الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها ، وهم عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.

والثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برصا الخمسة.

وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ، ليكونوا حاكما وشاهدين ، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.

وقالت طائفة أخرى : تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعلي : امدد يدك أبايعك ، فيقول النّاس عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بايع ابن عمّه ، فلا يختلف عليك اثنان. ولأنّه حكم ، وحكم واحد نافذ» (١).

٣ ـ قال إمام الحرمين الجويني (م ٤٧٨ ه‍) : «اعلموا أنّه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع ، بل تنعقد الإمامة ، وإن لم تجمع الأمّة على عقدها. والدليل عليه أنّ الإمامة لمّا عقدت لأبي بكر ، ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم ينكر عليه منكر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود ، ولا حدّ محدود ، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ والعقد» (٢).

٤ ـ قال القرطبي : (م ٦٧١ ه‍) : «فإن عقدها واحد من أهل الحلّ والعقد ، فذلك ثابت ، ويلزم الغير فعله ، خلافا لبعض الناس ، حيث قال : لا تنعقد إلّا بجماعة من أهل الحلّ والعقد ، ودليلنا : أنّ عمر عقد البيعة لأبي بكر ، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك (٣). ولأنّه عقد ، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد

__________________

(١) الأحكام السلطانية ، ص ٦ ـ ٧ ، ط الحلبي بمصر.

(٢) الإرشاد ، ص ٤٢٤.

(٣) ولعل القرطبي لم يقرأ مأساة السقيفة بين المهاجرين والأنصار ، وإلّا فالاعتراض والنزاع كان قائما على قدم وساق ويكفي في ذلك مراجعة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، وتاريخ الطبري ، ـ

٢١

يعقدونه كسائر العقود» (١).

٥ ـ وقال القاضي عضد الدين الإيجي (م ٧٥٧) : «المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة ، وأنّها تثبت بالنّصّ من الرسول ، ومن الإمام السابق ، بالإجماع ، وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد. لنا ، ثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة».

وقال : «وإذا ثبت حصول الإمام بالاختيار والبيعة ، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع ، إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع ، بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد ، كاف ، لعلمنا أنّ الصحابة ، مع صلابتهم في الدين ، اكتفوا بذلك ، كعقد عمر لأبي بكر ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ، ولم يشترطوا اجتماع من في المدينة ، فضلا عن إجماعهم هذا ، ولم ينكر عليه أحد ، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا» (٢).

٥ ـ وعلى ذلك مضى شارح المواقف السيد شريف الجرجاني (٨١٦) (٣).

٦ ـ وقال التفتازاني (م ٧٩١) : «وتنعقد الإمامة بطرق :

أحدها : بيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه النّاس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد ، ولا اتّفاق من في سائر البلاد ، بل لو تعلّق الحلّ والعقد بواحد مطاع كفت بيعته.

الثاني : استخلاف الإمام وعهده ، وجعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف ، إلّا أنّ المستخلف عليه غير متعين فيتشاورون ، ويتفقون على أحدهم ، وإذا خلع الإمام نفسه كان كموته ، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.

الثالث : القهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من

__________________

ـ وسيرة ابن هشام ، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري المتوفّى عام ٢٨٠. وفيما يأتي من المباحث نشير إلى بعض تلك الوقائع.

(١) تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٢٦٠.

(٢) المواقف ، صفحة ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ، ط عالم الكتب.

(٣) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ٣٥١ ـ ٣٥٣.

٢٢

يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف ، وقهر الناس بشوكته ، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر» (١).

يلاحظ على هذه الأقوال والنظريات

أولا ـ إنّ موقف أصحاب هذه الأقوال في المسألة ، موقف من اعتقد بصحة خلافة الخلفاء ، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي ، من انعقادها بواحد أو اثنين ، أو اتّفاق من تيسّر حضوره ، دون النائين من الصحابة ، وغير ذلك.

وهذا النّمط من الاستدلال ، استدلال بالمدّعى على نفس المدّعى ، وهو دور واضح. والعجب من هؤلاء الأعلام كيف سكتوا عن الاعتراضات الهائلة التي توجهت من نفس الصحابة من الأنصار والمهاجرين على خلافة الخلفاء ، الذين تمّت بيعتهم ، ببيعة الخمسة في السقيفة ، أو بيعة أبي بكر لعمر ، أو بشورى السّتّة ، فإنّ من كان ملمّا بالتاريخ ومهتما به ، يرى كيف كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالاعتراض. حتى أنّ الزبير وقف في السقيفة أمام المبايعين ، وقد اخترط سيفه ، وهو يقول : «لا أغمده حتى يبايع عليّ». فقال عمر : «عليكم الكلب»!. فأخذ سيفه من يده ، وضرب به الحجر ، وكسر (٢).

ويكفي في ذلك قول الطبري أنّه قام الحباب بن المنذر ـ وانتضى سيفه ـ وقال : «أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، أنا أبو شبل ، في عرينة الأسد ، يعزى إليّ الأسد ، فحامله عمر ، فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذه ، ثم وثب على سعد (بن عبادة) ووثبوا على سعده وتتابع القوم على البيعة ، وبايع سعد ، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية ، قام أبو بكر دونها ، وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعدا. فقال عمر : قتله الله ، إنّه منافق. واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه (٣).

__________________

(١) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٧٢ ، ط اسطنبول.

(٢) الإمامة والسياسة ، ج ١ ، ص ١١.

(٣) تاريخ الطبري ، حوادث عام ١١ ، ج ٢ ، ص ٤٥٩. وفي رواية أخرى للطبري أنّ عمر قام على ـ

٢٣

هذه نبذة يسيرة من الأصوات المدوّية التي عارضت الخلافة والخليفة المنتخب ، وكم لها من نظير في السقيفة والشورى وغيرهما ضربنا عنه صفحا.

أفيصح بعد ذلك قول القرطبي : «ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك» ، وكأن الحباب ، وسعدا ، وابنه قيس ، وعامة الخزرجين ، وبني هاشم ، والزبير ، لم يكونوا من الصحابة؟!.

وثانيا ـ إنّ هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة ، يعرب عن بطلان نفس الأصل لأنّه إذا كانت الإمامة مفوضة إلى الأمّة ، كان على النبي الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة ، وأنّه هل تنعقد بواحد أو اثنين من الصحابة؟ أو تنعقد بأهل الحلّ والعقد منهم؟ أو بالصحابة الحضور عند رحلة النبي أو رحلة الإمام السابق؟ أو باتّفاق جميع المسلمين بأنفسهم ، أو بممثليهم؟.

وليس عقد الإمامة لرجل ، أقلّ من عقد النكاح بين الزوجين الذي اهتمّ القرآن والسنّة ببيانه وتحديده ، كما اهتمت السنّة على الخصوص بشئونه وأحكامه.

والعجب أنّ عقد الإمامة الذي تتوقف عليه حياة الأمّة ، لم يطرح في النصوص ، لا كتابا ولا سنّة ـ على زعم القوم ـ ولم تبيّن حدوده ولا شرائطه ، ولا سائر مسائله التي كان يواجهها المسلمون بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة!!.

__________________

رأس سعد ، وقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ سعد بلحية عمر ، وقال : والله لو حصحصت منه شعرة ما رجعت وفيك واضحة ، أما والله لو أنّ بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك (أي يلزمهم دخول الجحر ، وهو كناية عن شدّة التضييق) ، أما والله ، إذا لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع ، احملوني من هذا المكان». فحملوه ، فأدخلوه في داره. وترك أياما ، ثم بعث إليه أن أقبل ، فبايع ، فقد بايع الناس ، وبايع قومك. فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأخضّب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ، فلا أفعل. وأيم الله ، لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربّي ، وأعلم ما حسابي». فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يجمع معهم ، ولا يفيض معهم إفاضتهم ، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر. (المصدر نفسه). وسعد بن عبادة سيد الخزرجيين.

٢٤

وجملة القول ، إنّ اختلافهم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه ، جعل الخلافة وبالا على المسلمين ، حتى أخذت لنفسها شكلا يختلف كلّ الاختلاف عن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه. فقد أصبحت الخلافة الإسلامية ، إمبراطورية ، وملكا عضوضا ، يتناقلها رجال العيث والفساد ، من يد فاسق ، إلى آخر فاجر غارق في الهوى ، إلى ثالث سفّاك متعصّب. وقد أعانهم في تسنم ذروة تلك العروش ، مرتزقة من رجال متظاهرين باسم الدين ، فبرروا أفعالهم ، ووجّهوا أعمالهم توجيها ملائما للظروف السائدة ، وصحّحوا اتجاهاتهم السياسية الخاصة ، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة ، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل ، لتدعيم مراكزهم السياسية ، ويكفيك النموذج التالي ، لتقف على حقيقة تلك الأحاديث المفتراة.

رووا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه قال : «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنّون بسنّتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال الراوي : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطع» (١).

* * *

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٦ ، باب الأمر بلزوم الجماعة ، وباب حكم من فرّق أمر المسلمين ، ص ٢٠ ـ ٢٤ ، وفي البابين نظائر كثيرة لهذا الحديث.

٢٥

الأمر السادس

الإمامة عند الشيعة الإمامية

قد تعرفت على حقيقة الإمامة لدى أهل السنّة والجماعة ، وعرفت أنّ ما يتبنونه لا يقتضي أزيد من الشرائط المتوفرة في رؤساء الدول غير أنّ الإمامة عند الشيعة تختلف في حقيقتها عمّا لدى إخوانهم ، فهي إمرة إلهية ، واستمرار لوظائف النبوة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي. ومقتضى هذا ، اتصاف الإمام بالشروط المشترطة في النبي ، سوى كونه طرفا للوحي.

توضيح ذلك : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يملأ فراغا كبيرا وعظيما في حياة الأمّة الإسلامية ، ولم تكن مسئولياته وأعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي ، وتبليغه إلى الناس فحسب ، بل كان يقوم بالأمور التالية :

١ ـ يفسّر الكتاب العزيز ، ويشرح مقاصده وأهدافه ، ويكشف رموزه وأسراره.

٢ ـ يبيّن أحكام الموضوعات التي كانت تحدث في زمن دعوته.

٣ ـ يردّ على الحملات التشكيكية ، والتساؤلات العويصة المريبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى.

٤ ـ يصون الدين من التحريف والدسّ ، ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أصول وفروع ، حتى لا تزلّ فيه أقدامهم.

٢٦

وهذه الأمور الأربعة كان النبي يمارسها ويملأ بشخصيته الرسالية ثغراتها. ولأجل جلاء الموقف نوضح كل واحد من هذه الأمور.

أمّا الأمر الأول : فيكفي فيه قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١). فقد وصف النبي في هذه الآية بأنّه مبيّن لما في الكتاب ، لا مجرّد تال له فقط.

وقوله سبحانه : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٢) فكان النبي يتولى بيان مجمله ومطلقه ومقيّده ، بقدر ما تتطلبه ظروفه.

والقرآن الكريم ليس كتابا عاديا ، على نسق واحد ، حتى يستغني عن بيان النبي ، بل فيه المحكم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمنسوخ والناسخ ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : «وخلّف (النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها : كتاب ربّكم فيكم ، مبيّنا حلاله وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّة ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسرا مجمله ، ومبيّنا غوامضه» (٣).

وأمّا الأمر الثاني : فهو بغنى عن التوضيح ، فإنّ الأحكام الشرعية وصلت إلى الأمّة عن طريق النبي ، سواء أكانت من جانب الكتاب أو من طريق السنّة.

وأمّا الأمر الثالث : فبيانه أنّ الإسلام قد تعرض ، منذ ظهوره ، لأعنف الحملات التشكيكية ، وكانت تتناول توحيده ورسالته وإمكان المعاد ، وحشر الإنسان ، وغير ذلك. وهذا هو النبي الأكرم ، عند ما قدم عليه جماعة من كبار النصارى لمناظرته ، استدلّوا لاعتقادهم بنبوة المسيح ، بتولده من غير أب ، فأجاب النبي بوحي من الله سبحانه ، بأنّ أمر المسيح ليس أغرب من أمر آدم

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٤٤.

(٢) سورة القيامة : الآيات ١٦ ـ ١٩.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

٢٧

حيث ولد من غير أب ولا أمّ قال سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وأنت إذا سبرت تفاسير القرآن الكريم ، تقف على أنّ قسما من الآيات نزلت في الإجابة عن التشكيكات المتوجهة إلى الإسلام من جانب أعدائه من مشركين ويهود ونصارى وسيوافيك في مباحث المعاد جملة كثيرة من الشبهات التي كانوا يعترضون بها على عقيدة المعاد ، وجواب القرآن عليها.

وأمّا الأمر الرابع : فواضح لمن لاحظ سيرة النبي الأكرم ، فقد كان هو القول الفصل وفصل الخطاب ، إليه يفيء الغالي ، ويلحق التالي ، فلم ير إبّان حياته مذهب في الأصول والعقائد ، ولا في التفسير والأحكام. وكان ـ بقيادته الحكيمة ـ يرفع الخصومات والاختلافات ، سواء فيما يرجع إلى السياسة أو غيرها (٢).

هذه هي الأمور التي مارسها النبي الأكرم أيام حياته. ومن المعلوم أنّ رحلته وغيابه صلوات الله عليه ، يخلّف فراغا هائلا ومفزعا في هذه المجالات الأربعة ، فيكون التشريع الإسلامي حينئذ أمام محتملات ثلاثة :

الأول ـ أن لا يبدى الشارع اهتماما بسدّ هذه الفراغات الهائلة التي ستحدث بعد الرسول ، ورأى ترك الأمور لتجري على عواهنها.

الثاني ـ أن تكون الأمّة ، قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها ، حدا تقدر معه بنفسها على سدّ ذلك الفراغ.

الثالث ـ أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقاه من المعارف والأحكام

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٥٩. ولاحظ سورة الزخرف : الآيات ٥٧ ـ ٦١.

(٢) يكفي في ذلك ملاحظة غزوة الحديبية ، وكيف تغلّب بقيادته الحكيمة على الاختلاف الناجم ، من عقد الصلح مع المشركين وما نجم في غزوة بني المصطلق من تمزيق وحدة الكلمة ، أو ما ورد في حجة الوداع ، حيث أمر من لم يسق هديا. بالإحلال ، ونجم الخلاف من بعض أصحابه ، فحسمه بفصله القاطع.

٢٨

بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأمّة بعده ، يستودعه شخصية مثالية ، لها كفاءة تقبّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها ، فتقوم هي بسد هذا الفراغ بعد رحلته صلوات الله عليه.

أمّا الاحتمال الأول ـ فساقط جدا ، لا يحتاج إلى البحث ، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة ، فإنّ في ترك سدّ هذه الفراغات ضياعا للدين والشريعة ، وبالتالي قطع الطريق أمام رقيّ الأمّة وتكاملها.

فبقي الاحتمالان الأخيران ، فلا بد لتعيين واحد منهما ، دراستهما في ضوء العقل والتاريخ.

هل كانت الأمّة مؤهلة لسدّ تلك الفراغات؟

هذه هي النقطة الحساسة في تاريخ التشريع الإسلامي ومهمّته ، فلعلّ هناك من يزعم أنّ الأمّة كانت قادرة على ملئ هذه الفراغات. غير أنّ التاريخ والمحاسبات الاجتماعية يبطلان هذه النظرة ، ويضادّانها ، ويثبتان أنّه لم يقدّر للأمّة بلوغ تلك الذروة ، لتقوم بسدّ هذه الثغرات التي خلّفها غياب النبي الأكرم ، لا في جانب التفسير ، ولا في جانب التشريع ، ولا في جانب ردّ التشكيكات الهدّامة ، ولا في جانب صيانة الدين عن الانحراف ، وإليك فيما يلي بيان فشل الأمّة في سدّ هذه الثغرات ، من دون أن نثبت للأمّة تقصيرا ، بل المقصود استكشاف الحقيقة.

أمّا في جانب التفسير ، فيكفي وجود الاختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم ، وقبل كل شيء نضع أمامك كتب التفسير ، فلا ترى آية ـ إلّا ما شذّ ـ اتّفق في تفسيرها قول الأمّة ، حتى أنّ الآيات التي يرجع مفادها إلى عمل المسلمين يوما وليلا لم تصن عن الاختلاف ، وإليك النماذج التالية.

أ ـ قال سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (١).

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦.

٢٩

فقد تضاربت الآراء في فهم الآية ، فمن قائل يعطف الرّجل على الرءوس ، ومن قائل يعطفه على الأيدي ، فتمسح على الأوّل ، وتغسل على الثاني. فأيّ الرأيين هو الصحيح؟ وأيّ التفسيرين هو مراده سبحانه؟.

ب ـ قال سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (١).

فاختلفت الأمّة في موضع القطع ، فمن قائل بأنّ القطع من أصول الأصابع ، وعليه الإمامية ، ومن قائل بأنّ القطع من المفصل ، بين الكفّ والذراع ، وعليه الأئمة الثلاثة ، أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي. ومن قائل بأنّ القطع من المنكب ، كما عليه الخوارج (٢).

ج ـ قال سبحانه : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ، فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (٣).

وفي آية أخرى يحكم سبحانه بإعطاء الكلالة ، النصف أو الثلثين ، كما قال : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ، وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) (٤).

فما هو الحل ، وكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟.

وأمّا الآيات المحتاجة إلى التفسير في مجال المعارف ، فحدّث عنها ولا حرج ، ويكفيك ملاحظة اختلاف الأمّة في الصفات الخبرية ، والعدل ، والجبر والاختيار ، والهداية والضلالة ...

وكم ، وكم من آيات في القرآن الكريم تضاربت الأفكار في تفسيرها ، من غير فرق بين آيات الأحكام وغيرها.

وأمّا في مجال الإجابة على الموضوعات المستجدة ، فيكفي في ذلك الوقوف

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٣٨.

(٢) الخلاف ، كتاب السرقة ، ج ٣ ، المسألة ٣١ ، ص ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٣) سورة النساء : الآية ١٢.

(٤) سورة النساء : الآية ١٧٦.

٣٠

على أنّ التشريع الإسلامي كان يشق طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية ، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الاجتماعية ، في عهد الرسول الأكرم ، كان يثير أسئلة ويتطلب حلولا ، ومن المعلوم أنّ هذا النمط من الحاجة كان مستمرا بعد الرسول. غير أنّ ما ورثه المسلمون من النبي الأكرم لم يكن كافيا للإجابة عن جميع تلك الأسئلة.

أمّا الآيات القرآنية في مجال الأحكام ، فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية. وأمّا الأحاديث ـ في هذا المجال ـ فالذي ورثته الأمّة لا يتجاوز الخمسمائة حديث.

وهذا القدر من الأدلة غير واف بالإجابة على جميع الموضوعات المستجدة إجابة توافق حكم الله الواقعي ، ولأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه القصورات ، نذكر بعضها :

أ ـ رفع رجل إلى أبي بكر وقد شرب الخمر ، فأراد أن يقيم عليه الحدّ ، فادّعى أنّه نشأ بين قوم يستحلّونها ، ولم يعلم بتحريمها إلى الآن ، فتحيّر أبو بكر في حكمه (١).

ب ـ مسألة العول شغلت بال الصحابة فترة من الزمن ، وكانت من المسائل المستجدة التي واجهت جهاز الحكم بعد الرسول ، وقد طرحت هذه المسألة أيام خلافة عمر بن الخطاب ، فتحيّر ، فأدخل النقص على الجميع استحسانا ، وقال : «والله ما أدري أيّكم قدّم الله ولا أيّكم أخّر ، ما أجد شيئا أوسع لي من أنّ أقسّم المال عليكم بالحصص ، وأدخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة» (٢).

ج ـ سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية ، تطليقتين ،

__________________

(١) الكافي ، ج ٧ ، كتاب الحدود ، ص ٢٤٩ ، الحديث ٤. الإرشاد للمفيد ، ص ١٠٦ ، مناقب ابن شهرآشوب ، ص ٤٨٩.

(٢) أحكام القرآن ، للجصاص ، ج ٢ ، ص ١٠٩ ، ومستدرك الحاكم ، ج ٤ ، ص ٣٤٠. راجع في توضيح حقيقة العول المصدرين المذكورين والكتب الفقهية في الميراث.

٣١

وفي الإسلام تطليقة ، فهل تضم التطليقتان إلى الثالثة ، أو لا؟ فقال للسائل «لا آمرك ولا أنهاك» (١).

هذا ، ولا نعني من ذلك أنّ الشريعة الإسلامية ، ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية ، وشمول المواضيع المستجدة ، أو المعاصرة لعهد الرسول ، بل التشريع الإسلامي كان وافيا بالجميع ببيان سوف نشير إليه (٢).

والذي يكشف عمّا ذكرنا ، أنّه اضطرّ صحابة النبي منذ الأيام الأولى من وفاته صلوات الله عليه وآله ، إلى إعمال الرأي والاجتهاد في المسائل المستحدثة ، وليس اللجوء إلى الاجتهاد بهذا الشكل ، إلّا تعبيرا واضحا عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبوية للوقائع المستحدثة ، بالحكم والتشريع ، ولا مجال للاجتهاد وإعمال الرأي فيما يشمله نصّ من الكتاب أو السنّة بحكم ، ولذلك أحدثوا مقاييس للرأي ، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط ، وألوانا من الاجتهاد ، منه الصحيح المتّفق عليه ، يصيب الواقع حينا ، ويخطئه أحيانا ، ومنه المريب المختلف فيه. وكان القياس أوّل هذه المقاييس وأكثرها نصيبا من الخلاف ، والمراد منه إلحاق أمر بآخر ، في الحكم الثابت للمقيس عليه ، لاشتراكهما في مناط الحكم المستنبط. وكان القياس بهذا المعنى (دون منصوص العلة) مثارا للخلاف بين الصحابة ، والعلماء ، فقد تبنّته جماعة من الصحابة والتابعين ، وأنكرته جماعة أخرى ، وعارضوا الأخذ به ، منهم الإمام علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وأئمة أهل البيت ، ثم اصطنعوا بعد ذلك معايير أخرى ، منها المصالح المرسلة ، وهي المصالح التي لم يشرّع الشارع حكما بتحقيقها ، ولم يدلّ دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها.

وهناك مقاييس أخرى ، كسدّ الذرائع ، والاستحسان ، وقاعدة شرع من

__________________

(١) كنز العمال ، ج ٥ ، ص ١١٦.

(٢) حاصله أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يراعي في إبلاغ الحكم حاجة الناس ، ومقتضيات الظروف الزمنية ، فلا بد ـ في إيفاء غرض التشريع ـ أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه ، ويقوم مقامه ، لإيفاء أغراضه التي لم يقدّر له تحقيقها في حياته الكريمة.

٣٢

قبلنا ، وما إلى ذلك من القوانين والأصول الفقهية ، التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عند ما طرأ على المجتمع الإسلامي ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها ، ولم تكن النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة لتشمل تلك المظاهر الاجتماعية المستحدثة بحكم ، ولم يجد الفقهاء بدّا من الالتجاء إلى إعمال الرأي والاجتهاد في مثل هذه المسائل ممّا لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة ، وتشعبت بذلك مدارس الفقه الإسلامي ، وبعدت الشّقة بينها ، وتبلورت تلك المعاني إثر التضارب الفكري الذي حصل بين هذه المدارس ، وصيغت الأفكار في صيغ علمية محددة ، بعد ما كان يغلب عليها طابع التذبذب والارتباك.

وذلك كلّه يدلّ على عدم وفاء نصوص الكتاب والسنّة ، بما استجدّ للمسلمين بعد عصر الرسالة ، من مسائل ، أو ما جدّ لهم من حاجة.

وهناك نكتة تاريخية توقفنا على سرّ عدم إيفاء الكتاب والسنّة بمهمة التشريع ، وهي أنّ مدّة دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تتجاوز ثلاثا وعشرين عاما ، قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو المشركين فيها. ولكن عنادهم جعل نتائج الدعوة قليلة. فلأجل ذلك لم يتوفق لبيان حكم شرعي فرعي إلّا ما ندر. ومن هنا نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكة تدور في الأغلب حول قضايا التوحيد والمعاد ، وإبطال الشرك ومقارعة الوثنية ، وغيرها من القضايا الاعتقادية ، حتى صار أكثر المفسّرين يميّزون الآيات المكيّة عن المدنية بهذا المعيار.

ولما انتهت دعوته إلى محاولة اغتياله ، هاجر إلى يثرب ، وأقام فيها العشرة المتبقية من دعوته تمكّن فيها من بيان قسم من الأحكام الشرعية لا كلّها ، وذلك لوجوه :

١ ـ إنّ تلك الفترة كانت مليئة بالحوادث والحروب ، لتآمر المشركين والكفّار ، المتواصل على الإسلام وصاحب رسالته والمؤمنين به. فقد اشترك النبي في سبع عشرة غزوة كان بعضها يستغرق قرابة شهر ، وبعث خمسا وخمسين سرية لقمع المؤمرات وإبطالها ، وصدّ التحركات العدوانية.

٢ ـ كانت إلى جانب هذه المشاكل ، مشكلة داخلية يثيرها المنافقون الذين

٣٣

كانوا بمنزلة الطابور الخامس ، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين ، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل. وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من وقت النبي الذي كان يمكن أن يصرف في تربية المسلمين وإعدادهم وتعليمهم على حلّ ما قد يطرأ على حياتهم ، أو يستجد في مستقبل الأيام.

٣ ـ إنّ مشكلة أهل الكتاب ، خصوصا اليهود ، كانت مشكلة داخلية ثانية ، بعد مشكلة المنافقين ، فقد فوّتوا من وقته الكثير ، بالمجادلات والمناظرات ، وقد تعرّض الذكر الحكيم لناحية منها ، وذكر قسم آخر منها في السيرة النبوية (١).

٤ ـ إنّ من الوظائف المهمة للنبي عقد الاتّفاقيات السياسية والمواثيق العسكرية الهامة التي يزخر بها تاريخ الدعوة الإسلامية (٢).

إنّ هذه الأمور ونظائرها ، عاقت النبي عن استيفاء مهمة التشريع.

على أنّه لو فرضنا تمكن النبي من بيان أحكام الموضوعات المستجدة ، غير أنّ التحدّث عن الموضوعات التي لم يعرف المسلمون شيئا من ماهياتها وتفاصيلها في عهد الرسول ، وإنّما كانت تحدث بصورة طبيعية شيئا فشيئا ، أمر صعب للغاية ، ولم يكن في وسع المسلمين أن يدركوا معناه.

فحاصل هذه الوجوه توقفنا على أمر محقق ، وهو أنّه لم يقدر للنبي استيفاء مهمة التشريع ، ولم يتسنّ للمسلمين أن يتعرّفوا على كل الأحكام الشرعية المتعلقة بالحوادث والموضوعات المستجدة.

وأمّا في مجال ردّ الشبهات والتشكيكات وإجابة التساؤلات ، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبي من هذه الناحية ، فجاءت اليهود والنصارى تترى ، يطرحون الأسئلة ، ويشوّشون بها أفكار الأمّة ، ليخربوا عقائدها ومبادئها ، ونذكر من ذلك :

__________________

(١) لاحظ السيرة النبوية ، لابن هشام ، ج ١ ، ص ٥٣٠ ـ ٥٨٨ ، ط الحلبي ـ مصر ـ ١٣٧٥.

(٢) لاحظ كتاب الوثائق السياسية لمحمد حميد الله ، و «مكاتيب الرسول».

٣٤

وفود أسقف نجران على عمر ، وطرح بعض الأسئلة عليه (١).

وفود جماعة من اليهود على عمر ، وطرح بعض الشبهات (٢).

وفود جماعة من اليهود على عمر ، وطرح بعض الأسئلة عليه (٣).

سؤال عويص ورد من الروم على معاوية يلتمس الجواب عنه (٤).

أسئلة وردت من جانب البلاط الروماني إلى معاوية (٥).

وغير ذلك من الوفود والأسئلة التي لم يكن هدفها إلّا التشكيك في الدين وإيجاد التزلزل في عقيدة المسلمين.

وأمّا في جانب صيانة المسلمين عن التفرقة والاختلاف ، والدين عن الانحراف ، فقد كانت الأمّة الإسلامية في أشدّ الحاجة بعد النبي إلى من يصون دينها عن التحريف ، وأبناءها عن الاختلاف ، فإنّ التاريخ يشهد دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤبدي المجوس ، ككعب الأحبار ، وتميم الدّاري ، ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام ، وبعدهم الزنادقة ، والملاحدة ، والشعوبيون ، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية ، والأساطير النصرانية ، والخرافات المجوسية بينهم ، وقد ظلّت هذه الأحاديث المدسوسة ، تخيّم على أفكار المسلمين ردحا طويلا من الزمن ، وتؤثّر في حياتهم العلمية ، حتى نشأت فرق وطوائف في ظلّ هذه الأحاديث.

وممّا يوضح عدم تمكّن الأمّة من صيانة الدين الحنيف عن التحريف وأبنائها عن التشتت ، وجود الروايات الموضوعة والمجعولات الهائلة. ويكفي في ذلك أنّ يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة

__________________

(١) تذكرة الخواص ، لابن الجوزي ، المتوفى عام ٦٥٦ ، ص ١٤٤.

(٢) قضاء أمير المؤمنين ، ص ٦٤.

(٣) علي والخلفاء ، ص ٣١٣.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) قضاء أمير المؤمنين ، ص ٧٨ و ١١٤.

٣٥

الإسلامية ، وما رواه بعد ذلك. فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية ، تربو على ستمائة ألف حديث ، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف ، ومعنى هذا أنّه لم يصحّ لديه من كل مائة وخمسين حديثا إلّا حديث واحد ، وأمّا أبو داود فلم يصحّ لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة ، وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث. وكثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم ، كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم (١).

قال العلامة المتتبع الأميني : ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم ـ الصحاح والمسانيد ـ من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن ذلك الهوش الهائش ، فقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث ، وقال انتخبته من خمسمائة ألف حديث (٢). ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ، ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثا ، اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث (٣). وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات ، صنفه من ثلاثمائة ألف (٤). وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث ، وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث ، وكان يحفظ ألف ألف حديث (٥). وكتب أحمد بن فرات ، المتوفى عام ٢٥٨ ، ألف ألف وخمسمائة ألف حديث ، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيرها(٦).

فهذه الموضوعات على لسان الوحي ، تقلع الشريعة من رأس وتقلب

__________________

(١) لاحظ حياة محمد ، لمحمد حسين هيكل ، ص ٤٩ ـ ٥٠ ، الطبعة الثالثة عشر.

(٢) طبقات الحفاظ ، للذهبي ، ج ٢ ، ص ١٥٤. تاريخ بغداد ، ج ٢ ص ٥٧. المنتظم لابن الجوزي ، ج ٥ ، ص ٩٧.

(٣) إرشاد الساري ، ج ١ ، ص ٢٨. صفة الصفوة ، ج ٤ ، ص ١٤٣.

(٤) المنتظم ، لابن الجوزي ، ج ٥ ، ص ٣٢. طبقات الحفاظ ، للذهبي ، ج ٢ ، ص ١٥١. شرح صحيح مسلم للنووي ، ج ١ ، ص ٣٦.

(٥) ترجمة أحمد ، المنقولة من طبقات ابن السبكي ، المطبوعة في آخر الجزء الأول من مسنده ، طبقات الذهبي ، ج ٢ ، ص ١٧.

(٦) خلاصة التهذيب ، ص ٩. نقلناه برمّته متنا وهامشا من الغدير ، ج ٥ ، ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

٣٦

الأصول ، وتتلاعب بالأحكام ، وتشوش التاريخ ، أو ليس هذا دليلا على عدم وفاء الأمّة بصيانة دينها عن التشويش والتحريف؟.

* * *

هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة ، وهي عدم تمكّن الأمّة ، مع ما لها من الفضل ، من القيام بسدّ الفراغات الهائلة التي خلّفتها رحلة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا مناص من تعيّن الاحتمال الثالث ، وهو سدّ تلك الثغرات بفرد مثالي يمارس وظائف النبي في المجالات السابقة ، بعلمه المستودع فيه ، ويكون له من المؤهلات ما للنبي الأكرم ، سوى النبوّة ، وسوى كونه طرفا للوحي.

إنّ الغرض من إرسال الأنبياء هي الهداية الإلهية لبني البشر ، إلى الكمال في الجانبين المادي والروحي. ومن المعلوم أنّ هذه الغاية لا يحصل عليها الإنسان إلّا بالدين المكتمل أصولا وفروعا ، المصون من التحريف والدسّ. وما دام النبي حيّا ، بين ظهرانيّ الأمّة ، تتحقق تلك الغاية بنفسه الشريفة ، وأمّا بعده فيلزم أن يخلفه إنسان مثله في الكفاءات والمؤهّلات ، ليواصل دفع عجلة المجتمع الديني في طريق الكمال ، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب ، والتقهقر إلى الوراء. ووجود إنسان مثالي ، كالنبي في المؤهلات ، عارف بالشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي. فهل يسوغ على الله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء ، الهادي للبشرية إلى ذروة الكمال.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضرورية ، وأجهزة كمالية. حتى أنّه قد زوّده بالشعر على أشفار عينيه وحاجبيه ، وقعر أخمص قدميه ، كل ذلك لتكون حياته سهلة لذيذة غير متعبة ، فهل ترى أنّ حاجته إلى هذه الأمور أشدّ من حاجته إلى خلف حامل لعلوم النبوة ، قائم بوظائف الرسالة.

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت في فلسفة وجود هذا الخلف ، ومدى تأثيره في تكامل الأمّة :

٣٧

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله : بحجة ، إمّا ظاهرا مشهورا ، وإمّا خائفا مغمورا ، لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته» (١).

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ، ولو لا ذلك لما يعرف الحق من الباطل» (٢).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ الأرض لا تخلو وفيها إمام ، كيما زاد المؤمنون شيئا ردّهم ، وإذا نقصوا شيئا أئمّة لهم» (٣).

هذه المأثورات من أئمة أهل البيت ، تعرب عن أنّ الغرض الداعي إلى بعثة النبي ، داع إلى وجود إمام يخلف النبي ، في عامة سماته ، سوى ما دلّ القرآن على انحصاره به ، ككونه نبيّا رسولا وصاحب شريعة.

نعم ، إنّ كثيرا ممّن ليست لهم أقدام راسخة في أبواب المعارف ، يصعب عليهم تصوّر إنسان مثالي يحمل علوم النبوة ، وليس بنبي ؛ ويقوم بوظائفها الرسالية ، وليس برسول ؛ يحيط بمعارف الشريعة وأحكامها ، وليس طرفا للوحي ؛ ويصون الشريعة من التحريف والدسّ ، ويردّ تشكيكات المبطلين ، وليس له صلة بسماء الوحي. ولأجل ذلك يثيرون في وجهه إشكالين ، لا بدّ من ذكرهما ، والإجابة عنهما.

الإشكال الأول

إنّ الفرد الجامع لهذه الخصائص ، لا يفترق عن النبي ، فتصبح الإمامة عندئذ ، مرادفة للنبوّة ، مع أنّ أدلّة الخاتمية قطعت طريق هذا الاحتمال (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، الرقم ١٤٧.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ١٧٨.

(٣) الكافي ، ج ١ ، ص ١٧٨.

(٤) وقد عرفت عن صاحب المواقف أنّه اعترض على تعريف الإمامة بأنّها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ، بالنقض بالنبوة ، ص ٣٤٥.

٣٨

الجواب

إنّ الفرق بين النبوّة ، واحتضان علوم النبي الأكرم ، واضح ، لا يحتاج إلى البيان ، فإنّ مقوم النبوّة عبارة عن كون النبي طرفا للوحي ، يسمع كلام الله تعالى ، ويرى رسوله ، ويكون صاحب شريعة مستقلة ، أو مروجا لشريعة من قبله.

وأمّا الإمام فهو الخازن لعلوم النبوة في كل ما تحتاج إليه الأمّة ، من دون أن يكون طرفا للوحي ، أو سامعا كلامه سبحانه ، أو رائيا الملك الحامل له.

نعم ، المهم هو الوقوف على أنّ في وسعه سبحانه أن يربي للأمّة ، في حضن النبي الأكرم ، رجلا مثاليا يأخذ علوم النبي بتعليم غيبي يفي بوظائف الرسالة بعد رحلته ، حتى يسدّ الفراغات العلمية الحاصلة برحلته.

وبما أنّ المستشكل ، ومن تبعه ، بريئون من هذه المعارف ، ويخصّون التعليم ، بالوسائل العادية ، يتعجبون من بلوغ إنسان ذلك الحدّ من الكمال والعلم ، من دون أن يدخل مدرسة ، أو يخضع أمام شيخ ، إلّا أن يكون نبيّا.

وإنّ القرآن الكريم يحدّثنا عن أناس مثاليين نالوا الذروة من العلوم بتعليم غيبي ، مع أنّهم لم يكونوا أنبياء ، كمصاحب موسى عليه‌السلام الذي يقول سبحانه في شأنه : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ، آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (١).

ولم يكن المصاحب نبيّا ، بل كان وليّا من أولياء الله سبحانه ، بلغ الذّروة من العلم ، حتى قال له موسى ـ وهو نبي مبعوث بشريعة : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)؟ (٢).

وجليس سليمان عليه‌السلام ، الّذي يقول سبحانه في شأنه : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ٦٥.

(٢) سورة الكهف : الآية ٦٦.

٣٩

عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ...) (١).

وهذا الجليس لم يكن نبيّا ، ولكن كان صاحب علم من الكتاب ، ومن المعلوم أنّ هذا العلم لم يحصل له من الطرق العادية التي يدرج عليها الأولاد والشبّان في الكتاتيب والمدارس ، وإنّما هو علم إلهي احتضنه بلياقته وكفاءته ، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).

والشاهد على رسالة النبي ، إلى جانب شهادته سبحانه ، الذي يقول سبحانه في شأنه : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ، قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢).

والسورة مكية على ما يدلّ عليه سياق آياتها ، ونقل عن الكلبي أنّه قال : «إنّها مكية إلّا هذه الآية» ، ويدفعه أنّها مختتم السورة ، قوبل بها ما في مفتتحها ، أعني قوله سبحانه : (المر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (٣) ، فيبعد جدا أن يفرق بين المتقابلين بأعوام.

فعندئذ يجب الإمعان في هذا الشاهد الذي عطفه سبحانه على نفسه ، وعدّه شاهدا على رسالة النبي كشهادة نفسه سبحانه. أفيصحّ أن يقال إنّ المراد ، القوم الذين أسلموا في المدينة ، كعبد الله بن سلام ، وتميم الداري ، وسلمان الفارسي ، مع أنّ الآية نزلت في مكّة؟.

على أنّ عطف هؤلاء في الشهادة ، على الله سبحانه ، لا يخلو من غموض وإبهام. فلا بدّ أن يكون المراد من الشاهد هنا إنسانا مثاليا ، كان موجودا في مكة ، وهو أعلم الناس بالكتاب ، حتى يصحّ أن يجعل عدلا آخر للشهادة ، ولا يكون هذا الإنسان إلّا من تربّى في حجر النبوة وحضنها ، وتحمّل علومها ، بتعليم غيبي إلهي ، لا بتعليم بشري عادي.

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٤٠.

(٢) سورة الرعد : الآية ٤٣.

(٣) سورة الرعد : الآية ١.

٤٠