مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

رسول الله. فقال : أفعل يا أمّاه ولا أقصّر.

ثمّ إنّه شدّ على قلب الجيش واقتحم المعمعة وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن الكلب

سوف تروني إذ ترون ضربي

وحملتي وصولتي في الحرب

أدرك ثاري بعد ثار صحبي

ليس جهادي في الوغى باللعب

وأدفع الكرب أمام الكرب

فلم يزل يقاتل حتّى قتل عشرين فارساً ، ثمّ رجع إلى أمّه وامرأته فقال : يا أمّاه ، ارضيت عنّي بنصرتي للحسين ؟

فقالت له : والله ما أرضي عنك إلاّ أن أراك قتيلاً بين يدي الحسين.

فقالت له امرأته : بالله لا تفجعني بنفسك.

فقالت له أمّه : يا بنيّ ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعته يوم القيامة.

فرجع فلم يزل يقاتل حتّى قطعت يداه ، فلمّا رأته زوجته أخذت عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : قاتل يا وهب فداك أبي وأمّي ، قاتل دون الطيّبين ، قاتل دون حرم رسول ربّ العالمين.

فاقبل كي يردّها إلى النساء ، فأبت وقالت : لن أعود حتّى أموت معك. فاستغاث زوجها بالحسين ، فأتاها الحسين عليه‌السلام وقال لها : « جزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي رحمك الله ».

فقاتل بعلها حتّى قتل ـ على ما نقل ـ من القوم خمسين رجلاً ما بين فارس وراجل ، ثمّ قتل رحمه‌الله ، فجاءت إليه إمرأته وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، فأمر عمر بن سعد غلاماً له فضربها بعمود من حديد ، فشدخ رأسها فماتت رحمة الله عليها ، وكانت أوّل امرأة قتلت في عسكر الحسين عليه‌السلام (١).

ثم برز خالد بن عمر وقاتل قتال المشتاقين إلى لقاء ربّ العالمين ، ثمّ كرّ على

__________________

(١) رواه السيّد في الملهوف : ص ١٦١ مع إضافات.

ورواه المجلسي في البحار : ٤٥ : ١٦.

١٢١

القوم كرّة الليث الجريء وهو ينشد ويقول :

صبراً على الموت بني قحطان

كيما تكونوا في رضى الرحمان

ذي المجد والعزّة والبرهان

وذي العلا والطول والإحسان

يا أبتا قد صرت للجنان

في قصر فضل حسن البنيان

ولم يزل يحمل فيهم حتّى قتل ، رحمة الله عليه (١).

ثمّ برز من بعده عمر بن خالد الأزدي وقاتل قتال الأبطال وجدّل بسيفه الرجال وهو يقول :

إليك يا نفسي إلى الرحمان

وأبشري بالروح والريحان

اليوم تجزين على الإحسان

ما كان منك غابر الأزمان

ما خطّ في اللوح لدى الديّان

لا تجزعي فكلّ حيّ فان

ثم قاتل حتّى قتل رحمة الله عليه (٢).

وبرز من بعده سعد بن حنظلة التميمي ، فودّع الحسين عليه‌السلام وحمل على القوم وهو ينشد ويقول :

صبراً على الأسياف والأسنّة

صبراً عليها لدخول الجنّة

وحور عين ناعمات هنّة

لمن يريد الفوز لا بالظنّة

ثمّ اقتحم القلب وقاتل قتالاً شديداً حتّى قتل رحمة الله عليه (٣).

ثمّ برز من بعده مسلم بن عوسجة فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء ، وهو يرتجز يقول :

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

من فرع قوم من ذرى بني أسد

__________________

(١) ورواه الخوارزمي في المقتل ٢ : ١٤.

(٢) ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ١٤ مع اختلاف قليل في بعض ألفاظ الأبيات ، وأضاف :

ما خط باللوح لدى الديّان

فاليوم زال ذاك بالغفران

لا تجزعي فكلّ حيّ فان

والصبر أحضى لك بالأمان

(٣) ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ١٤ مع إضافة بيت :

يا نفس للراحة فاطرحنّة

وفي طلاب الخير فارغبنّه

١٢٢

فمن بغانا حائداً عن الرشد

وكافراً بدين جبّار صمد

فقاتل حتّى سقط عن فرسه إلى الأرض وبه رمق فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين : « رحمك الله يا مسلم ». ثمّ قال عليه‌السلام : ( فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) ، ودنا منه حبيب وقال : يعزّ علَيّ مصرعك يا مسلم ، فأبشر بالجنّة.

فقال له قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخير.

فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إلَيّ بجميع ما أهمّك.

فقال له مسلم : إنّي أوصيك بهذا خيراً ـ وأشار بيده إلى الحسين عليه‌السلام ـ فقاتل دونه حتّى تموت.

فقال له حبيب : لأنعمنّك عيناً. ثمّ مات رحمه‌الله.

قال : وصاحت جاريته : يا سيّداه ، يا ابن عوسجاه. فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة. فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمّهاتكم ، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلّون عزّكم ، أتفرحون بقتله ؟ ولقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين (٢).

ثمّ برز من بعده عمرو بن قرظة الأنصاري واستأذن الحسين عليه‌السلام ، فأذن له فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتّى قتل جمعاً كثيراً من اللعناء ، وجمع بين سداد وتقى ، وكان لا يأتي إلى الحسين عليه‌السلام سهم إلاّ اتّقاه بصدره ، ولا سيف إلاّ تلقّاه بنحره ، فما وصل إلى الحسين سوء حتّى أثخن

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ : ٢٣.

(٢) ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ١٥ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

ورواه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٣٥ ، وابن الأثير في الكامل : ٤ : ٦٨ ، والسيّد في الملهوف : ص ١٦١.

١٢٣

بالجراح ، فالتفت إلى الحسين عليه‌السلام وقال : أوفيت يا ابن رسول الله ؟

قال : « نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله منّي السلام وأعلمه أنّي في الأثر ». ثمّ قاتل حتّى قتل ، رحمة الله عليه (١).

ثمّ تقدّم جون مولى أبي ذر الغفاري ، وكان عبداً أسوداً ، فقال له الحسين عليه‌السلام : « أنت في حلّ من بيعتي ، فإنّما تبعتنا طلباً للعافية ، فلا تبتلي ببلائنا ».

فقال : يا ابن رسول الله ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟! والله إنّ ريحي لنتن ، وحسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفّس علَيّ بالجنة ، حتّى يطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضّ وجهي ، والله لا أفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم. فلم يزل كذلك حتّى أذن له الحسين ، فبرز للقتال وهو يقول :

كيف ترى الفجّار ضرب الأسود

بالمشرفي القاطع المهنّد

بالسيف ذدنا عن بني محمّد

أذبّ عنهم بالسنان واليد

أرجو بذاك الفوز عند المورد

من الإله الأحد الموحّد

إذ لا شفيع عنده كأحمد

فقاتل حتّى قتل (٢). فوقف عليه الحسين عليه‌السلام. وقال : « اللهم بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرف بينه وبين محمّد وآله الأطهار » (٣).

__________________

(١) ورواه السيّد في الملهوف : ص ١٦٢ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٥ : ٢٢.

ورواه ملخّصاً الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٢ ، والطبري في تاريخه : ٥ : ٤٣٤ ، والسماوي في كتاب ابصار العين في أنصار الحسين : ص ٩٢.

(٢) ورواه السيد في الملهوف : ص ١٦٣ ، والخوارزمي في المقتل : ٢ : ١٩ ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص ١٠٥.

ورواه المجلسي في البحار : ٤٥ : ٢٢ نقلاً عن محمّد بن أبي طالب.

(٣) ورواه السيد في الملهوف : ص ١٦٣ ، والخوارزمي في المقتل : ٢ : ١٩ ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص ١٠٥.

ورواه المجلسي في البحار : ٤٥ : ٢٢ نقلاً عن محمّد بن أبي طالب.

١٢٤

وروي عن الباقر عليه‌السلام ، عن علي بن الحسين عليهما‌السلام : « أنّ النّاس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى ، فوجدوا جونا بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك والعنبر ، رضوان الله عليه » (١).

قال : وبرز من بعده عمرو بن خالد الصيداوي (٢) وقال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله جعلت فداك ، قد هممت بأن ألحق بأصحابي وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيداً من أهلك أو قتيلاً.

فقال له الحسين : « تقدّم فإنا لاحقون بك بعد ساعة ».

فتقدّم وقاتل حتّى قتل ، رحمة الله عليه (٣).

قال : وجاء حنظلة بن سعد الشامي (٤) ووقف بين يدي الحسين عليه‌السلام يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره ، وأخذ ينادي : ( يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ) (٥) ، يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم بعذاب منه وقد خاب من افترى (٦).

ثمّ التفت إليه الحسين عليه‌السلام وقال له : « يا ابن سعد رحمك الله ، إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم من الحق ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين » ؟

__________________

(١) ورواه السماوي في إبصار العين : ص ١٠٥ ، والمجلسي في البحار : ٤٥ : ٢٣ عن محمّد بن أبي طالب.

(٢) هذا هو الظاهر ، وفي النسخة : « خالد بن عمر الصيداوي ».

(٣) رواه السيّد في الملهوف : ص ١٦٤ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٥ : ٢٣.

ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٤ ، والسماوي في إبصار العين : ص ٦٦.

ورواه مختصراً الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٤٦.

(٤) في الإرشاد : ٢ : ١٠٥ وتاريخ الطبري : ٥ : ٤٤٣ : « الشبامي ». وهم بطن من همدان.

(٥) سورة الغافر : ٤٠ : ٣٠ ـ ٣٢.

(٦) اقتباس من سورة طه : ٢٠ : ٦١.

١٢٥

فقال للحسين عليه‌السلام : أفلا نروح إلى ربّنا ونلحق بإخواننا ؟

فقال : « بلى ، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى ».

فتقدّم فقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الشدائد والأهوال حتّى قتل ، حرمة الله عليه (١).

قال الراوي : وحضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين عليه‌السلام زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي أن يتقدّما أمامه بنصف من تخلف من رجاله ، ثم صلّى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين سهم فوقاه سعيد بن عبد الله بنفسه ، فما زال لا يتخطّاه حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللّهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللّهم أبلغ نبيّك محمداً عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت ثوابك في نصرة ذريّة نبيّك. ثمّ قضى نحبه ، رحمة الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى النبل بالأحجار والسيوف والرماح (٢).

ثمّ برز من بعده سويد بن عمرو بن أبي مطاع وتقدّم أمام الحسين عليه‌السلام واستأذنه إلى الحرب ، فخرج فقاتل قتال الأسد الباسل ، وصبر على مصالات نار الخطب النازل ، حتّى أثخن بالجراح وسقط بين القتلى ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتّى سمعهم يقولون : قتل الحسين ، فتحامل وأخرج سكّيناً من خُفّه وجعل يقاتلهم بها حتّى قتلوه ، رحمة الله عليه (٣).

قال : وخرج شابّ قتل أبوه في المعركة وكانت أمّه معه ، فقالت له : اخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . فخرج ، فقال الحسين عليه‌السلام : « هذا شابّ قتل أبوه ، ولعلّ أمه تكره خروجه ».

__________________

(١) ورواه السيّد في الملهوف : ص ١٤٦ ، وعنه وعن المناقب المجلسي في البحار : ٤٥ : ٢٣.

ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٤ مع اختلاف في الألفاظ ، والطبري في تاريخه : ٥ : ٤٤٣ ، والمفيد مختصراً في الإرشاد : ٢ : ١٠٥.

(٢) رواه السيّد في الملهوف : ص ١٦٥.

ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ١٧ ، والطبري مختصراً في تاريخه : ٥ : ٤٤١.

(٣) الملهوف : ١٦٥ ـ ١٦٦.

١٢٦

فقال الشاب : أمّي أمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :

حسين أميري ونعم الأمير

سرور فؤاد البشير النذير

عليّ وفاطمة والداه

فهل تعلمون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضحى

له غرّة مثل بدر منير

وقاتل حتّى قتل ، واحتزوا رأسه ورموا به إلى نحو عسكر الحسين ، فأخذت أمّه رأسه وقالت : أحسنت يا ولدي ، ويا سرور قلبي ، ويا قرة عيني. ثم رمت برأس ولدها فأصابت رجلاً فقتله ، وأخذت عموداً وحملت عليهم وهي تقول :

أنا عجوز سيّدي ضعيفة

خاوية بالية نحيفة

أضربكم بضربة عنيفة

دون بني فاطمة الشريفة

وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين بصرفها ودعا لها (١).

قال : وبرز من بعده زهير بن القين وهو يرتجز ويقول :

أنا زهير وأنا ابن القين

أذود بالسيف عن الحسين

إن حسيناً أحد السبطين

من عترة البرّ التقي الزّين

أضربكم ولا أرى من شين

يا ليت نفسي قسّمت قسمين (٢)

فقاتل قتالاً يشيب الوليد ، ويرعب من هوله قلب الصنديد ، حتّى قتل كما روي مئة وعشرين فارساً وستّين راجلاً ، فشدّ عليه كثير بن عبد الله ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه ، فقال الحسين عليه‌السلام حين صرع زهير : « لا أبعدك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك ، لعن الّذين مسخوا قردة وخنازير » (٣).

ثمّ برز من بعده حبيب بن مظاهر الأسدي فشدّ شدّة السرحان وأدخل نفسه

__________________

(١) ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) زاد في المقتل للخوارزمي :

ذاك رسول الله غير المين

أضربكم ولا أرى من شين

(٣) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٠.

وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص ٢٣٢.

١٢٧

في حلق الطعان ، وهو ينشد مرتجزاً ويقول :

أنا حبيب وأبي مظاهر

وفارسٌ قومٌ ونار تسعر

وأنتمُ عند العديد أكثر

ونحن أعلى حجّة وأظهر

وأنتمُ عند الوفاء أغدر

ونحن أوفى منكم وأصبر

فلم يزل يقاتل حتّى شدّ عليه رجل من تميم فطعنه ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير لعنه الله على رأسه بالسيف فوقع ونزل التميمي فاحتزّ رأسه (١).

__________________

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ١٨.

وروى أبو مخنف في وقعة الطف : ص ٢٣٠ ، وعنه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٣٩ وفيه : فلا يزال الرجل من أصحابه الحسين قد قتل ، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم ، وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يقتل منهم.

قال : فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين : يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتّى أقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها.

قال : فرفع الحسين رأسه ثمّ قال : « ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها ». ثم قال : « سلوهم أن يكفّوا عنا حتّى نصلّي ». فقال لهم الحصين بن تميم : إنّها لا تقبل ! فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل زعمت ! الصلاة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تقبل وتقبل منك يا حمار ؟!

قال : فحمل عليهم حصين بن تميم ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبّ ووقع عنه وحمله أصحابه فاستنقذوه ، وأخذ حبيب يقول :

أقسم لو كنّا لكم أعدادا

أو شطركم ولّيتم الأكتادا

يا شرّ قوم حسباً وآدا

قال : وجعل يقول يومئذ :

أنا حبيب وأبي مظاهر

فارس هيجاء وحرب تسعر

أنتم أعد عدّة وأكثر

ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجة وأظهر

حقّاً وأتقى منكم وأعذر

وقاتل قتالاً شديداً ، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله ، وكان يقال

١٢٨

ثمّ برز من بعده غلام تركي للحسين عليه‌السلام وكان قارئاً للقرآن ، موحّداً للعليّ الديّان ، فبرز وهو ينشد ويقول :

البحر من طعني وضربي يصطلي

والجوّ من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي

ليشف قلب الماجد المبجّل

فقتل جماعة منهم ثمّ خرّ صريعاً ، فشدّ الحسين على قاتله وقال له : « قتلني الله إن لم أقتلك ». فضربه بالسيف على هامته أخرجه من شرايف صدره (١) ، ثمّ وقف على الغلام وبكى ، ووضع خدّه على خدّه ، ففتح الغلام عينيه فرأى الحسين عليه‌السلام

__________________

له : « بديل بن صُرَيم » من بني عُقفان ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاهتزّ رأسه ، فقال له الحصين : إنّي لشريكك في قتله. فقال الآخر : والله ما قتله غيري. فقال الحصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيما يرى النّاس ويعلموا أنّي شركت في قتله ، ثمّ خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد ، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إيّاه.

قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علّقه في عنق فرسه ، ثمّ دفعه بعد ذلك إليه ، فلمّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلّقه في لبان فرسه ، ثمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر ، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلّما دخل القصر دخل معه ، وإذا خرج خرج معه ، فارتاب به فقال : ما لك يا بُنيّ تتبعني ؟ قال : لا شيء. قال بلى يا بُنيّ ، أخبرني. قال له : إنّ هذا الرأس الذي معك رأس أبي ، أفتعطينيه حتّى أدفنه ؟ قال : يا بُنيّ ، لا يرضى الأمير أن يدفن وأنا أريد أن يصيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً. قال له الغلام : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلّا أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلت خيراً منك. وبكى.

فمكث الغلام حتّى إذا أدرك لم يكن له همة إلاّ اتّباع أثر قتل أبيه ليجد منه غِرّة فيقتله بأبيه ، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجُميرا ، دخل عسكر مصعب ، فإذا قاتل أبيه في فسطاطه ، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غِرّته فدخل عليه وهو قائل نصف النهار ، فضربه بسيفه حتّى برد.

قال أبو مخنف : حدثني محمّد بن قيس قال : لما قتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسيناً وقال عند ذلك : « أحتسب نفسي وحماة أصحابي ».

(١) الشراسيف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن. ( لسان العرب )

١٢٩

فتبسّم ثمّ صار إلى ربّه (١).

قال : وجعل أصحاب الحسين عليه‌السلام يتسارعون إلى القتل بين يديه ويبذلون الأرواح لديه ، ولله درّ من قال :

يبرزون الوجوه تحت ظلال

الموت والموت منهم يستظلّ

كرماء إذ الضبا غشيتهم

منعتهم أحسابهم أن يولّوا

فوا لهف نفسي لتلك الأقمار المنيرة على التراب ، كيف كسفتها مواضي السيوف والحراب ، ولتلك الأنوار الساطعة كيف طمست أشعتها أكف النصّاب ، ووا حرّاه لهاتيك الأجسام الزاكيات ترضّ متونها سنابك العاديات ، والجثث الصاحيات تعفّرها فراعل (٢) الفلوات ، وواكرباه لتلك الرؤوس القمريّة تشال على اليعاسيب القعضبيّة ، ولتلك النفوس الشريفة تزهقها الأبدان الخبيثة ، فالأمر لله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، أو لا تكونون يا أولى النهى ، كمن أورثه مصابهم الأرزا داء الوجد والأسى (٣) ، فرثاهم بما أحرق الضمائر ، وأشجى ، وهو من بعض شيعتهم الأتقياء.

__________________

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٤.

(٢) الفرعل : ولد الضبع ، والجمع : فراعل وفراعلة.

(٣) الوجد والأسى : الحزن. ( المعجم الوسيط ).

١٣٠

المصرع العاشر

من مصارع الحسين الشهيد الوحيد عليه‌السلام

عباد الله الأبرار ، وشيعة حيدر الكرّار ، اخلعوا حلل القرار ، وتجافوا عن نمارق البهجة والإصطبار ، فقد عصفت بمراسم الفخار ، زعازع حوادث الأقدار ، واجتثّت أصول المراتب والأقدار ، ذات عواصف وأغيار ، أخلت أواهل تلك الديار ، فلا حارس ولا سمّار ، تبكي عليهم الأوراد والأذكار ، وتندبهم الوحوش والأطيار ، دارت بهم رحى الفجّار ، فغدوا عباديد بكلّ ديار ، ليس لقتيلهم مزار يزار ، ولا أسيرهم يفدى ولا يجار ، ولا ربائبهم تصان في الأستار ، بل هتكت بين الرامق والنظار ، يطاف بها المدن والأمصار ، على الأقتاب والأكوار ، ولله درّ من قال :

بلغ المرادي المراد وأورد

الحسن الرديّ وقضى الحسين شهيدا

غدروا به إذ جاءهم من بعد ما

أسدوا إليه مواثقاً وعهودا

قتلوا به بدراً فأظلم ليلهم

فغدوا قياماً في الضلال قعودا

وحموه أن يرد المباح وصيّروا

ظلماً له ظامي الرماح ورودا

فسمت إليه أماجد عرفت به

قصد الطريق فأدركوا المقصودا

نفر حوت جلّ الثناء وتسنّمت

ذلل المعالي والداً ووليدا

من تلق منهم تلق كهلاً أو فتى

علم الهدى بحر الندى المورودا

وتبادرت طلق الأعنّة لا ترى

الغمرات إلاّ المايسات الغيدا

فكأنّما قصد القنا بنحورها

درر يفصّلها الطعان عقودا

واستنزلوا دار البقا فأحلّهم

غرفاتها فغدى النزول صعودا

١٣١

فتظنّ عينك أنّهم صرعى وهم

في خير دار فارهين رقودا

وأقام معدوم النظير فريد بيت

المجد معدوم النصير فريدا

يلقى القفار صواهلاً ومناصلا

ويرى النهار قصاطلا وبنودا

ساموه أن يردوا الهوان أو المنيّة

والمسوّد لا يكون مسودا

روي في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » أنّه لمّا تفانى أصحاب الحسين عليه‌السلام ولم يبق معه إلاّ أهل بيته وهم ولد أمير المؤمنين عليه‌السلام وولد جعفر وولد عقيل وولد الحسن السبط وولده عليه‌السلام ، اجتمعوا وجعل يودّع بعضهم بعضاً وعزموا على الحرب ، فأوّل من برز منهم عبد الله بن مسلم بن عقيل ، وشدّ على القوم وهو يرتجز ويقول :

اليوم ألقى مسلماً وهو أبي

وفتية بادوا على دين النبيّ

ليسوا بقوم عرفوا بالكذب

لكن خيار وكرام النسب

من هاشم السادات أهل الحسب

فقاتل حتّى قتل في ثلاث حملات ثمانية وتسعين فارساً ، ثمّ قتله عمر بن صبيح الصيداوي وأسد بن مالك (١).

ثمّ برز من بعده محمّد بن مسلم ، فقاتل حتّى قتل ، وقاتله محمّد بن علي الأزدي

__________________

(١) ما عثرت على مقتل أولاد عقيل في الملهوف المطبوعة عندي ، بل رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٦.

وقال المفيد رحمه‌الله في الإرشاد : ٢ : ١٠٧ : ثمّ رمى رجل من أصحاب عمر بن سعد يقال له « عمرو بن صبيح » عبد الله بن مسلم بن عقيل رحمه‌الله بسهم ، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه ، فأصاب السهم كفّه ونفذ إلى جبهته فسمّر به ، فلم يستطع تحريكها ، ثمّ انتهى إليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.

ومثله في الكامل لابن الأثير : ٤ : ٧٤ ، وتاريخ الطبري : ٥ : ٤٤٧ عن أبي مخنف ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص ٩٨.

١٣٢

ولقيط بن إياس الجهني (١).

ثمّ برز من بعده جعفر بن عقيل ، وشدّ على القوم بسيفه وهو يرتجز ويقول :

أنا الغلام الأبطحي الطالبي

من معشر في هاشم وغالب

ونحن حقّاً سادة الذوائب

هذا حسين أطيب الأطائب

من عترة البرّ التقيّ العاقب

فقتل تسعة عشر رجلاً ، ثم قتله بشر بن سوط الهمداني (٢).

ثمّ برز من بعده أخوه عبدالرحمان بن عقيل ، فقتل سبعة عشر فارساً ، ثمّ قتله عثمان بن خالد الجهني (٣).

ثمّ برز من بعده أخوه عبد الله الأكبر بن عقيل ، فقتله عثمان بن مسلم (٤).

وبرز عبد الله الأكبر بن عقيل ، فقتله عثمان بن خالد الجهني (٥).

ثمّ برز من بعده محمّد بن أبي سعيد بن عقيل الأحول ، فقتله لقيط بن ياسر الجهني (٦).

__________________

(١) ورواه أبوالفرج في مقاتل الطالبيين : ص ٩٧.

(٢) ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٦ ، ولم يذكر قاتله.

ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ٩٧ وقال : قتله عروة بن عبد الله الخثعمي.

(٣) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٦ وفيه : فحمل وهو يقول :

أبي عقيل فاعرفوا مكاني

من هاشم وهاشم إخوان

فينا حسين سيّد الأقران

وسيد الشباب في الجنان

ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ٩٦ وفيه : قتله عثمان بن خالد بن أسيد الجهني وبشير بن حوط القايضي.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ١٠٧.

(٤) في الأصل « عبد الله الأكبر بن عقيل » كرّر مرتين ، قاتِلُ أحدهما عثمان بن مسلم وقاتِل الثاني عثمان بن خالد الجهني. ولم أعثر على عبد الله بن الأكبر بن عقيل ، غير ما قتله عثمان بن خالد الجهني ، كما سيأتي. ولفظة الأكبر لم تكتب أوّلاً بل استدركت فيما بين السطور.

(٥) رواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ٩٧.

(٦) رواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص ٢٤٨ ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ٩٨.

١٣٣

ثمّ برز من بعده محمّد بن عبد الله بن جعفر الطيّار ، فقاتل حتّى قتل عشرة أنفس ، ثمّ قتله عامر بن نهشل التميمي (١).

ثمّ برز من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، فقاتل حتّى قتل رحمة الله عليه (٢).

ثمّ خرج من بعده القاسم بن الحسن عليه‌السلام وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم كان وجهه فلقة القمر ، فلمّا نظر الحسين عليه‌السلام إليه اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غشى عليهما ، فلمّا أفاقا استأذن القاسم الحسين في البراز ، فأبى أن يأذن له ، فلم يزل الغلام يقبّل يديه ورجليه حتّى أجازه ، فخرج ودموعه تسيل على خدّيه ، فكرّ على الجموع ، بالصارم اللموع ، وهو ينشد ويقول :

إن تنكروني فأنا ابن الحسن

سبط النبيّ المصطفى والمؤتمن

هذا حسين كالأسير المرتهن

بين أناس لاسقوا صوب المزن

فقاتل قتالاً يحيّر عقول أرباب العقول وصبر على احتساء كأس البلاء المهول ، حتّى قتل على صغر سنّه وشدّة عطشه خمسة وستّين رجلاً.

قال حميد بن مسلم : كنت في عسكر ابن سعد ، وكنت أنظر إلى هذا الغلام وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ، ما أنسى أنّها كانت اليسرى ، فقال عمر بن سعد الأزدي : والله لأشدّنّ عليه.

__________________

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٦ ، وفيه : فحمل وهو يقول :

نشكو إلى الله من العدوان

فِعال قوم في الردى عميان

قد تركوا معالم القرآن

وأظهروا الكفر مع الطغيان

وأشار إليه أبو مخنف في وقعة الطف : ص ٢٤٧ ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ٩٥ ، والمفيد في الإرشاد : ٢ : ١٠٧.

(٢) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٧ وفيه : فحمل وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن جعفر

شهيد صدق في الجنان أزهر

يطير فيها بجنان أخضر

كفى بهذا شرفاً في معشر

فقاتل حتّى قتل ، قيل : قتله عبد الله بن قطبة.

وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص ٢٤٦ ، وإرشاد المفيد : ٢ : ١٠٧ ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص ٩٥ وفيه : أمه زينب العقيلة بنت علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

١٣٤

فقلت له : سبحان الله ، وما تريد بذلك ؟ أما والله لو ضربني ما بسطت يدي إليه بسوء ، يكفيك هؤلاء الّذين تراهم قد احتوشوه.

فقال : والله لأقتلنّه. فشدّ عليه ، فما ولي حتّى ضرب رأسه بالسيف ، فوقع الغلام لوجهه وصاح : « يا عمّاه ». فجلى الحسين عنه كما يجلى الصقر ، ثم شدّ شدّة ليث مغضب ، فضرب عمراً قاتل القاسم بالسيف ، فاتّقاده بيده فأطنّها من المرفق ، فصاح صيحة هائلة ، فحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمراً من الحسين عليه‌السلام فوطأته الخيل حتّى هلك لا رحمه الله تعالى.

قال حميد بن مسلم : فانجلت الغبرة وإذا بالحسين عليه‌السلام قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجله الأرض والحسين يقول : « بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك ».

ثمّ قال : « قد عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يغني عنك شيئاً ، هذا يوم والله كثر واتره وقلّ ناصره ». ثمّ حمله صلوات الله عليه على صدره.

قال حميد : كأنّي أنظر إلى رِجلي الغلام تخطّان في الأرض وقد وضع صدره على صدره ، فقلت في نفسي : ما يريد أن يصنع به ؟ فجاء حتّى وضعه بين القتلى من أهل بيته (١).

ثمّ برز من بعده أخوه عبد الله بن الحسن عليه‌السلام فقاتل قتالاً شديدا حتّى قتل أربعة عشر رجلاً ، ثم قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي (٢).

__________________

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٧ مع اختلافات لفظية.

ورواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص ٢٤٤ وعنه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٤٧.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ١٠٧ ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيّين : ص ٩٢ ، والسيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٦٧.

(٢) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٨ وفيه : وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن حيدرة

ضرغام آجام وليث قسورة

١٣٥

ثمّ برز من بعده أخوه أبو بكر بن الحسن عليه‌السلام فقتله عقبة الغنوي (١).

ثمّ برز من بعده علي بن الحسين ، وكان من أصبح الناس وجهاً ، وأحسنهم خلقاً ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثم نظر إليه الحسين نظرة آيس منه وأرخى عليه‌السلام عينيه على خدّيه وبكى ، ثمّ قال : « اللهمّ اشهد عليهم أنّه قد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً وسمتاً » (٢)

قال الراوي : فتقدّم عليّ نحو القوم ونظر إلى صفوفهم فشدّ عليه بسيفه وهو

__________________

على الأعادي مثل ريح صرصرة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص ٢٤٩ ، وتاريخ الطبري : ٥ : ٤٦٨ ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص ٩٣ ، وذكروا أنّ قاتله حرملة بن كاهل الأسدي رماه بسهم فقتله.

(١) رواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص ٢٤٨ وفيه : ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسن بن علي بسهم فقتله. ومثله في تاريخ الطبري : ٥ : ٤٤٨.

(٢) قال الخوارزمي في المقتل ٢ : ٣٠ : فتقدّم علي بن الحسين وأمّه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة ، فلمّا رآه الحسين رفع شيبته نحو السماء وقال : « اللهمّ أشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمّد صلى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، كنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه ، اللهمّ فامنعهم بركات الأرض وإن منعتهم ففرّقهم تفريقاً ومزّقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فإنهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا ليقاتلونا ويقتلونا ».

ثمّ صاح الحسين بعمر بن سعد : « ما لك قطع الله رحمك ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ».

ثمّ رفع صوته وقرأ : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )» [ ٣٣ : آل عمران / ٣ ].

ثمّ حمل علي بن الحسين وهو يقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي

أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

أضربكم بالسيف حتّى يلتوي

ضرب غلام هاشمي علوي

١٣٦

يرتجز ويقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

من عصبة جدّ أبيهم النبيّ

والله لا يحكم فينا ابن الدعّي

أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشمي علوي

فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ الناس لكثرة من قتل منهم ، حتّى روي أنّه قتل على ما هو فيه من العطش مئتين وعشرين رجلاً ، ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة ، فقال : يا أبت ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من الماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟

فبكى الحسين عليه‌السلام وقال : « وا غوثاه ، يا بُني قاتل قليلاً فما أسرع أن تلقى جدّك محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً ».

ثمّ قال : « يعزّ على محمّد وعليّ أن تدعوهما فلا يجيبوك ، وتستغيث بهما فلا يغيثوك ، يا بُني ، هات لسانك ».

فأخذ لسانه فمصّه ودفع إليه خاتمه وقال : « أمسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوّك ». فرجع إلى القتال وشدّ على الرجال وهو يقول :

الحرب قد بانت لها الحقائق

وظهرت من بعدها المصادق

والله ربّ العرض لا نفارق

جموعكم أو تغمد البوارق

فلم يزل يقاتل حتّى قتل تمام ثلاث مئة ، ثمّ ضربه مرّة من منقذ العبدي على مفرق رأسه ضربة صرعته وتناوشه الناس بأسيافهم ، ثمّ إنّه اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء فقطّعوه بأسيافهم إرباً إرباً ، فلمّا بلغت روحه التراقي نادى رافعاً صوته : « يا أبتاه ، هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول : العجل العجل ، فإنّ لك كأساً مذخورة حتّى تشربها الساعة ».

فصاح الحسين عليه‌السلام وقال : « قتل الله قوماً قتلوك ، ما أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا ».

١٣٧

قال حميد بن مسلم : فكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنّها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور ، وتقول : واحبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا ابن أخاه. فسألت عنها ، قيل لي : هي زينب بنت علي ، وجاءت وانكبّت على جسد عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، فجاء الحسين إليها وأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ، وأقبل عليه‌السلام بباقي فتيانه وقال : « احملوا أخاكم رحمكم الله ». فحملوه من مصرعه فجاءوا به حتّى وضعوه عند الفسطاط (١).

ثمّ خرج من بعده أبو بكر بن علي ، واسمه عبد الله ، فلم يزل يقاتل حتّى قتله زحر بن بدر النخعي وعبد الله بن عقبة الغنوي (٢).

ثمّ برز من بعده عمر بن علي وحمل على زحر قاتل أخيه فقتله واستقبل القوم ، فلم يزل يقاتل حتّى قُتل (٣).

__________________

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٣٠.

ورواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص ٢٤١ وعنه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ١١٥ ، والمفيد في الإرشاد : ٢ : ١٠٦ ، وابن طاوس في الملهوف : ص ١٦٦.

وانظر الكامل لابن الأثير : ٤ : ٧٤.

(٢) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٨ وفيه : ثمّ تقدّم إخوة الحسين عليه‌السلام عازمين على أن يقتلوا من دونه ، فأوّل من تقدّم منهم أبو بكر بن علي واسمه عبد الله ، وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعي بن مسلم بن جندل بن نهشل بن دارم التيمية ، فبرز أبو بكر وهو يقول :

شيخي عليّ ذو الفخار الأطول

من هاشم الصدق الكريم المفضل

هذا الحسين ابن النبيّ المرسل

نذود عنه بالحسام الفيصل

تفديه نفسي من أخ مبجّل

يا ربّ فامنحني ثواب المجزل

فحمل عليه زحر بن قيس النخعي فقتله ، وقيل : بل رماه عبد الله بن عقبة الغنوي فقتله.

وانظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص ٩١.

(٣) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٨ وفيه : ثمّ خرج من بعد أبي بكر بن علي أخوه عمر بن علي ، فحمل وهو يقول :

١٣٨

ثمّ برز من بعده عثمان بن علي ، وحمل على القوم وهو يقول :

إني أنا عثمان ذو المفاخر

شيخي عليّ ذو الفعال الطاهر

وابن عمّ للنبيّ الطاهر

أخي حسين خيرة الأخاير

وسيّد الكبار والأصاغر

بعد الرسول والوصي الناصر

فلم يزل يقاتل حتّى رماه حرملة بن كاهل ، وقيل : خوليّ بن يزيد ، على جبينه ، فسقط عن جواده ، واحتزّ رأسه رجل من أبان بن دارم (١).

ثمّ برز من بعده أخوه جعفر بن علي ، فجاهد وأبلغ في الجهاد ورتّب قواعد الضرب والجلاد ، فرماه خوليّ الأصبحي فسقط إلى الأرض فمات (٢) ، فعندها

__________________

أضربكم ولا أرى فيكم زحر

ذاك الشقي بالنبي قد كفر

يا زحر يا زحر تدان من عمر

لعلّك اليوم تبوء بسقر

شرّ مكان في حريق وسعر

فإنّك الجاحد يا شرّ البشر

ثمّ قصد قاتل أخيه فقتله ، وجعل يضرب بسيفه ضرباً منكراً ويقول في حملاته :

خلّوا عداة الله خلّوا عن عمر

خلوا عن الليث العبوس المكفهر

يضربكم بسيفه ولا يفرّ

وليس يغدو كالجنان المنحجر

ولم يزل يقاتل حتّى قتل.

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٩.

ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ٨٩ وفيه : قتل عثمان بن علي وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، وقال الضحاك المشرفي في الإسناد الأوّل الّذي ذكرناه آنفاً أنّ خولي بن يزيد رمى عثمان بن علي بسهم فأوهطه ، وشدّ عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله ، وأخذ رأسه.

وعثمان بن علي الّذي روى عن علي أنه قال : « إنّما سمّيته باسم أخي عثمان بن مضعون ».

(٢) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٢٩ وفيه : ثمّ خرج من بعده أخوه جعفر بن علي وأمّه أم البنين أيضاً وهو يقول :

إنّي أنا جعفر ذو المعالي

نجل علي الخير ذو النوال

أحمي حسيناً بالقنا العسّال

وبالحسام الواضح الصقال

١٣٩

صاح الحسين عليه‌السلام : « صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، فو الله لا رأيتم بعد هذا اليوم هواناً » (١).

وروى النعماني في غيبته (٢) أنّ الحسين لمّا رأى مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى : « هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله؟ [ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟ ] (٣) هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟ هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا » ؟

فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدّم الى باب الخيمة وقال لزينب : « ناوليني ولدي الصغير حتّى أودّعه ». فأخذه فأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال الحسين عليه‌السلام لزينب : « خذيه » ، ثمّ تلقّى الدّم بكفّيه ، فلمّا امتلأتا رمى بالدم إلى نحو السماء ثمّ قال : « هوّن علَيّ ما نزل بي أنّه بعين الله ».

قال الباقر عليه‌السلام : « فلم يسقط من ذلك الدم قطرة واحدة » (٤).

ثمّ إنّه دنى من الخيمة ونادى : « يا سكينة ، يا فاطمة ، يا زينب ، يا أم كلثوم ، عليكنّ منّي السلام ».

فنادته سكينة : استسلمت للموت يا أبت ؟

قال : « كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين ».

فقالت : يا أبت ، ردّنا إلى حرم جدّنا رسول الله.

__________________

ثمّ قاتل حتّى قتل.

وانظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص ٨٨.

(١) رواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٦٧.

(٢) ما عثرت على الحديث في غيبة النعماني ، وله مصادر كما سيأتي.

(٣) من الملهوف.

(٤) رواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٦٨ وفيه : « قطرة إلى الأرض ».

ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٣٢.

١٤٠