الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

اليوم ، وعسى علي أن يستعين بالميراث والنحلة وسهم ذوي القربى ، فتتجمع حوله الأنصار وذوو المأرب ، أو أنه ينفق ذلك بآراء معارضة ما ، أو مقاومة ما.

فما على أبي بكر إذن إلا أن يكفأ هذا الإناء بما فيه ، ويغلق هذه المقالة من منافذها ، رضيت الزهراء أم غضبت ، شاء المسلمون أم أبوا ، أذن علي أم اعترض ، فالسلطان فوق هذا كله ، فلا تردد ولا هوادة ، وهكذا كان.

هذا المال الطائل العريض من النحلة ، وهذا الحق المفروض من السماء ، وهذا الشيء اليسير من الإرث ، لا حظ لفاطمة منه. فقد عاد أثراً بعد عين ، ورسماً بعد وجود ، وتأريخاً مختلطاً قد يصدق وقد يكذب. وهذه القيادة لعلي يافعاً وشاباً ومكتملاً في تثبيت الإسلام وإعلاء كلمته وتأسيس قواعده وأركانه ، عفّى عليها الدهر ، وجرى بها الحدثان ، فلا يذكره متنفس ، ولا يلهج باسمه متحدث ، فهو من فتيان هذه الأمة ، وهو من شباب الإسلام ، ولا مكان له بين شيوخ قريش.

فالمصيبة ـ إذن ـ مشتركة بين الاثنين ، جردّت الزهراء من حقوقها المالية ، وجرّد علي من شؤونه السياسية ، فعادا فرسي رهان في الشكوى ، ورضيعي لبان في المأساة ، ومع هذا فما اتخذ الأثنان موقف المسالم ، ولا مالا الى الهدوء والاطمئنان ، وإنما ركبا الطريق الى المجاهدة ، وسلكا محجة العمل الواضح ، فعليٌّ لم يبايع أبا بكر طيلة حياة الزهراء يناظر ويجادل ويستقل ، والزهراء تحتج بأبلغ صنوف الاحتجاج ، تستعدي المسلمين تارة ، وتخترق مجتمعهم العائلي فتألب نساءهم تارة أخرى ، وتتناول القيادة بالشكوى والصراع والمجابهة أحياناً.

١٢١

ومن البديهي عقليا أن الزهراء كانت محقّة فيما أثارت من إنكار ، ومحقة أيضا فيما أظهرت من ظلامة ، ومحقة كذلك فيما طالبت فيه من حقوق ، وذلك لأمرين مهمين :

الأول : ما عرفت به الزهراء من قداسة وتورّع في ذات الله ، فهي أبر وأوفى من أن تدعّي ما ليس لها من الحقوق ، ولم تكن لتخالف أباها فيما جاء به من سنن وفروض ، ولم تكن متظلمة باطلاً ، ولا معارضة جزافاً واعتسافاً ، فهي أورع من هذا كله ، وهي أزهد بحطام الدنيا مما يظن ، قلّ ذلك الحطام أو كثر.

الثاني : لو كان هناك أدنى شبهة فيما عرضت ، لكان علي وهو أعلم الناس ـ بالقرآن والسنة ـ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفقههم وأفضلهم ، لكان قد أبان لها وجهة النظر الشرعية وحكم السماء في دعواها ، ولكنه كان على العكس من ذلك فقد ساندها وأيدّها وأظهر صدق ما جاءت به ، فعلم بالضرورة صحة ما طرحت ، وصدق ما أدعت.

والمتتبع لسيرة الزهراء عليها‌السلام منذ أن ترعرعت يجدها سيرة نضرة متكاملة ، أضفى عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برداً من الخلق المحمدي ، وأدّبها بأدبه العظيم ، وبصّرها بأمور الدنيا والدين ، فهي بضعة منه ، وقطعة من كبده ، وشجنة من جسده ، بل هي صورة من صوره الرائعة ، غذّاها بالحكمة ، وأصطفاها بالمنزلة ، يرضيه ما يرضيها ، ويغضبه ما يغضبها ، وذلك مضامين أحاديث نبوية شريف ، ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليوارب في دينه ، ولم يكن لينساق بعاطفة الأبوة ، فما ينطق عن هوى ، ولا يصرّح عن عصبية ، وإنما يضع الأمور في نصابها ، ويتحدث في حدود الشرع ، وهو أحق من أتبع ، وأصدق من نطق ،

١٢٢

وكذلك كانت ابنته منزهة عن الزلل ، وبعيدة عن الزيغ ، تقول صدقاً وتنطق حقاً.

قال ابن أبي الحديد : « سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد ؛ فقلت له : أكانت فاطمة صادقة؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكاً وهي عنده صادقة؟ ، فتبسم وقال : لو أعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً ، وأدّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يمكنه الإعتذار والمدافعة بشيء لأنه يكون قد أسجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ».

وهنا يكمن جوهر القضية فيما يبدو ، فأراد أبو بكر إغلاق هذا الباب الواسع فأخترع « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » فهجرته فاطمة حينئذٍ ، ولم تكلمه حتى ماتت بإجماع المؤرخين إلا لماماً عند مرض الموت فيما سنعرفه فيما بعد.

حقاً لقد أعذرت الزهراء عليها‌السلام فيما حاججت به أبا بكر ، لقد جعلته يغصّ بريقه ، ويتعثر بمعاذيره ، ولفتت إليها النظر العام في ظلامتها ، إذ اقتحمت عليه مسجد رسول الله في تمام الأهبة ، فاحتجت وحرّضت واستصرخت وأبلت بلاءً حسناً ، إحقاقاً للحق ، وإرضاءً للضمير ، وصونا لمعالم الدين من الإنحراف ، وإلا فهي أعلا جانباً ، وأكرم محتداً ، وأطيب نفساً ، من أن تجنح للكلام جدلاً.

قال أغلب المؤرخين عن عائشة أم المؤمنين وعن سواها من نساء المسلمين : لما سمعت فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدكاً والأرث وسهم ذوي القربى ، لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم من مشية

١٢٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا فدخلت عليه وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة فجلست ، ثم أنت أنةً أجهش لها القوم بالبكاء فارتجّ المجلس ، ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسوله أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعاد القوم في بكائهم ، فلما أمسكوا عادت في كلامها وقالت :

« الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام نعم والاها ، جم عن الأحصاء عددها ، وتأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها ، واستحمد الى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في التفكر معقولها ؛ الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيته ، إبتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة إمتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها بمشيئته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته ، وتعبّدا لبريته ، وإعزازاً لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشاً لهم إلى جنته ؛ وأشهد أن أبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله ، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علماً من الله بمآل الأمور ، وإحاطةً بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع المقدور ، ابتعثه الله تعالى إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير حتمه ، فرأى

١٢٤

الإمم فرقاً في أديانها ، عكفاً على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله تعالى بأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم الى الصراط المستقيم ، ثم قبضه إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار ، فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تعب هذه الدار في راحة قد حفّ بالملائكة والأبرار ، ورضوان الرب الغفّار ، ومجاورة الملك الجبار صلى الله على أبي نبيه ، وأمينه على وحيه وصفيه ، وخيرته من الخلق ورضيه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ».

ثم التفتت الزهراء عليها‌السلام إلى أهل المجلس وقالت :

أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الأمم ، وزعيم حق له فيكم ، وعهد قدّمه إليكم ، وبقية إستخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره ، منكشفة سرائره ، متجلية ظواهره ، مغتبط به أشياعه ، قائد إلى رضوان الله اتباعه ، مؤد إلى النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه المخدرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة ، فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ، ونماءً للرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والحج تشييداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملة ، وإمامتنا أماناً من الفرقة ، والجهاد عزاً للإسلام ، وذلاً لأهل الكفر والنفاق ، والصبر معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامة ، وبر

١٢٥

الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأة في العمر ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، وترك السرقة إيجاباً للعفة ، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (١) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فـ ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (٢).

ايها الناس : اعلموا اني فاطمة ، وأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أقول عدواً وبدءاً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً ، ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٣) فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزي إليه ، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثبجهم ، آخذاً بكظهم ، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسّر الأصنام ، وينكث الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، وحتى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وأنحلّت عقدة الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص ، في نفر من البيض الخماص ، وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القِدّ ، أذلة خاشئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٢.

(٢) سورة فاطر ، الآية : ٢٨.

(٣) سورة التوبة ، الآيه ١٢٨.

١٢٦

وتعالى بابي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ييهم الرجال وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ) (١) أو نجم قرن للشياطين ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمرالله ، قريباً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً كادحاً ، وأنتم في بدهنية من العيش ، وادعون فاكهون امنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال ، فلمّا اختيار الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دار انبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثم استهظكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضباباً ، فوسمتم غير بلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، إبتداراً زعمتم خوف الفتنة.

( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (٢)

فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنى توفكون ، وهذا كتاب الله بين أظهركم : أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، واعلامه باهرة، وزواجره لائحة ، واوامره واضحة ، قد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تدبرون ، أم بغيره تحكمون ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) (٣) ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٤.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٤٩.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٥٠.

١٢٧

الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (١) لم تلبثوا إلا ريثما تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ ، وإطفاء نور الدين الجليّ ، وإهماد سنن النبيّ الصفيّ ، وتسرون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله في الخمر والضراء ، ونصبرمنكم على مثل حزّالمدى ، ووخز السنان في الحشا ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي.

( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢)

أفلا تعملون بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته.

ويهاً أيها المسلمون أأغلب على إرثي ، يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فرياً ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) وقال فيما اقتص من خبر يحيي بن زكريا عليه‌السلام ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٤) وقال : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) (٥).

ايها بني قيلة ـ تريد الانصار ـ أأهضم تراث أبي ، وانتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع ، تلبكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجنّة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٨٥.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٥٠.

(٣) سورة النمل ، الآية : ١٦.

(٤) سورة مريم ، الآيةان : ٥ ،٦.

(٥) سورة الأنفال ، ألآية : ٧٥.

١٢٨

بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي أختيرت لنا أهل البيت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الاُم ، وكافحتم البهم ، فلا نبرح وتبرحون ، نأمركم فتأمرون حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام ، وخضعت نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوت الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حرتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ، بؤساً لقوم ( نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ) (١) ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض ، وركنتم إلى الدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ووسعتهم الذي تسوغتم فـ ( إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (٢) ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتهاقلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، وبثة الصدر ، ونفثة الغيظ ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٣) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ( اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ) (٤).

فاجابها ابو بكر بقوله : « يا ابنة رسول الله لقد كان ابوك بالمؤمنين

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١٣.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٨.

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٧.

(٤) سورة هود ، الآية : ١٢١ ،١٢٢.

١٢٩

عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخاً إلفك دون ألاخلّاء ، آثره على كل حميم ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يحبكم إلّا كلّ سعيد ، ولايبغضكم إلّا كلّ شقي ، فأنتم عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخيرأدلتنا ، وإلى الجنة مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ، ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث الكتاب والحكمة ، والعلم والنبوة ، وما لنا من طعمة فلوليِّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمة ». وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ، ويجاهدون الكفار ، ويجادلون المردة الفجار ، وذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي ، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك ، وبين يديك ، لا تزوى عنك ، ولا تدّخر دونك ، وأنت سيدة اُمة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع مالك من فضلك ، ولا يوضع من فرعك وأصلك ، وحكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أني أخالف في ذلك أباك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

فقالت الزهراء عليها‌السلام :

« سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتاب الله صادفاً ، ولا لاحكامه مخالفاً ، بل كان يتبع أثره ، ويقتفي سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل

١٣٠

في حياته ، هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاُ فضلاً ، يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (١) ويقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (٢) فبين عزّ وجلّ فيما وزع من الاقساط ، وشرع من الفرلئض والميراث ، وأباح من حظ الذكران والاناث ، ما أزاح علة المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغارين ، كلا ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (٣)

وقال : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (٤)

وقال: : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٥) وزعمتم أن لا خطوة لي ، ولا إراث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصكم الله باية أخرج منها ابي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان ، أولست أنا وابي من أهل ملة واحدة ، أم أنتم أعلم بخصوص القران وعمومه من ابي وابن عمي ، فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيمامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذا تندمون ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (٦) ( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (٧).

ثم رنت بطرفها نحو الانصار وقالت :

يا معشر الفتية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الاسلام ، ماهذه الغيميزة

__________________

(١) سورة مريم ، الايه : ٦.

(٢) سورة النمل ، الاية : ١٦.

(٣) سورة يوسف ، الاية :١٨.

(٤) سورة النساء ، الاية : ١١.

(٥) سورة البقرة ، الاية : ١٨٠.

(٦) سورة الانعام ، الاية : ٦٧.

(٧) سورة الزمر ، الاية : ٤٠.

١٣١

في حقي ، والسنة عن ظلامتي ، أما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابي يقول : « المرء يحفظ في ولده » سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوة على ما أطلب وأزاول ، ، اتقولون مات محمد فخطب جليل ، أستوسع وهنه ، وأستنهر فتقة ، واتفتق رتقه ، واظلمت الارض لغيبته ، واكتابت خيرة الله لمصيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت الامال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأريلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، التي لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناوه في أفيتكم فى ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً وتلاوة ، ولقبله ما حلت بانبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (١)

فقال ابو بكر : « صدق الله وصدق رسوله ، وصدقت ابنته ، أنت معدنع الحمكة ، ومطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هولاء المسلمون بيني وبينك ، قلدّوني ما تقلدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبد ولا مستاثر ، وهم بذلك شهود ».

فالتفتت فاطمه عليها‌السلام إلى الناس وقالت :

« معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفصل القبيح الخاسر ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (٢) كللابل ران على قلوبكم ما أساتم من أعمالكم ، فاخذ بسمعكم وأبصاركم ،

__________________

(١) سورة ال عمران ، الاية :١٤٤.

(٢) سورة محمد ، الاية : ٢٤.

١٣٢

لبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه إعتضتم ، لتجدّن والله محمله ثقيلاً ، وغبّه وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراء الضراء ، وبدا لكم ما لم تكنوا تحتسبون ، وخسر هناك المبطلون )).

ثم عطفت الزهراء على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنشدّت :

قد كان بعد انباء وهنبثة

لوكنت شاهدها لم تكثر الحطب

إنا فقدناك فقد الارض وابلها

واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

قال صاحب بلاغات النساء : فما رأينا يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم.

قال السيد المرتضى علم الهدى ( ت : ٤٣٦ هـ ) والشيخ الاكبر أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى ( ت :٤٦٠ هـ ) ثم انكفأت وأمير المومنين يتوقع رجوعها إليه ، ويتطلع طلوعها عليه ، فلما استقرت بها الدار عتبت على أمير المومنين بكلام شجّي قالت في آخره :

« ما كففت قائلا ، ولا أغنيت طائلا ... ويلاي في كل شارق ، ويلاي في كل غارب ، مات العمد ، ووهت العضد ، شكواي إلى أبى ، وعدواي إلى ربي ».

فقال لها أمير المومنين عليه‌السلام : « لا ويل لك ، بل الويل لشانئك ، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطات مقدوري ، فان كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون ، وكفيلك مامون ، وما اعد لك أفضل مما قطع عنك فاحتسبي ».

فقالت الزهراء عليها‌السلام : حسبي الله ، وأمسكت.

١٣٣

(٣)

شكوى الزهراء وخطبها يشقّان عنان السماء

شقّت شكاية الزهراء عليها‌السلام عنان السماء ، وبلغت تخوم الارض ، فتزلزت ضمائر الناس ، وتنهدت قلوب المومنين ، والزهراء غضبى فى منزلها ، تنتابها العلل ، وتفترسها الآلام ، وتلح عليها الامراض ، وشاع بين المهاجرين والانصار غضبها واعرضها عن القوم ، وقد أظهرت هذا المعنى لنسائهم ، فنقلن كل مها ، وما تفوهت به الى الرجال ، منكرة تقاعسهم عن نصرتها ، وقعودهم عن نجدتها فقد روى ابو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن رجاله عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين بن على عليهما‌السلام ، وكذلك ابن ابي الحديد ، ذلك في « السقيفة » وهذا في « شرح النهج » وسواهما من المؤرخين قالوا :

لما مرضت الزهراء عليها‌السلام المرض الذي توفيت فيه ، واشتدت عليها ، اجتمعت اليها نساء المهاجرين والانصار ليعدنها ، فلسمن عليها وقلن لها : كيف اصحبت من علتك يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمدت الزهراء الله تعالى ، وصلت على ابيها ، ثم قالت : « أصحبت والله عائفة لدنياكن ، قاليةً لرجالكن ، لفظتهم بعد أن عجمتهم ، وشناتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لغلول الحد واللعب بعد الجد ، وقرع الصفاة ، وصدع القناة ، وخطل الاراء ، وزلل الاهمواء ولـ ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن

١٣٤

سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) (١).

لا جرم والله لقد قلدتهم رقبتها ، وحملتهم أوقتها ، وشننت عليهم غارتها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين ، ويحهم أنى زعزعوها عن رواسى الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح الامين ، والطبين بامور الدنيا والدين ( أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (٢)

وما الذي نقموا من ابي الحسن؟ نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلة مبالاته بحتفه ، وشدة وطاته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله عزّ وجلّ ، وتاالله لو مالوا عن المحجة اللائحة ، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة ، لردهّم إليها حملهم عليها وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا عتقلهم ، ولسار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولايكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولا وردهم منهلاً صافياً روياً فضفاضاً ، تطفح ضفتاه ، ولا يترنق جانباه ، ولا صدرهم بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً ، ولم يكن يتحلى من الغنى بطائل ، ولا يحضى من الدنيا بنائل ، غير ري الناهل شبعة الكافل، ولبان لهم الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (٣).

( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) (٤).

الا هلم فاستمع ، وما عشت اراك الدهر عجباً ( * وَإِن تَعْجَبْ

__________________

(١) سورة المائدة ، الاية : ٨٠.

(٢) سورة الزمر ، الاية : ١٥.

(٣) سورة الاعراف ، الاية : ٩٦.

(٤) سورة الزمر ، الاية : ٥١.

١٣٥

فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) (١) ليت شعري الى اي لجا لجاوا ، والى اي سناد استندوا ، وعلى اي عماد اعتمدوا ، وباي عروة تمسكوا ، وعلى اي ذرية قدموا واحتنكموا.

( لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) (٢) ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) (٣).

استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسبون صنعاً ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) (٤).

ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٥).

اما لعمري لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً ، ذعافاً مبيداً ، واطمئنوا للفتنة جاشاً ، ابشروا بسيف صارم ، وسطوة معتد غاشم ، وبهرج دائم شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدع فياكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرة لكم ، واني بكم ، وقد عميت عليكم ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ). (٦)

قال سويد بن غفلة : فاعادت النساء قولها على رجالهن ، فجاء اليها قوم من لمهاجرين والانصار معتذرين ، وقالوا : يا سيدة النساء لو كان ابو الحسن ذكر لنا هذا الامر من قبل ان يبرم العهد ، ويحكم

__________________

(١) سورة الرعد ، الاية : ٥.

(٢) سورة الحج ، الاية ١٣.

(٣) سورة الكهف ، الاية : ٥٠.

(٤) سورة البقرة ، الاية : ١٢.

(٥) سورة يونس ، الاية : ٣٥.

(٦) سورة هود ، الاية : ٢٨.

١٣٦

العقد ، لما عدلنا عنه الي غيره.

فقالت الزهراء : اليكم عني ، فلا عذر بعد تعذيركم ، ولا امر بعد تقصيركم.

وواضح ان الزهراء في هذه الخطبة لم تتطرق لحقوقها المالية ، وانما عرضت جهاراً الى القضية الكبرى ، وهي خلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واحتجب لها بامور او جزتها على النجو الاتي :

١ ـ تعنيفها للمهاجرين والانصار على ما اقدموا عليه من استبعاد على عن الخلافة ، وهو ركن من اركان الرسالة ، والوريث الشرعي لقواعد النبوة ، والواعي بعقله وبصيرته اسرار الواحي ، والخبير الفطن الحاذق بامور الدنيا والدين.

٢ ـ او عزت هذا الاستبعاد للامام عليه‌السلام لما نقموا من الامام ، فسيفه يقطر من دماء الطواغيت ، واقدامه يزري بالمترددين ، فهو لا يبالي بحتفه اوقع على الموت ام وقع الموت عليه ، لانه شديد الولطاة على المشركين ، ينكل بهم ، متمزاً في ذات الله لا يخشي في ذلك لومة لائم ، مستقيماً لا ينحرف ، ومعهتدلاً لا يتاود.

٣ ـ اوضحت الزهراء الخصائص القيادية التي توْهل الامام علي لقيادة الامة ، فلو مال المسلمون عن الجادة ، وزالوا عن قبول الحخة ، لردهم اليها وحملهم عليها ، ولسار بهم سيرة رسول الله في الصغيرة والكبيرة ، فهو ممسك بزمام الامرفي ضوءهدي الرسول وتعليماته.

٤ ـ استظهرت الزهراء في هذا الاحتجاج ، وهذه المقارنة ، سيرة الامام لو قدر له ان يتسلم السلطان ، فسيره باسجاح واسماح ومرونة دون شدّة ولا اضطراب ، حتي يستهوي المسلمين بهداه ، فيواصلون

١٣٧

المسيرة امنين مطمئنين حتي الغاية القصوى ، فيوردهم بذالك النمير الصافي الروي الفضفاض الغزير المتطامن الذي تطفح ضفتاه فتبعد القذى والشوائب ، فيعود مصدراً نقياً ، ومورداً عذباً ، لا رنق فيه ولا غصة ، فيصدر المسلمون بطاناً ، وتفتح لهم السماء بركاتها.

٥ ـ وعطفت الزهراء باستظهار الخصائص النفسية ، والطبيعة السلوكية للامام علي ، فهو ينصح للمسلمين في السر والعلن ، وهو يواسيهم في المكاره والمحن ، فلا يحتجن لنفسه مالاً ، ولا يحتجز دونهم طائلاً ، زاهداً لا يحظى من الدينا بنائل ، إلا ما يفتات به لتقويم أوده ، وإقامة صلبه ، فعيشه الكفاف ، وحياته القناعة ، وبذلك يتميز عن الراغبين في الحكم لذاته ، والحائدين عن الصدق في إدارة دفة الحكم.

٦ ـ انحت الزهراء باللائمة على قريش في ابتزازها أمر الخلافة دون الالتجاء الي ركن وثيق ، أو التعلق بحبل متين ، فلا سناد ولا عماد سوى الاثرة والاستئثار فاقد موا على ال الرسول واحتنكوا ضدهم ظالمين لهم ، وهم بذلك يستبدلون الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطسهم إذ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً إلا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، فالحق احق ان يتبعّ.

٧ ـ ولخصت الزهراء عليها‌السلام ما ينتظر للامة من الفتن ، وسفك الدماء ، واستيلاء الفوضى ، فلا الحقوق مصونة ، ولا الحرمات بذمة ، ولا الاحكام عادلة ، وانما هو السيف الصارم ، والسطوة للمعتدي الغاشم ، والهرج الدائم المستمر ، واستبداد الظالمين ، فالفيء زهيد ، والجمع حصيد ، حيث لا تنفع الحسرة ، وقد عميت عليهم من كل الجهات.

وكان لهذه الخطبة على وجازتها اثر أي في استنجاد الهمم ،

١٣٨

واستثارة العواطف ، وقد وضعت الزهراء فيها النقاط على الحروف ، فلم تكن اعتباطية المنشا ، ولا عاطفية المصدر ، ولكنها الحجاج الصارخ في لغة القوم ولقد عز على ابى بكر وعمر هذا المنجى وساءتهم هذه المقالة فارادا امتصاص النقمة عسى ان تعود المياه الى مجاريها كما يقال ، فتشاورا فيما بينهما ، فقرّ الراي ان ينطلقا الى الزهراء عسى أن تغضي شيئاً ما ، إن لم ترضَ كل الرضا ، فسارا إلى بيتها ، وإستأذنا على فاطمة ، فأبت وردّهما ثم استأذنا عليها فأبت وردتهما ، فما كان منهما إلا أن ذهبا إلى علي عليه‌السلام يستعطفانه في الإذن لهما ، فأعطاهما ذلك ، وهو المعروف بحيائه ورقتّه وصفائه ومروئته ، فقد أبت مكوناته النفسية أن يردّهما أو يرفضهما ، وفاوض الزهراء بذلك وعرض عليها الأمر ، فقالت : البيتُ بيتك ، والحرة زوجتك ، فطارا فرحاً بهذا الإذن ، ودخلا على الزهراء فسلما فلم تجب ، وقعدا أمامها في ذلة وخضوع ، فحولت بوجهها عنهما إلى الحائط ، وألحّا في الكلام ، وألّحت بالسكوت ، وحرصا على السؤال ، فحرصت على عدم الإجابة ، وأعاد أبو بكر حديث الإرض وسهم ذوي القربى وفدك ، فأعرضت عن الخوض في ذلك ، وأضربت عنه صفحاً ، فهي أكبر من المال ، وأوسع قلباً من الأرض ، فقد هُدرت كرامتها ، وجُرحت كبرياؤها ، وأستهين بقدرها ، وهي وديعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأرض ، وألحف الشيخان في أن تكلمهما إلحافاً ، وأصرا في ذلك إصراراً ، فقالت لهما ، بعيداً عن المناخ الذي كانا فيه :

« أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرفانه وتعملان به ، فأجابها الشيخان نعم. قالت : نشدتكما الله ... ألم تسمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد

١٣٩

أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ».

قالا : قد سمعناه من رسول الله.

فرفعت كفيها إلى السماء وقالت :

« فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت رسول الله لأشكوكما إليه ».

فوقع كلامها منهما وقوع الصاعقة ، وقاما يتعثران بأذيال الخيبة ، وعلما مدى غضب الزهراء ، وأجهش أبو بكر بالبكاء وكان رقيق القلب ، وأنّبه عمر على هذه الرقة ، وزاد همّ أبي بكر وحزنه ، وتلاشى أمله ورجاؤه ، وطفق إلى المسلمين ملتمساً أن يقيلوه من خلافتهم ، وكان التماسه هذا بعد فوات الأوان.

وما برحت الزهراء عليها‌السلام طريحة فراش ، وضجيعة متكأ ، تنتابها برحاء المرض ، وتودي بزهرة شبابها لوعة الأسى ، وتخنق أنفاسها مرارة الألم ، حتى قرب أجلها ، ودنا رحيلها ، وهي معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، يخشى عليها ساعة بعد ساعة ، ولم يطل بها المقام بعد أبيها إلا ستة أشهر في أكثر الروايات مدة ، وأطولها زمناً.

ثم استدعت علياً ، وأوصته بوصاياها الخاصة والعامة ، وقالت : « إني أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري ، وأدفني بالليل ، ولا تعلم أحداً ».

وكان هذا إمعاناً في النكير على القوم ، وإظهاراً للغضب والنقمة يؤكد ذلك أيضاً البند الثالث من وصيتها الخطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام :

« أن لا يشهد أحداً جنازتها ، ممن كانت غاضبة عليهم ، وأن لا

١٤٠