تراثنا ـ العددان [ 47 و 48 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 47 و 48 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٢

وصحة ما يخبر به عن عيسى وخلقته ، إذ العاقل ما لم يكن جازما بصدق دعواه لا يعرض أعزته إلى الهلاك والاستئصال.

وهذا الوجه مختار أكثر أهل السنة والشيعة ، وهو الذي ارتضاه عبد الله المشهدي في إظهار الحق ، فدلت الآية على كون هؤلاء الأشخاص أعزة على رسول الله ، والأنبياء مبرأون عن الحب والبغض النفسانيين ، فليس ذلك إلا لدينهم وتقواهم وصلاحهم ، فبطل مذهب النواصب القائلين بخلاف ذلك.

وإما لكي يشاركونه في الدعاء على كفار نجران ، ويعينونه بالتأمين على دعائه عليهم فيستجاب بسرعة ، كما يقول أكثر الشيعة وذكره عبد الله المشهدي أيضا ، فتدل الآية ـ بناء عليه كذلك ـ على علو مرتبتهم في الدين وثبوت استجابة دعائهم عند الله.

وفي هذا أيضا رد على النواصب.

وقد قدح النواصب في كلا الوجهين وقالوا بأن إخراجهم لم يكن لشئ منهما ، وإنما كان لإلزام الخصم بما هو مسلم الثبوت عنده ، إذ كان مسلما عند المخالفين ـ وهم الكفار ـ أن البهلة لا تعتبر إلا بحضور الأولاد والختن والحلف على هلاكهم ، فلذا أخرج النبي أولاده وصهره معه ليلزمهم بذلك.

وظاهر أن الأقارب والأولاد ـ كيفما كانوا ـ يكونون أعزة على الإنسان في اعتقاد الناس وإن لم يكونوا كذلك عند الإنسان نفسه ، على ذلك أنه لو كان هذا النوع من المباهلة حقا عنده صلى الله عليه (وآله) وسلم لكان سائغا في الشريعة ، والحال أنه ممنوع فيها. فظهر أن ما صنعه إنما كان إسكاتا للخصم.

١٨١

وعلى هذا القياس يسقط الوجه الثاني أيضا ، فإن هلاك وفد نجران لم يكن من أهم المهمات ، فقد مرت عليه حوادث كانت أشد وأشق عليه من هذه القضية ولم يستعن في شئ منها في الدعاء بهؤلاء ، على أن من المتفق عليه استجابة دعاء النبي فسي مقابلته مع الكفار ، وإلا يلزم تكذيبه ونقض الغرض من بعثته.

فهذا كلام النواصب ، وقد أبطله ـ بفضل الله تعالى ـ أهل السنة بما لا مزيد عليه كما هو مقرر في محله ولا نتعرض له خوفا من الإطالة.

وعلى الجملة فإن آية المباهلة هي في الأصل رد على النواصب ، لكن الشيعة يتمسكون بها في مقابلة أهل السنة ، وفي تمسكهم بها وجوه من الإشكال :

أما أولا : فلأنا لا نسلم أن المراد (بأنفسنا) هو الأمير ، بل المراد نفسه الشريفة ، وقول علمائهم في إبطال هذا الاحتمال بأن الشخص لا يدعو نفسه غير مسموع ، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث دعته نفسه إلى كذا ودعوت نفسي إلى كذا (فطوعت له نفسه قتل أخيه) وأمرت نفسي شاورت نفسي إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء. فيكون حاصل (ندع أنفسنا) : نحضر أنفسنا.

وأيضا : فلو قررنا الأمير من قبل النبي مصداقا لقوله (أنفسنا) فمن نقرره من قبل الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة (ندع). إذ لا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله : (تعالوا).

فظهر أن الأمير داخل في (أبناءنا) ـ كما أن الحسنين غير داخلين في الأبناء حقيقة وكان دخولهما حكما ـ لأن العرف يعد الختن ابنا ، من غير ريبة في ذلك.

١٨٢

وأيضا : فقد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة ومن ذلك قوله تعالى : (يخرجون أنفسهم من ديارهم) أي : أهل دينهم .. (ولا تلمزوا أنفسكم) .. (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون المؤمنات بأنفسهم خيرا) فلما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة ، وقد كثرت معاشرته والألفة معه حتى قال : علي مني وأنا من علي كان التعبير عنه بالنفس غير بعيد ، فلا تلزم المساواة كما لا تلزم في الآيات المذكورة.

وأما ثانيا : فلو كان المراد مساواته في جميع الصفات ، يلزم الاشتراك في النبوءة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ، والاختصاص بزيادة النكاح فوق الأربع ، والدرجة الرفيعة في القيامة ، والشفاعة الكبرى والمقام المحمود ، ونزول الوحي ، وغير ذلك من الأحكام المختصة بالنبي ، وهو باطل بالإجماع.

ولو كان المراد المساواة في البعض ، لم يحصل الغرض ، لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل صاحبها أفضل وأولى بالتصرف ، وهو ظاهرا جدا.

وأيضا : فإن الآية لو دلت على إمامة الأمير لزم كونه إماما في زمن النبي وهو باطل بالاتفاق ، فإن قيد بوقت دون وقت ـ مع أنه لا دليل عليه في اللفظ ـ لم يكن مفيدا للمدعى ، لأن أهل السنة أيضا يثبتون إمامته في وقت من الأوقات (١).

__________________

(١) التحفة الاثنا عشرية : ٢٠٦ ـ ٢٠٧. وقد ذكرنا كلامه بطوله لئلا يظن ظان أنا أسقطنا منه شيئا مما له دخل في البحث مع الشيعة حول الآية المباركة.

١٨٣

أقول :

وفي كلامه مطالب :

١ ـ دعوى أن التقريب الذي ذكره للاستدلال بالآية غير وارد في أكثر كتب الشيعة ، قال : وكذلك الأدلة الأخرى غالبا ، ....

وأنت ترى كذب هذه الدعوى بمراجعتك لوجه الاستدلال في بحثنا هذا ، إذ تجد العبارة مذكورة في كتب أصحابنا إما باللفظ وإما بما يؤدي معناه فلا نطيل.

٢ ـ نسبة المناقشة في دلالة الآية المباركة. بما ذكره إلى النواصب ، وأن أهل السنة يدافعون عن أهل البيت في قبال أولئك ...

وقد وجدنا ما عزاه إلى النواصب في كلام ابن تيمية وابن روزبهان ، في ردهما على العلامة الحلي ، فالحمد لله الذي كشف عن حقيقة حالهم بما أجراه على لسانهم ...

٣ ـ عدم التسليم بأن المراد من (أنفسنا) هو علي بل المعنى : نحصر أنفسنا واستشهد ـ في الرد على قول الإمامية بأن الشخص لا يدعو نفسه ـ بعبارات سائغة في كلام العرب في القديم والحديث كما قال.

ونحن لا نناقشه في المعاني المجازية لتلك العبارات ، ونكتفي بالقول ـ مضافا إلى اعتراف غير واحد من أئمة القوم بأن الإنسان الداعي إنما يدعو غيره لا نفسه (١) ـ بأن الأحاديث القطعية عند الفريقين دلت على أن المراد من (أنفسنا) هو علي عليه‌السلام ، فما كره يرجع في الحقيقة إلى عدم

__________________

(١) لاحظ : شيخ زادة على البيضاوي ١ / ٦٣٤.

١٨٤

التسليم بتلك الأحاديث وتكذيب رواتها ومخرجيها ، وهذا ما لا يمكنه الالتزام به.

٤ ـ إدخال علي عليه‌السلام في (أبناءنا) ..!!

وفيه : أنه مخالف للنصوص

ولا يخفى أنه محاولة لإخراج الآية عن الدلالة على كون علي نفس النبي ، لعلمه بالدلالة حينئذ على المساواة ، وإلا فإدخاله في (أبناءنا) أيضا اعتراف بأفضليته!!

واستشهاده بالآيات مردود بما عرفت في الكلام مع ابن تيمية.

على أنه اعترف بحديث علي مني وأنا من علي وهو مما لا يعترف به ابن تيمية وسائر النواصب.

٥ ـ رده على المساواة بأنه : إن كان المراد المساواة في جميع الصفات ، يلزم المساواة بين علي والنبي في النبوة والرسالة والخاتمية والبعثة إلى الخلق كافة ونزول الوحي ... وإن كان المراد المساواة في بعض الصفات فلا يفيد المدعى ...

قلنا : المراد هو الأول ، إلا النبوة ، والأمور التي ذكرها من الخاتمية والبعثة ... كلها من شؤون النبوة ...

فالآية دالة على حصول جميع الكمالات الموجودة في النبي في شخص علي ، عدا النبوة ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم أنه قال لعلي : يا علي! ما سألت الله شيئا إلا سألت لك مثله ، ولا سألت الله شيئا إلا أعطانيه ، غير إنه قيل لي : أنه لا نبي بعدك (١).

__________________

(١) أخرجه جماعة ، منهم النسائي في الخصائص : ح ١٤٦ وح ١٤٧.

١٨٥

٦ ـ وبذلك يظهر أنه عليه‌السلام كان واجدا لحقيقة الإمامة ـ وهو وجوب الطاعة المطلقة ، والأولوية التامة بالنسبة للأمة ـ في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا أنه كان تابعا للنبي مطيعا له إطاعة وانقيادا لم يحدثنا التاريخ به عن غيره على الاطلاق.

فسقط قوله أخيرا : فإن الآية لو دلت على إمامة الأمير ...

* والآلوسي :

انتحل كلام الدهلوي ، بلا زيادة أو نقصان ، كبعض الموارد الأخرى ، وجوابه جوابه ، فلا نكرر.

* وقال الشيخ محمد عبده :

إن الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديها ، ويحملون كلمة (نساءنا) على فاطمة ، وكلمة (أنفسنا) على علي فقط.

ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة ، ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية ، فإن كلمة (نساءنا) لا يقولها العربي ويريد بها بنته ، لا سيما إذا كان له أزواج ، ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد من ذلك أن يراد ب (أنفسنا) علي ـ عليه الرضوان ـ.

ثم إن وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم

١٨٦

نساؤهم وأولادهم (١).

أقول :

وفي هذا الكلام إقرار ، وادعاء ، مناقشة عن عناد.

أما الاقرار ، فقوله : إن الروايات متفقة ... فالحمد لله على أن بلغت الروايات في القضية من الكثرة والقوة حدا لا يجد مثل هذا الرجل بدا من أن يعترف بالواقع والحقيقة.

لكنه لما رأى أن هذا الاقرار يستلزم الالتزام بنتيجة الآية المباركة والروايات الواردة فيها وهذا ما لا تطيقه نفسه!! عاد فزعم أمرا لا يرتضيه عاقل فضلا عن فاضل!

أما الادعاء ، فقال : مصادر هذه الروايات الشيعة ... وقد اجتهدوا في ترويجها ...

لكنه يعلم ـ كغيره ـ بكذب هذه الدعوى ، فمصادر هذه الروايات القطعية ـ وقد عرفت بعضها ـ ليست شيعية. ولما كانت دلالتها واضحة والمقصد منها معروف ، عمد إلى المناقشة بحسب اللغة ، وزعم أن العربي لا يتكلم هكذا.

وما قاله محض استبعاد ولا وجه له إلا العناد! لأنا لا نحتمل أن يكون هذا الرجل جاهلا بأن لفظ النساء يطلق على غير الأزواج كما في القرآن الكريم وغيره ، أو يكون جاهلا بأن أحدا لم يدع استعمال اللفظ المذكور

__________________

(١) تفسير المنار ٣ / ٣٢٢.

١٨٧

في خصوص فاطمة وأن أحدا لم يدع استعمال (أنفسنا) في علي عليه‌السلام.

إن هذا الرجل يعلم بأن الروايات صحيحة وواردة من طرق القوم أنفسهم ، والاستدلال قائم على أساسها ، إذ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم جعل عليا فقط المصداق ل (أنفسنا) وفاطمة فقط المصداق لـ (نساءنا) وقد كان له أقرباء كثيرون وأصحاب لا يحصون ... كما كان له أزواج عدة ، والنساء في عشيرته وقومه كثرة.

فلا بد أن يكون ذلك مقتضيا لتفضيل علي عليه‌السلام على غيره من أفراد الأمة ، وهذا هو المقصود.

تكميل :

وأما تفضيله ـ بالآية ـ على سائر الأنبياء عليهم‌السلام ـ كما عن الشيخ محمود بن الحسن الحمصي ـ فهذا هو الذي انتقده الفخر الرازي ، وتبعه النيسابوري ، وأبو حيان الأندلسي :

* قال الرازي ـ بعد أن ذكر موجز القصة ، ودلالة الآية علمي أن الحسنين ابنا رسول الله ـ :

«كان في الري رجل يقال له : محمود بن الحسن الحمصي ، وكان معلم الاثني عشرية (١) وكان يزعم أن عليا رضي‌الله‌عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه‌السلام ، قال : والذي يدل عليه قوله تعالى :

__________________

(١) وهو صاحب كتاب المنقذ من التقليد ، وفي بعض المصادر أن الفخر الرازي قرأ عليه ، توقي في أوائل القرن السابع ، كما في ترجمته بمقدمة كتابه المذكور ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية ـ قم.

١٨٨

(وأنفسنا وأنفسكم) وليس المراد بقوله (وأنفسنا) نفس محمد صلى الله عليه (وآله) وسلم ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد ، ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفس ، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل ، لقيام الدلائل على أن محمدا عليه‌السلام كان نبيا وما كان علي كذلك ، ولانعقاد الاجماع على أن محمدا عليه‌السلام كان أفضل من علي ، فيبقى فيما وراءه معمولا به.

ثم الاجماع دل على أن محمدا عليه‌السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء.

فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية.

ثم قال : ويؤيد الاستدلال بهذه الآية : الحديث المقبول عند الموافق. والمخالف وهو قوله عليه‌السلام : من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحا في طاعته ، وإبراهيم في خلته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب.

فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم ، وذلك يدل على أن عليا رضي‌الله‌عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه (وآله) وسلم.

وأما سائر الشيعة فقد كانوا ـ قديما وحديثا ـ يستدلون بهذه الآية على أن عليا رضي‌الله‌عنه مثل نفس محمد عليه‌السلام إلا في ما خصه الدليل ،

١٨٩

وكان نفس محمد أفضل من الصحابة ، فوجب أن يكون نفس علي أفضل من سائر الصحابة.

هذا تقرير كلام الشيعة.

والجواب : إنه كما انعقد الاجماع بين المسلمين على أن محمدا عليه السلام أفضل من علي ، فكذلك انعقد الاجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، وأجمعوا على أن عليا ما كان نبيا ، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام. انتهى (١).

* وكذا قال النيسابوري ، وهو ملخص كلام الرازي ، على عادته ، وقد تقدم نص ما قال.

* وقال أبو حيان ، بعد أن ذكر كلام الزمخشري في الآية المباركة : ومن أغرب الاستدلال ما استدل به محمد (٢) بن علي الحمصي ... فذكر الاستدلال ، ثم قال : وأجاب الرازي : بأن الاجماع منعقد على أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أفضل ممن ليس بنبي ، وعلي لم يكن نبيا ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء.

قال : وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه :

منها قوله : (إن الإنسان لا يدعو نفسه) بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد.

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ / ٨١.

(٢) كذا ، والصحيح : محمود.

١٩٠

ومنها قوله : (وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو علي) ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعني بقوله : (وأنفسنا).

ومنها قوله : (فيكون نفسه مثل نفسه) ولا يلزم المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شئ ما ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة ، فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا.

وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له (١).

أقول :

ويبدو أن الرازي هنا وكذا النيسابوري أكثر إنصافا للحق من أبي حيان لأنهما لم يناقشا أصلا في دلالة الآية المباركة والحديث القطعي على أفضلية علي عليه‌السلام على سائر الصحابة.

أما في الاستدلال بها على أفضليته على سائر الأنبياء فلم يناقشا بشئ من مقدماته إلا أنهما أجابا بدعوى الاجماع من جميع المسلمين ـ قبل ظهور الشيخ الحمصي ـ على أن الأنبياء أفضل من غيرهم.

وحينئذ يكفي في ردهما نفي هذا الاجماع ، فإن الإمامية ـ قبل الشيخ الحمصي وبعده ـ قائلون بأفضلية علي والأئمة من ولده ، على جميع الأنبياء عدا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستدلون لذلك بوجوه من الكتاب

__________________

(١) البحر المحيط ٢ / ٤٨٠.

١٩١

والسنة ، أما من الكتاب فالآية المباركة ، وأما من السنة فالحديث الذي ذكره الحمصي ...

وقد عرفت أن الرازي والنيسابوري لم يناقشا فيهما.

ومن متقدمي الإمامية القائلين بأفضلية أمير المؤمنين على سائر الأنبياء هو : الشيخ المفيد ، المتوفى سنة ٤١٣ ، وله في ذلك رسالة ، استدل فيها بآية المباهلة ، واستهل كلامه بقوله : فاستدل به من حكم لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بأنه أفضل من سالف الأنبياء عليهم‌السلام وكافة الناس سوى نبي الهدى محمد عليه وآله السلام بأن قال ... وهو صريح في أن هذا قول المتقدمين عليه (١).

فظهر سقوط جواب الرازي ومن تبعه.

لكن أبا حيان نسب إلى الرازي القول بفساد استدلال الحمصي من وجوه ـ ولعله نقل هذا من بعض مصنفات الرازي غير التفسير ـ فذكر ثلاثة وجوه :

أما الأول : فبطلانه ظاهر من غضون بحثنا ، على أن الرازي قرره ولم يشكل عليه ، فإن كان ما ذكره أبو حيان من الرازي حقا فقد ناقض نفسه.

وأما الثاني : فكذلك ، لأنها أقوال لا يعبأ بها ، إذ الموجود في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، وخصائص النسائي ، ومسند أحمد ، ومستدرك الحاكم ... وغيرها ... أن الذي هو غيره هو علي لا سواه ... وهذا هو القول المتفق عليه بين العامة والخاصة ، وهم قد ادعوا الاجماع ـ من السلف والخلف ـ على أن صحيحي البخاري ومسلم أصح الكتب بعد القرآن ،

__________________

(١) تفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام على سائر الصحابة. رسالة مطبوعة في المجلد السابع من موسوعة مصنفات الشيخ المفيد.

١٩٢

ومنهم من ذهب إلى أن صحيح مسلم هو الأصح منهما.

وأما الثالث : فيكفي في الرد عليه ما ذكره الرازي في تقرير كلام الشيعة في الاستدلال بالآية المباركة ، حيث قال : وذلك يقتضي الاستواء من جميع الوجوه ... فإن كان ما ذكره أبو حيان من الرازي حقا فقد ناقض نفسه.

على أنه إذا كان تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم فلماذا التخصيص بعلي منهم دون غيره؟!

بقي حكمه بوضع الحديث الذي استدل به الحمصي ، وهذا حكم لا يصدر إلا من جاهل بالأحاديث والآثار ، أو من معاند متعصب لأنه حديث متفق عليه بين المسلمين ، ومن رواته من أهل السنة : عبد الرزاق بن همام ، وأحمد بن حنبل ، وأبو حاتم الرازي ، والحاكم النيسابوري ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، والمحب الطبري ، وابن الصباغ المالك ي ، وابن المغازلي الشافعي ... (١).

هذا تمام الكلام على آية المباهلة. وبالله التوفيق.

للبحث صلة ...

__________________

(١) وقد بحثنا عن أسانيده وأوضحنا وجوه دلالاته في أحد أجزاء كتابنا الكبير نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار وسيقدم للطبع إن شاء الله تعالى.

١٩٣

تاريخ الحديث وعلومه

السيد ثامر هاشم حبيب العميدي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

تمهيد :

إن السنة النبوية ـ قولا ، وفعلا ، وتقريرا ـ هي صنو القرآن الكريم وتالية له ، فالقرآن الكريم يشرع الأصول والقوانين ، ويؤسس القواعد الكلية للأحكام والأخلاق والآداب ، بل لكل ما يتصل بعلوم الدين ومعارفه ومناهجه التربوية والاجتماعية ، والسنة المطهرة تتناول تلك الأصول والقواعد فتفصلها ، وتوضح مبهماتها ، وتحل متشابهاتها ، وتبين مجملاتها ، مع ما تفرعه عليها ، بحيث لم تدع ملحظا كليا أو جزئيا له صلة بالفرد أو المجتمع إلا وقد بينت حكمه وأرشدت إليه بكل دقة وتفصيل ، وبشكل يستحيل معه رفع اليد عن السنة النبوية في فهم القرآن الكريم.

١٩٤

وعليه ، فمحاولة فصل السنة عن القرآن الكريم : هي بمثابة الإعراض عن كتاب الله عزوجل ، والتعبير عن اللا مبالاة بتعاليمه الآمرة بالأخذ بمدلول السنة الشريفة : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (١).

وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة إلا أن محاولات فصل السنة عن القرآن الكريم قد وجدت لها الأعذار من الشريعة نفسها ، واختلقت لها المبررات التي سنقف عندها لنرى مدى صدقها وانطباقها مع أسباب ودوافع منع تدوين الحديث الشريف ، الذي ظهر بعيد وفاة الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ثم اتخذ المنع عن كتابة الحديث منهجا سياسيا طيلة قرن من الزمان ، بعدما كان تعاطي الحديث ونشره من قبل الصحابة أمرا طبيعيا جدا في العهد النبوي ، بل تقتضيه طبيعة رسالة الإسلام في كل حين ، لعالميتها (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (٢).

نعم ، لم يمنع أحد من كتابة الحديث الشريف في العهد النبوي الشريف ، كما تدل عليه جميع الدراسات الموضوعية الخاصة بدراسة تاريخ السنة المطهرة ومراحل تدوين الحديث ، فقد جمعت تلك الدراسات أسماء المدونين والمدونات الحديثية في العهد النبوي ، وبشكل ملفت للنظر ، لكثرتها في ذلك العصر المتقدم من عمر الإسلام ، بخلاف ما قد يظن من ندرتها تبعا لظروف التدوين وندرة وسائله حينذاك ، مع استقراء الروايات الدالة على إباحة التدوين.

وأما الروايات المخالفة لذلك ، بنسبة المنع إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فهي

__________________

(١) سورة الحشر ٥٩ : ٧.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ١٠٧.

١٩٥

مكذوبة عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا أصل لها في واقع التشريع ، ويكذبها القرآن الكريم ، وتشن السنة المطهرة ـ نفسها ـ حربا شعواء على تلك الروايات وتدفعها ، لمخالفتها الصريحة لتطلعات دين الإسلام نحو الكتابة والتعلم والسعي في طلبه ، وبيان فضله حتى ورد في الخبر : «عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد» (١) و «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج» (٢) ، فضلا عن مخالفتها لمقتضيات العقل السليم ، وطبيعة الحضارات في كل زمان ومكان.

غاية ما في الأمر .. أنه ـ وبعد وفاة الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ مر حديثه الشريف بأزمة خانقة ، ومواقف سلبية أدت إلى الحظر عليه رواية ، ومنعه تدوينا ، حتى اتسمت تلك المواقف بتصرفات شاذة ، كحرقهم صحائف الحديث الشريف ، ودفنهم كتبه ، وحبس الصحابة في مركز الخلافة خوفا من تفشي الحديث خارج المدينة المنورة ، مع النهي العام عن تعاطي الحديث رواية وتدوينا!!

لقد تركت تلك المواقف آثارها السيئة على واقع الحديث ، إذ غيرت السنة ، ومحقت الشريعة ، وذلك بتمهيد السبل أمام الأيدي الآثمة من الزنادقة ، وأهل الأهواء ، لأن تعبث بالحديث الشريف ، فتضع ما شاء لها الهوى لا سيما من تقرب إلى بلاط الأمويين باختلاق الروايات التي تؤيد عروشهم ، وتنال من خصومهم السياسيين ، كما تشهد عليه الكتب المؤلفة في الموضوعات والوضاعين.

وبدلا من أن تجتمع الكلمة بعد وفاة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على صيانة

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٨٢ ح ٨ ، باب ٢ من كتاب فضل العلم.

(٢) أصول الكافي ١ : ٨٥ ح ٥ ، باب ٤ من كتاب فضل العلم.

١٩٦

حديثه الشريف من عبث العابثين ، حدث العكس تماما! كما سنرى في المواقف الحكومية الأولى من تدوين الحديث الشريف وهو المبحث الأول.

* * *

١٩٧

المواقف الحكومية الأولى

من تدوين الحديث الشريف

في تاريخ الحديث الشريف موقفان متعارضان ، تميز أحدهما بالتزام تدوين الحديث الشريف والحفاظ عليه ، ويمثله أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وشيعتهم كما سيتضح في ما بعد.

وتميز الآخر ـ وهو الخط الحاكم الذي برز بعد أحداث السقيفة وامتد إلى زمان عمر بن عبد العزيز الأموي (ت ١٠١ ه) ـ بمواقف سلبية متطرفة جدا ، حتى منع الحديث رواية وتدوينا ، واتخذ المنع صفته الرسمية طيلة تلك الفترة ، وسنبتدئ بدراستها وتقييمها على النحو الآتي :

موقف أبي بكر من الحديث الشريف :

عن عائشة ، قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلب ... فلما أصبح قال : أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك. قالت : فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها! فقلت : لم أحرقتها؟!

قال : خشيت أن أموت وهي عندي ، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت [به] ، ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذلك (١)!!

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥ ، في ترجمة أبي بكر.

١٩٨

ويلاحظ هنا :

إن تصرف أبي بكر بجمع خمسمائة حديث شاهد على عدم وجود النهي السابق بشأن تدوين الحديث ، وإلا لكان ذلك الجمع مخالفا للنهي عنه.

كما إن تعليله إحراق الأحاديث بالنار لم يستند على نهي سابق عن التدوين ، بل كان لأجل خشيته من عدم مطابقة تلك الأحاديث للواقع ، وخوفه من المشاركة في حمل أوزارها.

وهذا مما لا يمكن قبوله للأسباب التالية :

١ ـ إن من كان مثل أبي بكر لا يحتاج إلى مثل هذه الطريقة في جمع الأحاديث قطعا ، إذ بإمكانه ـ وهو الخليفة المطاع أمره ـ أن يوعز إلى كبار الصحابة وأجلائهم وحفاظهم بذلك ، ويوكل لهم أمر التحري عن صدق ما يتناقله الناس من الحديث في عصره ، ويوكل إليهم مهمة الجمع على غرار ما يروى من أنه جمع المصحف الشريف ، ودون بإشرافه.

٢ ـ لو تنزلنا عن ذلك ، فإنه لا يحتاج إلى الواسطة في رواية خمسمائة حديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، بالقياس إلى فترة إسلامه المبكر ، ومن غير المعقول أن لا تكون لأبي بكر مسموعات بلا واسطة من ضمن المقدار الذي جمعه ، إذ من البعيد جدا أن يترك ما سمعه بنفسه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويقتصر على ما سمعه بالواسطة!

فظاهر الحال أنه أحرق مسموعاته ومسموعات غيره ، ولا أجد ـ مع هذا الفرض المقبول ـ تعليلا في تكذيب الرجل نفسه ، ليسوغ له إحراق ما

١٩٩

سمعه بأذنه.

٣ ـ إنه صرح بوثاقة الناقل وأمانته في تأدية الحديث ، وعليه فلا معنى للشك في صدقه أو التأمل في وثاقته ، ولا يبرر هذا الشك حرق الأحاديث ، على أنه يمكن له التأكد من سلامتها بعرضها على مجموع الصحابة ، فإن شهدوا بكذبها جميعا فعليه التشهير بناقلها وتأديبه كما يقتضيه واجبه الشرعي ، وإن قالوا بصحتها فيمضي ما جمعه بلا إحراق ، ليكون سنة حسنة تقتفى من بعده.

كل هذا يدل على أن وراء حرق الأحاديث سبب غير معلن ، لعدم قبول الأسباب المعلنة عقلا.

وفي «تذكرة الحفاظ» في ترجمة أبي بكر ، إنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال لهم : «إنكم تحدثون عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه» (١).

وفيه :

إنه عبر عن رغبته في عدم انتشار الحديث ، فنهى عنه بذريعة الاختلاف! ويرد عليه ما أوردناه سابقا من إمكانية إزالة أسباب الاختلاف الحاصل في الأحاديث بيسر وسهولة قبل أن تتفاقم بعده ، أما تركها على ما هي عليه من الاختلاف ، والاكتفاء بمجرد النهي ، فليس هو الحل الإسلامي الذي ينبغي أن يصار إليه.

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٣ رقم ١.

٢٠٠