تراثنا ـ العدد [ 21 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 21 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

دليل النص بخبر الغدير

على إمامة أمير المؤمنين

صلوات الله عليه

للعلامة الكراجكي

أسامة آل جعفر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة لا بد منها :

الحمد لله حمدا لا يبلغ مداه الحامدون ، ولا يدرك عده الحاسبون ، أحمده تعالى على كل نعمة أدركها أولا أدركها ، أعلمها أولا أعلمها ، تبارك وتعالي الله رب العالمين.

والصلاة والسلام على خيرة خلق الله من الأولين والآخرين ، حبيبه ومصطفاه ، ورسوله الأمين الذي أخرجنا وأخرج آباءنا من الظلمات إلى النور بإذنه ، وعلى أهل

بيته الطيبين المعصومين حجج الله علي العالمين إلى قيام يوم الدين.

وبعد : فالباحث المنصف ـ كائن من كان مع اختلاف المشارب وتعدد الألوان ـ لا بد أن ينتابه الذهول ويعتريه الاستغراب وهو يتفحص بإمعان وتأن ما حفلت به كتب السير ومصادر الأحاديث ـ التي يشار إليها بالبنان وتحاط بهالات من التبجيل

والتقديس ـ من روايات وأحاديث وأحداث ، كيف أن أصابع التحريف والتشويه تركت فيها آثارا لا تخفى وشواهد لا توارى ، أخذت من هذا الدين الحنيف مأخذا كبيرا ، وفتحت لذوي المآرب المنحرفة فتحا كبيرا.

بل ومن العجب العجاب أن تجد في طيات كل مبحث وكتاب ـ من تلك الكتب ـ

٤٢١

جملة كبيرة من التناقضات الصريحة التي لا تخفى على القارئ البسيط ، ناهيك عن الباحث المتخصص ، تعلن بصراحة عن تزيف وتحريف تناول ـ بجرأة عجيبة ـ الكثير من أحاديث الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقوال الصحابة الناصحين ، فأخذ يعمل فيها هدما وتشويها.

ولعل حادثة الغدير ـ بما لها من قدسية عظيمة ـ كانت ، مرتعا خصبا لذوي النفوس العقيمة ، خضعت ـ وهذا لا يخفى ـ لأكبر عملية تزوير ـ قديما وحديثا ـ أرادت وبأي شكل كان أن تفزع هذا الأمر السماوي من مصداقيته ومن محتواه الحقيقي ، وتحمله ـ مدا وجزرا ـ بين التكذيب الفاضح ، والتأويل المستهجن ، فكانت تلك السنوات العجاف بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإلي يومنا هذا ـ حافلة بهذه التناقضات ، ومليئة بتلك المفارقات ، ولعل أم المصائب أن يأتي بعد أولئك القدماء جيل من الكتاب المعاصرين يأخذ ما وجده ـ رغم تناقضاته ومخالفته للعقل والمنطق ـ ويرسله إرسال المسلمات دون تمعن وبحث ، وكأن هذا الأمر ما كان أمرا سماويا وحتما إلهيا ، بل حالهم كأنه حال من حكى الله تعالى عنهم في كتابه العزيز حيث قال : (قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (١).

فالجناية الكبرى التي كانت تستهدف الإمام علي عليه‌السلام ما كانت وليدة اليوم ولا الأمس القريب ، بقدر ما كان لها من الامتداد العميق الضارب في جذور التأريخ ، والذي كان متزامنا مع انبثاق نور الرسالة السماوية ، حيث توافقت ضمائر المفسدين ـ وإن اختلفت ـ لجر الديانة الإسلامية السمحاء إلى حيث ما آلت إليه الأديان السماوية السابقة من انحراف خطير وتشويه رهيب.

لأن من السذاجة بمكان أن تؤخذ كل جناية من هذه الجنايات على حدة ، وتناقش بمعزل عن غيرها ، وعن الصراع الدائم بين الخير والشر ، وبين النور والظلام ،

__________________

(١) الزخرف ٤٣ : ٢٢.

٤٢٢

وإلا فكيف يمكن للمرء أن يتصور أن الحبل يلقى علي غاربة للمصلحين والمخلصين دون أن تشهر في وجوههم الحراب وتنصب في طرقهم الشباك ، بل وإني يمكن أن يتصور أن تترك للاسلام الحنيف السبل شارعة والمسالك نافذة ، يقيم دعائم الحق ويرسي جذور العدل ، بلي لا يمكن تصور ذلك ، وتلك حقائق لا يمكن الإغضاء عنها.

ومن كان علي عليه‌السلام؟ هل كان إلا كنفس رسول الله صلى الله عليه وآله (٢) رزق علمه وفهمه ، وأخذ منه ما لم يأخذه الآخرون ، بل كان امتدادا حقيقيا له دون الآخرين ، وهل كانت كفه عليه‌السلام إلا ككف رسول الله صلى الله عليه وآله في العدل سواء (٣) ، وهل كان عليه‌السلام إلا مع الحق والحق معه حيثما دار (٤).

وهل كان عليه‌السلام لو ولي أمور المسلمين ـ كما أراد الله ورسوله ـ إلا حاملا المسلمين على الحق ، وسالكا بهم الطريق القويم وجادة الحق (٥).

بلى كان يعد من السذاجة بمكان أن يمكن عليا عليه‌السلام من تسنم ذروة الخلافة وامتطاء ناصيتها ، لأن هذا لا يغير من الأمر شيئا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ويظهر لهم وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما زال بين ظهرانيهم ، يقيم دعائم التوحيد ، ويقف سدا حائلا أمام أحلامهم المنحرفة التي لا تنتهي عند حد معين ولا

__________________

(٢) روي عن أبي ذر رحمه‌الله ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي ينفذ فيهم أمري ...».

أنظر : خصائص الإمام علي عليه‌السلام ـ للنسائي ـ : ٨٩ / ٧٢ ، المناقب ـ للمغازلي ـ : ٤٢٨ / ٤.

(٣) أنظر : ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ٢ / ٤٣٨ / ٩٤٥ ، المناقب ـ للمغازلي ـ : ١٢٩ / ١٧٠.

(٤) أنظر : تأريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ٣ : ١١٧ / ١١٥٩.

(٥) نقل مثل هذا القول عن عمر بن الخطاب ـ لما طعن ـ مشيرا إلى ما يفعله علي عليه‌السلام لو ولي أمر المسلمين.

أنظر : أنساب الأشراف ١ : ٢١٤ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ٣ : ٨١ / ١١٢٧ ، ورب سائل يسأل : إذا كان ذلك قول عمر فلم جعلها بين ستة أينها دارت تصب في جعبة عثمان؟! وكذا سأله ولده. عبد الله فأجاب (كما في تأريخ دمشق المذكور) قال : أكره أن أتحملها حيا وميتا!!!.

حقيقة لا تحتمل التأويل ، وإن حملها الآخرون ، إلا أنه هذر وتجن على الحقيقة.

٤٢٣

مدى معروف.

ولعل الاستقراء البسيط لمجريات بعض الأمور يوضح جانبا بينا من تلك المؤامرة الخطيرة ، التي وإن اختلفت نوايا أصحابها إلا أنها تلتقي عند هدف واحد ، وهو إفراغ الرسالة السماوية من محتواها الحقيقي ، ودفع بالمسلمين إلى هاوية التردي والانحطاط ـ كما ذكرنا ـ والالتحاق بركب اليهودية والمسيحية التي أمست ثوبا مهلهلا خرقا يتجلبب به الأحبار والرهبان عندما يتعاطون ملذاتهم المحرمة وشهواتهم الحيوانية.

فمن الاجتهاد الباطل قبالة النص السماوي (٦) ، ومرورا بالحط من مكانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧) وانتهاءا بسلب الخلافة من أصحابها الشرعيين ، سلسلة متصلة الحلقات ، إحداها تكمل الأخرى ، إلا أن الأخيرة كانت الترجمة الصادقة لتلك التوجهات الخطيرة.

فحقا أن القربة لا تحمل البحر ، ولا النملة تبتلع البيدر وشواهد الحق ماثلة للعيان إلا أن المخطط ـ مع اختلاف النوايا ، كما ذكرنا ونذكر ـ أخذ أبعادا واسعة ، ثمارها ما نراه الآن من فرقة مرة وتطاحن مؤلم ، خلف أنهارا من الدموع والدماء ، ولست أدري كيف يتأتي لمن وهبه الله أدنى نور يستضئ به أن يتجاوز تلك الحقائق الواضحة التي تشهد بالنص بالخلافة لعلي عليه‌السلام لا لكونه أحق من غيره بها فحسب ، ويحيرني من لا يرتضي للملوك والزعماء أن لا يعهدوا بالولاية والخلافة ـ وهم ملوك الدنيا ـ ويرتضون لله ورسوله ذلك وهو سبيل الدنيا والآخرة! عدا أنهم نقلوا

__________________

(٦) للاطلاع علي مزيد من الايضاح يراجع كتاب «النص والاجتهاد» للإمام عبد الحسين شرف الدين قدس الله سره الشريف.

(٧) يجد الباحث عند استقراء بعض جوانب حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله محاولات واضحة للتعرض لشخصيته بالتجريح بصورة مباشرة أو غير مباشرة مركزها الأول محاولة نفي العصمة عنه ـ والتي هدفها الحقيقي نفي العصمة عن الأئمة عليهم‌السلام ورفع شأن بعض الصحابة علي حساب شخصيته العظمية ، وإلصاق بعض الأفعال التي يتنزه عن فعلها بسطاء المؤمنين ، ناهيك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! للاطلاع بوضوح تراجع أبواب فضائل الصحابة في كتب الحديث المختلفة.

٤٢٤

أن أبا بكر وعمر لم يموتا حتى أوصيا بذلك ، بل والأغرب من ذلك ـ وحديثي لمن ليس في قلبه مرض ـ أن تجد تلك التأويلات الممجوجة للنصوص الواضحة ، وذلك الحمل الغريب للظواهر البينة (٨).

وبالرغم من أن الجميع يدركون ـ بلا أدني ريب ـ أن الرسول صلى الله عليه وآله لا يتحدث بالأحاجي والألغاز ، ولا يقول بذلك منصف مدرك ، إذن فماذا يريد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحديث الثقلين المشهور (٩)؟ وما يريد بقوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : «أما ترضي أن تكون مني بمنزله هارون من موسى ..» (١٠).

بل وما يريد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : «علي ولي (١١) كل مؤمن بعدي» (١٢)؟ بل وما ... وما ... إلى آخره.

__________________

(٨) ـ أنظر إلى متن الرسالة المحققة وكيف تحمل ظواهر الكلمات والأحاديث علي وجوه تهدف إلى دفع الأمر عن حقيقته.

(٩) نقلت المصادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

أنظر : سنن الترمذي ، : ٥ / ٦٦٢ / ٣٧٨٦ و ٦٦٣ / ٣٧٨٨ ، مسند أحمد ٣ : ١٧ و ٥ : ١٨١ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩ و ١٤٨ ، أسد الغابة ٢ : ١٢.

(١٠) أنظر : صحيح مسلم ٤ : ١٨٧ : ٢٤٠٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٨ / ٣٧٢٤ و ٦٤٠ / ٣٧٣١ ، أسد الغابة ٥ : ٨ ، الرياض النضرة ٣ : ١١٧ ، تأريخ بغداد ٤ : ٢٠٤ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ١ : ١٢٤ / ١٥٠ ، حلية الأولياء ٧ : ١٩٤ ، ولعل الغريب في الأمر أن يحملها البعض علي أن ذلك يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله متناسين أن ذلك يطعن فيما ذهبوا إليه ، حيث أن من لا ينسي أن يولي من ينوب عنه في حياته لا يمكن قطعا أن يغفل عن ذلك بعد وفاته ، بالإضافة إلى أن ذي الأمر يوضح وبجلاء لا يقبل الشك أن عليا كان أحق من غيره بخلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا يعني ـ وبلا ريب ـ إعلان من رسول الله صلى الله عليه وآله للمسلمين بعده أن أحقهم وأولاهم بالخلافة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فإن أعرضوا عن النص وكذبوه كان أولى بهم أن لا يولوها إلا من كان أولى بها منهم.

(١١) أنظر متن الرسالة وفيها تعليق ـ ولو كان مختصرا ـ لوجوه كلمة «ولي».

(١٢) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٢ / ٣٧١٢ ، مسند أبي داود الطيالسي : ١١١ / ٨٢٩ ، مصنف ابن أبي شيبة ٢ : ٧٩ ، سنن النسائي : ١٠٩ / ٨٩ ، مسند أحمد ٤ : ٤٣٧ ، الرياض النضرة ٣ : ١٢٩ ، أسد الغابة ٥ : ٩٤ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١١٠ تأريخ بغداد ٤ : ٣٣٩.

٤٢٥

ثم أين الجميع من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر» (١٣) وإذا كان هناك من ينفر من كلمة الحق وتعمى عليه الحقائق ، فما باله بالشواهد وقد شهد حادثة الغدير عشرات الألوف من المسلمين ، كما تشهد بذلك الروايات الصحيحة في بطون الكتب (١٤) ، بل وأخرى تنقل تهنئة الصحابة لعلي عليه السلام بأسانيد صحاح لا تعارض (١٥).

وحقا إن هذا الأمر لا يخفى ، بالرغم من أنهم لم يألوا جهدا في طمس تلك الحقائق الناصعة المشرقة ـ حتى وإن تباينت الأزمنة وتباعدت المسافات ـ ولعل من المفارقات التي تستوقف ذي العقل الفطن وقائع مشهورة نقلها العام والخاص تعرضت للمسخ والتحريف في العديد من المصادر التاريخية والحديثية تختص بحديث الغدير وقضية الولاية ، فعدا ما ذهبوا إليه من تفسيرهم لآية الولاية والتبليغ وغيرها كما يشتهون ـ وجدت إن بعض المصادر التاريخية عند سردها لوقائع معينة أسقطت ما لا يوافق هواها وأثبتت ما يوافقه ، مثل مناشدته عليه‌السلام لجماعة الشورى بعد إصابة عمر بن الخطاب حيث أسقطت عبارة «فأنشدكم با لله هل فيكم أحد قال له رسول الله : من كنت مولاه فعلي مولاه ... ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري؟» (١٦).

__________________

(١٣) المناقب ـ للمغازلي ـ : ٤٥ / ٦٨.

(١٤) أنظر متن الرسالة المحققة وهوامشها.

(١٥) نقلت المصادر بعد سردها لحادثة الغدير قول أبي بكر وعمر بن الخطاب لعلي عليه‌السلام : بخ بخ لك علي ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

أنظر : أنساب الأشراف ١ : ٣١٥ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ٣ : ٨١ / ١١٢٧ ، تفسير الرازي ١٢ : ٥٠ ، وغيرها كما هو مذكور في هوامش الرسالة المحققة ، ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان عند ذلك هل كانت هذه التهنئة ـ ومن قبل هذه الجموع الحاشدة ـ لأمر بسيط كما يصوره البعض ويريد أن يقنع الآخرين به؟! لست معتقدا أن يقوله من يتأمله بإمعان.

(١٦) أثبت وجود هذا النص في المناشدة جملة من المؤرخين منهم : الخوارزمي في المناقب : ٢٢٢ ، المغازلي في مناقب الإمام علي عليه‌السلام : ١١٢ / ١٥٥ ، ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ٦ : ١٦٧ ، وبالرغم من أنهم حملوا كلمة «ولي» علي غير وجهها المراد حيث أشرنا إليها سابقا ، إلا أن لهذه العبارة في هذا المجلس دلالة خاصة لا تخفي.

٤٢٦

وأضاف ابن كثير في نهايته عند سرده لوصيه أمير المؤمنين عليه‌السلام عندما أصيب وطلب منه أن يوصي لمن بعده ، حيث ذكر إنه عليه‌السلام قال : لا ، ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يعني بغير استخلاف (١٧) ـ!!

بل ومن المفارقات العجيبة ما قرأته في تاريخ بغداد (١٨) ٧ : ٣٨١ عند ترجمته لأبي سعيد العدوي (٣٩١٠) فبعد أن استعرض جانبا من شيوخه الذين حدث عنهم والذين حدثوا عنه ، سرد حكاية له حول مروره بالبصرة على باب عثمان بن أبي العاص ، حيث نقل رويته لجماعة من الناس مجتمعة حول أحد الشيوخ الطاعنين في السن ، وكان خراش بن عبد الله خادم أنس بن مالك ، وهو يحدثهم ما سمعه من الأحاديث ، وبين يديه من يكتب ، قال أبو سعيد : فأخذت قلما من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشر حديثا «أسفل نعلي» انتهى. هكذا عبارة مبتورة مشوهة.

غير أن الصحيح ما نقله ابن حجر في لسان الميزان ٢ : ٢٢٩ عند ترجمته للمذكور نفسه ، حيث نقل عين العبارة المتقدمة ـ وعن الخطيب البغدادي نفسه ـ ولكن بشكل مغاير مختلف ، حيث روى : وقال الخطيب : أخبرنا محمود بن محمد العكبري ... قال أبو سعيد : فأخذت قلما من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشر حديثا في «فضل علي»!! وأورد قبلها جملة من هذه الروايات (١٩).

__________________

(١٧) أنظر : البداية والنهاية ٨ : ١٤ ، والغريب في الأمر هذا السؤال نقلته المصادر عن عبد الله بن جندب " وكان في حقيقته بهذا الشكل : قلت له (أي عبد الله) لعلي عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، إن فقدناك فلا نفقدك ، فنبايع الحسن؟ قال : نعم.

أنظر : المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٢٧٨ ، وما يدل عليه : الأغاني ١٢ : ٣٢٨ ، فجاءت النقل وجعلت محل «نعم» إما «لا» أو «لا آمركم ولا أنهاكم».

(١٨) الكتاب طبعته ونشرته المكتبة السلفية في المدينة المنورة.

(١٩) أقول : ما ذكرته لا يعدو غيضا من فيض ، فيمكن للباحث أن يحقق في كتب الفضائل التي نقلت قبل مئات السنين جملة وافرة من فقائل أهل البيت عليهم‌السلام ومن مصادر معروفة مشهورة غير أنه بعد أن أعيد طبع هذه المصادر ـ بحجة التحقيق أو النشر ـ أسقطت الكثير من هذه الأحاديث بصلافة غريبة وتجرأ عجيب ، والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة ، ومثال علي ذلك ما وجدته عند تتبع بعض ما نقله ابن الصباغ في فصوله المهمة من روايات في فقائل أهل البيت عليهم‌السلام ومن كتب معروفة أمثال : مسند أبي داود الطيالسي وغيره ، تبين لي عند مراجعتي لها أنها غير موجودة!!

٤٢٧

وأخيرا وتجنبا لما لم يترك فيه علماؤنا الأبرار جانبا أو زاوية أو بابا إلا وطرقوه وأقاموا عليه الحجج البالغة والبراهين الثابتة ، أعرض عن الاسترسال في هذا المبحث المهم الذي حاولت أن أدور حوله ، إدراكا لجهدي المتواضع وعجزي عن الإحاطة بما لا تستغرقه المجلدات الضخمة ، ناهيك عن ذي الوريقات المحدودة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

إشارة

أعرضنا في مقدمتنا عن ترجمة صاحب الرسالة أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي ، واكتفينا بما سبق أن أورده زميلنا الفاضل الأخ علي موسى الكعبي على صفحات هذه المجلة العزاء في عددها التاسع عشر عند تحقيقه لرسالة «القول المبين عن وجوب مسح الرجلين» للمؤلف نفسه من ترجمة وافية مغنية.

كما أنا اعتمدنا في عملنا علي عين النسخ التي ذكرها في مقدمة رسالته المحققة لذا اقتضى التنبيه.

أسامة آل جعفر

٤٢٨

٤٢٩

٤٣٠

دليل النص بخبر الغدير على إمامة أمير المؤمنين صلوات الله عليه إعلم أنه مما يدل على أنه المنصوص بالإمامة عليه ما نقله الخاص والعام من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من حجة الوداع نزل بغدير خم (١) ـ ولم يكن منزلا ـ ثم أمر مناديه فنادى في الناس بالاجتماع ، فلما اجتمعوا خطبهم ثم قررهم على ما جعله الله تعالى له عليهم من فرض طاعته ، وتصرفهم بين أمره ونهيه بقوله : «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم»؟

فلما أجابوه بالاعتراف ، وأعلنوا بالاقرار رفع بيد أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال ـ عاطفا على التقرير الذي تقدم به الكلام ـ : «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وآل من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله» (٢).

__________________

(١) خم في اللغة : قفص الدجاج ، فإن كان منقولا من الفعل فيجوز أن يكون مما لم يسم فاعله من قولهم : خم الشئ إذا ترك في الخم ، وهو حبس الدجاج ، وخم إذا نطف ، كله عن الزهري.

قال السهلي عن ابن إسحاق : وخم بئر كلاب بن مرة ، من خممت البيت إذا كنسته ، ويقال : فلان مفهوم القلب أي نقيه ، فكأنها سميت بذلك لنقائها.

قال الزمخشري : خم اسم رجل صباغ أضيف إليه الغدير الذي هو بين مكة والمدينة بالجحفة ، وقيل : هو على ثلاثة أميال من الجحفة ، وذكر صاحب المشارق أن خمأ اسم غيضة هناك وبها غدير نسب إليها ، قال : وخم موضع تصب فيه عين بين الغدير والعين ، وبينهما مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال عرام : ودون الجحفة على ميل غدير خم وواديه يصب في البحر ، لا نبت فيه غير المرخ والثمام والأراك والعشر ، وغدير خم هذا من نحو مطلع الشمس لا يفارقه ماء المطر أبدا ، وبه أناس من خزاعة وكنانة غير كثير.

وقال الحازمي : خم واد بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير ، عنده خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال محمد بن إسحاق الفاكهي في كتاب «مكة» : بئر خم قريبة من الميثب حفرها مرة بن كعب بن لوي. أنظر : معجم البلدان ـ خم ـ ٢ : ٣٨٩.

(٢) الحديث مروي في معظم كتب الحديث وبطرق لا يمكننا حصرها هنا ، ولكن أنظر : أمالي الصدوق : ٤٦٠ ، إرشاد المفيد : ٩٤ ، خصائص الرضي : ٤٢ ، الشافي في الإمامة ٢ : ٢٥٨ ، الفصول المختارة : ٢٣٥ ، إعلام الورى : ٢٠٠ من طرق الخاصة ، ومن طرق العامة : سنن ابن ماجة ١ : ٤٣ / ١١٦ و ٤٥ / ١٢١ ، سنن الترمذي ٥. ٦٣٣ / ٣٧٦٣ ، خصائص الإمام علي عليه تم السلام للنسائي : ٩٦ / ٧٩ و ٩٩ / ٨٣ ، مسند أحمد ١ : ٨٤ و ٨٨ ، ٤ : ٣٦٨ و ٣٧٢ ، ٥ : ٣٦٦ و ٤١٩ ، تأريخ بغداد ٧ : ٣٧٧ و ٨ : ٢٩٠ و ١٢ : ٣٤٣ ، أسد الغابة ٢ : ٢٣٣ و ٣ : ٩٣ ، الإصابة ١ : ٣٠٤

٤٣١

فجعل لأمير المؤمنين عليه‌السلام من الولاء في أعناق الأمة مثل ما جعله الله له عليهم مما أخذ به إقرارهم ، لأن لفظة «مولى» تفيد ما تقدم من التقرير من ذكر الأولى ، فوجب أن يريد بكلامه الثاني ما قررهم عليه في الأول ، وأن يكون المعنى فيهما واحدا حسبما يقتضيه استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم.

وهذا يوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام أولى بهم من أنفسهم ، ولا يكون أولى بهم إلا وطاعته فرض عليهم وأمره ونهيه نافذ فيهم ، وهذه رتبة الإمام في الأنام قد وجبت بالنص لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

واعلم ـ أيدك الله ـ أنك تسأل في هذا الدليل عن أربعة مواضع :

أولها : أن يقال لك : ما حجتك على صحة الخبر في نفسه ، فإنا نرى من يبطله؟

وثانيها : أن يقال لك : ما الحجة على أن لفظة (مولى) تحتمل (أولى) وأنها أحد أقسامها؟

وثالثها : إذا ثبت أنها أحد محتملاتها ، فما الحجة على أن المراد بها في الخبر «الأولى» دون ما سوى ذلك من أقسامها؟

ورابعها : ما الحجة على أن «الأولى» هو الإمام ، ومن أين يستفاد ذلك في الكلام؟

الجواب عن السؤال الأول :

أما الحجة على صحة خبر الغدير ، فما يطالب بها إلا متعنت ، لظهوره وانتشاره ، وحصول العلم لكل من سمع الأخبار به ، ولا فرق بين من قال : ما الحجة على صحة خبر الغدير؟ ، وهذه حاله ، وبين من قال : من قال : ما الحجة على أن النبي صلى الله عليه وآله حج حجة الوداع؟ لأن ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.

__________________

مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩ و ٣ : ١١٠ و ١١٦ ، كفاية الطالب : ٦٤ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ٢ : ٥ / ٥٠١ ـ ٥٣١ ، الرياض النضرة ٢ : ١٧٥ ، مناقب الإمام علي عليه‌السلام للمغازلي : ١٦ ـ ٢٦ ، مصنف ابن أبي شيبة ١٢ : ٥٩ / ١٢١٢١ وغيرها كثير.

٤٣٢

وبعد :

فقد اختص هذا الخبر بما لم يشركه فيه سائر الأخبار ، فمن ذلك أن الشيعة نقلته وتواترت به ، وقد نقله أيضا أصحاب السير نقل المتواترين به يحمله خلف منهم عن سلف ، وضمنه جميعهم الكتب بغير إسناد معين ، كما فعلوا في إيراد الوقائع الظاهرة والحوادث الكائنة ، التي لا يحتاج في العلم بها إلى سماع الأسانيد المتصلة.

ألا ترى إلى وقعة بدر وحنين وحرب الجمل وصفين ، كيف لا يفتقر في العلم بصحة شئ من ذلك إلى سماع إسناد ولا اعتبار أسماء الرجال ، لظهوره المغني ، وانتشاره الكافي ، ونقل الناس له قرنا بعد قرون بغير إسناد معين ، حتى عمت المعرفة به ، واشترك الكل في ذكره.

وقد جرى خبر يوم الغدير هذا المجرى ، واختلط في الذكر والنقل بما وصفنا ، فلا حجة في صحته أوضح من هذا.

ومن ذلك إنه قد ورد أيضا بالأسانيد المتصلة ، ورواه أصحاب الحديثين من الخاصة والعامة من طرق في الروايات كثيرة ، فقد اجتمع فيه الحالان ، وحصل له السببان (٣).

ومن ذلك أن كافة العلماء قد نقلوه بالقبول ، وتناولوه بالتسليم ، فمن شيعي يحتج به في صحة النص بالإمامة ، ومن ناصبي يتأوله (٤) ويجعله دليلا على فضيلة ومنزلة جليلة ، ولم ير للمخالفين قولا مجردا في إبطاله ، ولا وجدناهم قبل تأويله قد قدموا كلاما في دفعه وإنكاره ، فيكون جاريا مجرى تأويل أخباره المشبهة ورواياتها بعد الإبانة عن بطلانها وفسادها ، بل ابتدأوا بتأويله ابتداء من لا يجد حيلة في دفعه ، وتوفره على تخريج الوجوه له توفر من قد لزمه الإقرار به ، وقد كان إنكاره أروح لهم لو قدروا عليه ، وجحده أسهل عليهم لو وجدوا سبيلا إليه.

__________________

(٣) في نسخة ف : البيان.

(٤) في نسخة ه : يتناوله.

٤٣٣

فأما ما يحكى عن (ابن) (٥) أبي داود السجستاني (٦) من إنكاره له ، وعن الجاحظ (٧) من طعنه في كتاب العثمانية (٨) فيه ، فليس بقادح في الإجماع الحاصل على صحته ، لأن القول الشاذ لو أثر في الإجماع ، وكذلك الرأي المستحدث لو أبطل مقدم الاتفاق ، لم يصح الاحتجاج بإجماع ولا ثبت التعويل على اتفاق ، على أن السجستاني

__________________

(٥) لم ترد في نسخنا ، ولعله اشتباه وقع فيه النساخ.

(٦) عبد الله بن سليمان الأشعث السجستاني ، ويكني بأبي بكر ، ولد بسجستان في سنة ثلاثين ومائتين ، أبوه صاحب السنن المعروف ، أخذ عن أبيه ، وطاف معه كثير من البلدان ، وحضر دروس العديد من شيوخ أبيه حتى اعتبروه من كبار الحفاظ ، إلا أنة يؤخذ عليه تجرئه علي الحديث حيث نقل عن الذهبي (ت ٧٤٨ ه) في سير أعلام النبلاء ١٣ : ٢٢٢ / ١١٨ : «قال عبد الرحمن السلمي : سألت الدارقطني عن ابن أبي داود فقال : ثقة «كثير الخطأ في الكلام على الحديث» وكذا نقل مثله في تذكرة الحفاظ ٢ : ٧٧١.

بل طعن فيه ابن عدي (٢٧٧ ـ ٣٦٥ ه) في الكامل في ضعفاء الرجال ٤ : ١٥٧٧ حيث قال : «سمعت علي ابن عبد الله الداهري يقول : سمعت أحمد بن محمد بن عمرو بن عيسى كركر يقول : (سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول : سمعت أبا داود السجستاني يقول : ابني عبد الله هذا كذاب).

وكان ابن صاعد يقول : «كفانا ما قال أبوه فيه.

سمعت عبد الله بن محمد البغوي يقول له ـ وقد كتب إليه ابن أبي داود رقعة يسأله عن لفظ حديث لجده لما قرأ رقعته ـ : أنت والله عندي منسلخ من العلم.

سمعت عبدان يقول : سمعت أبا داود السجستاني يقول : ومن البلاء أن عبد الله يطلب القضاء إنتهى.

(٧) أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي ، له تصانيف كثيره ، أخذ عن النظام ، روى عن أبي يوسف القاضي ، وثمامة بن أشرس ، وروى عنه أبو العيناء ، ويموت بن المزرع.

خبيث مطعون فيه ، لا يؤخذ بأقواله ولا يعتد بآرائه ، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال ٣ : ٢٤٧ / ٦٣٣٣ ، وفي سير أعلام النبلاء ١١ : ٥٢٦ / ٥٢٦ : ١٤٩ : «قال ثعلب : ليس بثقة ولا مأمون.

قلت : وكان من أئمة البدع.

وعن الجاحظ : نسيت كنيتي ثلاثة أيام ، حتى عرفني أهلي!!

قلت : كان ماجنا قليل الدين ... يظهر من شمائله أنه يختلف) إنتهى.

وقال الحافظ ابن كثير (ت ٧٧٤ ه) في البداية والنهاية ١١ : ١٩ : «وفي سنة خمس وخمسين ومائتين توفي الجاحظ المتكلم المعتزلي ، وإليه تنسب الفرقة الجاحظية لجحوظ عينيه ، كان شنيع المنظر سيئ المخبر ، ردئ الاعتقاد ، ينسب إلى البدع والضلالات ، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال «حتى قيل في المثل : يا ويح من كفره الجاحظ» انتهي.

(٨) رسالة من رسائل الجاحظ طرح فيها جملة من الآراء والمعتقدات الشاذة ، نقضها أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي (ت ٢٤٠ ه) وهو من أكابر علماء المعتزلة ومتكلميهم حيث يندر أن تخلو كتبهم من آرائه ، ويقال : إنه

٤٣٤

قد تنصل من نفي الخبر (٩).

فأما الجاحظ ، فطريقته المشتهرة في تصنيفاته المختلفة ، وأقواله المتضادة المتناقضة ، وتأليفاته القبيحة في اللعب والخلاعة ، وأنواع السخف والمجانة ، الذي لا يرتضيه لنفسه ذو عقل وديانة ، يمنع من الالتفات إلى ما يحكيه ، ويوجب التهمة له فيما ينفرد به ويأتيه.

وأما الخوارج الذين هم أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين عليه‌السلام فليس يحكي عنهم صادق دفعا للخبر (١٠) ، والظاهر من حالهم حملهم له على وجه من التفضيل ، ولم يزل القوم يقرون لأمير المؤمنين عليه‌السلام بالفضائل ، ويسلمون له المناقب ، وقد كانوا أنصاره وبعض أعوانه ، وإنما دخلت الشبهة عليهم بعد الحكمين ، فزعموا أنه خرج عن جميع ما كان يستحقه من الفضائل بالتحكيم ، وقد قال شاعرهم :

كان علي قبل تحكيمه

جلدة بين العين والحاجب

ولو لم يكن الخبر كالشمس وضوحا لم يحتج به أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الشورى ، حيث قال للقوم في ذلك المقام : «أنشدكم الله هل فيكم أحد أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده فقال : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، غيري؟».

__________________

صنف سبعين كتابا في الكلام منها : «المقامات في مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام» و (نقض العثمانية).

وقد نقل ابن أبي الحديد المعتزلي جوانب متعددة من هذه الرسالة ونقضها.

أنظر : شرح نهج البلاغة ٧ : ٣٦ ، ١٣ : ٢١٥ ـ ٢٩٤ ، ١٦ : ٢٦٤.

(٩) قيل : إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر ، وإنما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدما ، وقد حكى عنه تنصله من ذلك والتبري مما قذفه به وحمد بن جرير الطبري.

أنظر : الشافي في الإمامة ٢ : ٢٦٤.

(١٠) قال السيد المرتضى ـ رفع الله في الخلد مقامه ـ : «أما الخوارج فما يقدر أحد علي أن يحكي عنهم دفعا لهذا الخبر ، أو امتناعا من قبوله ، وهذه كتبهم ومقالاتهم موجودة معروفة ، وهي خالية مما ادعى ، والظاهر من أمرهم حملهم الخبر على التفضيل وما جرئ مجراه من ضروب تأويل مخالفي الشيعة ، وإنما أنس بعض الجهلة بهذه الدعوى على الخوارج ما ظهر منهم فيما بعد من القول الخبيث في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فظن أن رجوعهم عن ولايته

٤٣٥

قالوا : اللهم لا ، فأقر القوم به ولم ينكروه ، واعترفوا بصحته ولم يجحدوه (١١).

فإن قال قائل : فما باله لم يذكر في حال احتجاجه به تقرير رسول الله صلى الله عليه وآله للناس على أنه أولى بهم منهم بأنفسهم؟ ولم اقتصر على ما ذكر ، وهو لا ينفع في الاستدلال عندكم ما لم يثبت التقرير المتقدم؟؟

وما جوابكم لمن قال : إن المقدمة لم تصح ، وليس لها أصل ، وتد سمعنا هذا الخبر ورد في بعض الروايات وهو عار منها ، فما قولكم فيها؟؟

قيل له : إن خلو إنشاد أمير المؤمنين عليه‌السلام من ذكر المقدمة لا يدل على نفيها أو الشك في صحتها ، لأنه قررهم من بعض الخبر على ما يقتضي الإقرار ، بجميعه ، اختصارا في كلامه ، وغنى بمعرفتهم بالحال عن إيراده على كماله ، وهذه عادة الناس فيما يقررون به.

وقد قررهم عليه‌السلام في ذلك المقام بخبر الطائر (١٢) فقال : «أفيكم رجل قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم أبعث إلي بأحب خلقك إليك يأكل معي ، غيري؟» ولم يذكر هذا الطائر.

وكذلك لما قررهم بقول النبي عليه‌السلام فيه يوم ندبه لفتح خيبر وذكر لهم بعض الكلام دون جميعه اتكالا منه على ظهوره بينهم واشتهاره (١٣).

__________________

يقتضي أن يكونوا جاحدين لفضائله ومناقبه).

أنظر : الشاني في الإمامة ٢ : ٢٦٤.

(١١) أنظر المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٢٢٢ ، وشرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد المعتزلي ـ ٦ : ١٦٧ ، ومناقب الإمام علي عليه‌السلام ـ للمغازلي ـ : ١١٢ / ١٥٥.

(١٢) حديث الطائر وقصته من الشهرة والتصديق بشكل لا يخفى ، وقد نقلته كثير من مصادر الحديث بأسانيد وطرق مختلفة ، وفي كلها إقرار بأفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام دون غيره من الصحابة.

أنظر : سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧٢١ ، تأريخ بغداد ٣ : ١٧١ و ٩ : ٣٦٩ ، حلية الأولياء ٦ : ٣٣٩ ، الرياض النضرة ٣ : ١١٤ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٠ ، المناقب ـ للمغازلي ـ : ١٥٦ ـ ١٧٤ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ٢ : ١٠٥ ـ ١٥١ ، تذكرة الخواص : ٤٤.

(١٣) هذه المناشدتان بحديث الطير ويوم ندبه عليه‌السلام لفتح خيبر وردت في سلسلة من مناشداته لأصحاب الشورى بعد إصابة عمر بن الخطاب وطرحه جملة من الأصحاب قبالة أمير المؤمنين عليه‌السلام بما يسمى بأصحاب الشورى.

أنظر : مناقب الإمام علي ـ للمغازلي ـ : ١١٢ / ١٥٥ المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٢٢٢ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد المعتزلي ـ ٦ : ١٦٧.

٤٣٦

فأما المتواترون بالخبر فلم يوردوه إلا على كماله ، ولا سطروه في كتبهم إلا بالتقرير الذي في أوله ، وكذلك رواه معظم أصحاب الحديث الذاكرين الأسانيد ، وإن كان منهم آحاد قد أغفلوا ذكر المقدمة ، فيحتمل أن يكون ذلك تعويلا منهم على العلم بالخبر ، فذكروا بعضه لأنه عندهم مشتهر ، فإن أصحاب (١٤) الحديث كثيرا ما يقولون : فلان يروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خبر كذا ، ويذكرون بعض لفظ الخبر اختصار.

وفي الجملة : فالآحاد المتفردون بنقل بعضه لا يعارض بهم المتواترين الناقلين لجميعه على كماله.

الجواب عن السؤال الثاني :

وأما الحجة على أن لفظة «مولى» تحتمل «أولى» وأنها أحد أقسامها ، فليس يطالب بها أيضا منصف كان له أدنى الاطلاع في اللغة ، وبعض الاختلاط بأهلها ، لأن ذلك مستفيض بينهم ، غير مختلف فيه عندهم ، وجميعهم يطلقون القول فيمن كان أولى بشئ أنه مولاه.

وأنا أوضح لك أقسام «مولى» في اللسان لتعلمها على بيان.

إعلم أن لفظة «مولى» في اللغة تحتمل عشرة أقسام :

أولها : «الأولى» ، وهو الأصل الذي ترجع إليه جميع الأقسام ، قال الله تعالى : (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير) (١٥).

__________________

(١٤) في نسخة «ف» الأصحاب.

(١٥) الحديد ٥٧ : ١٥.

٤٣٧

يريد سبحانه هي أولى بكم على ما جاء في التفسير (١٦) وذكره أهل اللغة (١٧).

وقد فسره على هذا الوجه أبو عبيدة معمر بن المثنى (١٨) في كتابه المعروف بالمجاز في الله القرآن (١٩) ، منزلته في العلم بالعربية معروفة ، وقد استشهد على صحة تأويله ببيت لبيد (٢٠).

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وإمامها (٢١)

يريد أولى المخافة ، ولم ينكر على أبي عبيدة أحد من أهل اللغة.

وثانيها : مالك الرق ، قال الله سبحانه : (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر

__________________

(١٦) تفسير الطبري ٢٧ : ١٣١ ، الكشاف ٤ : ٦٤ ، زاد المسير ٨ : ١٦٧ ، التفسير الكبير للرازي ـ ٢٩ : ٢٢٧.

(١٧) معاني القرآن ـ للفراء ـ ٣ : ١٣٤ ، معاني القرآن ـ للزجاج ـ ٥ : ، ١٢٥ ، الصحاح ـ ولي ـ ٦ : ٢٥٢٨.

(١٨) معمر بن المثنى التيمي " تيم قريش ، أو تيم بني مرة على خلاف بينهم ، وهو علي القولين معا مولى لتيم ، وقد اختلفوا في مولده ، ولعل الأقرب إلى الصحة أنه ولد سنة ١١٠ ه ، ولم تذكر المراجع أين ولد ، إلا أنها تصفه في عداد علماء البصرة ، ارتحل إلى بغداد سنة ثمانية وثمانين ومائة حيث جالس الفضل بن الربيع وجعفر ابن يحيى وسمعا منه ، وتكاد تتفق كلمات أصحاب المراجع على أنه كان من الخوارج ، وأنه كان يكتم ذلك ولا يعلنه ، ولكن يبدو أنهم اختلفوا في الفرقة التي ينتمي إليها ، فمنهم من يقول : إنه كان صفريا ، في حين يذهب الآخرون إلى أنه كان من الأباظية.

عاصر من علماء اللغة : الأصمعي وأبا زيد ، وله معهم مناظرات متعددة ، كان يرجحه الباحثون في كثير منها عليهما.

توفي نحو سنة ٢١٠ ه ، وقيل : لم يحضر جنازته أحد لأنه كان شديد النقد لمعاصريه.

أنظر : فهرست النديم : ٥٩ ، تأريخ بغداد ١٣ : ٢٥٤.

(١٩) مجاز القرآن ٢ : ٢٥٤.

(٢٠) لبيد بن ربيعة العامري ، من شعراء المعلقات ، أدرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسلم وحسن إسلامه ، يصفه المؤرخون بأنه ذو مروة وكرم مشهود ، عاش بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى زمن عثمان بن عفان ، يقال : إن عمر بن الخطاب كتب إلى واليه في الكوفة المغيرة أن يستنشد من بالكوفة من الشعراء بعض ما قالوه في الإسلام ، فلما سأل لبيدا قال له. إن شئت من أشعار الجاهلية ، فتال : لا ، فذهب فكتب سوره البقرة في صحيفة وقال : أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر.

أنظر : ديوان لبيد بن ربيعة العامري.

(٢١) من معلقته التي يقال إنه أنشدها النابغة فقال له : اذهب فأنت أشعر العرب ، ومطلعها :

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأبد غولها فرجامها

أنظر : ديوان لبيد بن ربيعة العامري : ٥١.

٤٣٨

علي شئ) (إلى قوله تعالى) (وهو كل علي مولاه) (٢٢).

يريد مالكه ، واشتهار هذا القسم يغني عن الإطالة فيه.

وثالثها : المعتق (٢٣).

ورابعها : المعتق (٢٤) ، وذلك أيضا مشهور معلوم.

وخامسها : ابن العم (٢٥) قال الشاعر (٢٦) : مهلا بني عمنا مهلا موالينا (لا تنشرا بيننا) (٢٧) ما كان مدفونا (٢٨)

وسادسها : الناصر ، قال الله عزوجل (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) (٢٩) يريد لا ناصر لهم (٢٠).

وسابعها : المتولي لضمان الجريرة ومن يحوز الميراث (٣١).

قال الله عزوجل : (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان علي كل شئ شهيدا) (٣٢).

__________________

(٢٢) النحل ١٦ : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢٣) أحكام القرآن ـ للقرطبي ـ ٥ : ١٦٦ الصحاح ـ ولي ـ ٦ : ٢٥٢٩ ، وفي الحديث : نهي عن بيع الولاء وعن هبته.

(٢٤) أحكام القرآن ـ للقرطبي ـ ٥ : ١٦٦ ، الصحاح ـ ولي ـ ٦ : ٢٥٢٩.

(٢٥) مجاز القرآن ١ : ١٢٥ ، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ ٢ : ١٨٤ ، تفسير الطبري ٥ : ٣٢.

(٢٦) هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب ، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وكان أحد شعراء بني هاشم المذكورين وفصحائهم ، وكان شديد الآدمة ، ولذلك قال : وأنا الأخضر من يعرفني ، كان معاصرا للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، وله أشعار متناثرة في بطون الكتب.

أنظر : الأغاني ـ لأبي الفرج ـ ١٦ : ١٧٥.

(٢٧) في نسخة «ف» : لا تنشروا ببننا ، وفي المصادر : لا تظهرن لنا.

(٢٨) أنظر : مجاز القرآن ١ : ١٢٥ ، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ ٢ : ١٨٤ ، تفسير الطبري ، ٥ : ٣٢.

(٢٩) محمد (ص) ٤٧ : ١١.

(٣٠) تفسير الطبري ٢٥ : ٣٠ ، زاد المسير ٧ : ٤٠٠ ، التفسير الكبير ـ للرازي ـ ٢٨ : ٥٠ ، أحكام القرآن ـ للقرطبي ـ ٥ : ١٦٦.

(٣١) في نسخة «ه» : الميزان.

(٣٢) النساء ٤ : ٣٣.

٤٣٩

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالموالي ها هنا من كان أملك بالميراث ، وأولى

بحيازته (٣٣).

قال الأخطل :

فأصبحت مولاها من الناس بعده

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا (٣٤)

وثامنها : الحليف (٣٥).

وتاسعها : الجار (٣٦).

وهذان القسمان أيضا معروفان.

__________________

(٣٣) معاني القرآن ـ للزجاج ـ ٢ : ٤٦ ، تفسير الطبري ٥ : ٣٢ ، مجاز القرآن ١ : ١٢٤ ، تفسير الرازي ١٠ : ٨٤ ، أحكام القرآن ـ للقرطبي ـ ٥ : ١٦٧ ، تفسير ابن جزي : ١١٨ ، زاد المسير ٢ : ٧١.

(٣٤) من قصيدة له في مدح عبد الملك بن مروان الأموي ، يقول فيها :

فما وجدت فيها قريش لأمرها

أعف وأولى من أبيك وأمجدا!!

وأورى بزندية ولو كان غيره

غداة اختلاف الناس ألوى وأصلدا!!

والأخطل هو : غياث بن غوث بن الصلت بن الطارقة ، ويقال :. ابن سيحان بن عمرو بن الفدوكس بن عمرو بن تغلب ، ويكني أبا مالك ، والأخطل لقب غلب عليه ، ذكر أن السبب فيه أنه هجا رجلا من قومه ، فقال له : يا غلام إنك لأخطل ، وقيل : إن عتبة بن الزغل حمل حمالة فأتى قومه يسأل فيها ، فجعل الأخطل يتكلم وهو يومئذ غلام ، فقال عتبة : من هذا الغلام الأخطل ، فلقب به ، وقيل غير ذلك.

كان نصرانيا من أهل الجزيرة برع في الشعر حتى عدوه هو وجرير والفرزدق طبقة واحدة ، وهو كما يعدونه من شعراء بني أمية.

أنظر : الأغاني ٨ : ٢٨٠.

(٣٥) قال النابغة الجعدي :

موالي حلف لا موالي قرابة

ولكن قطينا يسألون الأتاويا

يقول : هم حلفاء لا أبناء عم.

وقول الفرزدق :

فلو كان عبد الله مولى هجوته

ولكن عبد الله مولي مواليا

لأن عبد الله بن أبي إسحاق مولى الحضرميين ، وهم حلفاء بني عبد شمسي بن عبد مناف ، والحليف عند العرب مولى.

أنظر : الصحاح ـ ولي ـ ٦ : ٢٥٢٩.

(٣٦) الصحاح ٦ : ٢٥٢٩.

٤٤٠