أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١
«الفصل السادس»
فى تماثل القدر الحادثة ، واختلافها ، وتضادها ، وأنها
هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور إلى آلة ، وبنية مخصوصة أو لا؟
مذهب أهل الحق من أصحابنا : أن كل قدرتين تعلقتا بمقدورين ؛ فهما مختلفان ، وكل قدرتين تعلقتا بمقدور واحد ، وسواء اتحد محل القدرتين ، أو اختلف ؛ فهما متماثلان كما سبق فى العلم (١). غير أن تعلق العلمين بالمعلوم الواحد جاز أن يكونا فى وقت واحد ، وفى وقتين (٢) بخلاف القدرتين ؛ / فإنهما لا يتعلقان بمقدور واحد فى وقت واحد ، وسواء اتحد محلهما ، أو اختلف كما يأتى (٣).
وإنما يتصور ذلك بأن تتعلق إحدى القدرتين به فى حالة النشأة ، والأخرى فى حالة الإعادة.
وأجمعت المعتزلة : على امتناع القول بتماثل القدر (٤) الحادثة اعتمادا منهم على أن ذلك يوجب تعلق المثلين بمقدور واحد ؛ وهو محال.
وإنما كان كذلك ؛ لأن تعلقهما به : إما فى وقت واحد ، أو فى وقتين.
الأول : محال ؛ لما يأتى ، والثانى : يلزم منه أن يكون المقدور الواحد موجودا حالة فرض تعلق إحدى القدرتين به ، لوجود مقتضيه ، وأن لا يكون موجودا ؛ لعدم تعلق القدرة الأخرى به فى ذلك الوقت ؛ وهو محال. وهذا غير سديد ؛ فإنه وإن امتنع تعلق القدرتين به فى وقت واحد ؛ فما المانع من تعلقهما به فى وقتين؟
قولهم : لأنه يلزم من ذلك أن يكون المقدور الواحد فى وقت واحد ؛ موجودا معدوما معا (٥).
__________________
(١) انظر ل ١٠ / ب وما بعدها.
(٢) فى ب (مختلفين). ويبدو أنها (وقتين مختلفين).
(٣) انظر ل ٢٤٣ / ب وما بعدها.
(٤) فى ب (القدرة)
(٥) زائد فى ب (قلنا : وإن سلم أنه يلزم من تعلق إحدى القدرتين به فى وقتين قولهم : لأنه يلزم من ذلك أن يكون المقدور الواحد فى وقت واحد موجودا معدوما معا).
قلنا : وإن سلم أنه يلزم من تعلق إحدى القدرتين به وجوده ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدم تعلق (١) الأخرى به عدمه ؛ فإنه لا يلزم من انتفاء سبب معين ؛ انتفاء المسبب مع تحقق سبب آخر.
وإنما يلزم انتفاؤه : أن لو انتفت جميع الأسباب ؛ وهو غير مسلم.
كيف : وأن ما ذكروه منتقض على أصلهم حيث قالوا : بأن مقدور العبد حالة كونه مقدورا له ؛ لا يكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ ويكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ بأن لا يخلق للعبد القدرة عليه. ومع ذلك ما لزم من جواز تعلق القدرة الحادثة والقديمة بالمقدور الواحد فى وقتين ؛ وجود المقدور ، وعدمه معا ؛ لتعلق إحدى القدرتين به ، وعدم تعلق الأخرى به.
وأما تضاد القدر : فقد اختلف أصحابنا فيه.
فمنهم : من جوزه اعتمادا منه على أن القدرتين على الضدين لا يجتمعان ؛ فهما ضدان.
ومنهم : من لم يطلق اسم التضاد فى ذلك ، مع اعترافه باستحالة الجمع نظرا إلى اختلاف متعلقهما ، وأن كل واحدة غير متعلقة بما تعلقت به الأخرى.
وحاصل هذا الاختلاف : يرجع إلى المنازعة فى الإطلاق اللفظى مع الموافقة على المعنى ، ولا حاصل له.
وأما أن القدرة هل تتوقف فى تعلقها بالمقدور على آلات وبنية مخصوصة؟ فقد اشترطه (٢) المعتزلة ؛ لما رأوه من جرى العادة أن الطائر لا يطير إلا بجناحين ، والماشى لا يمشى إلا برجلين ، إلى غير ذلك ، وخالفهم أصحابنا فيه. والكشف عن تحقيق الحق ، وإبطال الباطل ؛ فعلى ما سبق فى الإدراكات (٣).
__________________
(١) فى ب (القدرة الأخرى).
(٢) فى ب (اشترط).
(٣) انظر ل ٩٩ / أوما بعدها.
«الفصل السابع»
فى أن فعل النائم ، هل هو مقدور له؟
وأن النوم يضاد القدرة ، أم لا؟
وقد اتفقت المعتزلة ، وكثير من أصحابنا : على امتناع وجود الأفعال الكثيرة المحكمة من النائم ، وعلى جواز [صدور (١)] الأفعال القليلة منه.
ثم اختلف القائلون بجواز صدور الأفعال القليلة منه : فى كونها مقدورة له.
فذهبت المعتزلة ، وبعض أصحابنا : إلى كونها مقدورة له ، وأن النوم لا يضاد القدرة ، وإن [تضاد (٢) العلم ، وغيره من الإدراكات (٢)] باتفاق العقلاء.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق : إلى أن النوم يضاد القدرة كمضادته للعلم ، وباقى الإدراكات.
وذهب القاضى أبو بكر ، من أصحابنا : إلى أن الفعل القليل الصادر من النائم غير مقطوع بكونه مكتسبا ، ولا بكونه ضروريا مع إمكان كل واحد من الأمرين.
وقد احتج من قال بكونها مقدورة له بحجج.
الأولى : أن النائم كان قادرا فى يقظته ، والقدرة باقية ، والنوم لا ينافى القدرة ؛ فوجب استصحاب الحال فيها.
الثانية : هو أن النائم إذا انتبه ، فهو على ما كان عليه فى نومه ، ولم يتجدد أمر وراء زوال النوم ، وهو قادر بعد (٣) الانتباه ، وزوال النوم غير موجب للاقتدار ، ولا وجوده ناف للقدرة ؛ فوجب الاستواء فيما قبل النوم ، وبعد زواله فى الاقتدار.
الثالثة : هو أنه قد يوجد من النائم ما لو وجد منه فى حالة اليقظة ؛ لكان واقعا منه على حسب القصد ، والاختيار ، والداعية ، والنوم ، وإن نافى القصد والداعية ؛ فغير مناف للقدرة.
__________________
(١) فى أ (ضد).
(٢) فى أ (وأن صادر العلم).
(٣) فى ب (على).
وهذه الحجج واهية :
أما الأولى : فمن وجهين :
الأول : منع كون القدرة باقية فى حالة اليقظة على ما سبق.
الثانى : وإن كانت باقية : فلم قلتم بوجودها (١) فى حالة النوم. والقول بأن النوم غير مناف للقدرة : عين محل النزاع.
وأما الثانية : فمن وجهين أيضا :
الأول : لا نسلم أن النائم إذا انتبه ؛ فهو قادر قطعا ؛ بل لعله انتبه (نائما) (٢).
الثانى : وإن سلم أنه إذا انتبه ؛ فهو قادر ؛ ولكن ما المانع أن يكون الانتباه شرطا ، أو أن النوم مانع؟
وقولهم : إن النوم غير مضاد للقدرة : عين محل النزاع أيضا.
وأما الثالثة : فحاصلها يرجع إلى دعوى محل النزاع فى قولهم : إن النوم غير مناف للقدرة.
وبالجملة : فمن رام الدلالة على كون أفعال النائم مقدورة له ، أو غير مقدورة على وجه القطع ؛ فقد كلف نفسه شططا.
/ وأقرب ما فى ذلك : إنما هو دعوى الضرورة بالعلم بكونها مقدورة له من حيث أنا نفرق بين ارتعاد يده فى نومه ، وبين تقلبه ، وقبض يده وبسطها ، حسب ما تفرق بينهما فى حق المستيقظ من غير فرق.
ومن رام التسوية : بين رعدة يده حالة نومه ، وبين تقلبه فى كونها ضرورية ؛ لم يبعد تطرق التشكيك عنده فى التسوية بينهما فى حق المستيقظ ؛ وهو بعيد عن المعقول ؛ لكن هذا وإن كان فى غاية الوضوح ؛ فى النفس من مذهب القاضى أبى بكر حزازة ؛ من حيث أنه لا يبعد أن يكون ذلك الفعل ضروريا غير مكتسب له ، وحيث فرقنا بالضرورة فى
__________________
(١) فى ب (بوجوبها).
(٢) فى أ (ناوما).
حق المستيقظ بين رعدة يده ، وقيامه وقعوده ، حتى (١) قطعنا بكون الرعدة ضرورة (١) ، والقيام ، والقعود مقدورا مكتسبا ، كان مع الاستيقاظ ، ولعله شرط فيه ، أو أن النوم مانع منه ؛ فلا يكون الجمع مقطوعا به.
فإن قيل : إذا (٢) قد قلتم (٢) بأن النوم مضاد للعلم ، وسائر الإدراكات ، فما وجه الجمع بينه وبين ما يراه النائم فى منامه ، ويدركه بالسمع ، والبصر ، وغيره من أنواع الإدراك.
قلنا : أما المعتزلة : فقد أجمعوا على أن ذلك ليس من الإدراكات فى شيء ؛ بل خيالات ، وظنون بناء على أصولهم من اشتراط انبثاث الأشعة من العين ، وتوسط الهواء المشف ، والبنية المخصوصة ، وانتفاء الحجب ، والقرب المفرط ، والبعد المفرط ، إلى غير ذلك من شروط الإدراكات المستقصاة فى الإدراكات ، وعدم تحققها فى حق النائم.
ووافقهم على ذلك جماعة من أصحابنا : وإن كانوا مجوزين للإدراكات من غير شرط وبنية ، على ما سبق ، لكن اما بناء على أن النوم ضد لها ، أو لأنها على خلاف العادة.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق : إلى أنها إدراكات حقيقية. فإن الإنسان يجد من نفسه إبصار المبصرات [وسماع (٣) المسموعات (٣)] فى حالة نومه حسب ما يراه فى حالة يقظته ، ولو ساغ التشكك فى ذلك حالة النوم ، لساغ التشكك فيه حالة اليقظة ؛ لكنه لم يخالف فى كون النوم ضدا للإدراك ، غير أنه زعم أن الإدراك لا بد وأن يقوم بجزء غير ما قام به النوم ؛ وكل واحد من المذهبين محتمل غير يقينى.
__________________
(١) فى ب (حتى يكون قطعنا بكون الرعدة ضرورية).
(٢) فى ب (إذا قلتم).
(٣) فى أ (والسماع بالمسموعات).
«الفصل الثامن»
فى وجود مقدور بين قادرين ، وأن الله ـ تعالى ـ قادر
على مثل فعل العبد ، أم لا؟
مذهب أصحابنا : جواز وجود / مقدور بين قادرين : خالق ، ومكتسب. وامتناع ذلك بين قادرين خالقين ، أو مكتسبين.
وأجمعت المعتزلة : على اجتماع ذلك مطلقا غير أبى الحسين البصرى.
أما حجة أصحابنا : على امتناع مقدور بين قادرين خالقين ؛ فما تقدم (١).
وأما بين مكتسبين (٢) : فلأن المقدور المكتسب لا يخرج عن محل القدرة عندهم ، والمقدور الواحد لا يقوم بمحلين مختلفين.
وأما حجتهم على جواز مقدور بين قادرين : خالق ، ومكتسب ، فحجج (٣).
الأولى (٤) : أنه إن جاز (٤) وجود معلوم بين عالمين ، ومدرك بين مدركين ؛ لم يبعد وجود مقدور بين قادرين.
(الثانية (٥)): أنه إذا جاز وجود محمول من (٦) حاملين ، جاز وجود مقدور من قادرين.
الثالثة : أنه إذا جاز وجود مملوك بين مالكين ؛ فكذلك مقدور بين قادرين.
الرابعة : أن المقدور إذا كان متوقفا على القدرة ، والبنية المخصوصة والآلة ؛ فلا يبعد توقفه على قدرتين.
الخامسة : أنه لو لم يكن الرب ـ تعالى ـ قادرا على مقدور العبد ؛ لما كان قادرا على جنس مقدور العبد ، وهو قادر على جنس مقدور العبد.
__________________
(١) انظر ل ٢١٧ / ب.
(٢) فى ب (المكتسبين).
(٣) فى ب (فثمان).
(٤) فى ب (الحجة الأولى أنه إذا جاز).
(٥) ساقط من أ.
(٦) فى ب (بين).
السادسة : أنه إذا لم يبعد عند الخصم تعلق قدرة (١) بمقدورات ، لم يبعد تعلق قدر (٢) بمقدور واحد.
السابعة : أنه إذا كانت قدرة العبد على الفعل : إنما هى بأقدار الله ـ تعالى ـ له عليه ، وتمكينه له منه. فلأن يكون الرب ـ تعالى ـ قادرا على مقدور العبد أولى ؛ لأن الإقدار تمكين من الشيء ، والتمكين من الشيء فوق التمكن منه.
ولهذا : فإنه لو أعلم الله العبد بشيء ، لزم أن يكون الرب عالما به. وإذا جعل العبد مدركا لشيء ؛ كان مدركا له.
الثامنة : أنا لو فرضنا جسما جمادا ؛ فلا يخلو :
إما أن يقال : بأن الله قادر على ما يمكن أن يوجد فيه من الحركات ، والسكنات مطلقا من غير استثناء بتقدير خلق الحياة فى ذلك الجسم ، وإقداره على حركاته ، وسكناته ، أو أنه غير قادر على ذلك مطلقا ؛ بل على ما لا يكون مقدورا للعبد بتقدير خلق الحياة فيه ، وإقداره عليه.
فإن كان الأول : فعند خلق الحياة فى ذلك الجسم ، وإقداره على الحركة والسكون : إما أن يقال باستمرار تعلق قدرة الله ـ تعالى ـ بتلك الحركة ، وذلك السكون ، أو لا يقال باستمراره.
لا جائز أن يقال بالثانى : فإنه ليس امتناع استمرار تعلق القدرة القديمة بما نجد من تعلق القدرة الحادثة أولى من العكس.
وإن كان الأول : فهو المطلوب.
وإن قيل : إنه غير قادر على ذلك مطلقا ؛ بل على ما لا يكون مقدورا للجسم بتقدير إقداره عليه.
/ فنقول : لو كان كون البارى ـ تعالى ـ قادرا مختصا ببعض الحركات ، والسكنات ؛ لما اختلف حكم الاختصاص بذلك فى أن يقدر إقدار الجسم ، أو لا يقدر ؛ ويلزم من
__________________
(١) فى ب (القدرة).
(٢) فى ب (قدرتين).
ذلك أن لا يكون الرب ـ تعالى ـ قادرا على كل ما يفرض من الحركات والسكنات ، فى (١) الجسم الجمادى الّذي علم الله أنه لا يقدره ، وهو محال.
وهذه الحجة (٢) : هى أشبه الحجج المذكورة ؛ والكل ضعيف.
أما الحجج الست الأول : فحاصلها يرجع إلى دعوى مجردة ، وتمثيل من غير جامع ؛ فلا يصح.
ثم لو لزم طرد (٣) ما ذكروه ، من جواز معلوم بين عالمين ، ومحمول بين حاملين ، ومملوك بين مالكين ، فى مقدورين قادرين ؛ لزم طرده في مخلوق بين خالقين ؛ وهو محال كما تقدم (٤).
وأما الحجة السابعة : فدعوى مجردة أيضا ؛ فإنه لا معنى لإقدار الرب تعالى للعبد على الفعل ، غير خلق قدرة العبد على الفعل. ولا يلزم من كونه قادرا على خلق القدرة على الفعل ، أن يكون قادرا على نفس الفعل.
ولا يخفى ؛ أن القول بذلك تمثيل من غير دليل جامع ؛ وهو باطل على (٥) ما تقدم ذكره (٥). وبمثله يبطل التمثيل أيضا بما ذكر من الأمثلة ، وإن اكتفى فى ذلك بمجرد دعوى اطراد حكم الإعلام فى الإقدار ؛ فيلزم منه اطراد ذلك فى الشهوة حتى يقال : إنه إذا خلق للعبد الشهوة أن يكون مشتهيا ، وكذلك فى الجهل والنسيان ، والألم ، وغير ذلك ؛ وهو محال.
وأما الحجة الثامنة : فلأنه لو قيل : ما المانع من أن يكون قادرا على حركات الجسم ، وسكناته مطلقا بتقدير عدم إقداره للجسم ، والقول بقطع الاستمرار وبتقدير إقدار الجسم ، وجعل تعلق قدرة الجسم به مانعا منه.
قولكم : ليس هو أولى من العكس.
__________________
(١) فى ب (من).
(٢) فى ب (الحجج).
(٣) فى ب (من طرد).
(٤) انظر ل ٢١٧ / ب.
(٥) فى ب (بما سبق) انظر ل ٣٩ / أ.
لا نسلم عدم الأولوية : وغايته أنكم لم تطلعوا على ما به الأولوية بعد البحث التمام ، والسير الكامل ؛ وهو غير مفيد لليقين على ما تقدم (١).
وإن سلمنا أنه لا أولوية : فما المانع من القسم الثانى : وهو أن لا يكون قادرا على ما يكون مقدورا للعبد بتقدير إقداره.
قولكم : لو كان (٢) البارى ـ تعالى ـ قادرا مختصا ببعض الحركات والسكنات ؛ لما اختلف حكم الاختصاص بأن يقدر إقدار العبد أو لا ليس كذلك ؛ فإنه إذا كان كونه قادرا مختصا بما لا يقدر العبد عليه بتقدير إقداره. فلو قطعنا النظر عنه ؛ لكان قادرا مطلقا ؛ وهو خلاف الفرض.
وعلى هذا فللقائل أن يقول :
إذا علم الله ـ تعالى ـ / من جسم من الأجسام أنه لا يقدره على الحركة والسكون ؛ فالحركة والسكون اللذان لو أقدر الله العبد عليهما ، بتقدير أن لا يعلم عدم إقداره عليهما ؛ لا يكونان مقدورين للرب ـ تعالى ـ بتقدير علمه أنه لا يقدر العبد عليهما ـ ولا محالة أن موقع المنع صعب جدا.
والأقرب فى ذلك أن يقال :
قد ثبت بما قدمناه فى امتناع خالق غير الله ـ تعالى ـ وجوب تعلق قدرة الرب ـ تعالى ـ بكل ممكن.
وثبت بما قدمناه فى إثبات القدرة الحادثة ، وجوب تعلقها بمقدورها ؛ ويلزم من الأمرين أن يكون مقدور العبد اكتسابا ؛ مقدورا للرب خلقا.
فإن قيل : ما ذكرتموه ، وإن دل على جواز وجود مقدور واحد بين قادرين ؛ فهو معارض بما يدل على امتناعه.
وبيانه من أربعة أوجه :
الأول : أنه لو قدر مقدور بين قادرين : فإما أن يكونا قديمين ، أو محدثين ، أو أحدهما قديما ، والآخر محدثا.
__________________
(١) انظر ل ٣٩ / ب.
(٢) فى ب (كان كون).
لا جائز أن يقال بالأول : لاستحالة وجود قادرين قديمين ، كما سبق تحقيقه.
وإن كانا محدثين : فإما أن يكون المقدور قائما بمحل قدرتيهما ، أو خارجا عنهما ، أو هو قائم بمحل قدرة أحدهما دون الآخر.
فإن كان الأول : فهو محال ؛ لاستحالة قيام المتحد بالمحال المتعدد.
وإن كان الثانى : فهو محال لوجهين :
الأول : لأنه إذا أراده أحدهما ، وكرهه الآخر : فإما أن يوجد أو لا يوجد.
فإن وجد مع كون القادر عليه كان كارها له ؛ فهو محال.
وإن لم يوجد مع كون القادر عليه مريدا له ؛ فهو محال.
الثانى : أنهما لو أرادا إيجاده : فإما أن يوجد بإيجادهما (١) ، أو لا يوجد ، ولا بإيجاد واحد منهما ، أو يوجد بإيجاد أحدهما دون الآخر.
لا جائز أن يوجد بإيجادهما ؛ لما سبق فى امتناع مخلوق بين خالقين. وإن لم يوجد أصلا ؛ فيلزم منه عدم المقدور مع وجود القادر عليه ، وإرادته له من غير مانع ؛ وهو محال.
وإن (٢) وجد بإيجاد أحدهما دون الآخر ؛ فلا أولوية.
وإن كان الثالث : فهو أيضا محال ؛ لهذين الوجهين ، ويخصه وجه ثالث ؛ وهو أن أحدهما موجد له بجهة التولد والسبب ، وهو الّذي لم يقم المقدور بمحل قدرته ، والثانى قد لا يكون موجدا له بجهة التولد والسبب.
وعند ذلك : فإما أن يصح وجوده من غير سبب ، أو لا يصح وجوده إلا بالسبب.
فإن كان الأول : فقد استغنى المقدور فى وجوده عن الإيجاد بالتولد والسبب.
وإن كان الثانى : فقد بطل القول / بأن أحدهما يكون موجدا له من غير سبب ، وكل ذلك محال.
__________________
(١) فى ب (بإيجاد أحدهما).
(٢) فى ب (فان).
وإن كان أحد القادرين قديما ، والآخر حادثا ؛ فالكلام فيه كما لو كانا حادثين ، وسواء كان المقدور قائما بمحل قدرة الحادث ، أو خارجا عنه.
ويزيد هاهنا وجهان :
الأول : هو أن الفعل إذا وقع مخترعا بإيجاد القديم له ؛ فالقادر الحادث يصير مضطرا غير مختار [(١) حيث وقع مقدوره (١)] مخترعا للرب ـ تعالى ـ ومقتضى كونه قادرا ، أن يكون مختارا ؛ والجمع بين الاضطرار ، والاختيار ، محال.
الثانى : أن فعل العبد ، ومقدوره لا يخرج عن كونه طاعة ، أو معصية بخلاف فعل القديم ، فلا إيجاد.
الوجه الثانى : فى الدلالة على امتناع وجود مقدوريين قادرين : أن تعلق المقدور بالقادر : كتعلق المعلول بالعلة. وكما استحال تعليل المعلول بعلتين ؛ فيستحيل كون الشيء الواحد مقدورا بقدرتين.
الوجه الثالث : هو أن الفعل ـ فعل لفاعله لنفسه ، لا لغيره ، فلو جاز أن يكون فعله لغيره ؛ لجاز أن يكون كونه ؛ كونا لغيره ، وعبده ، عبدا لغيره.
الرابع : أنه لو لو جاز أن يكون فعلا (٢) لفاعلين (٢) ، لجاز أن يكون لونا واحدا لمتلونين ، وحركة لمتحركين ؛ وهو محال.
والجواب : أما الشبهة الأولى : فالمختار منها : إنما هو القسم الثالث : وهو أن يكون أحد القادرين ، قديما مخترعا ، والآخر حادثا ، مكتسبا.
قولهم : إنه إذا أراده أحدهما ، وكرهه الآخر ؛ وجب أن لا يوجد لكراهة الآخر له.
قلنا : لا يخلو : إما أن يكون الكاره هو المخترع ، أو المكتسب.
فإن كان هو المخترع : فلا يتصور المقدور ؛ لأن قدرة المكتسب عندنا غير مؤثرة فى الإيجاد على ما سيأتى.
__________________
(١) فى أ (مقدور).
(٢) فى ب (فعل الفاعلين).
وإن كان الكاره هو المكتسب : فلا يمتنع معه الإيجاد ، ضرورة وجود القادر المؤثر ، وعدم تأثير قدرة المكتسب ، وكراهيته فى المقدور.
وقولهم : لو أراد إيجاده : فإما أن يوجد بإيجادهما ، أو لا يوجد ، أو يوجد بإيجاد أحدهما دون الآخر ؛ فالمختار أنه موجود بإيجاد المخترع دون المكتسب.
قولهم : لا أولوية : إنما يستقيم ، أن لو استويا فى التأثير ، بأن كان كل واحد (منهما (١)) مؤثرا بقدرته ، وأما إذا كان القديم هو المؤثر دون الحادث ، فلا.
قولهم : إذا وقع الفعل مخترعا بإيجاد القديم له ؛ فقد صار المكتسب مضطرا غير مختار.
قلنا : إن قلتم إنه غير مختار ((٢) بمعنى أنه ما وقع الفعل مقارنا لقدرته ؛ فممتنع. وإن قلتم إنه غير مختار (٢)) بمعنى أن الفعل ما وقع بقدرته ، وأنه لا تأثير لقدرته فى المقدور نفيا وإثباتا ؛ فمسلم.
وهذا هو نص / مذهبنا. ولا بعد فى قولنا : إن القدرة متعلقة بالمقدور من غير تأثير ، وإن المقدور واقع بغيرها : كما فى تعلق العلم بالمعلوم ؛ فإنه لما كان علمنا متعلقا بالمعلوم من غير تأثير فيه ؛ لم يبعد معه كون المعلوم حاصلا بغيره.
قولهم : إن فعل العبد لا يخرج عن كونه طاعة ، أو معصية ، بخلاف فعل الله ـ تعالى.
قلنا : الطاعة ، والمعصية من الصفات العارضة للفعل المقدور بسبب قصد القادر ، وداعيته. والاختلاف فى العوارض ؛ لا يوجب التفاوت فى ماهية الفعل المقدور.
قولهم : كما استحال تعليل معلول واحد بعلتين ؛ استحال كون الشيء الواحد مقدورا بقدرتين.
قلنا : هذا تمثيل من غير جامع ؛ فلا يصح. كيف وأن الفرق حاصل :
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) من أول (بمعنى أنه ...) ساقط من أ.
وهو أن امتناع تعليل معلول بعلتين : إنما كان لكون العلة موجبة للمعلول ، واجتماع موجبين محال ؛ كما تقدم. بخلاف (١) المقدور بين القادرين : المخترع ، والمكتسب (١) : فإنهما غير موجبين ؛ بل الموجب المخترع دون المكتسب.
قولهم : فعل (٢) القادر (٢) فعله لنفسه. فلو كان فعله لغيره ؛ لكان كونه لغيره.
قلنا : كون المقدور فعلا للمكتسب : أنه مقارن لقدرته فى محل قدرته ، ومعنى كونه لغيره : أنه مؤثر فيه. ومع اختلاف هذين الاعتبارين ؛ فلا منافاة. ودعوى امتناع ذلك ؛ عين محل النزاع.
وما ذكروه أخيرا ؛ فحاصله يرجع إلى التمثيل من غير دليل.
كيف : وأنه وإن تعذر لون واحد لمتلونين ، وحركة المتحركين ؛ فلا يمتنع معلوم واحد بعلمين ، ومدرك واحد بإدراكين ؛ وليس إلحاق المقدور بأحد القسمين ، أولى من إلحاقه بالآخر.
وأما أن الله ـ تعالى ـ قادر على مثل فعل العبد ؛ فهذا مما اتفق عليه أصحابنا ، والمعتزلة : ودليله ما حققناه من وجوب تعلق قدرة الرب ـ تعالى ـ بكل ممكن ؛ ولم يخالف فى ذلك غير البلخى من المعتزلة ؛ فإنه قال : الرب ـ تعالى ـ لا يقدر على مثل فعل العبد ، اعتمادا منه على أن فعل العبد لا يخرج عن كونه طاعة ، أو معصية ، ومقدور الرب ـ تعالى ـ وفعله ليس كذلك ؛ فلا يكون فعل الرب ـ تعالى ـ مماثلا لفعل العبد ؛ وجوابه ما سبق.
__________________
(١) فى ب (قادرين مخترع ومكتسب).
(٢) فى ب (الفاعل).
«الفصل التاسع»
فى امتناع مقدور واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة
وهذا مما اتفق علي امتناعه أرباب المذاهب.
أما بالنسبة إلى البارى / تعالى ـ ؛ فلاستحالة التعدد فى قدرته.
وأما القادر المحدث : فمن زعم أن (١) قدرة الحادث (١) مخترعة : كالمعتزلة فقد منعوا من وجود مخترع بقدرتين ، كما منعوا من صدور واحد بقادرين ؛ وهو ظاهر.
وأما من زعم أن قدرة الحادث غير مؤثرة ؛ فقد احتج على امتناع ذلك ؛ بأنه لو جاز تعلق قدرتين فى محل واحد بمقدور (٢) واحد ؛ لأمكن (٢) فرض وجود كل واحدة من القدرتين فى محل غير محل الأخرى ، مع فرض تعلقهما بذلك المقدور ؛ وذلك يجر إلى وقوع مقدور بين قادرين ؛ وهو ممتنع كما سبق (٣).
وهذا الاحتجاج : ضعيف على أصول أصحابنا من حيث أن القدرة المختلفة المحال ؛ مختلفة عندهم.
وعند ذلك : فلا يلزم من جواز تعلق القدرتين القائمتين بمحل واحد مع تماثلهما بمقدور واحد ، جواز تعلقهما به مع اختلافهما.
وإن سلم التماثل بينهما ؛ فالمقدور : إما أن يكون خارجا عن محليهما ، أو قائما بمحليهما ؛ أو بمحل إحداهما دون الأخرى.
لا جائز أن يقال بالأول : إذ هو خلاف مذهب القائل بالكسب.
ولا جائز أن يقال بالثانى : لاستحالة قيام المقدور المتحد بمحلين مختلفين ؛ فلم يبق إلا الثالث.
وعند ذلك : فلا يلزم من جواز تعلق القدرتين فى المحل الواحد بالمقدور القائم به ، جواز تعلق القدرة الخارجة عن محل المقدور بالمقدور.
__________________
(١) فى ب (أن قدرته).
(٢) فى ب (لمقدور واحد لا يمكن).
(٣) انظر ل ٢٤١ / أوما بعدها.
والأقرب فى ذلك أن يقال :
لو جاز وجود مقدور واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة ؛ لم يخل : إما أن يقال : القدرتان متماثلتان ، أو غير متماثلتين.
فإن كان الأول : لزم اجتماع المثلين فى محل واحد ؛ وهو محال كما يأتى تحقيقه فى التضاد (١).
وإن لم يكونا متماثلين ؛ فهما مختلفان ، والاختلاف بينهما ، إما مع التضاد أو لا مع التضاد.
فإن كان الأول : لزم اجتماع الضدين ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى : فهو محال أيضا ؛ لأن متعلق القدرتين واحد. وطريق تعلقهما به كتعلق العلمين بمعلوم واحد. فلو جاز الاختلاف بين القدرتين مع اتحاد متعلقهما ؛ لأمكن القول باختلاف العلمين مع اتحاد متعلقهما ، ضرورة عدم الفرق ، ولما وقع الوثوق بتماثل مثلين ؛ وهو محال.
وعلى هذا : إن قلنا بجواز إعادة الأعراض ، فلا يمتنع تعلق المقدور الواحد بقدرتين لقادر واحد فى وقتين بأن تتعلق إحدى قدرتيه به فى النشأة الأخرى فى حالة الإعادة ، إذ لا يلزم منه الاختلاف بين القدرتين مع اتحاد المحل ، ولا اجتماع المثلين فى محل واحد.
__________________
(١) انظر الجزء الثانى ل ٧٢ / ب وما بعدها.
«الفصل العاشر»
فى امتناع تعلق القدرة / الواحدة بمقدور واحد
من وجهين. وأن القادر على الحركة هل يقدر على
تحريك جزء فرد من أجزائه دون الباقى ، أم لا؟
وقد اتفق أرباب المذاهب : على امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين ، وسواء كانت القدرة قديمة ، أو حادثة ، وسواء كانت القدرة الحادثة مؤثرة ، أو غير مؤثرة. على اختلاف المذاهب.
وعند ذلك : فلا بد من التفصيل فنقول :
أما القدرة القديمة المخترعة : فيظهر امتناع تعلقها بمقدورها من وجهين : على رأى من يعتقد أن الوجود هو نفس الذات ، لا زائد عليها من جهة أن تأثير القدرة : إنما هو فى الوجود ، فإذا كان الوجود هو الذات ، والذات واحدة ؛ فالوجود واحد لا تعدد فيه ، وما لا تعدد فيه ؛ فلا يتصور تعلق القدرة به من وجهين.
وأما من يرى أن الوجود زائد على الذات الموجودة : كالمعتزلة فيبعد امتناع ذلك على معتقده ؛ لأن الوجود عنده حال زائدة على الذات ، ومن معتقده جواز ثبوت حالين متماثلين لذات واحدة ؛ حيث قضى بجواز قيام علمين متماثلين بعالم واحد. وقيام العلمين المتماثلين بالواحد ؛ يوجب له عالميتين متماثلتين. وعند ذلك : فلو قيل له ما المانع من تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد. بالنظر إلى وجودين متماثلين؟ لم يجد إلى دفعه سبيلا ، ومن منع من ثبوت عالميتين متماثلتين لمن قام به علمان متماثلان ؛ فقد خرق قواعد المعتزلة ، وقال قولة لم يقل بها قائل.
كيف : وأنه لو كانت العالمية الثابتة ، لمن قام به العلمان المتماثلان ، متحدة غير متعددة : فإما أن تكون ثابتة بالعلمين ، أو بأحدهما.
لا سبيل إلى الأول ؛ لما فيه من تعليل الحكم الواحد بعلتين ؛ وهو محال كما يأتى (١).
__________________
(١) انظر الجزء الثانى ل ١٢٥ / أالفصل السابع : فى أن الحكم الواحد لا يثبت بعلتين مختلفتين.
ولا سبيل إلى الثانى : فإنه ليس إضافة الحكم إلى أحدهما أولى من الآخر. ثم يلزم منه أن يكون العلم قائما بشخص لم توجب له العالمية ، وفيه إبطال حقائق العلل ، والمعلولات.
فإن قيل : لو كان للذات الواحدة وجودان ؛ فيلزم من تقدير وقوع أحدهما ، وانتفاء الآخر ؛ أن تكون الذات الواحدة موجودة ، غير موجودة ؛ لما ثبت من أحد الوجودين ، وانتفاء الآخر ؛ وهو محال.
فلقائل أن يقول :
ما المانع من تلازم الوجودين على وجه يتعذر الانفكاك بينهما؟ ولا يبعد (١) ذلك فى الأحوال بالنسبة إلى ذات واحدة كما فى التلازم الواقع بين قبول / الجوهر للأعراض ، وكونه متحيزا.
وإن سلم : جواز تقدير ثبوت أحدهما ، ونفى الآخر ؛ ولكن لا يلزم منه كون الذات منفية مع تقدير ثبوت أحد الموجودين لها ، وإنما يلزم ذلك أن لو قدر انتفاء الوجودين ؛ فإنه لا يلزم من انتفاء إحدى العلتين ، انتفاء معلولها ما لم يقدر انتفاء جميع العلل.
وأما القدرة الحادثة : فيظهر أيضا امتناع تعلقها بمقدورها من وجهين على رأى من يرى أنها متعلقة بعين مقدور القدرة القديمة ، من غير تأثير لها فيه ؛ وأن الوجود الّذي هو متعلق القدرة القديمة ؛ هو نفس الذات المقدورة على ما تقدم تقريره.
وأما من يرى أنها مؤثرة فى نفس وجود الذات ، وأن الوجود زائد على الذات المقدورة : فيبعد امتناع ذلك على رأيه ؛ كما حققناه فى القدرة القديمة.
وأما من يرى أنها مؤثرة فى ثبوت حالة زائدة على نفس الذات المقدورة بالقدرة القديمة : كالقاضى أبى بكر ؛ فيبعد أيضا امتناع ذلك على معتقده من حيث أنه إذا لم يمتنع أن يكون للذات الواحدة حالة زائدة تكون القدرة مؤثرة فيها ، فلا يمتنع أن يكون لها حالتان ؛ تكون القدرة الواحدة مؤثرة فيهما.
__________________
(١) فى ب (ولا يتعذر).
فإن قيل : قد دل الدليل على أن فعل العبد مخلوق لله ـ تعالى ـ على ما (١) سبق ؛ وعلى ما يأتى ؛ ودلّ الدليل على تعلق قدرة العبد بالفعل ، وتعلقها به من غير تأثير فيه ؛ لقدم التعلق ، ودل الدليل على امتناع مخلوق بين خالقين ؛ فيلزم من المجموع دلالة الدليل على تعلق القدرة الحادثة بصفة زائدة ، ولم يدل على أكثر من ذلك ، وإثبات صفة مجهولة غير معلومة ، بلا اضطرار ولا نظر ؛ ممتنع.
وأيضا : فإنه لو جاز أن تؤثر القدرة فى إثبات صفتين للمقدور المكتسب ؛ لجاز تقدير ثبوت إحدى الصفتين دون الأخرى ؛ ويلزم من ذلك أن تكون الذات المكتسبة مقدورة ، ضرورة وجود إحدى الصفتين ، وغير مقدورة ؛ لعدم الصفة الأخرى ؛ وهو ممتنع.
وأيضا : فإنه لو جاز تأثير القدرة الحادثة فى ثبوت صفتين ؛ لم يمتنع أن تكون القدرة الحادثة مؤثرة فى ثبوت إحدى الصفتين حالة الحدوث ، وفى الأخرى حالة بقاء الذات ؛ ويلزم من ذلك جواز كون الباقى مقدورا للعبد مع امتناع كونه مقدورا للرب ـ تعالى ـ ؛ وهو محال.
قلنا : أما ما (٢) ذكر من دلالة الدليل على وجود تأثير القدرة / الحادثة فى صفة زائدة ؛ فسيأتى إبطاله فى خلق الأعمال (٣).
وإن سلم دلالة الدليل على ذلك ؛ فحاصل ما ذكره يرجع إلى انتفاء المدلول ؛ لانتفاء الدليل (٤) ؛ وقد سبق إبطاله (٥).
وقوله : بأنه لو جاز ذلك ؛ لجاز تقدير ثبوت إحدى الصفتين دون الأخرى ؛ فقد سبق إبطاله فى القول بتعدد الوجود.
والقول بأنه لو جاز ذلك لم يمتنع تأثير القدرة الحادثة فى ثبوت إحدى الصفتين حالة الحدوث ، وفى الأخرى حالة البقاء إلي آخره. فمبنى على بقاء الأعراض ؛ وهو غير مسلم على ما يأتى تحقيقه (٦).
__________________
(١) فى ب (كما).
(٢) فى ب (ما ذكره).
(٣) انظر ل ٢٥٨ / أوما بعدها.
(٤) فى ب (دليله).
(٥) انظر ل ٣٨ / ب.
(٦) انظر الجزء الثانى ل ٤٤ / ب وما بعدها.
وإن سلمنا البقاء ، والاستمرار : ولكن لا نسلم أن ذلك يفضى إلى كون الباقى الّذي ليس مقدورا للرب ـ تعالى ـ حالة بقائه مقدورا للعبد ؛ فإن مقدور العبد إنما هو الصفة الزائدة على نفس الذات الباقية. لا نفس الذات الباقية.
وإن سلمنا لزوم ما ذكر : لكن ما ذكره (١) فى الصفتين لازم عليه فى الصفة الواحدة ؛ وذلك بأن يخلق الله ـ تعالى ـ مقدور العبد ، ثم يخلق له القدرة حالة بقاء المقدور على تلك الصفة ؛ فإنه يلزم أن يكون العبد قادرا حالة البقاء على الباقى مع كونه غير مقدور للرب ـ تعالى ـ وما هو الجواب فى الصفة الواحدة ؛ هو الجواب فى الصفتين.
وأما أن القادر على الحركة : هل يمكن أن يحرك جزءا من أجزائه الفردة ، دون حركة ما هو متصل به من الأجزاء؟ فالذى عليه اتفاق المعتزلة : امتناع ذلك ؛ لأنه لا يتصور ذلك إلا بسكون باقى الأجزاء ، وانفصال (٢) ذلك الجزء عنها ؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون تحركه بالقدرة ؛ لاختلال شرطها : من البنية المخصوصة ؛ وهو (٣) مبنى على فاسد (٤) أصولهم فى اشتراط البنية ؛ وهو باطل على ما سبق. وأنه لا مانع من خلق الله ـ تعالى ـ القدرة على الحركة فى الجوهر الفرد. ثم لو قيل : لمن جوز منهم وقوع المقدور فى الحالة الثانية من وجود القدرة ـ وإن كانت القدرة معدومة حالة وجود المقدور ـ ما المانع أن تكون حركة الجوهر الفرد حالة انفصاله بقدرة موجودة حالة التأليف ـ وإن كانت معدومة حالة الانفصال؟ لم يجد إلى الانفصال عن هذه المطالبة مخلصا.
__________________
(١) فى ب (ما ذكروه).
(٢) فى ب (او انفصال).
(٣) فى ب (أو هو).
(٤) فى ب (فساد).
«الفصل الحادى عشر»
فى العجز ، وتحقيق معناه
اتفقت الأشاعرة ، وكل من أثبت الأعراض : على (١) / أن العجز عرض ثابت مضاد للقدرة ، خلافا لأبى هاشم فى أحد (٢) أقواله : فإنه نفى كون العجز معنى ثابتا ، وإن كان معترفا بالأعراض. وللأصم (٣) ؛ حيث أنه نفى كون العجز عرضا ؛ لنفيه سائر الأعراض.
والحق ما ذكره أهل الحق ؛ وذلك لأن كل عاقل يجد من نفسه : التفرقة الضرورية بين كونه ممنوعا من القيام : حالة كونه زمنا ، وغير ممنوع منه : حالة كونه غير زمن ؛ فاختصاصه بالمنع من القيام الممكن له حالة كونه زمنا : إما أن يكون بمخصص ، أو لا بمخصص.
لا جائز أن (٤) يكون لا بمخصص (٤) : وإلا لما كان المنع أولى من عدمه.
وإن كان بمخصص : فإما أن يكون وجوديا ، أو عدميا.
لا جائز أن يكون عدميا ، لما سبق فى إثبات القدرة الحادثة.
وإن كان وجوديا : فليس شيء من الأمور المشتركة بين الحالتين ، وإلا فلا تخصيص.
فلم يبق إلا أن يكون خاصا بحالة الزمانة دون غيرها : وليس ذلك هو ذاته ، أو بعض ذاته ، ولا العلم ، أو الحياة ، أو الإرادة ، أو البنية المخصوصة ؛ لما تقدم فى إثبات القدرة الحادثة ، بل لا بد وأن يكون زائدا على ذلك : وهو ما عبر عنه بالعجز ، وهو المطلوب.
ولأبى هاشم ومتبعيه ثلاث شبه :
الشبهة الأولى :
أنه قال : قد ثبت أن البنية المخصوصة شرط فى القدرة ؛ فامتناع القيام على
__________________
(١) ساقط من ب.
(٢) فى ب (آخر).
(٣) فى ب (والأصم) الأصم (أبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان ـ من طبقة أبى الهذيل العلاف ، ومن كبار مفسرى القرآن المعتزليين).
(٤) فى ب (أن لا يكون بمخصص).