أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي
المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٢
الجذاميّ ، أنا المالكى من أسد ، أنا الأشعرى ، ثم صار الانتماء قصره فى جذيمة ، فلما انجلت الحرب رأيت جماعة قتلى فى ربضة ، فقلت : من هؤلاء؟ قالوا : من جذيمة النخع ، أصيبوا من آخر الليل وهم ينتمون ، فنفلهم عمر خمسة وعشرين فرسا ، يعنى بنى جذيمة.
وحكى المدائنى عن الشعبى قال : كان السبى بالقادسية وجلولاء مائة ألف رأس ، وقد قيل : أقل من هذا ، وقول الشعبى أكثر وأشهر.
ويروى أنه لما كان العطاء فضل من أهل البلاء بالقادسية بخمسمائة خمسمائة فى أعطياتهم خمسة وعشرون رجلا ، منهم زهرة بن الجوية وعصمة الضبى والكلح الضبى ، وأما أهل البلاء قبلهم ففرض لهم العطاء على ثلاثة آلاف ، فضلوا على أهل القادسية.
وذكر سيف بن عمر عن رجاله ، قالوا : كانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس فى القادسية يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها ، وكانت فى كل بلدة مصيخة إليها ، تنظر ما يكون من أمرها ، حتى أن كان الرجل ليريد الأمر فيقول : لا أنظر فيه حتى أرى ما يكون من أمر القادسية ، فلما كانت وقعتها سارت بها الجن إلى ناس من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم ، قالوا : فبرزت امرأة ليلا على جبل بصنعاء ، لا يدرى من هى ، وهى تقول :
حييت عنا عكرم ابنة خالد |
|
وما خير زاد بالقليل المصرد |
وحيتك عنى الشمس عند طلوعها |
|
وحياك عنى كل ناج مفرد |
وحيتك عنى عصبة حنفية |
|
حسان الوجوه آمنوا بمحمد |
أقاموا لكسرى يضربون جنوده |
|
بكل رقيق الشفرتين مهند |
وسمع أهل اليمامة مجتازا يغنى بهذه الأبيات :
وجدنا الأكثرين بنى تميم |
|
غداة الروع أصبرهم رجالا |
هم ساروا بأرعن مكفهر |
|
إلى لجب يوازنهم رعالا |
بحور للأكاسر من رجال |
|
كأسد الغاب تحسبهم جبالا |
هم تركوا بقادس عز فخر |
|
وبالنجفين أياما طوالا |
مقطعة أكفهم وسوق |
|
بمردى حيث قابلت الجبالا |
وسمع أهل البحرين راكبا يقول :
ألا حييا أفناء بكر بن وائل |
|
فقد تركوا جمع الأعاجم واجما |
هم صدقوا يوم القوادس فارسا |
|
بأسيافهم ضربا يبل القوائما |
أناخوا لهم فى عرصة الدار وانتموا |
|
إلى باذخ يعلو الذرى والجماجما |
وسمع سامع بعمان قائلا :
ألا إن عبد القيس كانوا بأسرهم |
|
غداة قديس كالأسود الشداقم |
وإذا هم من تغلب ابنة وائل |
|
كتائب تردى بالقنا والقوائم |
هم فرقوا جمع الأعاجم وابتنوا |
|
قرارهم بالمقربات السواهم |
فقولا لعبد الله أهلا ومرحبا |
|
وتغلب إذ فضوا هوادى الأعاجم |
وأشقوا رءوس العجم بالبيض وانتموا |
|
لأكرم أنساب العريب الأكارم |
وذكر الرواة أنهم سمعوا نحو هذا بالمدينة ومكة ونجران ، وأنشدوا ما سمع فى كل موضع منها ، تركت ذكر ذلك اختصارا.
ومما قيل أيضا فى فتح القادسية من الشعر الذي لم يزل العلماء قديما يروونه ، قول بشر بن ربيعة الخثعمى :
تذكر هداك الله وقع سيوفنا |
|
بباب قديس والمكر ضرير |
عشية ود القوم لو أن بعضهم |
|
يعار جناحى طائر فيطير |
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة |
|
برزنا لأخرى كالجبال تسير |
ترى القوم منها واجمين كأنهم |
|
جمال بأحمال لهن زفير |
وعند أبى حفص عطاء لراحل |
|
وعند المعنى فضة وحرير |
وقال القعقاع بن عمرو يذكر شدة ذلك اليوم وما لقيت الفيول فيه وتأثيره فيها :
حضض قومى مضر حى بن يعمر |
|
فلله قومى حين هزوا العواليا |
وما خام عنها يوم سادت جموعنا |
|
لأهل قديس يمنعون المواليا |
فإن كنت قاتلت العدو بنية |
|
فإنى لألقى فى الحروب الدواهيا |
فيولا أراها كالليوث مغيرة |
|
أسمل أعيانا لها ومآقيا |
وقال حمال الأسدي فى مثل ذلك :
ألا هل أتاها يوم أعماس أننى |
|
أمارس آسادا لها وفيولا |
أمارس فيلا مثل كعبة أبهر |
|
ترى دونه رجراجة وخيولا |
طعنت برمحى عينه فرددته |
|
يرشح بولا خشية وجفولا |
وقال الشماخ بن ضرار :
ويوم بجو القادسية إذ سموا |
|
فعجت بقصاب من الهند نافح |
أجالدهم والحى حولى كأنهم |
|
رجال تلاقوا بينهم بالسوافح |
وإنى لمن قوم على أن ذممتهم |
|
إذا أولموا لم يولموا بالأنافح |
وأنك من قوم تحن نساؤهم |
|
إلى الجانب الأقصى حنين المنائح |
وقال أيضا :
فليت أبا حفص رآنا ووقعنا |
|
بباب قديس بعد ما عدل الصف |
حملنا على الآساد آساد فارس |
|
كحملة هرماس يحربه الصرف |
وقال عاصم بن عمرو :
شاب المفارق والأعراض فالتمعت |
|
من وقعة بقديس جرها العجم |
جاب الكتائب والأوزاع وانشمرت |
|
من صكة ديانها الحكم |
بينا بجيلة قد كدت سراتهم |
|
سالت عليهم بأيدى الناصر العصم |
سرنا إليهم كأنا عارض برد |
|
تزجى تواليه الأرواح والديم |
كان العتيق لهم مثوى ومعركة |
|
فيها الفرائض والأوصال واللمم |
وقال أبو بجيد ، نافع بن الأسود يمدح قوموه ، ويذكرهم أثرهم فى الجاهلية والإسلام :
وقال القضاة من معد وغيرها |
|
تميمك أكفاء الملوك الأعاظم |
هم أهل عز ثابت وأرومة |
|
وهم من معد فى الذرى والغلاصم |
وهم يضمنون المال للجار ما ثوى |
|
وهم يطعمون الدهر ضربة لازم |
سديف الذرى من كل كوماء بازل |
|
مقيما لمن يعفوهم غير جارم |
فكيف تناحيها الأعاجم بعد ما |
|
علوا لجسيم المجد أهل المواسم |
وبذل الندى للسائلين إذا اعتفوا |
|
وكب المتالى فى السنين الأوازم |
ومدهم الأيدى إلى غاية العلى |
|
إذا أقصرت عنها أكف الألائم |
وإرسالهم فى النائبات تلادهم |
|
لفك العناة أو لكشف المغارم |
وقودهم الخيل العتاق إلى العدى |
|
ضوارى تردى فى لجاج المخارم |
مجنبة تشكو النسور من الوجى |
|
يعاندن أعناق المطى الرواسم |
لتنفض وترا أو لتحوى مغنما |
|
كذلك قدماهم حماة المغانم |
وكائن أصابوا من غنيمة قاهر |
|
حدائق من نخل بقران ناعم |
وكان لهذا الحى منهم غنيمة |
|
كما أحرزوا المرباع عند المقاسم |
كذلك كان الله شرف قومنا |
|
بها فى الزمان الأول المتقادم |
وحين أتى الإسلام كانوا أئمة |
|
وقادوا معدّا كلها بالخزائم |
إلى هجرة كانت سناء ورفعة |
|
لباقيهم فيهم وخير مراغم |
إذا الريف لم ينزل عريف بصحبه |
|
وإذ هو تكفيه ملوك الأعاجم |
فجاءت تميم فى الكتائب نصرة |
|
يسيرون صفا كالليوث الضراغم |
على كل جرداء السراة وملهب |
|
بعيد مدى التقريب عبل القوائم |
عليهم من الماذى زعف مضاعف |
|
له حبك من شكة المتلازم |
فقيل لكم مجد الحياة فجاهدوا |
|
فأنتم حماة الناس عند العظائم |
فصفوا لأهل الشرك ثم تكبكبوا |
|
وطاروا عليهم بالسيوف الصوارم |
فما برحوا يعصونهم بسيوفهم |
|
على الهام منهم والأنوف الرواغم |
لدن غدوة حتى تولوا تسوقهم |
|
رجال تميم ذحلها غير نائم |
من الراكبين الخيل شعثا إلى الوغى |
|
بصم القنا والمرهفات القواصم |
فتلك مساعى الأكرمين ذوى الندى |
|
تميمك لا مسعاة أهل الألائم |
ذكر فتح المدائن (١) وما نشأ بينه وبين
القادسية من الأمور
والمدائن على مسافة بعض يوم من بغداد ، ويشتمل مجموعها على مدائن متصلة مبنية على جانبى دجلة شرقا وغربا ، ودجلة تشق بينها ، ولذلك سميت المدائن. فالمدينة الغربية منها تسمى بهرسير ، والمدينة الشرقية تسمى العتيقة ، وفيها القصر الأبيض الذي لا يدرى من بناه ، ويتصل بهذه المدينة العتيقة المدينة الأخرى التي كانت الملوك تنزلها وفيها الإيوان ، إيوان كسرى العجيب الشأن ، الشاهد بضخامة ملك بنى ساسان ، ويقال : إن سابور ذا الأكتاف منهم هو الذي بناه ، وهو من أكابر ملوكهم ، وقد بنى ببلاد فارس وخراسان مدنا كثيرة ذكرها أبو بكر بن ثابت الخطيب فى صدر كتابه فى تاريخ بغداد (٢).
قال : وكان الإسكندر أجل ملوك الأرض ، وقيل : إنه ذو القرنين الذي ذكره الله فى كتابه ، فقال : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً)
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٦١٩) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٥٢ ـ ٣٦١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٦١ ، ٦٤ ـ ٦٩) ، الروض المعطار للحميرى (ص ٥٢٦ ـ ٥٢٩) ، معجم البلدان لياقوت (٥ / ٧٥).
(٢) انظر : تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (١ / ١٢٨).
[الكهف : ٨٤ ، ٨٥] ، حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وله فى كل إقليم أثر ، فبنى بالمغرب الإسكندرية ، وبخراسان العليا على ما يقال سمرقند ، ومدينة الصغد ، وبخراسان السفلى مرو وهراة ، وبناحية الجبل جيّ ومدينة أصبهان ، وبنى مدنا أخرى كثيرة فى نواحى الأرض وأطرافها ، وجال الدنيا كلها ووطئها ، فلم يختر منها منزلا سوى المدائن فنزلها ، وبنى بها مدينة عظيمة ، وجعل عليها سورا أثره باق ، وهى المدينة التي تسمى الرومية فى جانب دجلة الشرقى ، وأقام بالإسكندرية راغبا عن بقاع الأرض كلها وعن بلاده ووطنه.
وذكر بعض أهل العلم أنها لم تزل مستقرة منذ نزلها حتى مات بها ، وحمل منها فدفن بالإسكندرية لمكان والدته ، فإنها كانت إذ ذاك باقية هناك.
وقد كان ملوك الفرس لهم حسن التدبير والسياسة والنظر فى الممالك واختيار المنازل ، فكلهم اختار المدائن وما جاورها لصحة تربتها وطيب هوائها واجتماع مصب دجلة والفرات بها.
ويذكر عن الحكماء أنهم كانوا يقولون : إذا أقام الغريب على دجلة من بلاد الموصل تبين فى بدنه قوة ، وإذا أقام بين دجلة والفرات بأرض بابل تبين فى عقله زيادة وفى فطنته ذكاء وحدة ، وذلك الذي أورث أهل بغداد الاختصاص بحسن الأخلاق والتفرد بجميل الأوصاف ، وقل ما اجتمع اثنان متشاكلان ، وكان أحدهما بغداديا إلا كان هو المقدم فى لطف الفطنة ، وحسن الحيلة ، وحلاوة القول ، وسهولة البذل ، ووجد ألينهما جانبا ، وأجملهما معاشرة.
وكان حكم المدائن إذ كانت عامرة آهلة هذا الحكم ، ولم تزل دار مملكة الأكاسرة ، ومحل كبار الأساورة ، ولهم بها آثار عظيمة ، وأبنية قديمة ، منها الإيوان الذي لم ير فى معناه أحسن منه صنعة ، ولا أعجب عملا ، وقد أحسن فى وصفه أبو عبادة الوليد بن عبيد البحترى فى قصيدة له على روى السين يقال إنه ليس للعرب سينية مثلها ، ووصف أيضا معه القصر الأبيض ، وما كان مصورا فيه من الصور العجيبة والتماثيل البديعة والصنائع الغريبة فأبدع فى وصف ذلك وأحسن ما شاء ، فقال :
حضرت رحلى الهموم فوجه |
|
ت إلى أبيض المدائن عنس |
أتسلى عن الحظوظ وآسى |
|
لمحل من آل ساسان درس |
أذكرتنيهم الخطوب التوالى |
|
ولقد تذكر الخطوب وتنس |
وهم خافضون فى ظل عال |
|
مشرف يحسر العيون ويخس |
حلل لم تكن كأطلال سعدى |
|
فى قفار من البسابس ملس |
ومساع لو لا المحاباة منى |
|
لم تطقها مسعاة عنس وعبس |
لو تراه علمت أن الليالى |
|
جعلت فيه مأتما بعد عرس |
وهو ينبيك عن عجائب قوم |
|
لا يشاب البيان فيهم بلبس |
وإذا ما رأيت صورة أنطاكي |
|
ة ارتعت بين روم وفرس |
والمنايا مواثل وأنو شر |
|
وان يزجى الصفوف تحت الدرفس |
فى اخضرار من اللباس على أص |
|
فر يختال فى صبيغة ورس |
وعراك الرجال بين يديه |
|
فى خفوت منهم وإغماض جرس |
من مشيح يهوى بعامل رمح |
|
ومليح من السنان بترس |
تصف العين أنهم جد أحيا |
|
ء لهم بينهم إشارة خرس |
يغتلى فيهم ارتيابى حتى |
|
تتقراهم يداى بلمس |
حلم مطبق على الشك عينى |
|
أم أمان غيرن ظنى وحدس |
وكأن الإيوان من عجب الصن |
|
عة جوب فى جنب أرعن جلس |
يتظنى من الكآبة إذا يب |
|
دو لعينى مصبح أو ممس |
مزعجا بالفراق عن أنس إلف |
|
عز أو مرهقا بتطليق عرس |
عكست حظه الليالى وبات ال |
|
مشترى فيه وهو كوكب نحس |
فهو يبدى تجلدا وعليه |
|
كلكل من كلاكل الدهر مرس |
لم يعبه أن بز من بسط الديب |
|
اج واستل من ستور الدمقس |
مشمخر تعلو له شرفات |
|
رفعت فى رءوس رضوى وقدس |
لابسات من البياض فما تب |
|
صر منها إلا جلائل برس |
لست تدرى أصنع إنس لجن |
|
صنعوه أم صنع جن لإنس |
غير أنى أراه يشهد أن لم |
|
يك بانيه فى الملوك بنكس |
ولا أعلم أحدا من الشعراء وصف القصر الأبيض وهذا الإيوان بأبدع من هذا الوصف ولا أشجى ولا أوقع.
ويروى أن أبا جعفر المنصور ، رحمهالله ، لما أفضت إليه الخلافة هم بنقض هذا الإيوان ، واستشار فى ذلك جلساءه وذوى الرأى عنده من رجاله ، فكلهم وافقه على رأيه وأشار عليه بما يطابق هواه إلا خالد بن برمك ، فإنه قال له : لا تفعل يا أمير المؤمنين
فإنه آية الإسلام ، وإذا رآه من يأتى فى مستقبل الزمان علم أن أصحاب مملكته لم يغلبوا عليه إلا بأمر من عند الله وبتأييد أمد به المسلمين الذين قهروهم ، وبقاؤه فخر لكم وذكر ، ومع هذا فالمؤونة فى هدمه أكثر من العائد عليه ، فاستغشه المنصور فى ذلك ، وقال له : يا خالد ، أبيت إلا ميلا مع العجمية ، ثم أمر بنقض الإيوان ، فبلغت النفقة فى نقض الشيء اليسير منه مبلغا عظيما ، فكتب إليه بذلك فعزم على تركه ، وقال لخالد بن برمك : قد صرنا إلى رأيك ، فقال له خالد : إن رأيى الآن أن تبلغوا به الماء ، فقال له المنصور : وكيف ذلك؟ قال : لأنى آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه والهدم أسهل من البناء. ففكر المنصور فى قوله فعلم أنه قد صدق ، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه. وكان بعد يقول : لقد حبب إلىّ هذا البناء أن لا أبنى إلا بناء جليلا يصعب هدمه.
وقد بشر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أصحابه بالاستيلاء على مملكة فارس ووعدهم بافتتاح المدائن ، فضرب يوم الخندق بمعول أخذه صخرة عظيمة اعتاصت عليهم فى الخندق ، فكسر ثلثها بضربة ، وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إنى لأبصر قصورها الحمر الساعة» ، ثم ضرب الثانية فكسر ثلثها الثانى وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض» ، ثم ضرب الثالثة فكسر بقية الحجر وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إنى لأرى أبواب صنعاء من مكانى هذا الساعة» فصدق الله وعده وأنجز لمحمد صلىاللهعليهوسلم ما بشرهم به واستأصل بهم مملكة فارس ، وفتح عليهم المدائن فى زمان عمر بن الخطاب ، رضياللهعنه ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر سيف بن عمر عمن سماه من رجاله (١) وربما زدت فى تضاعيفه من حديث غيره ، قالوا : عهد عمر ، رضياللهعنه ، إلى سعد حين أمره بالمسير إلى المدائن أن يخلف النساء والعيال بالعتيق ، ويجعل معهم كثفا من الجند ففعل ، وعهد إليه أن يشركهم فى كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين فى عيالاتهم قالوا : وكان مقام سعد بالقادسية بعد الفتح شهرين فى مكاتبة عمر ، رضياللهعنه ، فى العمل بما ينبغى ، فقدم سعد زهرة بن جوية نحو اللسان ، وهو لسان البحر الذي أدلعه فى الريف ، وعليه الكوفة اليوم ، وكانت عليه قبل اليوم الحيرة ، وكان النخيرجان معسكرا به فأرفض ولم يثبت حين سمع بمسيرهم إليه ، ولحق بأصحابه. ثم أمر سعد عبد الله بن المعتم أن يتبع زهرة وأمر شرحبيل بن السمط أن يتبع عبد الله ثم أتبعهم هاشم بن عتبة وولاه خلافته التي كان
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٦١٨).
عليها قبل خالد بن عرفطة ، وجعل خالدا على الساقة ، ثم ارتحل سعد يتبعهم بعد فراغه من أمر القادسية كله ، وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل الله ، عزوجل ، إليهم ما كان فى عسكر فارس من سلاح وكراع ومال ، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة ، والكوفة كلها حصباء ورملة حمراء مختلطين ، ثم نزل عليه عبد الله وشرحبيل ، فارتحل زهرة عند ذلك نحو المدائن.
فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى فى جمع فناوشهم زهرة فهزمهم ، وهربوا إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم ، وكان زهرة قد طعن بصبهرى يوم برس فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل ، وأقبل عند ذلك بسطام دهقان برس فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور ، وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل. وقدموا على أنفسهم الفيرزان ، فكتب بذلك زهرة إلى سعد فأتاه الخبر وقد نزل بالكوفة على من بها مع هاشم بن عتبة ، فقدمهم ثم أتبعهم حتى نزل برس فقدم منها زهرة وأتبعه الآخرين ، ثم أتبعهم حتى نزلوا على الفيرزان ببابل فاقتتلوا فهزموا المشركين فى أسرع من لفت الرداء فانطلقوا على وجهين ، ولم تكن لهم همة إلا الافتراق ، فخرج الهرمزان نحو الأهواز ، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند ، وبها كنوز كسرى ، فأخذها وأكل الماهين ، وصمد النخيرجان ومهران الرازى للمدائن ، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر ، ثم قطعا الجسر وخلفا شهريار دهقانا من دهاقين الباب فى جمع بكوثى ، فقدم سعد ، زهرة بن جوية ثم أتبعه الجنود ، فساروا إليه.
فلما التقى بأطراف كوثى جيش شهريار وأوائل خيل المسلمين ، خرج شهريار فنادى : ألا رجل ، ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إلىّ حتى أنكلكم به ، فقال زهرة وكايده : لقد أردت أن أبارزك ، فأما إذ سمعت قولك ، فإنى لا أخرج إليك إلا عبدا ، فإن أقمت له قتلك وإن فررت منه فإنما فررت من عبد ، ثم أمر أبا نباتة نائلا الأعوجى وكان من شجعان بنى تميم ، فخرج إليه ، مع كل واحد منهما الرمح ، وكلاهما وثيق الخلق ، إلا أن شهريار مثل الجمل ، فلما رأى نائلا ألقى الرمح ليعتنقه ، وألقى نائل الرمح ليعتنقه ، وانتضيا سيفيهما فاجتلدا ، ثم اعتنقا فخرا عن دابتيهما ، فوقع شهريار على نائل كأنه بيت ، فضعضعه بفخذه ، وأخذ الخنجر وأراد حل أزرار درعه ليذبحه ، فوقعت إبهامه فى فم نائل ، فمضغها فحطم عظمها وأحس منه فتورا ، فثاوره فجلد به الأرض ، ثم قعد على صدره ، وأخذ خنجره فكشف درعه عن بطنه ، فطعن فى بطنه وجنبه حتى مات ، فأخذ فرسه وسواريه وسلبه ، وانكشف أصحابه ، فذهبوا فى البلاد ، وأقام زهرة بكوثى
حتى قدم عليه سعد ، فغنم سعد نائلا ذلك السلب كله ، وقال له : عزمت عليك يا نائل إلا لبست سواريه وقباءه ودرعه وركبت دابته ، فانطلق فتدرع سلبه ثم أتاه فى سلاحه على دابته ، فقال له سعد : اخلع سواريك إلا أن ترى حربا فالبسهما ، وكان أول رجل من المسلمين سور بالعراق.
قالوا : فأقام سعد بكوثى أياما وأتى المكان الذي حبس فيه إبراهيم ، عليهالسلام ، بكوثى ، والبيت الذي كان فيه محبوسا فنظر إليه وصلى على رسول الله وعلى إبراهيم وعلى أنبياء الله ، صلوات الله على جميعهم ، وقرأ : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠] ، ثم إن سعدا قدم زهرة إلى بهرسير فمضى من كوثى فى المقدمات وتبعته المجنبات ، وخرج هاشم ، وخرج سعد فى أثره ، وقد فل زهرة كتيبة كسرى التي كانت تدعى بوران حول المظلم ، مظلم ساباط ، وكان رجالها يحلفون كل يوم بالله لا يزول ملك فارس ما عشنا.
ولما انتهى هاشم إلى مظلم ساباط وقف لسعد حتى لحق به ، فلما نزل قاله : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤] ، ووافق ذلك رجوع المقرط ، أسد كان كسرى قد ألفه وتخيره من أسود المظلم ، فبادر المقرط الناس حتى انتهى إليهم سعد ، فنزل إليه هاشم فقتله ، فقبل سعد رأسه ، وقبل هاشم قدميه.
وقال المدائنى : فنظر هاشم إلى الناس وقد أحجموا ووقفوا فقال : ما لهم؟ فقيل له : أسد قد منعهم ، ففرج هاشم الناس وقصد له فثاوره الأسد وضربه هاشم فقطع موصله كأنما اجتلم به غصنا ، ووقعت الضربة فى خاصرته ، وقال بعضهم : على هامته ، فقتله.
قالوا : وقدم سعد هاشما إلى بهرسير ثم ارتحل سعد فنزل على البأس بها وجعل المسلمون المتقدمون إليها كلما قدمت عليهم خيل وقفوا ثم كبروا حتى نجز آخر من كان مع سعد ، ولما نزل سعد على بهرسير بث الخيول ، فأغار على ما بين دجلة إلى من له عهد من أهل الفرات ، فأصابوا مائة ألف فلاح ، فقال شيرزاذ ، دهقان ساباط ، وكان قد تلقى زهرة فى طريقه بالصلح وتأدية الجزية ، فقال لسعد عند ما أتى بالفلاحين فخندق لهم : إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا ، إنما هؤلاء علوج لأهل فارس فدعهم إلىّ حتى يفرق لك الرأى فيهم ، فكتب عليه بأسمائهم ، ودفعهم إليه ، فقال لهم شيرزاذ : انصرفوا إلى قراكم.
وكتب سعد إلى عمر رحمهماالله : إنا وردنا بهرسير بعد الذي لقينا بين القادسية وبهرسير ، فلم يأتنا أحد لقتال ، فبثثت الخيول فجمعت الفلاحين من القرى والآجام ،
فرأيك. فأجابه عمر : إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم ، ومن لم يأتكم ولم يهرب فهو أمانهم ، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فلما جاء سعدا الكتاب خلى عنهم. وراسله الدهاقين ، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزاء ولهم الذمة والمنعة ، فرضوا بالجزية والمنعة ، ولم يبق فى غربى دجلة إلى أرض العرب سوادى إلا أمن واغتبط بملك الإسلام واستقبلوا الخراج.
وأقام سعد بالناس على بهرسير يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات ، ويقاتلونهم بكل عدة.
قال بعضهم : وكان سعد عند ما نزلها وعليها خنادقها وحرسها وعدة الحرب استصنع شيرزاذ المجانيق فنصب على أهلها عشرين منجنيقا فشغلهم بها ، وكان الأعاجم والعرب مطيفين بهم ، وربما خرجوا يمشون على المسنيات المشرفة على دجلة فى جماعتهم وعدتهم لقتال المسلمين ، فلا يقومون لهم ، فكان آخر ما خرجوا فى رجالة وناشبة ، وتجردوا للحرب ، وتتابعوا على الصبر ، فقاتلهم المسلمون فكذبوا وتوالوا ، وكانت على زهرة بن الجوية يومئذ درع مفصومة ، فقيل له : لو أمرت بهذا الفصم فسرد فقال : ولم؟ فقالوا : إنا نخاف عليك منه ، فقال : إنى لكريم على الله ، أن ترك سهم فارس الجند كلهم ثم أتانى من هذا الفصم حتى يثبت فىّ ، فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشابة ، فثبتت فيه من ذلك الفصم ، فقال بعضهم : انزعوها عنه ، فقال : دعونى ، فإن نفسى معى ما دامت فىّ ، لعلى أن أصيب فيهم بطعنة أو بضربة أو خطوة ، فمضى نحو العدو ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل اصطخر ، فقتله ، وأحيط به فقتل وانكشفوا.
وسيأتى بعد من أخبار زهرة بن الجوية وآثاره فى الوقائع التي لا شك فى كونها بعد هذه ما يوهن خبر قتله المذكور آنفا ، والأولى بحسب هذا إن شاء الله أن يكون غير زهرة هو صاحب هذه القصة ؛ إذ قد ذكر المدائنى أن هاشم بن عتبة قال لزهير بن سليم الأزدى ، قال : ويقال لغيره ، ورأى فى درعه فصما ، إنى لا آمن أن تصيبك نشابة فى هذا الموضع ، فلو سردته قال : لئن تركت نشابة الفارسى جسدى كله إلا هذا الموضع إنى إذا لسعيد ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، فالله أعلم.
وقال أنيس بن الحليس (١) : بينا نحن محاصرون بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم ، أشرف علينا رسول فقال : إن الملك يقول لكم : هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ٧).
دجلة وجبلها ، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم؟ فبدر الناس أبو مفرز الأسود بن قطبة ، وقد أنطقه الله ، عزوجل ، بما لا يدرى ما هو ولا نحن ، فأجابه بالفارسية ولا يعرف منها شيئا هو ولا نحن ، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن ، فقلنا : يا أبا مفرز ما قلت له؟ قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما أدرى ما هو ، وإلا أنى علتنى سكينة ، وأرجو أن أكون أنطقت بالذى هو خير ، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد ، فجاءنا فقال : يا أبا مفرز ما قلت له؟ فو الله إنهم لهراب ، فحدثه بمثل حديثه إيانا ، فنادى فى الناس ، ثم نهد بهم ، فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمناه ، فقال : ما بقى أحد فيها فما يمنعكم ، فتسورها الرجال ، وافتتحناها ، فما وجدنا فيها شيئا ولا أحدا ، إلا أسارى أسرناهم خارجا منها ، فسألناهم وذلك الرجل : لأى شيء هربوا؟ فقال : بعث إليكم الملك يعرض عليكم الصلح ، فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذون بأترج كوثى ، فقال الملك : وا ويلة ألا أرى الملائكة تكلم على ألسنتهم ، ترد علينا وتجيبنا عن العرب ، وو الله لئن لم يكن كذلك ، ما هو إلا شيء ألقى علىّ فى هذا الرجل لننتهى ، فأرزوا إلى المدينة القصوى.
قالوا : ولما دخل سعد والمسلمون بهرسير أمر بها فثلمت وتحول العسكر إليها ولاح لهم وذلك فى جوف الليل القصر الأبيض ، فقال ضرار بن الخطاب : الله أكبر ، أبيض كسرى هذا ما وعد الله ورسوله ، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا.
وقال القعقاع بن عمرو :
ألم يأتيك والأخبار تنمى |
|
وتصعد فى الملمعة الفياف |
توافينا ومنزلنا جميعا |
|
أمام الخيل بالسمر الثقاف |
قسمنا أرضهم قسمين حتى |
|
نزلنا مثل منزلهم كفاف |
دعاء ما دعونا آل كسرى |
|
وقد هم المرازب بانصراف |
وما أن طبهم جبن ولكن |
|
رميناهم بداعية ذعاف |
فتحنا بهرسير بقول حق |
|
أتانا ليس من سجع القوافى |
وقد طارت قلوب القوم منا |
|
وملوا الضرب بالبيض الخفاف |
ولما نزل سعد بهرسير ، وهى المدينة الدنيا من المدائن ، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى منها ، فلم يقدر على شيء ، ووجدهم قد ضموا السفن ، فأقاموا أياما يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين ، ودجلة قد طما ماؤها يتدفق جانباها ،
فيروى أنه بينا سعد والمسلمون كذلك إذ سمعوا ليلا قائلا يقول : يا معشر المسلمين ، هذه المدائن قد غلقت أبوابها وغيبت السفن وقطعت الجسور فما تنتظرون ، فربكم الذي يحملكم فى البر هو الذي يحملكم فى البحر ، فندب سعد الناس إلى العبور ، فأتاه قوم من العجم ممن قد اعتقد منه ذمة فقالوا : ندلك على موضع أقل غمرا من هذا ، فدلوه على ديلمايا (١).
وقيل (٢) : إن سعدا رأى رؤيا كأن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرتها ، وقد أقبلت من المد بأمر عظيم ، فعزم على تأويل رؤياه على العبور ، وفى سنة جود صيبها متتابع ، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه ، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا ، فيناوشونكم فى سفنهم ، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه ، فقد كفاكموهم أهل الأيام ، وأعطوا ثغورهم ، وأفنوا ذادتهم ، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا : ألا إنى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ، فقالوا جميعا : عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل ، فقال : من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى يتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو أول الناس ، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات ، واستعمل عليهم عاصما ، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة فقال : من ينتدب معى لنمنع الفراض من عدوكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور ، ليكون أسلس لعوم الخيل ، ثم اقتحموا دجلة واقتحم بقية الستمائة على أثرهم وقد شدوا على خيولهم حزمها وألبابها وقرطوها أعنتها وشدوا عليهم أسلحتهم ، فلما رأتهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التي تقدمت خيلا مثلها ، فاقتحموا إليهم دجلة ، فلقوا عاصما فى السرعان ، وقد دنا من الفراض ، فقال : الرماح الرماح أشرعوها وتوخوا العيون ، فالتقوا ، فاطعنوا فى الماء ، وتوخى المسلمون عيونهم ، فتولوا نحو البر والمسلمون يشمسون بهم خيلهم حتى ما يملكون منها شيئا ، فلحقوا بهم فى البر فقتلوا عامتهم ، ونجا باقيهم عورانا. ونزلت بالمسلمين خيولهم حتى انتقضت على الفراض ، وتلاحق باقى الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين.
ويروى أن أولئك الستين خرجوا يومئذ من دجلة منقطعين زمرا ، الزمرة الأولى تسعة فيهم عاصم ، والثانية ثمانية عشر ، والثالثة ثلاثة وثلاثون ، ويومئذ سميت كتيبة عاصم هذه كتيبة الأهوال ، لما رأى منهم فى الماء والفراض.
__________________
(١) ديلمايا : موضع بالعراق على دجلة. انظر الخبر والتعريف فى : الروض المعطار (ص ٢٤٩).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٩ ، ١٠).
ولما رأى سعد عاصما على الفراض وقد منعها ، أذن للناس فى الاقتحام ، وقال : قولوا نستعين بالله ، ونتوكل على الله ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وتلاحق عظم الجند فركبوا اللجة ، واعترضوا دجلة وإنها لمسودة تزخر ، لها حدب يقذف بالزبد ، فكان أول من اقتحم سعد بن أبى وقاص ، ثم اقتحم الناس ، وقد قرنوا أنثى بكل حصان يتحدثون على ظهورها كما يتحدثون على الأرض ، وطبقوا دجلة خيلا ودواب ورجالا حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد ، وسلمان الفارسى يساير سعدا يحدثه ، والماء يطفو بهم ، والخيل تعوم ، فإذا أعيا فرس استوى قائما يستريح كأنه على الأرض ، فقال قيس بن أبى حازم : إنى لأسير فى دجلة فى أكثر مائها إذ نظرت إلى فارس وفرسه كأنه واقف ما يبلغ الماء حزامه.
وقال بعضهم : لم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك ، فقال سعد : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ١٤].
وفى رواية أنه قال لسلمان وهو يسايره فى الماء : والله لينصرن الله وليه ، وليظهرن الله دينه ، وليهزمن عدوه ، إن لم يكن فى الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات ، فقال سلمان : يا أبا إسحاق ، الإسلام جديد ، ذلل الله لكم البحر كما فرقه وذلّله لبنى إسرائيل ، والذي نفس سلمان بيده ، لتخرجن منه أفواجا كما دخلتموه أفواجا ، فخرجوا منه كما قال سلمان ، لم يفقدوا شيئا ، ولم يغرق فيه أحد.
قال أبو عثمان النهدى (١) : إلا رجلا من بارق يدعى غرقدة ، زل عن ظهر فرس له شقراء ، كأنى أنظر إليها عريا تنفض عرفها ، والغريق طاف ، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه ، فجره حتى عبر ، فقال البارقى : وكان من أشد الناس : أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع وكانت للقعقاع فيهم خئولة.
وقال بعض رجال سيف بن عمر (٢) : إنه لم يذهب للمسلمين يومئذ فى الماء شيء إلا قدح كانت علاقته رثة ، فانقطعت ، فذهب به الماء ، فقال الرجل : الذي كان يعاوم صاحب القدح (٣) معيرا له : أصابه القدر فطاح ، فقال : إنى لأرجو والله أن لا يسلبنى الله قدحى من بين أهل العسكر ، وإذا رجل من المسلمين ممن تقدم ليحمى الفراض قد سفل
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٠).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٢).
(٣) هو : مالك بن عامر ، حليف لقريش من عنزة.
حتى طلعت عليه أوائل الناس ، وقد ضربت الرياح والأمواج القدح حتى وقع إلى شاطئ ، فتناوله برمحه ، فجاء به إلى العسكر فعرّفه ، فعرفه صاحبه فأخذه ، وقال لصاحبه الذي كان يعاومه : ألم أقل لك؟ فيروى أن عمر ، رحمهالله ، بلغه ما كان قال له صاحبه أولا ، فأنكره وأرسل إليه : أنت القائل أصابه القدر فطاح؟ تفجع مسلما!.
وقال الأسود بن قطبة أبو مفزر يرتجز يومئذ :
يا دجل إن الله قد أشجاك |
|
هذى جنود الله فى قراك |
فلتشكرى الذي بنا حباك |
|
ولا تروعى مسلما أتاك |
وقال عاصم بن عمرو فى ذلك :
ألا هل أتاها أن دجلة ذللت |
|
على ساعة فيها القلوب تقلب |
ترانا عليها حين عبّ عبابها |
|
تبارى إذا جاشت بموج تصوب |
نفينا بها كسرى عن الدار فانتوى |
|
لأبعد ما ينوى الركيك الموقب |
قال : وفجأ المسلمون أهل فارس من هذا العبور بأمر لم يكن فى حسبانهم ، فأجهضوكم وأعجلوهم عن حمل أموالهم ، وخرجوا هرابا ، وقد كان يزدجرد خرج قبلهم إلى حلوان فنزلها بعد أن قدم إليها عياله حين أخذت بهرسير وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حر متاعهم وخفيفه ، وبالنساء والذرارى وما قدروا عليه من بيت المال ، وتركوا فى الخوائن من الثياب والمتاع والآنية والألطاف والأدهان ما لا يدرى ما قيمته ، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم وكل الأطعمة والأشربة ، فدخل المسلمون المدائن واستولوا على ذلك كله فكان أول من دخلها كتيبة الأهوال ، ثم تبعتها الخرساء ، كتيبة سعد ، فأخذوا فى سككها لا يلقون أحدا ولا يحسونه إلا ما كان فى القصر الأبيض ، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمة ، ويرجع إليها أهل المدائن على مثل عهدهم ، ليس فى ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم. ونزل سعد القصر الأبيض وسرح زهرة فى آثار القوم إلى النهروان فانتهى إليها ، وسرح مقدار ذلك فى طلبهم من كل وجه.
وقال حبيب بن صبهان (١) : لما عبر المسلمون دجلة ، جعل أهل فارس وهم ينظرون إليهم يعبرون يقول بعضهم لبعض بالفارسية ما تفسيره بالعربية : إنكم والله ما تقاتلون الإنس وإنما تقاتلون الجن.
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٤).
قالوا : وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على ماء الفراض يمنعون المسلمين من العبور ، حتى ناداهم مناد : علام تقتلون أنفسكم؟ فو الله ما فى المدائن من أحد ، فانهزموا واقتحمتها الخيول عليهم ، ولما دخلها سعد فرأى خلوتها وانتهى إلى إيوان كسرى أقبل يقرأ (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) [الدخان : ٢٥ ، ٢٨] ، وصلى فيه صلاة الفتح ، ولا تصلى جماعة ، فصلى ثمانى ركعات لا يفصل بينهن ، واتخذ الإيوان مسجدا ، وفيه تماثيل الجص رجال وخيل ، فلم يمتنع هو ولا المسلمون ، يعنى من الصلاة فيه ، لأجلها ، وتركوها على حالها ، وأتم سعد الصلاة يوم دخلها لأنه أراد المقام بها. وبالمدائن كانت أول جمعة جمعت بالعراق فى صفر سنة ست عشرة. ووكل سعد بالإقباض من يجمعها (١) ، وأمره بجمع ما فى القصر والإيوان ومنازل كسرى وسائر الدور ، وإحصاء ما يأتيه به الطلب ، وقد كان أهل المدائن تأهبوا عند المدائن للغارة ، ثم طاروا فى كل وجه ، فما أفلت أحد منهم بشيء ولا بخيط ، ألح عليهم الطلب فتنفذوا ما فى أيديهم ، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض ، فضموها إلى ما قد جمع.
وقال حبيب بن صبهان : دخلنا المدائن ، فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص ، فما حسبناها إلا طعاما ، فإذا هى آنية الذهب والفضة وقسمت بعد بين الناس.
قال : ولقد رأيت الرجل يطوف ويقول : من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير فما حسبناه إلا ملحا ، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته فى الخبز.
وعن الرفيل بن ميسور (٢) قال : خرج زهرة ، يعنى ابن الجوية ، فى المقدمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان وهم عليه ، فازدحموا فوقع بغل فى الماء وعجلوا عنه ثم كلبوا عليه ، فقال زهرة : أقسم بالله إن لهذا البغل لشأنا ، ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك بعد ما أرادوا تركه إلا لشىء ، فترجل حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه فاحتملوا البغل بما عليه حتى أدوه إلى الأقباض ما يدرون ما عليه ، وإذا الذي عليه حلية كسرى ، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر ، وكان يجلس فيها للمباهاة.
__________________
(١) هو : عمرو بن عمرو بن مقرن.
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٧).
وقال الكلج الضبى : كنت فيمن خرج للطلب ، فإذا أنا ببغالين قد ذبا الخيل عنهما بالنشاب ، فما بقى معهما غير نشابتين ، فالتظظت بهما ، فاجتمعا ، وقال أحدهما لصاحبه : ارمه وأحميك ، أو أرميه وتحمينى ، فحمى كل واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثم إنى حملت عليهما فقتلتهما ، وجئت بالبغلين ما أدرى ما عليهما ، حتى بلغتهما صاحب الأقباض ، فإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان فى الخزائن والدور ، فقال : على رسلك حتى ننظر ما معك فحططت عنهما ، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسخا ، وكان لا تحمله إلا أسطوانتان ، وفيهما الجوهر ، وعلى الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما.
قالوا (١) : وخرج القعقاع يومئذ فى الطلب ، فلحق بفارسى يحمى الناس ، فاقتتلا فقتله القعقاع ، وإذا معه جنبية عليها عيبتان وغلافان فى أحدهما خمسة أسياف وفى الآخر ستة ، وفى العيبتين أدراع ، درع كسرى ومغافره وساقاه وساعداه ، ودرع هرقل ، ودرع النعمان ، ودرع داهر ، ودرع سياوخش ، ودرع بهرام شوبين ، وكانوا استلبوا ما لم يرثوا منها ، مما استلبوا أيام غواتهم خاقان وهرقل وداهر ، وأما النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى. وفى أحد الغلافين سيف كسرى وهرمز وكسوتى قباذ وفيروز ، وفى الآخر سيوف سائر من نسبت إليه دروع من تلك الدروع ، فجاء القعقاع بذلك كله إلى سعد ، فقال له : اختر أحد هذه الأسياف ، فاختار سيف هرقل ، وأعطاه إياه معه درع بهرام ، ونفل سعد سائر ذلك فى الخرساء ، كتيبته ، إلا سيف كسرى والنعمان ، فإنه بعث بهما إلى عمر فى الأخماس مع حلى كسرى وتاجه وثيابه ، ليرى ذلك المسلمون ، ولتسمع به العرب ، لمعرفتهم بها.
وقال عصمة الضبى (٢) : خرجت فيمن خرج يطلب ، فأخذت طريقا مسلوكا فإذا عليه حمّار ، فلما رآنى حث حماره فلحق آخر قدامه ، فمالا ، وحثا حماريهما ، فانتهينا إلى جدول قد كسر جسره ، فثبتا حتى أتيتهما ، ثم تفرقا ، ورمانى أحدهما فألظظت به حتى قتلته ، وأفلت الآخر ، فرجعت إلى الحمارين ، فأتيت بهما صاحب الأقباض ، فنظر فيما على أحدهما ، فإذا سفطان فى أحدهما فرس من ذهب مسروج بسرج من فضة على ثغره ولببه الزمرد والياقوت منظومين على الفضة ، ولجام كذلك ، وفارس من فضة مكلل
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٨).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٨ ، ١٩).
بالجوهر ، وإذا فى الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب ، وبطان من ذهب وزمام من ذهب ، وكل ذلك منظوم بالياقوت ، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر ، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج.
وعن أبى عبيدة العنبرى (١) قال : لما هبط المسلمون بالمدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال هو والذين معه ، لما نظروا إلى ما فيه : ما رأينا مثل هذا قط ، ثم قالوا له : هل أخذت منه شيئا؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدونى ، ولا غيركم ليقرظونى ، ولكنى أحمد لله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أتى إلى أصحابه ، فسأل عنه ، فإذا هو عامر بن عبد قيس.
ويروى أن سعدا ، رحمهالله ، قال حين رأى ما رأى من ورع الناس وكونهم لم يتعلق على أحد منهم بغلول فيما جمعوا من الغنائم : والله إن هذا الجيش لأهل أمانة ، ولو لا ما سبق لأهل بدر ما فضلتهم عليهم ، ولقد نالت الدنيا من رجال من أهل بدر حين أصابوها.
وقال جابر بن عبد الله : والله الذي لا إله إلا هو ، ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة.
قال بعضهم : ولقد كانوا يخافون قيس بن مكشوح ، وعمرو بن معدى كرب ، وطليحة بن خويلد ، وأشباههم على الغلول ، فما تعلق على أحد منه بشيء يكرهونه ولا أرادوا الدنيا.
ولما قدم على عمر ، رحمهالله ، بسيف كسرى ومنطقته وزبرجه ، قال : إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة. فقال على ، رضياللهعنه : إنك عففت فعفت الرعية.
قالوا : ولما اجتمعت الغنائم ، وتراجع الطلب قسم سعد بين الناس فيئهم بعد ما خمسه ، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا ، وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل ، وكانت الجنائب فى المدائن كثيرة ، ويقال : كانوا بين أهل الأيام وأهل القادسية الذين لم يشهدوا الأيام ، وبين من لحق بهم فى ثلاث من غير أهل الأيام بالقادسية ، وبين أهل الروادف ستين ألفا ، وقسم سعد دور المدائن بين الناس ، وأوطنوها ، وكان الذي ولى القبض عمرو بن عمرو المزنى ، والذي ولى القسم سلمان بن ربيعة.
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٩).
وقال الشعبى (١) : بعث سعد إلى العيالات فأنزلهم الدور لما قسمها وفيها المرافق ، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد.
قالوا : وجمع سعد الخمس ، وأدخل فيه كل شيء أراد أن يعجب به عمر ، من ثياب كسرى وحلية وسيفه ونحو ذلك ، ونفل من الأخماس فى أهل البلاء ، ولم يجهدها ، وفضل بعد القسم بين الناس ، وإخراج الخمس ، القطف فلم يعتدل ، فقال للمسلمين : هل لكم فى أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه ، ونبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى ، فإنا لا نراه يتفق : وهو بيننا قليل ، وهو يقع من أهل المدينة موقعا؟ فقالوا : نعم ، فبعث به على ذلك الوجه ، والقطف هو بهار كسرى ثقل عليهم أن يذهبوا به ، فتركوه بالمدائن ، فأصابه المسلمون ، وكان بساطا واحدا ستين ذراعا فى ستين ذراعا فيه طرز كالسور وفصوص كالأنهار ، وفى خلال ذلك كالدير ، فى حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات فى الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكان إذا أرادوا الشراب شربوا عليه ، فكأنهم فى رياض ، وكانت العرب تسميه القطف ، فبعث به سعد مع الأخماس إلى عمر ، رضياللهعنه ، مع بشير بن الخصاصية ، فلما قدم عليه نفل من الخمس أناسا ، وقال : إن الأخماس ينفل منها من شهدها ومن غلب من أهل البلاء فيما بين الخمسين ، ولا أرى القوم جهدوا الخمس ، ثم قسم الخمس فى مواضعه ، ثم قال : أشيروا علىّ فى هذا القطف. فأجمع ملؤهم على أن قالوا : قد جعلوا ذلك لك ، فراء رأيك ، إلا ما كان من على ، رضياللهعنه ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ، الأمر كما قالوا : ولم يبق إلا التروية ، إنك إن تقبله اليوم على هذا لم تعدم فى غد من يستحق به ما ليس له ، قال : صدقتنى ونصحتنى.
وفى رواية أن عمر ، رضياللهعنه ، استشارهم فيه ، فمن بين مشير بقبضه ، وآخر مفوض إليه ، وآخر مرفق ، فقام على ، رضياللهعنه ، حين رأى عمر تأنى حتى انتهى إليه ، فقال : لم تجعل علمك جهلا ، ويقينك شكّا إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فامضيت ، أو لبست فأبليت ، أو أكلت فأفنيت. قال : صدقتنى ، فقطعه فقسمه بين الناس ، فأصاب عليا قطعة منه ، فباعها بعشرين ألفا ، وما هى بأجود تلك القطع.
وذكر المدائنى أن عمر حين قال له على : إن بلته لم تعدم بعدك من يستحق مأثما
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢١).
بك ، صرفه إلى سعد ، وكتب إليه : أن بعه واقسم ثمنه على من أفاءه الله عليهم.
قال رجال سيف (١) : ولما أتى عمر بحلى كسرى وزيه فى المباهاة ، وفى غير ذلك ، وكانت له عدة أزياء لكل حالة زى ، قال : علىّ بمحلم ، وكان أجسم عربى يومئذ بأرض المدينة ، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب ، وصب عليه أوشحته وقلائده وثيابه ، وأجلس للناس ، فنظر إليه عمر ، ونظر إليه الناس ، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها ، ثم قام عن ذلك ، فألبس زيه الذي كان يلبسه ، فنظروا إلى مثل ذلك فى غير نوع ، حتى أتى على الأزياء كلها ، ثم ألبسه سلاحه ، وقلده سيفه ، فنظروا إليه فى ذلك ، ثم وضعه ثم قال : والله إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة ، ونفل سيف كسرى محلما ، هكذا وقع ذكر محلم فى هذا الحديث ، ولا أعرف ولا أعلم فى ذلك الصدر من اسمه محلم إلا محلم بن جثامة ، ويقال : إنه توفى على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقصته فى الدم الذي أصابه ، والعفو عند وجوب القود ، ودعاء النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما مثل بين يديه ، قصة مشهورة.
وقد قيل : إنه عاش بعد النبيّ صلىاللهعليهوسلم فالله أعلم.
وكذلك قيل : إن الذي ألبسه عمر سوارى كسرى هو سراقة بن مالك المدلجى.
وروى سفيان بن عيينة عن أبى موسى ، عن الحسن أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لسراقة بن مالك (٢) : «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟» (٣) قال : فلما أتى عمر بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة فألبسه إياهما ، وكان سراقة رجلا أزب كثير شعر الساعدين ، وقال له : ارفع يديك فقل : الحمد لله ، الله أكبر ، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول : أنا رب الناس ، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بنى مدلج ، ورفع بها عمر صوته.
وذكر أبو الحسن المدائنى فى فتوح العراق خبر المدائن ، فخالف فيه كثيرا مما تتقدم وزاد ونقص ، وسأذكر من ذلك ما يحسن ذكره على سبيل الاختصار والتوخى لحذف ما يكون ذكره تكرارا إلا ما يعتاض فضله من الحديث للحاجة إليه.
__________________
(١) انظر : الطبرى (٢٢ ، ٢٣).
(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣١٢٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٩٥٥) ، الثقات (٣ / ١٨٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١٠) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٨٤) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٥٦) ، تهذيب الكمال (١ / ٤٦٦) ، الجرح والتعديل (٤ / ١٣٤٢) ، شذرات الذهب (١ / ٣٥) ، العبر (١ / ٢٧) ، العقد الثمين (٤ / ٥٢٣).
(٣) انظر الحديث فى : إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ١٨) ، الشفاء للقاضى عياض (١ / ٦٧٤).
فمن ذلك أن يزدجرد لما غلب سعد على مدينة نهرسير واعتقد أهل غربى دجلة منه الذمة نقل خزائنه وأمواله ودواوينه إلى حلوان ، وأقام فى الإيوان فى مقاتلته ، وسعد والمسلمون فى دير المنازل ، فبينما هم به ودجلة قد طماها ماؤها يتدفق جانباها ، إذ سمعوا ليلا قائلا يقول : يا معشر المسلمين ، هذه المدائن غلقت أبوابها ، وغيبت السفن ، وقطعت الجسور ، فما تنتظرون ، فربكم الذي يحملكم فى البر يحملكم فى البحر؟ فندب سعد الناس إلى العبور ، ثم ساق الحديث فى ركوبهم دجلة على ظهور خيلهم نحوا مما تقدم ، ثم قال : ونظر ضرار بن الخطاب والمسلمون فرأوا بناء أبيض ، فقال ضرار : الله أكبر ، أبيض المدائن ورب الكعبة ، وهرب أهل المسالح حين عبر المسلمون ، واعروها وقالوا : هؤلاء من السماء ، وخرج أهل الرومية ومن كان فيها من الأساورة معهم الفيلة فقاتلهم المسلمون ، فكانت الفيلة تهم فى وجوه الخيل ، والمسلمون قليل ليست لهم رجالة تقاتل عن خيلهم ، فكانت الخيل تنفر ، فأتى رجل سعدا فقال : تؤمننى على نفسى وأهلى ومالى وأدلك على ما ترد به الفيلة؟ قال : نعم. قال : الخنازير. قال : وأنى لى بها؟ قال : أنا أجيئك بها ، فجاءه بخنازير فضربت فجعلت تقيع فى وجوه الفيلة ، فولت وانهزم المشركون. فوقف رجل يحميهم واعترض الطريق فلما دنا منه المسلمون ضرب فرسه ليقدم عليهم ، فاعتاص وضربه ليهرب ، فاعتاص فطعنه رجل من المسلمين فقتله ، ودخل الآخرون الرومية ، ومضى الأساورة إلى يزدجرد بالإيوان ، فهرب هو وأساورته ومقاتلته ، وسمعوا صوتا من ورائهم علام تقتلون أنفسكم وقد ذهبت مدة ملككم.
ومضى سعد إلى المدينة العتيقة ، فمر المسلمون بمجلس لكسرى كان يسمى بهشت إيوان ، فوقفوا ينظرون إليه وقد تقدم سعد فانطوى عليه ، فظن أنهم اقتطعوا ، فسأل عنهم ، فأخبر ، فقال لبعض من معه من العجم : ما هذا المجلس؟ قالوا : بهشت إيوان. قال : وما تفسيره؟ قالوا : الجنة. فأرسل سعد قوما فأحرقوه ، وخرج أهل المدائن إلى سعد فتلقوه بجامات الذهب والفضة مملوءة دنانير ودراهم يسألونه الأمان على أن يعطوا الجزية ، فقبل ذلك منهم ، ونزل القصر الأبيض ، وأمر أهل المدائن فعقدوا الجسر ، فعبر المسلمون جميعا وأثقالهم وإبلهم ، وتحول سعد فعسكر فى مكانين على الناقوس وعلى نهر أبغش ، بين العسكرين ميل ، وكان أكثر العسكرين أهلا الذين على نهر أبغش ، واتخذ سعد مسجدا على الناقوس فهو إلى اليوم يسمى مسجد العسكر ، وصلى فيه على بن أبى طالب حين قدم المدائن وهو يريد صفين.
ولم يأخذ سعد من المدينة ومن أهلها إلا ما كان للملك وأهل بيته ولمن هرب ،