإعدام الله ـ تعالى ـ لها ، أو بعدم خلق الأعراض التى لا عرو للجواهر عنها.
وأما الرد على أبى هاشم : فى قوله بأن طريق معرفة صحة الفناء ؛ إنما هو بالسمع فيما أسلفناه فى تحقيق الجواز العقلى
ثم ما ذكره غير صحيح على أصله ؛ فإنه إذا كانت الجواهر باقية. ولا طريق فى العقل لعدمها غير الفناء المضاد على أصله ؛ وقد بطل ذلك بما حققناه من الأدلة العقلية
وقد تقرر عدمها على أصله عقلا وما هذا شأنه ؛ فيمتنع التمسك بالسمع على خلافه ؛ بل إنما يتصور التمسك بالسمع فى ذلك على أصولنا حيث أنّا قضينا بإمكان ذلك عقلا.
وإذا ثبت جواز فناء العالم ، وأجزائه عقلا ؛ فالوقوع غير لازم من الجواز العقلى ، ولا دليل العقل يدل عليه.
وهل للسمع دلالة عليه؟
اختلفوا فيه :
وقد احتج القائل به : بالنص والإجماع.
أما النص : فقوله ـ تعالى ـ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٤) وقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٥) وقوله (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٦)
__________________
(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٢١١ / ب وما بعدها.
(٢) راجع ما سبق فى الأصل الثانى ـ الفرع الثانى : فى استحالة قيام العرض بنفسه ل ٤١ / ب.
(٣) راجع ما سبق فى الفرع الرابع ل ٤٤ / ب وما بعدها.
(٤) سورة الرحمن ٥٥ / ٢٦.
(٥) سورة القصص ٢٨ / ٨٨.
(٦) سورة الحديد ٥٧ / ٣.
وكونه أولا بمعنى : أنه كان ، ولا كائن ؛ فليكن معنى الآخر : بقاؤه مع عدم كل موجود سواه.
وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١) الضمير فى يعيده عائد إلى الخلق ، والإعادة تستدعى سابقة الفناء
وقوله ـ تعالى ـ (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢) قضى بأن الإعادة كابتداء الخلق ، وابتداء الخلق بالوجود بعد العدم فالإعادة يجب أن تكون كذلك ؛ ضرورة التسوية ؛ وذلك يستدعى سابقة العدم.
وأما الإجماع : فهو أن الأمة فى كل عصر من الخلف السلف مجمعة على أن كل مخلوق سيعدم.
اعترض النافي لذلك بأن قال : أما قوله ـ تعالى ـ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٣) فقد قال المفسرون : المراد به أن كل حي ميت ؛ ولا يلزم من ذلك فناء الجواهر وعدمها فى نفسها.
وإن سلمنا : دلالة الآية على الفناء والعدم ؛ لكن على فناء كل شيء ، أو ما على الأرض.
الأول : ممنوع. والثانى مسلّم.
فلا تكون الآية وافية بالدلالة على فناء كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ
بل لو قيل : إنها تدل على بقاء الأرض ، وبقاء كل ما ليس على الأرض : كالأفلاك ، وغيرها نظرا إلى فائدة التخصيص بالذكر ؛ لكان متجها.
وأما قوله ـ تعالى ـ (كُلُّ / شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٤) فقد قال أهل التفسير أيضا.
المراد به : أن كل حي ميت. إلا وجهه : أى نفسه : فإنه حي دائم لا يموت.
والهلاك : قد يطلق بمعنى : الموت. ومنه يقال للميت هالك والأصل فى الإطلاق الحقيقة.
وعلى هذا : فلا دلالة للآية على عدم الجواهر ، وفنائها
__________________
(١) سورة الروم ٣٠ / ٢٧.
(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ١٠٤.
(٣) سورة الرحمن ٥٥ / ٢٦.
(٤) سورة القصص ٢٨ / ٨٨.
وإن سلمنا : امتناع حمل الهلاك على الموت ، غير أنه أمكن أن يكون المراد به خروج كل شيء عن الانتفاع المخصوص به وذلك يتصور بانفكاك التركيب والتأليف
ومنه يقال : هلك فلان ، وهلك كذا : إذا تفرقت أجزاؤه وتأليفه
وإن لم تنعدم أجزاؤه ؛ والأصل فى الاطلاق الحقيقة.
وإن سلمنا : أن المراد بالهلاك : العدم ؛ ولكن إنما يلزم من ذلك عدم كل شيء أن لو كان قوله : كل شيء للعموم ؛ وليس كذلك على ما عرف من أصلنا
بل حمل مثل ذلك على العموم. إنما يكون بالقرائن ؛ ولا نسلم وجودها (١١) / / وبتقدير القرينة : فالتعميم أيضا ممتنع ؛ وإلا لزم من ذلك : فناء الجنة ، وأهلها ، وثواب المؤمنين وعقاب الكافرين ؛ وهو خلاف قاعدة الدين ، ومذهب المسلمين.
وأما قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (١) فغايته الدلالة على كونه آخرا : وهو مطلق. وقد أمكن العمل به فى كونه آخر الأحياء ؛ فلا يبقى حجة فيما عداه.
ولو لا قيام الدليل العقلى على حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ لما كان قوله : هو الأول : محمولا على السبق بالوجود ؛ أولى من غيره وقوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢) فالضمير وإن كان عائدا إلى الخلق ، غير أن الخلق قد يطلق بمعنى : الإيجاد بعد العدم وقد يطلق بمعنى : الإحياء ، وتأليف الأجزاء بعد التفرق.
ومنه قوله ـ تعالى ـ (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٣) وقوله ـ تعالى ـ (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٤) وليس المراد به غير الاحياء ، وتأليف الأجزاء.
وعند ذلك : فليس عود الضمير إلى الخلق بمعنى الإيجاد ؛ أولى من عوده إليه بالمعنى الآخر.
وعلى هذا : فلا تكون الآية دالة على سابقة العدم.
__________________
(١١)/ / أول ل ٥٦ / ب من النسخة ب.
(١) سورة الحديد ٥٧ / ٣.
(٢) سورة الروم ٣٠ / ٢٧.
(٣) سورة فاطر ٣٥ / ١١.
(٤) سورة السجدة ٣٢ / ٧.
وعلى هذا : يخرج الجواب عن الآية الأخيرة أيضا.
وأما الإجماع : على أن كل مخلوق سينعدم ، فغير مسلم ؛ بل المسلم الإجماع على أن كل حي ميت ، وأن كل مجتمع مفترق.
ثم وإن سلّم دلالة ما قيل على عدم كل موجود مخلوق ؛ فهو معارض بما روى عنه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : حكاية عن ربه ـ تعالى ـ أنه إذا أراد حشر الخلائق ، ونشرهم قال : «أيتها العظام البالية ، والجلود المتمزقة تجمعى»
والاجتماع يستدعى سابقة التفرق. والاجتماع ، / والتفرق إنما هو من صفات الموجودات ؛ لا من صفات المعدومات
وإذ أتينا على بيان الموجود ، وأقسامه ، وأحكامه ؛ فلنسرع فى بيان المعدوم وأحكامه
الباب الثانى
فى المعدوم ، وأحكامه
ويشتمل على أربعة فصول :
الفصل الأول (١) : فى انقسام المعدوم إلى واجب ، وممكن.
الفصل الثانى : فى أن المعدوم هل هو معلوم ، أم لا؟.
الفصل الثالث : فى تحقيق معنى الشيء ، واختلاف الناس فيه.
الفصل الرابع : فى أن المعدوم هل هو شيء وذاته ثابتة فى حالة العدم ، أم لا؟
__________________
(١) فى النسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية أب ج للدلالة على ترتيب الفصول.
وقد حدثت اختلافات فى النسخة «أ» وما اعتمدته هنا نقلته من عناوين الفصول.
الفصل الأول
فى انقسام المعدوم إلى واجب ، وممكن (١).
والمعدوم : إما أن يكون بحيث لو فرض موجودا ؛ عرض عنه المحال لذاته ، أو لا يكون كذلك.
فالأول : هو الممتنع الوجود ؛ الضرورى العدم :
وهو كالجمع بين الضدين ؛ وبين النفى ، والإثبات من جهة واحدة وككون الجوهر الواحد فى مكانين فى آن واحد ، ونحو ذلك.
والثانى : هو المعدوم الممكن : وذلك كالعالم قبل حدوثه وكالأشياء المعدومة فى وقتنا هذا ، مما يتوقع وجوده فى التالى من المحال من الكائنات ، والأمور المتجددات كالحركات ، والسكنات ، وأصناف الشرور والخيرات.
وربما ذهب بعض الجهال ، ومن لا يؤبه له ، إلى المنع من هذه القسمة. وزعم أن كل معدوم ممكن ، ومتصور الوقوع فى نفسه ؛ تمسكا منه بشبه لا حاصل لها منها :
أن الجمع بين الضدين ، والنفى ، والإثبات وكون الواحد أكثر من الاثنين ، وكون الجسم الواحد فى آن واحد فى مكانين إلى غير ذلك ، مما حكم باحالة وقوعه ، وامتناع وجوده لذاته.
إما أن يكون معقولا ، ومتصورا فى النفس ، أو لا يكون كذلك. فإن لم يكن معقولا ، ولا متصورا فى النفس.
فلا يخفى أن الحكم بنفى ما ليس بمعقول متعذر كالحكم بوجوده. وإن كان معقولا ومتصورا فى النفس ؛ فهو ممكن فى نفسه. وإلا كان تصوره وتعقله جهلا ، على خلاف ما هو عليه.
__________________
(١) الواجب عبارة عما يلزم من فرض عدمه المحال ؛ فإن كان لذاته : فهو الواجب لذاته ، وإن كان لغيره : فهو الواجب باعتبار غيره.
وأما الممكن : فى الاصطلاح : فهو عبارة عما لو فرض موجودا أو معدوما : لم يلزم عنه ـ لذاته ـ محال ، ولا يتم ترجيح أحد الأمرين له إلا بمرجح من خارج.
وفى المصطلح العامى : عبارة عما ليس بممتنع الوجود ؛ وهو أعم من الواجب لذاته ، والممكن لذاته [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء ، والمتكلمين ص ٧٩ ، ٨٠ لسيف الدين الآمدي. ت الدكتور حسن الشافعى].
ومنها : أن حكم العقل بإحالة الجمع بين الضدين والنفى والإثبات قضية تصديقية.
والحكم بالقضايا التصديقية ؛ حكم يثبت بين مفردات ، فيستدعى ذلك تصور المفردات ؛ وإلا كان حكم العقل بالنسبة من مفردين غير متصورين خطأ.
وأحد تصورات القضايا المذكورة الجمع بين الضدين ، والجمع بين النفى والإثبات فكون [الواحد أكثر من الاثنين] (١) متصورا فى نفسه. وخرج عن كونه ممتنعا لذاته.
وجوابه من وجهين : إجمالا ، وتفصيلا :
أما الإجمال : فهو أن هذا قدح فى البديهيات ؛ فلا يكون مقبولا. وأما التفصيل : ويعم الشبهتين.
/ فإن حاصلهما يرجع إلى حرف واحد ، وهو القول بلزوم تصور ما بقى من الجمع بين الضدين ، والنفى والإثبات ، والكون فى مكانين فى آن واحد وكون الواحد أكثر من الاثنين إلى غير ذلك ؛ وهو أن نقول : المقضى بنفيه من الجمع بين الضدين ، والنفى والإثبات ؛ هو الجمع المتصور بين المختلفات التى لا تضاد بينها (١١) / / ولا تقابل : كالسواد مع الحلاوة وكذلك المنفى عن المكانين : إنما هو الكون الممكن المتصور بالنسبة إلى المكان الواحد. وكذلك الكثرة المنفية عن الواحد بالنسبة إلى الاثنين : إنما هى الكثرة الممكنة ككثرة الاثنين ، وما زاد عليهما بالنسبة إلى الواحد.
فلم يكن ما قضينا بإحالة وجوده فى الصور المفروضة غير متصور ، ولا معقول.
وعلى هذا : فلا يخفى الكلام فى كل ما يرد من هذا القبيل.
__________________
(١) ساقط من «أ».
(١١)/ / أول ل ٥٧ / أمن النسخة ب.