الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

قال الحصين بن الحمام يرد عليه وينتمى إلى غطفان :

ألا لستم منا ولسنا إليكم

برئنا إليكم من لؤيّ بن غالب

أقمنا على عز الحجاز وأنتم

بمعتلج البطحاء بين الأخاشب

يعنى قريشا.

ثم ندم الحصين على ما قال ، وعرف صدق الحارث ، فأكذب نفسه وقال :

ندمت على قول مضى كنت قلته

تبينت فيه أنه جد كاذب

فليت لسانى كان نصفين منهما

بكيم ونصف عند مجرى الكواكب

أبونا كنانى بمكة قبره

بمعتلج البطحاء بين الأخاشب

لنا الربع من بيت الحرام وراثة

وربع البطاح عند دار ابن حاطب

يعنى أن بنى لؤيّ كانوا أربعة ، كعبا ، وعامرا ، وسامة ، وعوفا.

وفى بنى مرة بن عوف كان البسل ، وذلك ثمانية أشهر حرم لهم من كل سنة من بين العرب ، يسيرون به إلى أى بلاد العرب شاءوا ، ولا يخافون منهم شيئا ، قد عرفوا ذلك لهم لا يدفعونه ولا ينكرونه.

وكان سائر العرب إنما يأمنون فى الأشهر الحرم الأربعة فقط.

وذكر الزبير عن أبى عبيدة ، أنه كانت لقريش فى هذا مزية على سائر العرب قاطبة ، وذلك أن العربى لم يكن ليخرج من داره فى غير الأشهر الحرم إلا فى جماعة ، وكان القرشى يخرج حيث شاء وأنى شاء ، فيقال : رجل من أهل الله فلا يعرض له عارض ، ولا يريبه أحد بمكروه ، ويعظمه من لقيه أو ورد عليه ، ولذلك قال من قال منهم : القرشى بكل بلد حرام.

وأما كعب بن لؤيّ ، وعامر بن لؤيّ ، فهما أهل الحرم وصريح ولد لؤيّ.

وكان كعب منهما عظيم القدر فى العرب ، وأرخوا بموته إعظاما له ، إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به (١).

وكان بين موته والفيل ، فيما ذكروا ، خمسمائة سنة وعشرون سنة. وكان يوم الجمعة يسمى العروبة ، فسماه كعب الجمعة لاجتماع قومه فيه يخطبهم ويذكرهم.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٠٢).

٢١

فيقول فيما يقول : أيها الناس ، اسمعوا وعوا ، وافهموا وتعلموا ، ليل ساج ونهار ضاح ، والسماء بناء ، والأرض مهاد ، والنجوم أعلام ، لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا ، الآخرون كالأولين ، والدار أمامكم ، واليقين غير ظنكم ، صلوا أرحامكم ، واحفظوا أصهاركم ، وأوفوا بعهدكم ، وثمروا أموالكم ، فإنها قوام مروآتكم ، ولا تصونوها عما يجب عليكم ، وعظموا هذا الحرم وتمسكوا به فسيكون له نبأ عظيم ، وسيخرج به نبى كريم. ثم ينشد أبياتا منها :

صروف وأنباء تقلب أهلها

لها عقدة ما يستحيل مريرها

على غفلة يأتى النبيّ محمد

فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

ثم يقول :

يا ليتنى شاهد فحواء دعوته

حين العشيرة تبغى الحق خذلانا

أما والله لو كنت ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها تنصب الفحل ، ولأرقلت فيها إرقال الجمل ، فرحا بدعوته جذلا بصرخته.

فولد كعب بن لؤيّ بن مرة ، وهصيصا ، وعديا (١).

وأمهم وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك.

وقيل : إن أم عدى وحده امرأة من فهر ، وهى حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.

فولد مرة بن كعب كلابا ، وتيما ، ويقظة (٢).

فولد كلاب رجلين : قصيا وزهرة. وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل ، أحد الجدرة من خثعمة الأسد من اليمن ، حلفاء فى بنى الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، ويقال خثعمة الأسد (٣).

واسم سيل : خير ، وإنما سمى سيلا لطوله. وسيل اسم جبل ، وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر ، بن عمرو بن خثعمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن الأزد.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٠٢).

(٢) انظر : السيرة (١ / ١٠٢).

(٣) انظر : السيرة (١ / ١٠٣).

٢٢

وسمى عامر الجادر لأنه بنى جدارا للكعبة ، كان وهى من سيل أتى أيام ولاية جرهم البيت.

وكان عامر تزوج منهم بنت الحارث بن مضاض ، وقيل لولده الجدرة لذلك.

وذكر الشرفى بن القطامى ، أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طينها وحجارتها تبركا بذلك ، وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعث من جدرها ، فسمى الجادر. والله أعلم.

وسعد بن سيل جد قصى بن كلاب ، وهو أول من حلى السيوف بالفضة والذهب ، وأهدى إلى كلاب بن مرة مع ابنته فاطمة سيفين محليين ، فجعلا فى خزانة الكعبة.

وقصى هو الذي جمع الله به قريشا ، وكان اسمه زيدا ، فسمى مجمعا لما جمع من أمرها. وسمى قصيا لتقصيه عن بلاد قومه مع أمه فاطمة بعد وفاة أبيه كلاب بن مرة.

وحديثه فى ذلك طويل ، وسنذكره إن شاء الله عند ذكر ولايته البيت ، وهناك نذكر مآثره وعظيم غنائه فى إقامة أمر قومه ، إن شاء الله ، فإن القصد هنا الإيجاز ما أمكن فى إيراد هذا النسب المبارك ، لتحصل لسامعه الفائدة بانتظامه واتصاله ، ولا يضل ذلك عليه بما تخلل أثناءه من القواطع التي تباعد بين أطرافه.

فولد قصى بن كلاب أربعة نفر وامرأتين (١) :

عبد مناف ، وعبد الدار ، وعبد العزى ، وعبدا ، وتخمر ، وبرة.

وأمهم جميعا حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى.

وساد عبد مناف فى حياة أبيه ، وكان مطاعا فى قريش ، وهو الذي يدعى القمر لجماله ، واسمه المغيرة.

ذكر الزبير عن موسى بن عقبة ، أنه وجد كتابا فى حجر ، فيه : أنا المغيرة بن قصى ، آمر بتقوى الله وصلة الرحم.

وإياه عنى القائل بقوله :

كانت قريش بيضة فتفلقت

فالمح خالصه لعبد مناف

فولد عبد مناف أربعة نفر : هاشما ، وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفلا (٢).

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٠٣ ـ ١٠٤).

(٢) انظر : السيرة (١ / ١٠٤).

٢٣

وكلهم لعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.

إلا نوفلا فليس منهم ، فإنه لوافدة بنت عمرو المازنية. مازن بن منصور بن عكرمة.

فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة (١).

عبد المطلب ، وأسدا ، وأبا صيفى ، ونضلة ، والشفاء ، وخالدة ، وضعيفة ، ورقية ، وحية ، وأم عبد المطلب أمهم سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار.

فولد عبد المطلب عشرة نفر وست نسوة (٢).

العباس ، وحمزة ، وعبد الله ، وأبا طالب ، واسمه عبد مناف ، والزبير ، والحارث ، وهو أكبرهم ، والحجل ، والمقوم ، وضرارا ، وعبد العزى أبا لهب ، وصفية ، وأم حكيم البيضاء ، وعاتكة ، وأميمة ، وأروى ، وبرة.

فأم عبد الله وأبى طالب وجميع النساء غير صفية ، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤيّ.

فولد عبد الله بن عبد المطلب ، محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين ، ونخبة الخلق أجمعين ، فنسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرف الأنساب ، وسببه إلى الله سبحانه باصطفائه إياه واختياره له أفضل الأسباب ، وبيته فى قريش أوسط بيوتها الحرمية ، وأعرق معادنها الكرمية ، لم تخل قط مكة من سيد منهم أو سادات ، يكونون خير جيلهم ورؤساء قبيلهم ، حتى إذا درجوا سما قسماؤهم فى المجد الصميم ، وشركاؤهم فى النسب الكريم إلى ذلك المقام ، فعرجوا فصحبوا على ذلك الزمان.

لواؤهم على من ناوأهم منصور ، وسؤدد البطحاء عليهم مقصور ، والعيون إليهم أية سلكوا صور.

ثم أتى الوادى فطم على القرى ، وشد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبيّ الأمى ، فاحتازوا المجد عن آخره. وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٠٤).

(٢) انظر : السيرة (١ / ١٠٥).

٢٤

وأمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى آمنة بنت وهب ، بن عبد مناف ، بن زهرة ، بن كلاب (١) ، قسمية أبيه من هذا الأب ، وكريمة قومها أولى المكان النبيه والحسب.

وحسبها من الشرف المتين والكرم المبين والفخر الممكن غاية التمكين ، أن كانت أما لخاتم النبيين ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أجمعين.

فكيف ولها من نصاعة الحسب المحسب ، وعتاقة المنسب والمنصب ، ما يقف عند البطاح ، وتعترف له قريش البطاح.

فرسول الله صلوات الله وبركاته عليه ، خيرة الخير من كلا طرفيه ، وقد اعتنى الناس بنسبه الكريم نثرا ونظما ، ونقبوا عن آبائه الأمجاد ، وأمهاته الطاهرات الميلاد أبا فأبا وأما فأما.

فرادوا من ذلك الفخار حدائق غلبا ، وسادوا من شرف تلك الآثار مراقى شمّا.

وقد تقدمت من ذلك نبذ منثورة أثناء الكلام ، وستأتى إن شاء الله منظومة مع أشكالها ، تفوق العقد فى النظام ، فى قصيدة فريدة مفيدة ، لأبى عبد الله بن أبى الخصال ، خاتمة رؤساء الآداب ، والعلماء المبرزين فى هذا الباب ، سماها «معراج المناقب ، ومنهاج الحسب الثاقب ، فى ذكر نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزاته ومناقب أصحابه» ، قرأتها على شيخنا الخطيب أبى القاسم بن حبيش ، عنه فقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهذا النسب الكريم على اختصار ، يفى إن شاء الله بالغرض المروم ، إذ الكلام المنظوم أعذب جريا على الألسان وأهذب رأيا فى الإفادة بالمستحسن.

وأولها :

إليك فهمى والفؤاد بيثرب

وإن عاقنى عن مطلع الوحى مغربى

أعلل بالآمال نفسا أغرها

بتقديم غاياتى وتأخير مذهبى

ودينى على الأيام زورة أحمد

فهل ينقضى دينى ويقرب مطلبى

وهل أردن فضل الرسول بطيبة

فيا برد أحشائى ويا طيب مشربى

وهل فضلت من مركب العمر فضلة

تبلغنى أم لا بلاغ لمركب

ألا ليت زادى شربة من مياهها

وهل مثلها ريا لغلة مذنب

__________________

(١) انظر نسبها فى : السيرة (١ / ١٠٥) ، وذكرها هناك من جهة الأب ، ومن جهة الأم وقال بعد نسبها من جهة الأب : وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.

٢٥

ويا ليتنى فيها إلى الله صائر

وقلبى عن الإيمان غير مقلب

وإن امرؤ وارى البقيع عظامه

لفى زمرة تلقى بسهل ومرحب

وفى ذمة من خير من وطئ الثرى

ومن يعتلقه حبله لا يعذب

وما لى لا أشرى الجنان بعزمة

يهون عليها كل طام وسبسب

وما ذا الذي يثنى عنانى وإننى

لجواب آفاق كثير التقلب

أفقر ففى كفى لله نعمة

وبين فقد فارقت قبل بنى أبى

وقد مرنت نفسى على البعد وانطوت

على مثل حد السمهرى المدرب

وكم غربة فى غير حق قطعتها

فهلا لذات الله كان تغربى

وكم فاز دونى بالذى رمت فائز

وأخطأنى ما ناله من تغرب

أراه وأهوى فعلة البر قاعدا

فيا قعدى البر قم وتلبب

أمانى قد أفنى الشباب انتظارها

وكيف بما أعيى الشباب لأشيب

وقد كانت أسرى فى الظلام بأدهم

فها أنا أغدو فى الصباح بأشهب

فمن لى وأنى لى بريح تحطنى

إلى ذروة البيت الرفيع المطنب

إلى الهاشمى الأبطحى محمد

إلى خاتم الرسل المكين المقرب

إلى صفوة الله الأمين لوحيه

أبى القاسم الهادى إلى خير مشعب

إلى ابن الذبيحين الذي صيغ مجده

ولما تصغ شمس ولا بدر غيهب

إلى المنتقى من عهد آدم فى الذرى

يردد فى سر الصريح المهذب

إلى من تولى الله تطهير بيته

وعصمته من كل عيص مؤشب

فجاء برىء العرض من كل وصمة

فما شئت من أم حصان ومن أب

كروض الربا كالشمس فى رونق الضحى

كناشئ ماء المزن قبل التصوب

عليه من الرحمن عين كلاءة

تجنبه إلمام كل مجنب

إذا أعرضت أعراقه عن قبيلة

فما أعرضت إلا لأمر مغيب

وما عبرت إلا على مسلك الهدى

ولا عثرت إلا على كل طيب

فمن مثل عبد الله خير لداته

وآمنة فى خير ضنء ومنصب

إذا اتصلت جاءتك أفلاذ زهرة

كأسد الشرى من كل أشوس أغلب

ولا خال إلا دون سعد بن مالك

ولو كان فى عليا معد ويعرب

ومن ذا له جد كشيبة ذى الندى

وساقى الحجيج بين شرق ومغرب

له سؤدد البطحاء غير مدافع

وحومة ما بين الصفا والمحصب

أبو الحارث السامى إلى كل ذروة

يقصر عن إدراكها كل كوكب

٢٦

به وبما فى برده من أمانة

حمى الله ذاك البيت من كل مرهب

وأهلك بالطير الأبابيل جمعهم

فيا لهم من عارض غير خلب

وفيما رآه شيبة الحمد آية

تلوح لعين الناظر المتعجب

وفى ضربه عنه القداح مروعا

ومن يرم بين العين والأنف يرهب

وما زال يرمى والسهام تصيبه

إلى أن وقبه الكوم من نسل أرحب

وكانوا أناسا كلما أمهم أذى

تكشف عن صنع من الله معجب

وعاش بنو الحاجات فيهم وأخصبوا

وإن أصبحوا فى منزل غير مخصب

وعمرو المعالى هاشم وثريده

بمكة يدعو كل أغبر مجدب

بمثنى جفان كالجواب منيخة

ملئن عبيطات السنام المرعب

هو السيد المتبوع والقمر الذي

على صفحته فى الرضا ماء مذهب

بنى الله للإسلام عزا بصهره

إلى منتهى الأحياء من آل يثرب

وعبد مناف دوحة الشرف الذي

تفرع منها كل أروع محرب

مطاع قريش والكفيل بعزها

ومانعها من كل ضيم ومنهب

وزيد ومن زيد قصى مجمع

سمعت وبلغنا وحسبك فاذهب

به اجتمعت أحياء فهر وأحرزت

تراث أبيها دون كل مذبذب

وأصبح حكم الله فى آل بيته

فهم حوله من سادنين وحجب

وما أسلمته عن تراخ خزاعة

ولكن كما عض الهناء بأجرب

ولاذت قريش من كلاب بن مرة

بجذل حكاك أو بعذق مرحب

ومرة ذو نفس لدى الحرب مرة

وفى السلم نفس الصرخدى المذوب

وكعب عقيد الجود والحكم والنهى

وذو الحكم الغر المبشر بالنبى

خطيب لؤيّ واللواء بكفه

لخطبة ناد أو لخطة مقنب

وأول من سمى العروبة جمعة

وصدر أما بعد يلحى ويطبى

وأرخ آل الله دهرا بموته

سنين سدى يتعبن كف المحسب

وأضحى لؤيّ غالبا كل ماجد

ومن غالب يمينه للمجد يغلب

وفهر أبو الأحياء جامع شملها

وكاسبها من فخره خير مكسب

تقرش فامتازت قريش بفضله

وسد فسدوا خلة المتأوب

وغادره اسما فى الكتاب منزلا

يمر به فى آية كل معرب

ومالك المربى على كل مالك

فتى النضر حابته السيادة بل حبى

هو الليث فى الهيجاء والغيث فى الندى

وبدر الدياجى حين يسرى ويحتبى

٢٧

تردى بفضفاض على المجد نسجه

وليس عليه ، فليجر ويسحب

وللنضر يا للنضر من كل مشهد

هو الشمس صعد فى سناها وصوب

وأعرض بحر من كنانة زاخر

يساق إلى أمواجه كل مذنب

وخير حكما فى الصهيل أو الوغا فلم

أو البيت أو عز على الدهر مصحب

يقتصر واختار كلا فحازه

إلى غاية العزم المديد المعقب

له البيت محجوبا وعز مخلد

وأجرد يعبوب إلى جانب أصهب

وخزم آناف العتاة خزيمة

فلاذوا بأخلاق الذلول المغرب

عظيم لسلمى بنت سود بن أسلم

لكل قضاعى كريم مصعب

ومدركة ذو اليمن والنجح عامر

وخير مسمى فى العلا وملقب

تراءى مطلا إذ تقمع صنوه

ففاز بقدح ظافر لم يخيب

لأم الجبل الشم والقطر والحصى

لخندف إن تستركب الأرض تركب

وإلياس مأوى الناس فى كل أزمة

ومهربهم فى كل خوف ومرهب

وزاجرهم إذ بدلوا الدين ضيلة

وأضحوا بلا هاد ولا متحوب

وجاءهم بالركن بعد هلاكه

وقد كان فى صدع من الرض أنكب

وما هو إلا معجز لنبوة

وبشرى وعقبى للبشير المعقب

وحج وأهدى البدن أول مشعر

لها وفروض الحج لم تترتب

وكم حكمة لم تسمع الأذن مثلها

له إن تلح فى ناظر العين تكتب

إلى قنص تنميه سوداء نبته

كلا طرفيه من معد لمنسب

وفى مضر تاه الكلام وأقبلت

مآثر سدت كل وجه ومذهب

وحينا وكاثرنا النجوم بجمعها

بأكثر منها فى العديد وأثقب

هنالك آتى الله من شاء فضله

وقيل لهذا سر وللآخر اركب

وكانا شقيقى نبعة فتفاوتا

لعلم وحكم ماله من معقب

وما منهما إلا حنيف ومسلم

على نهج إسماعيل غير منكب

وقد سلم الأفعى بنجران حكمه

إليهم ولم ينظر إلى متعقب

رأى فطنا أبدت له عن نجاره

وكان لنبع فاستحال لأثأب

وتلك علامات النبوة كلها

تشير إلى منظورها المترقب

وقال رسول الله مهما اختلفتم

ولم تعرفوا قصد السبيل الملحب

ففى مضر جرثومة الحق فاعمدوا

إلى مضر تلفوه لم يتنقب

وما سيد إلا نزار يفوته

ومن فاته بدر الدجى لم يؤنب

٢٨

قريع معد والذي سد نفده

متى يأتهم شعب من الدهر يرأب

أبو أبحر الدنيا وأطوادها التي

بها ثبتت طرّا فلم تنقلب

ولم يكفه حتى أعانت معانة

بكل عتيق جرهمى مهذب

وجاء والسماء شموسها

وأقمارها فى ذيله المتسحب

وبين يديه الأنجم الزهر بثها

على الأرض حتى لا مساغ لأجنبى

وقدما تحفى الله من بختنصر

به والورى من هالك ومعذب

وجنبه أرض البوار وحازه

إلى معقل من حرزه متأشب

وحل بإرمينية تحت حفظه

لدى ملك عن جانبيه مذبب

فلما تجلى الروع أسرى بعبده

إلى حرم أمن لأبنائه اجتبى

وقد كان رد الله عنهم كليمه

ليالى يدعو دعوة المتغضب

وجاء بنو يعقوب يشكون منهم

ينادونه هذا قتيل وذا سبى

فقال له لا تدع موسى عليهم

فمنهم نبى أصطفيه وأجتبى

أحبهم فيه رضا وأحبه

كذلك من أحببه يكرم ويحبب

وأغفر إن يستغفرونى ذنوبهم

ومهما دعا داع أجبه وأقرب

فقال إذن فاجعلهم رب أمتى

فمن ترضاه يا رب يرض ويرغب

فقال هم فى آخر الدهر صفوتى

يقضون أعدائى ويستنصرون بى

دعائم إيمان وأركان سؤدد

مضت بعلاها مهدد بنت جلحب

ومصعد عدنان إلى جذم آدم

بأبين من قصد الصباح والحب

ونهى رسول الله صد وجوهها

وكان لنا فى نظمها شد ملهب

وإلا فأد بن الهميسع ماثل

ونبت بن قيدار سلالة أشجب

وواجه أعراق الثرى كل من ترى

وأسمع إسماعيل دعوة مكثب

وقام خليل الله يتلوه آزر

أغر صباحى لأدهم غيهب

إلى الناحر ابن الشارع الغمر يرتقى

وللداع ثم القاسم الشامخ الأب

ويعبر ينميه إلى المجد شالخ

إلى الرافد الوهاب برك وطيب

لسام أبى السامين طرا سما بهم

لنوح للمكان العلى لمثوب

لإدريس ثم الرائد بن مهلهل

لقينن ثم الطاهر المتطيب

إلى هبة الرحمن شيث بن آدم

أبى البشر الأعلى لطين لأثلب

فمنه خلقنا ثم فيه معادنا

ومنه إلى عدن فسدد وقارب

وهنا انتهى ما يخص المنتمى العلى من هذه الكلمة ، التي فرى ناظمها فى الإحسان

٢٩

الفرى المحمود ، فاقتصرت منها على ما وفى بالغرض المقصود ، واستوفى رجال النسب المجيد والحسب التليد ، تعجيلا لقرى المستفيد ، واكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد ، وإنها إن شاء الله لكافية فى الباب ، ومقدمة فى الكلام اللباب ، وتحفة إنما يعرف قدرها أولو الألباب.

والله يجزى قائلها الحسنى ، وينفعه بمقصده الأسنى.

وإذ قد انتهينا إلى ما حسن لدينا إيراده فى هذا المعنى وصفا وذكرا ، وخدمنا النسب الأشرف نظما ونثرا ، فلنعرج على ذكر البقعة التي اختارها الله لرسوله الكريم منشأ ، وجعلها لقومه قرارا ومتبوأ ، وأولية البيت العتيق الذي جعله الله مثابة وأمنا للناس ، ورفعه على أفضل القواعد وأكرم الأساس ، ثم دحا الأرض من تحته رفعا للشبهة فى شرفه والالتباس.

ثم نذكر من وليه من آبائه الكرام ، إذا هم أهله الأعلون وأولياؤه الأحقاء به الأولون ، وهو مأثرتهم التي لم يزالوا إياها يرعون ، ومن جرائها يراعون ، وتراث المجد الذي إليهم يعزى وإليه يعزون ، وبسيما شرفه يعرفون وباسمه يدعون.

ونشير إلى حرمته العظيمة فى الحرمات ، وما أنزل الله تعالى بمن بغاه بسوء أو أتى فيه بأمر مذموم مشنوء من أليم العقوبات وعظيم النقمات.

لنخدم البلد كما خدمنا المحتد ، ونقضى حق المكان الشريف كما قضينا حق الحسب التليد والطريف.

حق نخلص إلى ذكر المولد المبارك الذي منه نتدرج إلى المقصود ، الذي نحن عليه عاملون ، ولتمامه آملون ، رجاء أن نجد ذلك مذخورا عند المولى الذي يضاعف لعبيده الحسنات ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون.

ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم

ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلم

قال الله العظيم : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٦].

٣٠

وفى الصحيح من حديث أبى ذر الغفارى ، أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى مسجد وضع فى الأرض أول؟ فقال له : «المسجد الحرام» قال : قلت : ثم أى؟ قال : «ثم المسجد الأقصى» قلت : كم بينهما؟ قال : «أربعون عاما» (١).

وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه ، قال : كنت مع أبى محمد بن على بمكة فى ليالى العشر قبل التروية بيوم أو يومين ، وأبى قائم يصلى فى الحجر ، وأنا جالس وراءه ، فجاء رجل أبيض الرأس واللحية ، جليل العظام بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر ، عليه ثوبان غليظان فى هيئة محرم ، فجلس إلى جنبه ، فخفف أبى الصلاة ، فسلم ثم أقبل عليه ، فقال له الرجل : يا أبا جعفر ، أخبرنى عن بدء خلق هذا البيت كيف كان؟.

فقال له أبو جعفر محمد بن على : ممن أنت يرحمك الله؟ قال : رجل من أهل الشام.

فقال له محمد بن على : إن أحاديثنا إذا سقطت إلى الشام جاءتنا صحاحا ، وإذا سقطت إلى العراق جاءتنا وقد زيد فيها ونقص.

ثم قال : بدء خلق هذا البيت أن الله تبارك وتعالى ، قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، فردوا عليه : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) الآية.

وغضب عليهم ، فعاذوا بالعرش ، وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم ، فرضى عنهم وقال لهم : ابنوا لى فى الأرض بيتا فيعوذ به من سخطت عليه من بنى آدم ويطوفون حوله ، كما فعلتم بعرشى ، فأرضى عنهم.

فبنوا له هذا البيت. فهذا يا عبد الله بدء خلق هذا البيت.

فقال الرجل : يا أبا جعفر ، فما بدء خلق هذا الركن؟.

فقال : إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق ، قال لبنى آدم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى.

وأقروا. وأجرى نهرا أحلى من العسل وألذ من الزبد ، ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر ، فهذا الاستلام الذي ترى إنما هو بيعة على إقرارهم بالذى كانوا أقروا به.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٧ ، ١٩٧) ، مسلم فى صحيحه كتاب المساجد (١ ، ٢) ، البيهقي فى السنن الكبرى (٢ / ٤٣٣) ، السيوطى فى الدر المنثور (٢ / ٥٢) ، ابن كثير فى التفسير (٢ / ٦٣ ، ٥ / ٤٠٩) ، القرطبى فى التفسير (٤ / ١٣٧) ، أبو نعيم فى الحلية (٤ / ٢١٦).

٣١

وقال جعفر بن محمد : كان أبى إذا استلم الركن قال : اللهم أمانتى أديتها ، وميثاقى وفيت به ، ليشهد لى عندك بالوفاء. قال : وقام الرجل فذهب.

قال جعفر بن محمد : فأمرنى أبى أن أرده عليه ، فخرجت فى أثره وأنا أراه ، يحول بينى وبينه الزحام ، حتى دخل نحو الصفا ، فتبصرته على الصفا فلم أره ، ثم ذهبت إلى المروة فلم أره عليها ، فجئت إلى أبى فأخبرته فقال لى أبى : لم تكن لتجده ، وذلك الخضر عليه‌السلام؟!!

وخرج الترمذى من حديث عبد الله بن عباس وصححه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم(١).

ومن حديث عبد الله بن عمرو ، مرفوعا وموقوفا ، قال : «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة ، طمس الله نورهما ، ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب»(٢).

ومن حديث ابن عباس أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحجر : «والله ليبعثه الله يوم القيامة ، له عينان يبصر بهما ولسان ينطق ، يشهد على من استلمه بحق» (٣).

وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى من حديث عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : إن آدم عليه‌السلام لما هبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره ، قال : يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدسك غيرى؟

قال الله تعالى : إنى سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدى ويقدسنى ، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبح فيها خلقى ويذكر فيها اسمى ، وسأجعل من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتى وأوثره باسمى ، فأسميه بيتى ، وعليه وضعت جلالى ، ثم أنا

__________________

(١) أخرجه الترمذى حديث رقم (٨٧٧) ، ابن خزيمة فى صحيحه (٢٧٣٣) ، المتقى الهندى فى الكنز (٣٤٧٣٧) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (٤ / ٣٤٤) ، التبريزى فى مشكاة المصابيح (٢٥٧٧).

(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٢ / ٢١٣) ، الحاكم فى المستدرك (١ / ٤٥٦) ، المتقى الهندى فى كنز العمال (٣٤٧٤١) ، التبريزى فى مشكاة المصابيح (٢٥٧٩) ، السيوطى فى جمع الجوامع (٥٥٧٠).

(٣) أخرجه الترمذى فى سننه حديث (٩٦١) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (٤ / ٢٧٦) ، المتقى الهندى فى الكنز (٣٤٧٢٣).

٣٢

مع ذلك فى كل شيء ومع كل شيء ، أجعل ذلك البيت حرما آمنا ، يتحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه ، فمن حرمه بحرمتى استوجب بذلك كرامتى ومن أخاف أهله فقد أخفر ذمتى وأباح حرمتى ، أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا ، يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يزجون بالتلبية زجيجا ويثجون بالبكاء ثجيجا ، ويعجون بالتكبير عجيجا.

فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلى وزارني وضافنى ، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه ، وأن يسعف كلا بحاجته.

تعمره يا آدم ما كنت حى ، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك ، أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن (١).

وفى حديث غير هذا عن عطاء وقتادة ، أن آدم عليه‌السلام ، لما أهبطه الله من الجنة وفقد ما كان يسمعه ويأنس إليه من أصوات الملائكة وتسبيحهم ، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله تعالى فى دعائه وصلاته ، فوجهه إلى مكة ، وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن.

وقال الله : يا آدم ، إنى قد أهبطت لك بيتا تطوف به ، كما يطاف حول عرشى وتصلى عنده كما يصلى عند عرشى.

فانطلق إليه آدم ، فطاف به هو ومن بعده من الأنبياء ، إلى أن كان الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى أمر الله إبراهيم عليه‌السلام ببناء البيت ، فبناه ، فذلك قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) الآية.

وعن ابن عباس ، أن الله أوحى إلى آدم : أن لى حرما بحيال عرشى ، فانطلق فابن لى بيتا فيه ، ثم حف به كما رأيت ملائكتى يحفون بعرشى ، فهنالك أستجيب لك ولولدك ، من كان منهم فى طاعتى.

فقال آدم : أى رب ، وكيف لى بذلك؟ لست أقوى عليه ولا أهتدي لمكانه.

فقيض الله له ملكا فانطلق به نحو مكة ، فكان آدم عليه‌السلام إذا مر بروضة ومكان يعجبه قال للملك : انزل بنا هاهنا. فيقول له الملك : أمامك.

حتى قدم مكة ، فبنى البيت من خمسة أجبل ، من طور سيناء ، وطور زيتا ، ومن لبنان ، والجودى ، وبنى قواعده من حراء.

__________________

(١) أخرجه الطبرى فى التاريخ (١ / ١٣١).

٣٣

فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات ، فأراه المناسك كلها ، التي يفعلها الناس اليوم ، ثم قدم به مكة ، فطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات بها.

وفى رواية أنه حج من الهند أربعين حجة على رجليه.

وذكر الواقدى عن أبى بكر بن سليمان بن أبى خيثمة العدوى قال : قلت لأبى جهم ابن حذيفة : يا عم ، حدثني عن بناء البيت ونزول إسماعيل عليه‌السلام الحرم.

قال : يا ابن أخى سلنى عنه على نشاط منى فإنى أعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرى.

قال : فمكثت شهرا أذكره المرة بعد المرة ، فيقول مثل قوله الأول ، وكان قد كبر ورق وضعف ، فدخلت عليه يوما وهو مسرور ، فقال لى : اسمع حديثك الذي سألتنى عنه.

إن البيت بناؤه حرم فى السماء السابعة وفى الأرض السابعة. يعنى أن ما يقابله حرم.

وإن آدم عليه‌السلام ، أمر بأساسه فبناه هو وحواء ، أسساه بصخر أمثال الخلفات ، يعنى النوق التي فى بطونها أجنة ، واحدتها خلفة. أذن الله عزوجل للصخر أن يطيعهما.

ثم نزل البيت من السماء من ذهب أحمر ، وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك ، فوضعوه على رأس آدم عليه‌السلام ، ونزل الركن ، وهو يومئذ درة بيضاء ، فوضع موضعه اليوم من البيت ، وطاف به آدم وصلى فيه. فلما مات آدم عليه‌السلام وليه بعده ابنه شيث ، فكان كذلك حتى حجه نوح عليه‌السلام. فلما كان الغرق يعنى الطوفان ، بعث الله جل ثناؤه سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء ، كى لا يصيبه الماء النجس ، وبقيت قواعده ، وجاءت السفينة فدارت به سبعا ثم دثر البيت ، فلم يحجه من بين نوح وبين إبراهيم أحد من الأنبياء على جميعهم السلام (١).

وعن غير الواقدى فى غير حديث أبى الجهم ، أن شيث بن آدم عليهما‌السلام ، هو أول من بنى الكعبة ، وأنها كانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها لأنها أنزلت إليه من الجنة ، وكان قد حج إلى موضعها من الهند.

وفى الخبر أن موضعها كان غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض ، فلما

__________________

(١) قد أورد الحافظ ابن كثير فى البداية والنهاية الكثير من الأخبار عن بناء البيت. انظرها فى البداية والنهاية (١ / ١٦٧ ـ ١٧٠).

٣٤

بدأ الله خلق الأشياء ، خلق التربة قبل السماء ، فلما خلق السماء وقضاهن سبع سماوات ، دحا الأرض ، أى بسطها ، وإنما دحاها من تحت الكعبة ، فلذلك سميت مكة أم القرى.

وذكر ابن هشام أن الماء لم يصل الكعبة حين الطوفان ، ولكنه قام حولها ، وبقيت هى فى هواء إلى السماء ، وأن نوحا قال لأهل السفينة ، وهى تطوف بالبيت : إنكم فى حرم الله عزوجل وحول بيته ، فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة. وجعل بينهم وبين النساء حاجزا ، فتعدى حام ، فدعا عليه نوح بأن يسود الله لون بنيه ، فأجابه الله على وفق ما دعاه ، واسود كوش بن حام وولده إلى يوم القيامة.

وقد قيل فى سبب دعوته غير هذا ، فالله أعلم.

ويروى أنه لما نضب ماء الطوفان ، بقى مكان البيت ربوة من مدرة ، فحج إليه بعد ذلك هود وصالح ومن آمن معهما ، وأن يعرب قال لهود عليه‌السلام : ألا تبنيه؟ قال : إنما يبنيه نبى كريم يأتى من بعدى ، يتخذه الرحمن خليلا.

قال أبو الجهم ، من حديث الواقدى (١) : حتى أراد الله بإبراهيم ما أراد ، فولد له إسماعيل وهو ابن تسعين سنة ، فكان بكر أبيه ، فلما أراد الله عزوجل ، أن يبوئ لإبراهيم مكان البيت وأعلامه ، أوحى الله إليه يأمره بالمسير إلى بلده الحرام ، فركب إبراهيم البراق ، وحمل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين ، وهاجر خلفه ، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم ، فكان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم : بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل : لا. حتى قدم به مكة ، وهى إذ ذاك عضاة وسلم وسمر ، والعماليق يومئذ حول الحرم ، وهم أول من نزل مكة ويكونون بعرفة ، وكانت المياه يومئذ قليلة ، وكان موضع البيت قد دثر وهو ربوة حمراء مدرة ، وهو يشرف على ما حوله ، فقال جبريل حين دخل من كداء (٢) ، وهو الجبل الذي يطلعك على الحجون (٣) والمقبرة : بهذا أمرت. قال إبراهيم : بهذا أمرت؟ قال : نعم.

__________________

(١) انظر ما ذكره ابن كثير فى البداية (١ / ١٥٩).

(٢) كداء : بفتح أوله ممدود لا يصرف لأنه مؤنث ، جبل بمكة ، وهو عرفة وهى كلها موقف إلا عرنة فليست فى الحرم بينها وبين الحرم رمية حجر. انظر : الروض المعطار (٤٩٠) ، معجم ما استعجم (٤ / ١١١٧ ، ١١٨).

(٣) الحجون : بفتح الحاء ، موضع بمكة عند المحصب ، وهو الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلى شعب الجزارين إلى ما بين الحوضين اللذين فى حائط عوف ، وقيل : الحجون مقبرة أهل مكة تجاه دار أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه. انظر : الروض المعطار (١٨٨).

٣٥

فانتهى إلى موضع البيت ، فعمد إبراهيم إلى موضع الحجر فآوى فيه هاجر وإسماعيل ، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا ، فلما أراد إبراهيم أن يخرج ، ورأت أم إسماعيل أنه ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر ، تركت ابنها فى مكانه وتبعت إبراهيم ، فقالت : يا إبراهيم إلى من تدعنا؟ فسكت عنها ، حتى إذا دنا من كداء قال : إلى الله عزوجل أدعكم. فقالت : فالله عزوجل أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : فحسبى تركتنا إلى كاف.

وانصرفت هاجر إلى ابنها ، وخرج إبراهيم حتى وقف على كداء ، ولا بناء ولا ظل ولا شيء يحول دون ابنه ، فنظر إليه ، فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده ، فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

ثم انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام ، وعمدت هاجر فجعلت عريشا فى موضع الحجر من سمر وثمام ألقته عليه ومعها شن فيه شيء من ماء ، فلما نفد الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه ، فانقطع لبنها ، فأخذ إسماعيل كهيئة الموت ، فظنت أنه ميت ، فجزعت وخرجت جزعا أن تراه على تلك الحال ، وقالت : يموت وأنا غائبة عنه أهون على ، وعسى الله أن يجعل لى فى ممشاى خيرا.

فانطلقت فنظرت إلى جبل الصفا ، فأشرفت عليه تستغيث ربها عزوجل وتدعوه ، ثم انحدرت إلى المروة ، فلما كانت فى الوادى خبت حتى انتهت إلى المروة ، فعلت ذلك سبع مرار ، كلما أشرفت على الصفا نظرت إلى ابنها ، فتراه على حاله ، وإذا أشرفت على المروة فمثل ذلك.

فكان ذلك أول ما سعى بين الصفا والمروة. وكان من قبلها يطوفون بالبيت ولا يسعون بين الصفا والمروة ، ولا يقفون المواقف ، حتى كان إبراهيم.

فلما كان الشوط السابع ويئست سمعت صوتا ، فاستمعت فلم تسمع إلا الأول ، فظنت أنه شيء عرض لسمعها من الظمأ والجهد.

فنظرت إلى ابنها فإذا هو يتحرك ، فأقامت على المروة مليا ، ثم سمعت الصوت الأول ، فقالت : إنى سمعت صوتك فأعجبنى ، فإن كان عندك خير فأغثنى ، فإنى قد هلكت وهلك ما عندى.

٣٦

فخرج الصوت يصوت بين يديها ، وخرجت تتلوه قد قويت له نفسها ، حتى انتهى الصوت عند رأس إسماعيل ، ثم بدا لها جبريل ، فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم ، فضرب بعقبه مكان البئر ، فظهر الماء فوق الأرض حين فحص بعقبه ، وفارت بالرواء ، وجعلت أم إسماعيل تحظر الماء بالتراب خشية أن يفوتها قبل أن تأتى بشنتها ، فاستقت وبادرت إلى ابنها فسقته وشربت ، فجعل ثدياها يتقطران لبنا ، فكان ذلك اللبن طعاما وشرابا لإسماعيل ، وكانت تجتزئ بماء زمزم ، فقال لها الملك : لا تخافى أن ينفد هذا الماء ، وأبشرى ، فإن ابنك سيشب ويأتى أبوه من الشام ، فتبنون هاهنا بيتا يأتيه عباد الله من أقطار الأرضين ملبين لله جل ثناؤه شعثا غبرا ، فيطوفون به ويكون هذا الماء شرابا لضيفان الله عزوجل ، الذين يزورون بيته.

فقالت : بشرك الله بخير ، وطابت نفسها ، وحمدت الله عزوجل.

ويقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرا لهما أخطأهما ، فقد عطشا وأهلهما بعرفة ، فنظرا إلى طير يهوى قبل الكعبة فاستنكرا ذلك ، وقالا : أنى يكون الطير على غير ماء؟ فقال أحدهما لصاحبه : أمهل حتى نبرد ، ثم نسلك فى مهوى الطير.

فأبردا ثم تروحا ، فإذا الطير ترد وتصدر ، فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبى قبيس ، فنظرا إلى الماء وإلى العريش ، فنزلا وكلما هاجر وسألاها متى نزلت؟ فأخبرتهما ، وقالا : لمن هذا الماء؟ فقالت : لى ولابنى. فقالا : من حفره؟ فقالت : سقيا الله جل ثناؤه.

فعرفا أن أحدا لا يقدر على أن يحفر هناك ماء ، وعهدهما بما هناك قريب وليس به ماء.

فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما ، فأخبراهم ، فتحولوا حتى نزلوا معها على الماء فأنست بهم ، ومعهم الذرية ، فنشأ إسماعيل مع ولدانهم.

وكان إبراهيم يزور هاجر فى كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتى مكة ، ثم يرجع فيقيل فى منزله بالشام.

فزارها بعد ، ونظر إلى من هناك من العماليق وإلى كثرتهم وغمارة الماء ، فسر بذلك.

ولما بلغ إسماعيل عليه‌السلام ، تزوج امرأة من العماليق ، فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل ، وإسماعيل فى ماشية يرعاها ويخرج متنكبا قوسه ، فيرمى الصيد مع رعيته ، فجاء إبراهيم عليه‌السلام إلى منزله ، فقال : السلام عليكم يا أهل البيت.

٣٧

قال : فسكتت فلم ترد ، إلا أن تكون ردت فى نفسها ، فقال : هل من منزل؟ فقالت :لا هيم الله إذن ، قال : فكيف طعامكم وشرابكم وشاؤكم؟ فذكرت جهدا ، فقالت : أما الطعام فلا طعام ، وأما الشاء فإنما نحلب الشاة بعد الشاة المصر ، وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ ، قال : فأين رب البيت؟ قالت : فى حاجته.

قال : فإذا جاء فأقرئيه السلام ، وقولى له غير عتبة بيتك.

ورجع إبراهيم إلى منزله ، وأقبل إسماعيل راجعا إلى منزله بعد ذلك بما شاء الله عزوجل ، فلما انتهى إلى منزله سأل امرأته هل جاءك أحد؟ فأخبرته بإبراهيم وقوله وما قالت له ، ففارقها وأقام ما شاء الله أن يقيم.

وكانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا منه أمورا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون ، فقام فيهم رجل منهم يقال له عموق ، فقال : يا قوم أبقوا على أنفسكم ، فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من هذه الأمم ، فلا تفعلوا ، تواصلوا ولا تستخفوا بحرم الله عزوجل وموضع بيته.

فلم يقبلوا ذلك منه ، وتمادوا فى هلكة أنفسهم.

ثم إن جرهما وقطوراء ، وهما أبناء عم خرجوا سيارة من اليمن ، أجدبت البلاد عليهم ، فساروا بذراريهم وأموالهم ، فلما قدموا مكة رأوا فيها ماء معينا وشجرا ملتفا ، ونباتا كثيرا ، وسعة من البلاد ، ودفئا فى الشتاء.

فقالوا : إن هذا الموضوع يجمع لنا ما نريد.

فأعجبهم ونزلوا به ، وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم ، سنة فيهم جروا عليها واعتادوها ولو كانوا نفرا يسيرا.

فكان مضاض بن عمرو على قومه من جرهم ، وكان على قطوراء السميدع ، رجل منهم.

فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان (١) فما حاز.

ونزل السميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد (٢) ، فما حاز.

__________________

(١) قعيقعان : جبل بأعلى مكة ، قيل سمى قعيقعان لأن مضاض بن عمرو لما سار إلى السميدع معه كتيبة فيها عدتها من الرماح والدرق والسيوف تقعقع بذلك فسمى قعيقعان ، والقصة طويلة.

انظر : الروض المعطار (٤٧٧) ، معجم ما استعجم (٣ / ١٠٨٦).

(٢) أجياد : بفتح أوله وإسكان ثانية وبالياء أخت الواو والدال المهملة ، كأنه جمع جيد ، أحد جبال ـ

٣٨

وذهبت العماليق إلى أن ينازعوهم أمرهم فعلت أيديهم على العماليق وأخرجوهم من الحرم كله ، فصاروا فى أطرافه لا يدخلونه.

وجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما فكثروا وأثروا ، فكان مضاض يعشر ، كل من دخل مكة من أعلاها ، وكان السميدع يشعر كل من دخل من أسفلها ، وكل على قومه لا يدخل أحدهما على صاحبه ، وكانوا قوما عربا وكان اللسان عربيا.

وكان إبراهيم يزور إسماعيل ، فلما نظر إلى جرهم نظر إلى لسان عجيب وسمع كلاما حسنا ، ونظر إسماعيل إلى رعلة بنت مضاض بن عمرو ، فأعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها.

فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل ، فجاء إلى بيت إسماعيل ، فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقامت إليه المرأة فردت عليه ورحبت به ، فقال : كيف عيشكم ولبنكم وماشيتكم؟ فقالت خير عيش بحمد الله عزوجل ، نحن فى لبن كثير ولحم كثير وماؤنا طيب ، قال : هل من حب؟ قالت : يكون إن شاء الله ونحن فى نعم. قال : بارك الله لكم.

قال أبو جهم : فكان أبى يقول : ليس أحد يخلى عن اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه ، ولعمرى لو وجد عندنا حبا لدعا فيه بالبركة فكانت أرض زرع.

ويقال : إن إبراهيم قال لها : ما طعامكم؟ قالت : اللحم واللبن. قال : فما شرابكم؟ قالت : اللبن والماء. قال : بارك الله لكم فى طعامكم وشرابكم ، فاللبن طعام وشراب.

قالت : فانزل رحمك الله فاطعم واشرب. قال : إنى لا أستطيع النزول. قالت : فإنى أراك شعثا أفلا أغسل رأسك وأدهنه؟ قال : بلى إن شئت. فجاءته بالمقام وهو يومئذ حجر رطب أبيض مثل المهاة ، ملقى فى بيت إسماعيل ، فوضع عليه قدمه اليمنى وقدم إليها رأسه وهو على دابته فغسلت شق رأسه الأيمن ، فلما فرغت حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى ، وقدم إليها رأسه فغسلت شق رأسه الأيسر ، فالأثر الذي فى المقام من ذلك. قال أبو الجهم : فقد رأيت موضع العقب والإصبع.

__________________

ـ مكة وهو الجبل الأخضر العالى بغربى المسجد الحرام ، وفى رأسه منار يذكر أن أبا بكر رضى الله عنه أمر ببنائه ينادى عليه المؤذنون فى رمضان ، يقابل من الكعبة الركن اليمانى يخرج إليه من باب إبراهيم عليه‌السلام ، ويقابل قعيقعان من ناحية الغرب. انظر : الروض المعطار (١٢ ، ١٣).

٣٩

وعن الواقدى من غير حديث أبى الجهم أن أبا سعيد الخدرى سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذي فى المقام ، فقال : كانت الحجارة على ما هى عليه اليوم إلا أن الله جل ثناؤه ، أراد أن يجعل المقام آية من آياته.

قال أبو الجهم : فلما فرغت يعنى المرأة ، من غسل رأس إبراهيم عليه‌السلام ، قال لها : إذا جاء إسماعيل فقولى له : أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة.

فلما جاء إسماعيل قال : هل جاءك أحد بعدى؟ فأخبرته بإبراهيم وما صنعت به ، ثم قال لها : هل قال لك أن تقولى لى شيئا؟ قالت : قال لى أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة.

ففرح إسماعيل وقال : أتدرين من هو؟ قالت : لا. قال : هذا خليل الله إبراهيم أبى ، وأما قوله : «أثبت عتبة بابك» فقد أمرنى أن أقرك وقد كنت على كريمة وقد ازددت على كرامة. فصاحت وبكت ، فقال : ما لك؟ قالت : ألا أكون علمت بمن هو فأكرمه وأصنع به غير الذي صنعت! فقال لها إسماعيل : لا تبكى ولا تجزعى فقد أحسنت ولم تكونى تقدرين أن تفعلى فوق الذي فعلت ، ولم يكن ليزيدك على الذي صنع بك.

فولدت لإسماعيل عشرة ذكور أحدهم نابت (١).

فلما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة ، أوحى الله جل ثناؤه إلى إبراهيم أن ابن لى بيتا. قال إبراهيم : أى رب أين أبنيه؟.

فأوحى الله إليه : أن اتبع السكينة ، وهى ريح لها وجه وجناحان ومع إبراهيم الملك والصرد.

فانتهوا بإبراهيم إلى مكة ، فنزل إسماعيل إلى الموضع الذي بوأه الله جل وعز ، لإبراهيم ، وموضع البيت ربوة حمراء مدرة مشرفة على ما حولها.

فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام وليس معهما غيرهما ، أساس البيت ، يريدان أساس آدم الأول.

__________________

(١) قال ابن هشام فى السيرة (١ / ٢٤ ـ ٢٨) : حدثنا زياد بن عبد الله البكائى ، عن محمد بن إسحاق المطلبى ، قال : ولد إسماعيل بن إبراهيم ، عليهما‌السلام ، اثنى عشر رجلا : نابتا ، وكان أكبرهم ، وقيذر ، وأذبل ، وميشا ، ومسمغا ، وماشى ، ودما ، وأذر ، وطيما ، ويطور ، ونبش ، وقيذما ، وأمهم : رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى. قال ابن هشام : ويقال : مضاض ، وجرهم بن قحطان ، وقحطان أبو اليمن كلها ، وإليه يجتمع نسبها ، ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

٤٠