الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الخامس

فى

بيان أن أفضل الناس بعد رسول الله

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هو؟

مذهب أصحابنا : أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ وهو قول قدماء المعتزلة.

ومذهب الشيعة : أنه على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وهو قول أكثر المتأخرين من المعتزلة.

أما أصحابنا : فقد تمسكوا بقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) (الليل ١٧) وبقوله عليه‌السلام : «والله ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين ، أفضل من أبى بكر» وكل ذلك قد مضى تقريره فى الفصل المتقدم.

وأما الشيعة فقد احتجوا على أن عليا أفضل الصحابة بوجوه :

الحجة الأولى : التمسك بقوله تعالى : (فَقُلْ : تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (آل عمران ٦١) وثبت بالأخبار الصحيحة : أن المراد من قوله (وَأَنْفُسَنا) هو على. ومن المعلوم أنه يمتنع أن تكون نفس «على» هى نفس «محمد» بعينه. فلا بد وأن يكون المراد : هو المساواة بين النفسين. وهذا يقتضي أن كل ما حصل لمحمد من الفضائل والمناقب ، فقد حصل مثله لعلى.

ترك العمل بهذا فى فضيلة النبوة ، فوجب أن تحصل المساواة بينهما فيما وراء هذه الصفة. ثم لا شك أن محمدا عليه‌السلام كان أفضل الخلق فى سائر الفضائل ، ولما كان «على» مساويا فى تلك الفضائل ، وجب أن يكون أفضل الخلق ، لأن المساوى للأفضل يجب أن يكون أفضل.

٣٠١

الحجة الثانية : التمسك بخبر الطير. وهو قوله عليه‌السلام : «اللهم ائتنى بأحب الخلق أليك ، يأكل هذا الطير معى» والمحبة من الله تعالى عبارة عن كثرة الثواب والتعظيم.

الحجة الثالثة : ان عليا رضى الله عنه كان أعلم الصحابة ، والأعلم أفضل.

انما قلنا : انه كان أعلم الصحابة للاجمال والتفصيل. أما الاجمال فهو أنه لا نزاع أن عليا كان فى أصل الخلقة فى غاية الذكاء والفطنة ، والاستعداد للعلم. وكان محمد عليه‌السلام أفضل العقلاء ، وأعلم العلماء. وكان على غاية الحرص فى طلب العلم ، وكان محمد عليه‌السلام فى غاية الحرص فى تربية «على» وفى ارشاده الى اكتساب الفضائل.

ثم إن عليا رضى الله عنه نشأ من أول صغره فى حجر محمد عليه‌السلام ، وفى كبره صار ختنا له. وكان يدخل عليه فى كل الأوقات. ومن المعلوم : أن التلميذ اذا كان فى غاية الذكاء ، والحرص على النقل (١) وكان الأستاذ فى غاية الفضل ، وفى غاية الحرص على التعليم. ثم إن اتفق لمثل هذا التلميذ أن اتصل بخدمة هذا الأستاذ من زمان الصغر ، وكان ذلك الاتصال بخدمته حاصلا فى كل الأوقات فانه يبلغ ذلك التلميذ فى العلم مبلغا عظيما.

وهذا بيان اجمالى فى أن عليا كان أعلم الصحابة وأما أبو بكر فانه انما اتصل بخدمتهعليه‌السلام فى زمان الكبر. وأيضا : ما كان يصل الى خدمته فى اليوم والليلة الا زمانا يسيرا ، أما على فانه اتصل بخدمته فى زمان الصغر ، وقد قيل : «العلم فى الصغر كالنقش فى الحجر ، والعلم فى الكبر كالنقش فى المدر» فثبت بما ذكرنا : أن عليا كان أعلم من أبى بكر ـ

__________________

(١) التعلم (ب)

٣٠٢

وأما التفصيل. فيدل على ذلك وجوه :

الأول : قوله عليه‌السلام : «أقضاكم على» والقضاء محتاج الى جميع أنواع العلوم. فلما رجحه على الكل فى القضاء ، لزم أنه رجحه عليهم فى جميع العلوم. وأما سائر الصحابة ، فقد رجح كل واحد منهم على غيره ، فى علم واحد. كقوله عليه‌السلام : «أفرضكم زيد بن ثابت ، وأقرأكم أبى»

والثانى : ان أكثر المفسرين سلموا أن قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (الحاقة ١٢) نزل فى حق على رضى الله عنه. وتخصيصه بزيادة الفهم يدل على اختصاصه بمزيد العلم.

الثالث : روى أن عمر رضى الله عنه أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر ، فنبهه على رضى الله عنه. وقال له : الآية : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف ١٥) مع قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة ٢٣٣) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. فقال عمر : «لو لا على لهلك عمر» وروى أن امرأة أقرت بالزناء ، وكانت حاملا ، فأمر عمر برجمها. فقال على : «ان كان لك سلطان عليها ، فما سلطانك على ما فى بطنها؟» فترك عمر رجمها ، وقال : «لو لا على ، لهلك عمر»

فان قيل : لعل عمر أمر برجمها من غير تفحص عن حالها ، فظن أنها ليست بحامل ، فلما نبهه على رضى الله عنه ترك رجمها.

قلنا : هذا يقتضي أن عمر رضى الله عنه ما كان يحتاط فى سفك الدماء. وهذا أشر من الأول.

وروى أيضا : أن عمر قال يوما على المنبر : «ألا لا تغالوا فى مهور النساء ، فمن غالى فى مهر امرأة جعلته فى بيت المال» فقامت عجوز وقالت : يا أمير المؤمنين أتمنع عنا ما أحله الله لنا؟ قال تعالى : («وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ،

٣٠٣

فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (النساء ٢٠) فقال عمر رضى الله عنه : كل الناس أفقه من عمر ، حتى المخدرات فى البيوت» فهذه الوقائع وقعت لغير على. ومثلها لم يتفق لعلى.

الرابع : نقل عن على رضى الله عنه أنه قال : «والله لو كسرت لى (١) الوسادة ، ثم جلست عليها ، لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بانجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم. والله ما من آية نزلت فى بحر ولا بر ولا سهل ولا جبل ولا سماء ولا أرض ولا ليل ولا نهار ، الا وأنا أعلم فيمن نزلت وفى أى شيء نزلت»

طعن «أبو هاشم» فى هذا وقال : «التوراة منسوخة. فكيف يجوز الحكم بها؟»

الجواب عنه من وجوه :

الأول : لعل المراد شرح كمال علمه بتلك الأحكام المنسوخة على التفصيل ، وبالأحكام الناسخة لها الواردة فى القرآن.

والثانى : لعل المراد : أن قضاة اليهود والنصارى متمكنون من الحكم والقضاء على وفق أديانهم ، بعد بذل الجزية. فكان المراد : أنه لو جاز للمسلم ذلك ، لكان هو قادرا عليه.

والثالث : لعل المراد يستخرج من التوراة والإنجيل نصوصا دالة على نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فيكون ذلك أقوى فى التمسك بها على اليهود والنصارى.

الرابع : انا نتفحص عن أحوال العلوم. وأعظمها علم الأصول. وقد جاء فى خطب أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر وأحوال المعاد ، ما لم يأت فى كلام سائر الصحابة.

__________________

(١) ألقيت : ب

٣٠٤

وأيضا : فجميع فرق المتكلمين ينتهى آخر نسبهم فى هذا العلم إليه. أما المعتزلة فهم ينسبون أنفسهم إليه ، وأما الأشعرية فكلهم منتسبون الى «الأشعرى» وهو كان تلميذا ل «أبى على الجبائى» المعتزلى. وهو منتسب الى أمير المؤمنين «على بن أبى طالب» ـ رضى الله عنه ـ وأما الشيعة. فانتسابهم إليه ظاهر. وأما الخوارج. فهم مع غاية بعدهم عنه كلهم منتسبون الى أكابرهم. وأولئك الأكابر كانوا تلامذة على بن أبى طالب رضى الله عنه.

فثبت : أن جمهور المتكلمين من فرق الاسلام كلهم كانوا تلامذة على بن أبى طالب رضى الله عنه. وأفضل فرق الأمة هم الأصوليون ، فكان هذا منصبا عظيما فى الفضل.

ومنها : علم التفسير ـ وابن عباس رئيس المفسرين كان تلميذ على ـ ومنها : علم الفقه : وكان فيه فى الدرجة العالية. ولهذا قال عليه‌السلام : «أقضاكم على» وقال على : «لو كسرت لى الوسادة لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم» على ما نقلناه. ومنها : علم الفصاحة.

ومعلوم أن واحدا من الفصحاء الذين بعده ، لم يدركوا درجته ، ولا القليل من درجته. ومنها : علم النحو. ومعلوم أنه انما ظهر منه. وهو الّذي أرشد «أبا الأسود الدؤلى» إليه. ومنها : علم تصفية الباطن. ومعلوم أن نسب جميع الصوفية ينتهى إليه. ومنها : علم الشجاعة وممارسة الأسلحة. ومعلوم أن نسبة هذه العلوم ينتهى إليه. فثبت بما ذكرنا : أنه رضوان الله عليه كان أستاذ العالمين بعد محمد عليه‌السلام فى جميع الخصال المرضية ، والمقامات الحميدة الشريفة.

واذا ثبت أنه كان أعلم الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجب أن يكون أفضل الخلق بعد الرسول : لقوله تعالى : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر ٩)

٣٠٥

وقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (المجادلة ١١)

الحجة الرابعة : فى بيان أن عليا أفضل الصحابة : أن عليا كان أكثر جهادا من أبى بكر فوجب أن يكون أفضل منه. اما انه كان أكثر جهادا منه. فالأمر فيه ظاهر ، لمن قرأ كتب السير ، وأما أنه من كان أكثر جهادا ، كان أفضل ، لقوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء ٩٥)

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجهاد : جهاد النفس. كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)؟ (العنكبوت ٦٩)

لأنا نقول : ان قوله (عَلَى الْقاعِدِينَ) يدل على أن المراد من ذلك الجهاد مع أعداء الدين.

الحجة الخامسة : التمسك بقصة فتح خيبر. قالوا روى أنه عليه‌السلام بعث أبا بكر الى خيبر ، فرجع منهزما ، ثم بعث عمر فرجع أيضا منهزما. وبلغ ذلك الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبات مهموما. فلما أصبح خرج الى الناس. ومعه الراية. فقال : «لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله. كرارا غير فرار» فتعرض لها المهاجرون والأنصار ، فقال النبي عليه‌السلام «أين على؟» فقيل : انه أرمد العينين. فدعا له ، وتفل فى عينيه ، ثم دفع إليه الراية.

ثم قالوا : هذا الحديث وكيفية هذه الواقعة يدلان على أن ما وصف به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا ، لم يكن ثابتا فى أبى بكر وعمر ، لأنهما رجعا منهزمين ، وغضب الرسولعليه‌السلام من ذلك. ثم قال : «لأعطين الراية رجلا» من صفته كذا وكذا. وهذا يوجب أن شيئا من هذه الصفات ما كان حاصلا ، لأولئك الذين غضب عليهم ، ألا ترى أن ملكا حصيفا ، لو أرسل رسولا الى غيره فى مهم ، ففرط

٣٠٦

الرسول فى أداء تلك الرسالة ، فغضب الملك لذلك. وقال : لأرسلن غدا رسولا حصيفا حسن القيام بأدائها. لكان يعلم كل عاقل : أن الّذي وصف به الرسول الثانى وأثبته له ، ليس موجودا فى الأول. وليس هذا من باب دليل الخطاب. وانما هو استدلال بكيفية ما جرت الأحوال عليه.

الحجة السادسة :

ايمان على رضى الله عنه كان قبل ايمان أبى بكر رضى الله عنه. واذا كان كذلك ، كان أفضل من أبى بكر ـ أما المقدمة الأولى فتدل عليها وجوه :

أحدها : ما روى أن عليا قال على المنبر : «أنا الصديق الأكبر ، آمنت قبل أن آمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن أسلم أبو بكر» ثم قالوا : انه ادعى ذلك فى مجمع الناس وما كذبوه. فدل ذلك على أن هذا المعنى كان ظاهرا فيهم.

وثانيها : روى سلمان الفارسى أن النبي عليه‌السلام قال : «أولكم ورودا على الحوض (١) على بن أبى طالب»

وثالثها : روى أنس قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الاثنين ، وأسلم على رضى الله عنه يوم الثلاثاء ، وعن عبد الله بن الحسن (٢) قال كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب يقول : «أنا أول من صلى ، وأول من آمن بالله ورسوله ، ولم يسبقنى الى الصلاة الا نبى الله»

ورابعها : ان كون ايمان «على» قبل ايمان «أبى بكر» أقرب الى العقل. وذلك لأن عليا كان ابن عم محمد ، وفى داره ، ومختصا به. وأما أبو بكر فانه كان من الأجانب ، ويبعد غاية البعد أن يعرض الانسان مثل هذه المهمات العظيمة على الأجانب والأباعد ، قبل عرضها

__________________

(١) ورودا على الحوض اسلاما ... الخ : ب

(٢) الحسين : ب

٣٠٧

على الأقارب المختصين به غاية الاختصاص. لا سيما والله تعالى يقول : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء ٢١٤)

لا يقال : الدليل على أن اسلام أبى بكر كان قبل اسلام «على» لقوله عليه‌السلام : «ما عرضت الاسلام على أحد الا وله فيه كبوة ، غير أبى بكر ، فانه لم يتلعثم»

وجه الاستدلال به : هو أن النبي عليه‌السلام بين أن أبا بكر لم يتوقف فى قبول الاسلام ، فلو تأخر اسلامه عن اسلام غيره ، لم يكن ذلك التأخر بسبب توقف أبى بكر. لأن الحديث دل على أنه لم يتوقف ، فوجب أن يكون ذلك لأجل أنه عليه‌السلام قصر فى عرض الاسلام عليه. وذلك يفضى الى الطعن فى الرسول عليه‌السلام وانه باطل.

فعلمنا : أن الرسول ما توقف فى عرض الاسلام عليه. وهو لم يتوقف فى قبوله البتة. أما على. فان هذا الحديث يقتضي أنه كان له كبوة توقف فى قبول الاسلام وهذا يدل على أن اسلام أبى بكر كان سابقا على اسلام على.

سلمنا : أن اسلام على كان سابقا على اسلام أبى بكر ، الا أنا نقول : ان عليا حين أسلم كان صبيا. بدليل الشعر المنقول عن على رضى الله عنه أنه قال :

سبقتكم الى الاسلام طرا

غلاما ما ، بلغت أوان حلمى

وأبو بكر أسلم حين كان بالغا عاقلا. والناس قد اختلفوا فى صحة اسلام الصبى. وكيف كان فلا شك أن اسلام البالغ العاقل الصادر عن الاستدلال ، أفضل (١) من اسلام الصبى الّذي لا يكون بالغا.

سلمنا : أن عليا رضى الله عنه كان بالغا وقت اسلامه ، الا أنه لا شك أنه فى ذلك الوقت ما كان مشهورا فيما بين الناس ولا محترما ولا مقبول القول ، بل كان كالصبى الّذي يكون فى البيت. فما كان

__________________

(١) أنفع : ا

٣٠٨

يحصل بسبب اسلامه قوة وشوكة فى الاسلام. فأما أبو بكر فانه كان شيخا محترما أجنبيا ، فحصل للاسلام بسبب اسلامه قوة وشوكة. فكان إسلام أبى بكر أفضل من اسلام على.

لأنا نقول : أما الخبر الّذي تمسكتم به فى اثبات أن اسلام أبى بكر سابق على اسلام على ، فهو من باب الآحاد ، ولا يفيد العلم.

وقوله : «ان عليا حين أسلم ما كان بالغا»

قلنا : الجواب عنه من وجهين (١) :

الأول : لا نسلم أنه أسلم قبل البلوغ. ويدل عليه : أن سن على كان بين خمس وستين سنة ، والنبي عليه‌السلام كان قد بقى بعد الوحى ثلاثة وعشرين سنة ، وعلى بقى بعد النبي عليه‌السلام قريبا من ثلاثين سنة. فان أسقطنا مدة ثلاث وخمسين سنة من ست وستين سنة ، بقى ثلاث عشرة سنة. فاذا كان على بن أبى طالب وقت نزول الوحى على النبي عليه‌السلام فيما بين اثنتى عشرة سنة وبين ثلاث عشرة سنة. وبلوغ الانسان فى هذا السن ممكن ، علمنا : أن كون على بالغا وقت نزول الوحى على النبي عليه‌السلام أمر ممكن. واذا ثبت الامكان وجب الحكم بوقوعه ، لما روى أن النبي عليه‌السلام قال لفاطمة رضى الله عنها : «زوجتك أقدمهم اسلاما ، وأكثرهم علما» ولو قلنا : انه ما كان بالغا حال ما أسلم لم يصح هذا الكلام.

الوجه الثانى فى الجواب عن هذا السؤال : هب أن عليا ما كان فى ذلك الوقت بالغا ، لكن لا امتناع فى وجود اسلام صبى كامل العقل قبل سن البلوغ. ولهذا المعنى حكم «أبو حنيفة» ـ رحمه‌الله ـ بصحة اسلام الصبى على هذا التقدير ، فصدور الاسلام عن «على» وقت الصبا يدل على فضله من وجهين :

__________________

(١) فى ب :

٣٠٩

أحدهما : ان الغالب على طبع الصبيان الميل الى الأبوين ، ثم أن عليا خالف الأبوين وأسلم ، فكان هذا من فضائله.

وثانيهما : ان الغالب على الصبيان الميل الى اللعب ، فأما النظر والفكر فى دلائل التوحيد والنبوة ، فغير لائق بهم. فكان اشتغال «على» بالنظر والفكر فى دلائل التوحيد واعراضه عن اللعب فى زمان الصبا ، من أعظم الدلائل على فضيلته. فانه كان فى زمان صباه مساويا للعقلاء الكاملين.

قوله : «حصل بسبب اسلام أبى بكر شوكة ، ونوع من القوة ، ولم يحصل بسبب اسلام على البتة شيء من القوة»

قلنا : هذا الفرق انما يظهر لو ثبت أن أبا بكر كان محترما موقرا فيما بين الخلق قبل دخوله فى الاسلام. وهذا ممنوع. واذا كان كذلك لم يظهر الفرق الّذي ذكرتم. فثبت بما ذكرنا: أن اسلام على كان متقدما على اسلام أبى بكر.

واذا ثبت هذا وجب أن يقال : ان عليا أفضل من أبى بكر. لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (الواقعة ١٠ ـ ١١) ولقوله تعالى فى مدح الأنبياء (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) (الأنبياء ٩٠)

الحجة السابعة : لا شك أن عليا كان من أولى القربى لمحمد عليه‌السلام وحب أولى القربى : واجب. لقوله تعالى : (قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى ٢٣) وأما أبو بكر فانه ليس كذلك. والّذي يجب حبه على جميع المسلمين فهو أفضل ممن لا يكون كذلك.

الحجة الثامنة : قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (التحريم ٤) والمفسرون قالوا : المراد بصالح المؤمنين :

٣١٠

على بن أبى طالب : والمراد من المولى هاهنا : هو الناصر. لأن المفهوم المشترك من المولى بين الله وبين جبريل وبين صالح المؤمنين ليس الا هذا المعنى. واذا ثبت هذا فنقول : هذا يدل على فضيلة على رضى الله عنه من وجهين :

الأول : ان لفظ هو فى قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ). يفيد الحصر فيكون المعنى : ان محمدا عليه‌السلام لا ناصر له ، الا الله ، وجبريل ، وعلى ـ رضى الله عنه ـ ومعلوم أن نصرة محمد ـ عليه‌السلام ـ من أعظم مراتب الطاعات.

والثانى : انه تعالى بدأ بذكر نفسه وثنى بجبريل وثلث بذكر على رضى الله عنه. وهذا منصب عال.

الحجة التاسعة : ان عليا رضى الله عنه كان هاشميا. والهاشمى أفضل من غير الهاشمى.

والمقدمة الأولى متواترة. والثانية. يدل عليها : قوله عليه‌السلام «ان الله اصطفى من ولد إسماعيل : قريشا. واصطفى من قريش : هاشما»

الحجة العاشرة : قوله عليه‌السلام «من كنت مولاه فعلى مولاه» ولفظ المولى فى حق محمدعليه‌السلام لا شك أنه يفيد أنه كان مخدوما للكل ، وصاحب الأمر فيهم. واذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال فى على : انه أيضا مخدوم لكل الأمة ونافذ الحكم فيهم. وهذا يوجب كونه أفضل الخلق. والّذي يدل على أنه يفيد المعنى الّذي ذكرناه : ما نقل أن النبي عليه‌السلام لما ذكر هذا الكلام ، قال عمر لعلى : «بخ بخ يا على. أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة الى يوم القيامة»

الحجة الحادية عشرة : قوله عليه‌السلام «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» وهارون كان أفضل من كل أمة موسى ، فوجب أن يكون على أفضل من كل أمة محمد عليه‌السلام.

٣١١

الحجة الثانية عشرة : انه عليه‌السلام لما آخى بين الصحابة اتخذه أخا لنفسه. وروى أن عليا قال فى مواضع كثيرة : «أنا عبد الله ، وأخو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. لا يقولها أحد بعدى الا كذاب. أنا الصديق الأكبر ، وأنا الفاروق الأعظم. أن الّذي يفرق بين الحق والباطل»

وانما قلنا : ان المؤاخاة تدل على الأفضلية. لأن المؤاخاة مظنة المساواة فى المنصب ، وكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر. ولما كان محمد عليه‌السلام أفضل من الكل ، كان القائم مقامه كذلك.

الحجة الثالثة عشرة : ما روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فى «حرقوص» (١) شر الخلق وهو ذو الثدية ـ «يقتله خير الخلق» وفى رواية أخرى : «يقتله خير هذه الأمة» وكان قاتله على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه.

الحجة الرابعة عشرة : قال النبي عليه‌السلام لفاطمة : «ان الله تعالى اطلع على أهل الدنيا فاختار منهم أباك ، فاتخذه نبيا ، ثم أطلع ثانيا فاختار منهم بعلك»

الحجة الخامسة عشرة : قالت عائشة رضى الله عنها : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذ أقبل على. فقال : «هذا سيد العرب» قالت : فقلت بأبى أنت وأمى ألست سيد العرب؟ فقال : «انما أنا سيد العالمين. وهو سيد العرب»

الحجة السادسة عشرة : روى (٢) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ان أخى ووزيرى وخير من أتركه بعدى ، الّذي يقضى دينى ، وينجز وعدى : على بن أبى طالب»

__________________

(١) فى ذى الثدية يقتله. الخ : ا

(٢) روى أنس : ب

٣١٢

الحجة السابعة عشرة : روى (١) ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «على خير البشر. من أبى فقد كفر»

الحجة الثامنة عشرة : ان عليا لم يكفر بالله تعالى ، وان أبا بكر كان فى زمان الجاهلية كافرا. واذا ثبت هذا فنقول : ان عليا كان أكثر تقوى من أبى بكر ، لأن من كان مؤمنا أبدا ، لا بد. وأن يكون أكثر تقوى ممن كان كافرا ، ثم صار مؤمنا. والاتقى أفضل. لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (الحجرات ١٣)

الحجة التاسعة عشرة : روى أحمد والبيهقى فى فضائل الصحابة قال «من أراد أن ينظر الى آدم فى فضله ، والى نوح فى تقواه ، والى ابراهيم فى حلمه ، والى موسى فى هيبته ، والى عيسى فى عبادته ، فلينظر الى على بن أبى طالب»

ظاهر هذا الحديث : يدل على أن عليا كان مساويا لهؤلاء الأنبياء فى هذه الصفات. ولا شك أن هؤلاء الأنبياء كانوا أفضل من أبى بكر وسائر الصحابة. والمساوى للأفضل أفضل ، فوجب أن يكون على أفضل منهم.

الحجة العشرون : اعلم أن الفضائل اما نفسانية واما بدنية واما خارجية. أما الفضائل النفسانية فهى مصورة فى نوعين : العلمية والعملية.

أما العلمية :

فقد دللنا على أن علم «على» ـ كرم الله وجهه ـ كان أكثر من علم سائر الصحابة. ومما يقوى ذلك : ما روى أن عليا رضى الله عنه قال : «علمنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألف باب من العلم ، فانفتح لى من كل باب ألف باب»

__________________

(١) هذه الحجة من ب

٣١٣

وأما الفضائل النفسانية العملية. فأقسام :

منها : العفة والزهد. وقد كان فى الصحابة جمع من الزهاد ، ك «أبى ذر» و«سلمان» و«أبى الدرداء» وكلهم كانوا فيه تلامذة على رضى الله عنه. ومنها : الشجاعة. وقد كان فى الصحابة جماعة شجعان ك «أبى دجانة» و«خالد بن الوليد» وكانت شجاعته أكثر نفعا من شجاعة الكل. ألا ترى أن النبي عليه‌السلام قال يوم الأحزاب : «لضربة على ، خير من عبادة الثقلين». وقال على بن أبى طالب : «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ، لكن بقوة رحمانية» (١)

ومنها : السخاوة. وقد كان فى الصحابة جمع من الأسخياء. وقد بلغ اخلاصه فى سخاوته الى أنه أعطى ثلاثة أقراص. فأنزل الله تعالى فى حقه : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ : مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) ومنها : حسن الخلق. وقد كان مع غاية شجاعته وبسالته حسن الخلق جدا. وقد بلغ فيه الى حيث ينسبه أعداؤه الى الدعابة. ومنها : البعد عن الدنيا. وظاهر أنه كان رضى الله عنه مع انفتاح أبواب الدنيا عليه ، لم يظهر التنعم والتلذذ. وكان مع غاية شجاعته اذا شرع فى صلاة التهجد ، وشرع فى الدعوات والتضرعات الى الله تعالى بلغ مبلغا لا يوازيه أحد ممن جاء بعده من الزهاد. ولما ضربه «ابن ملجم» قال : «فزت. ورب الكعبة»

وأما الفضائل البدنية :

فمنها : القوة والشدة. وكان فيهما عظيم الدرجة ، حتى قيل : انه كان يقطع إلهام قطع الأقلام. ومنها : النسب العالى. ومعلوم : أن أشرف الأنساب هو القرب من رسول الله. وهو كان أقرب الناس فى النسب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأما العباس. فانه وان كان عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الا أن العباس كان

__________________

(١) إلهية : ا

٣١٤

أخا لعبد الله ، والد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من الأب ، لا من الأم. وأما أبو طالب فانه كان أخا لعبد الله والد رسول الله من الأب والأم.

وأيضا : فان عليا كان هاشميا من الأب والأم. لأنه : على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم. وأيضا : أم على بن أبى طالب : فاطمة بنت أسد بن هاشم. ومنها : المصاهرة ولم يكن لأحد من الخلق مصاهرة مثل ما كانت له.

وأما «عثمان» فهو وان شركه فى كونه صهرا للرسول ، الا أن أشرف أولاد الرسول هو فاطمة. ولذلك قال عليه‌السلام : «سيد نساء العالمين أربع» وعدها : منهن.

ولم يحصل مثل هذا الشرف للبنتين اللتين هما زوجتا عثمان. ومنها : أنه لم يكن لأحد من الصحابة أولاد يشاركون أولاده فى الفضيلة ، كالحسن والحسين ـ وهما سيدا شباب أهل الجنة ـ ولداه.

ثم انظر الى أولاد الحسن مثل الحسن ـ المثنى والمثلث ـ وعبد الله بن المثنى ، والنفس الزكية. والى أولاد الحسين. مثل : زين العابدين ، والباقر ، والصادق ، والكاظم ، والرضا. فان هؤلاء الأكابر يقر بفضيلتهم وعلو درجتهم ، كل مسلم.

ومما يدل على علو شأنهم : أن أفضل المشايخ وأعلاهم درجة ، هو «أبو يزيد البسطامى» وكان (١) نشأ فى دار جعفر الصادق ، وأما معروف الكرخى ، فانه أسلم على يد على بن موسى الرضا (٢) وكان بواب داره. وبقى على هذه الحالة الى آخر عمره. ومعلوم أن أمثال هذه الأولاد ، لم يتفق لأحد من الصحابة.

ولو أخذنا فى الشرح والاطناب لطال الكلام.

__________________

(١) سقاء : ب

(٢) على يد موسى الرضا : ا

٣١٥

فهذا مجموع دلائل من قال بتفضيل أمير المؤمنين على بن أبى طالب قال أصحابنا.

أما التمسك فى التفضيل بقوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (آل عمران ٦١)

فالجواب عنه : لا نسلم أنه مخصوص بعلى ، بل يروى أنه دخل فيه جميع أقربائه وخدمه. ثم ان التمسك به معارض بقوله للأشعريين : «هم منى وأنا منهم»

وأما الثانى : وهو التمسك بخبر الطير. فالاعتراض عليه : أن نقول : قوله «بأحب خلقك» يحتمل أن يكون أحب خلق الله فى جميع الأمور ، أو يكون أحب خلق الله فى شيء معين. والدليل على كونه محتملا لهما : أنه يصح تقسيمه إليهما. فيقال : اما أن يكون أحب خلقه إليه فى كل الأمور ، أو يكون حب خلقه إليه فى هذا الأمر الواحد. وما به الاشتراك غير ما به الاشتراك ، وغير مستلزم له. فاذن هذا اللفظ لا يدل على كونه أحب الى الله تعالى فى جميع الأمور فاذن هذا اللفظ لا يدل الا على أنه أحب إليه فى بعض الأمور. وهذا يفيد كونه أزيد ثوابا من غيره فى بعض الأمور ، ولا يمتنع كون غيره أزيد ثوابا منه فى أمر آخر. فثبت : أن هذا لا يوجب التفضيل. وهذا جواب قوى.

أما الحجة الثالثة : وهى أن عليا كان أعلم ـ

قلنا : لم لا يجوز أن يقال : انه حصل له هذه العلوم الكثيرة ، بعد أبى بكر. وذلك لأنه عاش بعده زمانا طويلا ، فلعله حصلها فى هذه المدة. فلم قلتم : انه فى زمان حياة أبى بكر كان أعلم منه.

وأما الحجة الرابعة ـ وهى قوله : «ان جهاد على كان أكثر» ـ قلنا : الجهاد أقسام : منها : جهاد مع النفس. ومنها : جهاد مع العدو بالحجة ، والجواب عن الشبهة. ومنها : جهاد مع العدو

٣١٦

بالسيف والسنان. أما الجهاد مع النفس ، فلا نسلم أن عليا كان أقوى فيه من أبى بكر. وأما الجهاد مع العدو بالحجة والدعوة الى الله ، فكان أمر أبى بكر فيه أتم. ويدل عليه وجهان :

الأول : انه لما أسلم أبو بكر اشتغل فى تلك الأيام بالدعوة الى الله تعالى ، فدعا الى الله عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبى الوقاص وعثمان بن مظعون. وهؤلاء هم أكابر الصحاب ، جاء بهم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أسلموا على يده. وحصل بسبب ذلك للاسلام قوة عظيمة ، فحصلت بسبب اسلام أبى بكر هذه القوة العظيمة. أما على فحين أسلم لم يصر اسلامه سببا لاسلام غيره. ومن المعلوم أن هذه الطاعة مما لا يوازيها شيء من الطاعات.

الثانى : ان أبا بكر لما أسلم كان أبدا فى منازعة الكفار والمناظرة معهم. وبقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث عشرة فى مكة ، ثم انتقل الى المدينة. وبقى هناك سنة أخرى. ثم نزلت آية القتال وأبو بكر فى تلك المدة الطويلة فى مكة والمدينة كان فى الذب عن دين الله ومتابعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما على فانه فى ذلك الوقت كان صغير السن ، وما كان يخالط القوم ثم إن بعد نزول آية القتال اشتغل على رضى الله عنه بقتال الكفار.

فثبت : أن ابتداء الجهاد كان لأبى بكر ، وآخره لعلى رضى الله عنهما.

وأما الحجة الخامسة ـ وهى قولهم : ان ايمان على سابق على. ايمان أبى بكر ـ

قلنا : وقد ذكرنا أن الأخبار فيه متعارضة. وأخبارنا وان كانت من الآحاد ، فكذا أخباركم. وأيضا : فقد بينا : أن اسلام أبى بكر أثر فى قوة الاسلام أثرا عظيما ، وما كان اسلام غيره كذلك.

وأما الحجة السادسة ـ وهى التمسك بقصة خيبر ـ فجوابها : ان ذلك الكلام يفيد أن مجموع الصفات المذكورة فى مدح الثانى ، غير

٣١٧

حاصلة فى مدح الأول. فلما قال : «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله. كرارا غير فرار» فهذا يدل على أن هذا المجموع ما كان حاصلا لأبى بكر وعمر ، لأن كونه كرارا غير فرار ما كان حاصلا فيهما. وكان ذلك المجموع غير حاصل فيهما. وعدم كونه كرارا غير فرار لا يوجب نقصانا فى الفضيلة. ألا ترى أن الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة عند الشيعة ، مع أنا نقطع أنه ليس للأنبياء من القدرة الحسية ، ذرة من القدرة التى للملائكة. وأما بقية الوجوه فهى أخبار ضعيفة ، وأمثالها موجودة فى جانب أبى بكر ، على ما تشتمل عليه الكتب المصنفة ، فى هذا الجنس فهذا تمام الكلام فى هذا الباب. والله أعلم(١).

__________________

(١) المشكلة التى فرقت كلمة المسلمين وأضعفتهم. هى من الأحق بالملك على المسلمين جميعا؟ ومن الأحق بقيادة الجيوش لنشر الاسلام بين الأمم؟ وقد ظهرت فى المسلمين فرق وكل فرقة. تدعى أنها هى وحدها التى عرفت مراد الله من قرآنه وسنة نبيه وهى التى تعمل به من سائر الفرق على الوجه الصحيح. كل فرقة تقول : أنا الحق. وتقول : ومن عرف الحق يكون هو الأولى بقيادة الجيوش وهو الأحق بالملك. وكل فرقة تقول : ولأننا على الحق. فان مخالفينا على الباطل. والمقيم على الباطل فاسق أو كافر والفاسق والكافر تجب علينا محاربته ، كما يجب علينا قتال الكافر فكلاهما ليس على الحق الّذي نعرفه.

هذه المشكلة واضحة من كتب فرق المسلمين. فالخوارج كفروا مخالفيهم وحاربوهم. والشيعة حاربوا السنيين ، والسنيون حاربوا مخالفيهم. بل وفرق من كل مذهب من هؤلاء المذاهب حاربت بعضها بعضا. على النظرية التى قلناها وهى : نحن نعرف الحق ونعمل بالحق. ومن يعرف الحق ويعمل به. فهو أحق بالملك على المسلمين جميعا.

٣١٨

__________________

ـ وهذه المشكلة كانت عند علماء بنى اسرائيل. وقد فرقتهم وأضعفتهم ولم يصمدوا من بعد سليمان عليه‌السلام امام أعدائهم. فقد غلبهم ملك بابل ولما أسسوا ملكا فى عهد المكابيين لم يدم ملكهم ، فقد غلبهم تيطوس وادريانوس. وذلك لأنهم انقسموا الى سامريين وعبرانيين. والعبرانيون انقسموا الى فريسيين. وصدوقيين. والفريسيون انقسموا الى ربانيين وقراءين.

وفى المسلمين أهل السنة والشيعة. وكل منهما يريد السيطرة على أخيه أولا ، قبل ما يتوجه الى دعوة الأمم. فأيام التتار ساعد هولاكو الشيعة على احتلال بغداد لهزيمة السنيين. كما يقول السنيون فى كتبهم. ولما أوشك الشيعة على ملك المسلمين جميعا أيام الدولة الصفوية ، أوعز السوريون وسنيون على السلطان سليم العثمانى ليحتل مصر والشام فيكون قوة هائلة تصد الشيعة عن التوغل فى بلاد السنيين. وتم له النصر وتسلم مفاتيح الكعبة.

وفى أيامنا هذه. ظهر «آية الله الخميني» فى «ايران» ليكون الزعيم الدينى للمسلمين الشيعة. ولما انتصر على أعدائه من الشيعة ، تطلع الى العالم السنى ، فلم يجد فيه زعيما دينيا بارزا. وأراد أتباعه أن يمدوا نفوذه الى البلاد السنية. ولما فعلوا. قام السنيون ضدهم بقيادة «صدام حسين» رئيس «العراق» واستمرت الحرب سنوات ، ضاعت فيها من المسلمين أموال ، وأزهقت نفوس ، وشردت أسر ، وخربت ديار ، وتهدمت مدن ، وهذا كله بسبب من الأحق بالملك لأنه يعرف الحق ويعمل به؟

وحل هذه المشكلة يكون.

١ ـ بتوحيد كلمة المسلمين فى العالم على القرآن والسنة المفسرة له.

٣١٩

__________________

(٣) يعذر المسلم أخاه فى المسائل الخلافية

(٣) الغاء التصوف وهدم القباب والأضرحة ومنع التوسل الى الله بغير الله. وذلك لأن الشيعة لا يثوبون الى الحق الا بإلغاء التصوف. والقضاء على التصوف يقضى على فرق كثيرة يكفر بعضها بعضا منتسبون الى الشيعة والى أهل التصوف. وهذا يسهل الوحدة بين المسلمين.

(٤) عدم الأخذ بالأحاديث النبوية المروية بطريق الآحاد فى أمور العقائد. والاكتفاء فى العقائد بآيات القرآن. واذا لم نأخذ بها فى العقائد فان الشيعى لن يسب أبا بكر وعمر رضى الله عنهما. لأنهما ظالمان لعلى رضى الله عنه فى نظره بسبب أحاديث عنده قد رويت له أنهما ظلما وجارا ولم يعدلا.

ـ الأحق بامامة المسلمين لا يكون هو العارف العامل. فكل مسلم يعرف دينه لأن الله يسر دينه لمن يريد أن يفهم. وفى الناس منافقون يظهرون كثرة الأعمال ويظهرون الغيرة على الدين لمآربهم وأغراضهم. وانما يكون هو الأكثر نفعا للمسلمين. فلو أن قرية من القرى الصغيرة أرادت أن تجعل عليها رئيسا من أبنائها. فانها تجعل الرئيس عليها من كان نفعه لأبنائها أكثر من غيره. وما دام الكل يصلى ويتعبد ويظهر النسك. والقلب لا يعرفه الا الله وحده. فان الأحق بالملك والأحق بقيادة الجيوش لنشر الاسلام بين الأمم هو من يخدم وينفع. وبهذا تحل مشكلة المسلمين فى العالم.

٣٢٠