إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

ولد بمدينة حلب في ٢٩ يونيو سنة ١٨٣٦ (١٢٥٢ ه‍) من أرومة طيبة الأصل ، ولما بلغ الرابعة من عمره أصيب بداء الحصبة ، وثقلت وطأتها عليه حتى كادت تودي به ، ثم منّ الله عليه بالشفاء ، إلا أنه بقي من آثارها في جسمه وبصره ما نغص عليه عيشه وأوهن قواه مدى العمر ، ولبث في حلب إلى أن يفع يتلقن القراءة ثم مبادىء العلوم ، إلى أن كانت سنة ١٨٥٠ فسار به والده إلى أوربا واستصحبه معه ، فتجول فيها مدة تنيف على السنة ، ثم رأى والده أن يطيل مكثه في فرنسا لضرورة دعت إلى ذلك ، فأرجعه إلى حلب وبقي فيها إلى سنة ١٨٥٣.

ولما عاد والده من أوربا في هذه السنة دعته مقتضيات تجارته إلى التعريج على بيروت ، فعرج عليها ، واستدعاه من حلب فسار منها إلى بيروت وأقام معه بها نحوا من سنة ، ثم عاد إلى مسقط رأسه وألقى به عصا التسيار مدة مديدة ، وأقبل يشتغل في خلالها بالأدب وهو الفن الذي كان قد ولع به منذ صبوته ، حتى إنه عرف له نظم على طريقة الصبيان نظمه وهو ابن تسع سنين ودونها.

ولكنه لم يقصر درسه على الأدب وحده ، بل أقبل يدرس غيره من العلوم ، وكان يتخرج في كل علم منها على من يلقاه من الأساتذة. ولما رأى آخر الأمر أن علم الطب لا يبلغ أحد منه أربا ما لم ينل الإجازة في تعاطيه عملا ، وتيقن أن أعظم الإجازات اعتبارا في تلك الأيام ما كان صادرا منها من مدرسة باريز ، رحل في طلب ذلك إلى هذه المدينة حوالي سنة ١٨٦٧ وأقام بها نحوا من سنتين يتردد على مدرسة الطب فيها إتماما لدروسه واستعدادا للامتحان ، ولكن صروف الدهر عاندته وخانته الجدود العواثر من وجوه أخرى ، فاعتراه من أسقام البدن وضعف البصر ما صرفه عن المثابرة على الدرس ، فلم يظفر بمراده من التقدم للفحص لنيل الإجازة ، بل اضطر أن يقفل راجعا إلى حلب وهو عليل ومكفوف البصر أو يكاد. ولم يزل مقيما بحلب إلى أن توفاه الله في أواسط سنة ١٨٧٣ (١٢٩٠ ه‍).

أما تصانيفه فالمطبوع منها «غاية الحق» و «مشهد الأحوال» وكلاهما مطبوع في بيروت. وله ديوان سماه «مرآة الحسناء» أرسله بحياته إلى سليم البستاني فطبعه له في مطبعة المعارف في بيروت. أما الكتابان الأولان فقد سلك فيهما مسالك فلسفية وبث فيهما آراءه

٣٤١

بأسلوب بديع. صنف معظم الأول منهما في باريز والثاني في حلب. وله أيضا رسائل موجزة في مواضيع شتى ، ولكنها لم تطبع ، فلذلك لم تعرف. وله رحلة إلى باريس طبعت في بيروت ، و «شهادة الطبيعة بوجود الله والشريعة» طبعت بمطبعة الأمير كان بعد نشرها في النشرة الأسبوعية. وله «غرائب الصدف» وغيرها من الرسائل.

وكان في الجملة مشاركا في كثير من العلوم ، إلا أنه كان إلى العلوم الفلسفية أميل ، وكان يؤثرها على العلوم الرياضية وغيرها لما في تلك من سعة المجال للخواطر ، ولما في هذه من ضيق المجال وحرج القيود والقوانين على من يريد أن يقتدح زناد نفسه ، فإنه كان لا يطيق احتمال الأسر المعنوي فضلا عن الحسي ، ولذا كان يحاول التملص من رق العادات الجازمة بحجز حرية التصرف ، بل طالما كان ينزع إلى الإغضاء عن قيود اللغة وأغلال قوانينها وسلاسل قواعدها أيضا ، حتى صار قليل الالتفات إلى تحرير أساليبه وتنقيح عباراته على ما تقتضيه أصول الإنشاء. إلا أنه كان يعرف حق المعرفة أن الحرية المطلقة هي كالكبريت الأحمر لا تقوم إلا في الذهن ولا وجود لها في الخارج ، وهذا ما حداه أن يقول :

رقّ الزمان حوى على كل الورى

واقتداهم بسلاسل وقيود

رسف الأمير مكبلا بنضاره

رسف الأسير مكبلا بحديد

وأن يقول :

صدّقوني كل الأنام سواء

من ملوك إلى رعاة البهائم

كل نفس لها سرور وحزن

لاتني في ولائم أو مآتم

كم أمير في دسته بات يشقى

باله والأسير في القيد ناعم

أصغر الخلق مثل أكبرها جر

ما لهذا وذا مزايا تلائم

هذه النمل تستطيع الذي تعجز

عن فعله الأسود الضياغم

والخلايا للنحل أعجب صنعا

من قصور الملوك ذات الدعائم

وكل من أنعم النظر في تصانيفه خيل له أنه لم يكن في كل الأحوال راضيا عن الزمان وأهله ، وأنه كان كثير التبرم بالناس والأشياء كافة ، وأن كلامه في كثير من المواطن يشف عن الشكوى من الدنيا وأهلها. وهذا لا يستغرب من رجل رماه الدهر بالأرزاء حتى أصبح كئيبا كاسف البال ، وقد حداه ذلك إلى أن قال :

٣٤٢

توتّر أقواس الردى لرمايتي

ومن أعين الحساد تبرى سهامها

يجر عليّ الدهر جيش خطوبه

فتلقاه نفس يستحيل انهزامها

ومن خبر الدنيا وأدرك سرها

تساوى لديه حربها وسلامها

ومن هذا القبيل ما أورده في غابة الحق :

إذا كان وقع السيف ليس يمضّني

فعندي سواء غمده وغراره

وإن كان جمر الخطب ليس يصيبني

فلا خوف لي مهما يهب شراره

أنا لا أرى في الأرض شيئا يروقني

لذلك نور العمر عندي ناره

أيطربني هذا الزمان وكله

عراك على الدنيا يثور غباره

هذا ما يلمح من خلال نظمه ونثره ، إلا أنه كان في معاشرة الناس ومخالطتهم متوددا أنيسا تأبى نفسه أن يصيب الناس أذى مما ابتلاه الله به من الأشجان ، وكان إذا عن له خاطر أملاه على كاتب أو صديق. توفاه الله وهو في شرخ الشباب.

ومن نظمه قوله من قصيدة :

أنا على ما أنا من الخلق

باق على مذهبي وفي طرقي

مالي عدوّ سوى الكذوب فلم

يزل عدوا لصاحب الصدق

لا أكذب الله إن لي شيما

تحمي فمي من شوائب الملق

فلا كبير سطا عليّ ولا

يد لها منة على عنقي

ولا تسابقت في المفاخر بل

سرت الهوينا وفزت بالسبق

ولا اشتريت الثناء من أحد

بالمال بل بالجهاد والأرق

أسقي غروسي فإن أجد ثمرا

أقطف وإلا رضيت بالورق

وقال في وصف الجمال :

يا ربة الحسن جمالك لا

يدوم إلا كدوام الخيال

فحسن وجه ذاهب كالهبا

وحسن طبع راسخ كالجبال

فجمّلي الطبع وحلّي النهى

لتقتني الحسن العديم المثال

٣٤٣

هذا هو الحسن البسيط وما

للجوهر البسيط قط انحلال

ومن هذا القبيل قوله :

طرقت خباها بغتة يوم تبكير

فصبّحني وجه كرقعة تصوير

هناك على المرآة كانت مكبة

تموّه خديها بصبغة حنجور

فأيقنت أني في الهوى كنت والعا

بمسحوق تبييض ومحلول تحمير

ا ه

وترجمه الأديب قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» ترجمة مسهبة أثنى عليه من جهة وانتقده من جهة ، قال : ومن محاسن شعره :

هداة السّرى مهلا فهذي خيامها

وتلك روابيها وذاك غمامها

قفوا ساعة نشتم رائحة الحمى

هنا علقت روحي وطال هيامها

هنا لي من الغادات من لو تبسمت

لدى البرق ليلا لازدهاه ابتسامها

فهل ذكرت تلك المنيعة في الخبا

شريدا طحاه البين وهو غلامها

وهل علمت أسماء وهي عليمة

صبابة نفس قد تسامى مرامها

نسيم الصبا هل قد عثرت بردنها

فعطّرت أم لي معك آت سلامها

تقلبني الدنيا على موقد البلا

ولي همة في الصبر عز انصرامها

ويجري عليّ الدهر جيش خطوبه

وما أنا ذا نفس يهون اقتحامها

ومن عرف الدنيا وأدرك سرها

تساوى لديه حربها وسلامها

ومن إحسانه في «مشهد الأحوال» (اسم كتاب للمترجم) :

ما للمليحة غضبى لا تكلمني

كأنها بي لم تسمع ولم ترني

ما بال أعينها في الأرض مطرقة

وكلما أطرقت عيناي ترمقني

ونحن في مجلس قد قام من نخب

فمن عذول ومن واش ومن خشن

ليت المليحة تدري أنني كلف

بها إلى غيرها ما ملت في زمني

وقال :

على صراط مستو مستقيم

سلكت والناس حيارى تهيم

٣٤٤

يضج فوق الأرض سكانها

شبه ذباب فوق شيء وخيم

كذا ترى الدنيا عيون الورى

كما ترى العقرب عين الفطيم

وأورد له شيئا من نثره وغير ذلك من نظمه ، وفيما نقلناه كفاية.

١٢٤٩ ـ محمد خير بن محفوظ الريحاوي المتوفى سنة ١٢٩٠

الشيخ محمد خير بن محفوظ الريحاوي الأصل الحلبي الموطن ، وهو ابن أخي الشيخ مصطفى الريحاوي المتوفى سنة ١٢٨١.

تلقى مبادىء العلم في حلب ، ثم توجه إلى مصر ودخل الأزهر الشريف وجد هناك في طلب العلم ، ورافقه في الطلب الشيخ بكري أفندي الزبري مفتي حلب. ولما توفي عمه الشيخ مصطفى حضر إلى حلب لتعزية ابني عمه الشيخ تميم والشيخ محمود بوفاة والدهما.

وشوهد فيه الفضل والنبالة ، وكان المفتي وقتئذ الشيخ بها الرفاعي ، فعرض عليه أمانة الفتوى ، فلم يرغب في ذلك ، وعاد إلى مصر وتولى الإفتاء في أنبابه ، ودرّس مدة في الأزهر.

واطلعت من مؤلفاته على رسالة سماها «العقود الدرية في القضايا الضمنية» وهي في كراسة.

وكانت وفاته في مصر في حدود سنة ١٢٩٠ ، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي ، وخلف ذرية في مصر لم تزل قاطنة هناك.

١٢٥٠ ـ محمد بن ياسين أفندي الكوراني المتوفى سنة ١٢٩١

محمد أفندي ابن ياسين أفندي الكوراني ، أحد وجهاء الشهباء وأعيانها ومن بيت قديم فيها.

ولد سنة ١٢٣٨ ، ولاحت عليه أمارات النجابة من سن طفوليته ، ولما أتى إبراهيم باشا المصري إلى هذه البلاد صار المترجم في عداد كتاب ديوانه ، ثم صار كاتبا في قلم مجلس الولاية ، وتولى بعد ذلك عدة مناصب ، فصار قائمقام في طرسوس ومرسين

٣٤٥

وأنطاكية ، وآخر وظيفة عين فيها وظيفة محاسبة دائرة الأوقاف في الشام ، وبها كانت وفاته سنة ألف ومايتين وإحدى وتسعين رحمه‌الله.

١٢٥١ ـ الشيخ هاشم عيسى المتوفى سنة ١٢٩٢

الشيخ هاشم بن حسين أفندي ابن الحاج عمر عيسى باشا المشهور بابن عيسى.

جده المذكور تلقى القرآن العظيم على الشيخ سعيد القاري المشهور (١) ، ولما بلغ الثلاثين من العمر شرع في طلب العلم ، فجاور في المدرسة العثمانية. وقرأ على الشيخ أحمد الحجار والشيخ أحمد الترمانيني ، أخذ عنهما علوم العربية والفقه والحديث ، إلى أن برع وفضل فعين مدرسا في المدرسة البهائية سنة ١٢٨٢ ، ثم عين مدرسا للحديث في الجامع الكبير وإماما للشافعية في جامع العادلية ومدرسا للحديث فيه ، وبقي في ذلك إلى أن توفي.

وكان رحمه‌الله من الزاهدين في الدنيا المعرضين عنها ، يألف العزلة والوحدة ولزوم بيته ، وكانت المخدة التي يستند إليها حشوها من نخالة ، ولا يتناول الأطعمة اللذيذة. وكان حسن الأخلاق متواضعا بشوشا نصوحا ، وربما سمع ما يؤذيه أثناء نصحه فكان يحتمل ذلك ويقابل من يؤذيه بالبشر والبشاشة ويلاطفه إلى أن يرضي خاطره.

وله مؤلف صغير في النحو وتعليقات في التفسير وشرح على الألفية.

توفي رحمه‌الله سنة ١٢٩٢ ودفن في تربة الشيخ جاكير.

وتلقى العلم عنه كثيرون ، منهم الشيخ بكري الزبري مفتي حلب والشيخ صالح الجندي مفتي المعرة والشيخ محمد الكلاوي والشيخ بكري العنداني والشيخ شهيد الدار عزاني والشيخ هاشم النيربي والشيخ محمد السراج والشيخ محمد ديب الريحاوي والشيخ أحمد ابن الشيخ إسماعيل اللبابيدي والشيخ محمد الصابوني المجاور بالمدرسة العثمانية وغيرهم.

__________________

(١) هو الشيخ سعيد بن عبد السلام الركبي ، توفي سنة ١٢٥٦ ودفن في تربة الكليباتي ، وكان له شهرة في القراءة وتلقاها عنه مئات في زمنه.

٣٤٦

١٢٥٢ ـ الشيخ محمد الأهدلي اليماني المتوفى سنة ١٢٩٣

الشيخ محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن حاتم القديمي اليمني.

ولادته في وادي سردد (١) من بلاد اليمن ، ثم رحل إلى زبيد وتلقى العلم بها على فضلائها ، ثم رحل إلى وادي بني عشيرة ، ثم توجه إلى منيبار من بلاد الهند ، ثم رجع إلى مكة المشرفة ، فقرأ بها على العلامة السيد أحمد الدحلاني في المنهاج وأجازه ، ثم أتى إلى المدينة المنورة فقرأ على الشيخ ... الكردي والدراجي والهندي ، ثم أتى دمياط ثم القدس ثم الشام ثم حمص ثم المعرة ثم إلى جسر الشغر من أعمال حلب ، وكان كلما أتى بلدة قرأ على أفاضلها واستجازهم إلى أن برع في العلوم والفنون مع الزهد في الدنيا والمجاهدة للنفس والرياضة والتعبد ليلا ونهارا ، وحصل له الإقبال التام من أهالي بلادنا. وأكب على الإفادة والإرشاد وانتفع به كثيرون من خواص وعوام وظهر على يديه كرامات كثيرة مستفيضة يتحدث بها أهل جسر الشغر ومن حولها ويتناقلونها جيلا بعد جيل ، وهو معتقد تلك البلاد وبركة تلك الديار.

توفي رحمه‌الله في شهر صفر سنة ١٢٩٣ ودفن بزاويته التي أنشأها في قرية الشغر القديمة.

وأرسل لي الشاب النبيه الشيخ محمد الأهدلي ترجمة الشيخ محمد الموما إليه فقال فيها ما خلاصته :

في الديار اليمنية عائلة شريفة حسينية النسب قد اشتهرت بالأهدل ، وهي من نسل محمد بن سليمان الأهدل ، وهي عائلة كبيرة منتشرة في عدة من البلاد اليمنية ، غير أن الوطن الأصلي لها وسكنى غالب أفرادها في قرية (مراوعة) وهي قرية صغيرة شرقي الحديدة تبعد عنها نحو ثلاث ساعات ، وللسيد عبد الرحيم البرعي صاحب الديوان المشهور قصائد متعددة مثبتة في ديوانه في مدح بعض أفراد هذه العائلة.

وفي نواحي سنة ١٢٧٠ حضر المترجم إلى قرية الشغر الكائنة في قضاء الجسر من

__________________

(١) سردد كقنفذ وجندب وجعفر : واد بتهامة (المحيط). وفي الأصل : سردود.

٣٤٧

أعمال حلب ، وكأن الله تعالى أرسله لهداية أهل هذه القرية الذين كانت حالتهم أشبه بحالة الجاهلية من القتل والسلب المشروعين في اعتقادهم ، فأقام الشيخ بينهم آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر متحملا منهم أنواع الأذى ، وثابر على ذلك إلى أن أثمر نباته وتحققت أمنيته ، فإن الضلال لم يلبث أن انعكس إلى هدى ، وأضحى سكان الشغر قدوة حسنة لغيرهم.

وبعد حضوره أنشأ في قرية الشغر زاوية وأخذ في نشر العلوم الشرعية موجبا على نفسه قراءة ثلاثة دروس في كل يوم ، فاشتهر علمه وفضله وصلاحه وتقواه بين الخاص والعام ، وذاع صيته في الأقطار ، وصارت تضرب إليه أكباد الأبل من كثير من البلاد ، سيما بعد أن ظهرت على يده كرامات باهرة ، وأصبحت زاويته محط الرحال للمستفتي والمستشفي والممتحن والمستجير والمجاور. وكان المستفتي لا يتكلف السؤال ، بل كان يجلس في حلقة الدرس العام فيسمع جواب مسألته ، وهكذا الممتحن والمستجير وغيرهم. ويطول تعداد مناقبه وكراماته التي يحفظها الكثيرون من معاصريه.

ومن الذين قصدوه ممتحنين له عالم ريحا الشيخ محمد نوري أفندي مفتي إدلب سابقا ، وكان بينهما موقف شهير اعترف فيه الشيخ محمد نوري بفضله والتسليم بكراماته الظاهرة للعيان ولا زال يذكرها إلى الآن ، وكذا الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أفندي المحمودي اللاذقي حتى إنه أخذ عنه ومدحه بعد وفاته بقصيدة توسلية جاء فيها :

وبشيخنا القطب اليماني الذي

في الشغر أضحى ثاويا مستوطنا

حتى توفاه الإله وقبره

بجوار عز الدين يشرق بالسنا

أحيا بلاد الشرق في إرشاده

وبنى المساجد في قراها واغتنى

وكان لا يقبل إنعاما من أحد إلا إذا أهدي إليه كتاب ، ولا يمد يده لغير مشروع ، زاهدا في هذه الدنيا ، لم يتزوج ولم يملك من حطامها شيئا ، ويكتفي بالقليل من الطعام. وكان صومه أكثر من إفطاره ، ولباسه ثوبا من الخام الذي يصنع بالقرية نفسها.

وحينما حضر إلى هذه البلاد كان عمره ٢٣ سنة وتوفي في الخامسة والأربعين من العمر (في التاريخ المتقدم) وأنشأ الزاوية المتقدمة وجامعا في الشغر بكسرية ومسجدا في قرية كفرنجي.

٣٤٨

وكان من جملة عارفيه بعض الأفاضل من العائلة الرافعية في طرابلس. وكان ذهب للآستانة لتجديد وظيفة القضاء فعين في إحدى بلاد اليمن فقصد وداع الشيخ والتزود بكتبه فأخبر بوفاته. ولما دخل اليمن قاصدا مقر الوظيفة مر في طريقه على مراوعة وهناك اجتمع بالسيد عبد الباري الأهدلي شيخ السجادة الأهدلية فأخبره عن أحوال الشيخ ووفاته وأنه ترك زاوية ومكتبة ثمينة لا تقل عن خمسمائة مجلد ، فكلف السيد عبد الباري ابن عم الشيخ وهو (باعزى حسن الأهدلي) أن يتوجه إلى الديار الشامية لاستلام هذه الكتب وزوده بتحارير ، ولما وصل إلى قرية الشغر وجد المكتبة مبعثرة لم يبق منها إلا النزر اليسير ، فقصد الرجوع من حيث أتى فمنعه مريدو الشيخ وتلامذته وكلفوه أن يقيم بين ظهرانيهم مكان الشيخ ، وعندئذ ذهب إلى الآستانة للاستحصال على تخصيص راتب للزاوية ، فمكث أشهرا ولم ينل مطلوبه فعاد إلى الشغر ، ثم ذهب للآستانة ثانية فتوفق إلى ذلك وعين له السلطان عبد الحميد ٣٠٠ قرش في كل شهر للزاوية ، فعاد وأقام في الشغر شيخا للسجادة الأهدلية ، ثم تعين مفتيا لقضاء الجسر وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي سنة ١٣٣٢ رومية وأعقب ولدين أكبرهما الشيخ محمد الأهدلي مفتي جسر الشغر سابقا ومفتي قضاء جرابلس في هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥.

١٢٥٣ ـ العلامة الكبير الشيخ أحمد الترمانيني المتوفى سنة ١٢٩٣

العلامة الكبير ، مفتي الشافعية ، العارف بالله تعالى ، الشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الكريم ابن الحاج عيسى ابن الحاج أحمد بن نعمة الله الترمانيني الأزهري ، الزاهد العابد المحدث المفسر المجمع على علمه وفضله وجلالة قدره وولايته ومكاشفاته الكثيرة الظاهرة.

ترجمه تلميذه الفاضل الشيخ عمر الطرابيشي ، ووصل إليّ ترجمته بخطه ، قال فيها ما خلاصته : أنه لما ترعرع رحل إلى مصر بأمر من والده للمجاورة بالأزهر ، وكان والده مشهورا بالورع والزهد والصلاح ، ولما وصل إليها اشتغل بأخذ العلم على مشايخ عظام كالشيخ إبراهيم البيجوري والشيخ محمد الفضالي والشيخ علي البخاري ، صحب هؤلاء مدة تزيد عن عشر سنين وانتفع بهم ، وأخذ الطريقة الخلوتية عن السيد السند من اتفقت على ولايته وتسليكه فحول الرجال الشيخ أحمد الصاوي ، وألبسه التاج فصار خليفة من

٣٤٩

خلفائه وليا لله عارفا به ناصحا لعبيده دالا عليه قائما بأمره عالما عاملا كاملا وقورا.

ثم أذن له بالرجوع إلى حلب فرجع إليها وأخذ في الإرشاد بقاله وحاله ، وهرعت الناس إليه وصارت تضرب به الأمثال في الورع والعلم والعمل ، واشتهر بالمكاشفات الجلية.

وكان جماعته لا يقدرون على مواجهته إذا وقعت منهم هفوة وإن قلتّ حتى يتداركوها بتوبة ، فإن لم يلحقوها بتوبة مقتهم وأغلظ عليهم المقال. وما أضمر أحد في نفسه شيئا إلا واجهه به شفاها في معرض كلامه ، فإن أنكر أعاد عليه الكلام ، فإن أنكر زجره بالتعريض ، فإن لم يفد معه التعريض زجره بالتصريح وصرح له بما ارتكبه من الهفوات.

وكان محببا في قلوب الناس ، ومع ذلك لا يقدرون على مكالمته لشدة هيبته. وكان يحب العزلة عن الناس هاربا إلى الله تعالى ملازما لأوراده خصوصا قراءة الفاتحة ، قل أن تجده ساكتا مفرغا عن عبادة ما مراقبا خاشعا محققا مدققا في العلوم النقلية والعقلية في درس الخواص وموضحا بتقرير الأمثال وتوضيح الإشكال في دروس العوام. وكان ينزل الناس على قدر قربهم من الله تعالى لا على قدر ظهورهم في الدنيا. وكان إذا أطال أحد الجلوس عنده قال له : قم مع السلامة ، ولو كان من أعز أصدقائه ، وكان شفوقا على سائر الناس.

وأما بغضه للعصاة فمن حيث المخالفة لربهم ، ففي الحقيقة شفقة عليهم. وليس عنده اعتراض على ما في الكون ، بل كل ما فيه يراه حسنا من حيث صدوره من الفاعل المختار ، وكان كثيرا ما يتمثل بشطر هذا البيت ويقول : (وقبح القبح من حيثي جميل). وكان المرجع إذا اختلفت الآراء ، كشافا للمعضلات ، أستاذ العصر.

وقد عرف قدره في حلب والشام ومصر. تصدر للإفتاء والتدريس بحق ، وكانت دروسه حافلة لطلاقة لسانه وحسن تقريره وضربه للأمثال وتحريره وتنقيحه للأقوال ، ولا يغضب ويرضى إلا لله تعالى ، ولا يخاف الخلق ، ولا يقدر أحد أن يعترض عليه من الرجال لوفور علمه وخوفهم من أسرار باطنه ، وله الصدارة في حلب وغيرها ، ولكن تنزه عنها ورغب في الخمول والخفا ، والذي يراه من بعيد ظنه من أهل الجفا. وكان في التواضع على جانب عظيم ، فما رؤي أنه ركب فرسا أو بغلا أو حمارا في البلد قط ، وما أعطى

٣٥٠

يده للتقبيل قط ، بل كان كل من أراد أخذ يده للتقبيل هو يفتح يده ليأخذ يد مريد تقبيل يده. وكان يكتب في مكاتيبه ومراسلاته : من أحقر الورى أحمد الترمانيني. وكان كثيرا ما يقول : لو أطاق جسمي النار لما سألت ربي الجنة ، فإني أستحي أن أسأله دار كرامته.

وانتفعت به الطلبة طبقة بعد طبقة. وكان يحب أن لا يأكل من المعلومات التي له ، بل يفرقها ويأكل من ربح التجارة ، ولا يأكل من أموال الزكاة إلا عن ضرورة ، ويقول إنها تورث ظلمة في القلب. وكان يكره كل شيء فيه شائبة رئاسة طبعا فلا يمكن أحدا يمشي خلفه ، ولا يأتي حاكما ولا واليا ولا قاضيا قط ، وهم يتمنون تقبيل قدمه فما يمكنهم أبدا. ومرة أراد وال أن يقبل يده بالقوة فما أعطاه الشيخ يده ووقع طربوش الوالي من على رأسه إلى الأرض وما قدر على أخذ يد الشيخ ، وكانت تلك الواقعة في جامع الرضائية بمحضر من الناس منهم العلماء والخطباء والطلبة ، ولا يبعث لهم ورقة في قضاء حاجة بل يتوسل الله تعالى فتقضى كما يحب. وكان الموت نصب عينيه ، فهو جالس في الدنيا جلوس رجل مستوفز يريد النهوض.

وقد اشتهر بالهمة بين أهل العلم فكان يجلس قدر أربع ساعات في الدرس على ركبتيه ولا يمل وكأن جسمه من حديد ، ومع هذا يكتب ما يرد عليه من الإفتاء بالأجوبة الحسنة لأهل حلب ولغيرهم من إقليمها ، ويكتب على هوامش نسخه التي يقرؤها للطلبة ، ويؤلف في كل شيء رأى فيه على الطلبة صعوبة تأليفا يقرب عليهم مسافة الطريق. وكانت دروسه مطرزة بالحكم الإلهية والآداب اللدنية حتى دروس النحو والمنطق وعلوم العربية.

وبالجملة كان مفردا في علمه وأخلاقه وأحواله وهمته وزهده وورعه وغير ذلك ، وقد تشرفت بقراءة جملة من الكتب عليه (سردها وقد ذكرناها في ترجمته وختمها بقوله) :

وقد قرأت على مشايخ عظام كتبا من فقه ونحو وقراءة وغير ذلك وانتفعت بهم ولله الحمد ، ولكن ما انتفعت على شيخ منهم مثل انتفاعي عليه ، جزاه الله عن أهل إقليمه خيرا ورفع له في الدارين قدرا. ا ه.

أقول : لم يذكر الشيخ عمر الطرابيشي تاريخ وفاة هذا الأستاذ الجليل لتقدم وفاته عليه ، وكانت وفاته بعد عصر يوم الأحد ، ودفن صبيحة يوم الاثنين في الرابع عشر من شهر

٣٥١

ربيع الثاني سنة ١٢٩٣ ، ودفن في تربة الجبيلة في أواخرها من الجهة الشمالية رحمه‌الله رحمة واسعة.

وقد مضى على وفاته اثنان وخمسون سنة والناس إلى الآن لهجون بذكره والثناء الحسن عليه في محافلهم ومسامراتهم ويعددون مناقبه وكراماته ومزاياه مما لو جمعناه لكان في سفر كبير. وقد دعانا ذلك أن نزيد في ترجمته ونبسط المقال في أحواله ومؤلفاته مما تلقيناه من أقاربه وعارفيه الواقفين على شؤونه فنقول :

كانت ولادته رحمه‌الله في قرية ترمانين سنة ١٢٠٨ كما وجدته مقيدا في مجموعة المشاطي بخطه ، ثم جاء به والده إلى حلب وهو ابن ست سنين وعلمه القرآن العظيم تلاوة وحفظا ، ثم شرع في طلب العلم فقرأ على والده الشيخ عبد الكريم وعلى الشيخ أحمد الهبراوي الملقب بالشافعي الصغير وعلى أخيه الشيخ محمد مبادىء العلوم ، ثم انبعثت في نفسه رغبة التوجه إلى القاهرة للمجاورة بالأزهر ، فعرض على والده ما قام بنفسه فاستحسنه ، غير أنه أمره بالتربص مدة ريثما يبلغ سن الرشد.

ذهابه إلى الأزهر :

وفي سنة ١٢٣٠ أذن له والده بالسفر إلى القاهرة ، ولما وصلها لزم الإقامة في جامع الأزهر وأخذ في تحصيل العلوم العقلية والنقلية ، وكان معه أخوه الشيخ محمد الذي تقدمت ترجمته وكان أكبر منه بسنتين ، وكان أحد ذهنا منه وأسرع فهما ، فكان يصعب ذلك على الشيخ ، فصار يحفظ متون المطولات عن ظهر قلب ، وربما حفظ الشروح مضاهاة لأخيه. وما زال مجدا في ذلك إلى أن فتح الله عليه وصار سريع الفهم ثاقب الذهن وأربى على أخيه.

وتلقى العلم هناك على الشيخ حسن القويسني شيخ الأزهر والشيخ أحمد الدمهوجي الشافعي والشيخ أحمد الصاوي المالكي الخلوتي والشيخ محمد الدمنهوري والشيخ حسن العطار. وأخذ الطريقة الخلوتية على الشيخ أحمد الصاوي المتقدم. وما زال مكبا على التحصيل منقطعا إليه وإلى العبادة حتى شهدت له مشايخه بتفوقه على أقرانه ، ومع هذا فما كان ليغتر بذلك أو يلتفت إليه ، وما كان في أثناء هذه المدة ليشتغل في غير التحصيل ،

٣٥٢

حتى إن التحارير التي كانت تأتيه من أهله كان يتركها على الرف حتى انتهى من التحصيل وعول على الرجوع ، وحينئذ فتحها فوجد أن فلانا من أقاربه قد تزوج وفلانا قد مات إلى غير ذلك ، وقصد بذلك أن لا يشغله عن العلم شاغل آخر.

وعاب عليه الطلاب في الأزهر الانزواء وعدم الاختلاط وعدم الخروج ، فما زالوا به حتى خرج معهم مرة ، فخرج ومعه كتابه إلى بعض رياض مصر ، فترك رفقاءه وهم ساهون لاهون في بعض الألعاب وانفرد هناك عن إخوانه وأخذ في مطالعة درسه وحمد الله الذي أشغلهم عنه. وفي اليوم الثاني لما حضر هو ورفقاؤه بين يدي أستاذهم تبين تقصيرهم لعدم مطالعتهم ، ولما علم الأستاذ ذلك شكره كثيرا وأنحى باللائمة على الباقين.

ولما عول على الرجوع إلى بلدته طلب من مشايخه أن يأذنوا له بالسفر وأن يجيزوه بالتدريس فيها ، فأذنوا له وأجازوه بذلك. ومما يحكى عنه أنه لما عزم على الرجوع ترك الحضور ذلك اليوم فقط وأخذ في تهيئة حوائجه وكتبه ، فرآه الشيخ إبراهيم البيجوري وهو منفرد في زاوية من زوايا الأزهر ، فقال لمن حضره : إن هذا الرجل الذي ترونه بهيئة المساكين والله لم يحصّل طالب علم في مصر بقدر ما حصّل ، وسيكون له شأن عظيم.

عوده إلى حلب :

عاد إلى حلب سنة ١٢٤٣ بعد أن جاور في الأزهر ثلاث عشرة سنة ، وكان أخوه الشيخ محمد هو المتصدر فيها وإليه المرجع في فقه الشافعية ، لذا لم يشتهر أمره في التدريس ، فأخذ في التأليف فألف في كل فن ، وبقي على ذلك إلى سنة ١٢٥٠ ، ففيها توفي أخوه فتولى وظائفه في دروس الجامع الكبير وفي المدرسة الرحيمية والعثمانية والقرناصية والصروي وفي إفتاء الشافعية ، وجاءه المنشور في ذلك (١) ، وكانت الشهباء وقتئذ في حاجة إلى مثله

__________________

(١) أقول : قد اطلعت على هذا المنشور عند حفيد ابن أخيه صديقنا الشيخ إبراهيم الترمانيني ، وفيه ما ترجمته : قدوة العلماء الكرام نخبة الفضلاء الفخام ، ترمانيني زاده الشيخ أحمد أفندي المكرم. بعد السلام ننهي إليكم أنه بناء على ارتحال أخيكم الشيخ محمد الترمانيني مفتي الشافعية من دار الفناء إلى دار البقاء فقد انجلت وتعطلت بذلك خدمة الفتوى الجليلة ، وبناء على لزوم تعيين مفت للشافعية بدلا عنه وإعطاء إذن له بالإفتاء ، وبما أنك شافعي المذهب وعلمك وفضلك وكمال وقوفك على الفقه الشافعي محقق فقد انتخب جنابك من قبل الشرع لإفتاء الشافعية وأحيل ذلك لحضرتكم وأعطي لكم إذن بالإفتاء ، فعليه أرسلنا لطرفكم هذه المراسلة المحتوية على الإذن والرخصة بالإفتاء ، فيلزم أن تعلموا بموجبها والسلام. حرر في صفر سنة ١٢٥١ (الختم) اللهم سهل أمور السيد محمد عزيز.

٣٥٣

متعطشة إليه تعطش الظمآن إلى الماء البارد ، وذلك لقلة العلماء في ذلك الوقت لما حصل في حلب من الطاعون الذي فتك في تلك السنين فتكا ذريعا ذهب به كثير من العلماء إلى أن كادت الشهباء تخلو منهم ، وصارت تتخبط في دياجير الجهل ، ولحوادث الأنجكارية وتلك الوقائع وحوادث إبراهيم باشا المصري التي ذكرناها في أواخر الجزء الثالث التي قضت على كثير من العلماء وغيرهم بالهجرة من حلب. فلما تصدر للتدريس في هذه الأماكن تهافت الناس عليه وازدحموا حول منهله العذب ، وصار يقرأ الدروس المتعددة في فنون مختلفة من فقه وحديث وتفسير ونحو ومنطق وغير ذلك ، فلم تمض مدة من الزمن إلا وقد تخرج به رجال متعددون ، ومن ذلك الحين شاع فضله وبعد صيته وانتشر في الآفاق ذكره.

وكان شيخنا الكبير الشيخ محمد أفندي الزرقا كثير الثناء عليه معترفا بجلالة قدره وغزارة علمه ، وحسبه ثناء مثله عليه.

وفي حياة أخيه قرأ كتاب الدر المختار في الفقه الحنفي وذلك بأمر من أخيه الشيخ محمد المذكور ، وحضر عليه عدة من الأفاضل منهم الشيخ مصطفى الريحاوي والشيخ عقيل الزويتيني والشيخ عبد القادر سلطان والشيخ علي القلعجي ، وما كانت تعجبه حاشية العلامة ابن عابدين ، وكانت وقتئذ تستنسخ من الشام يستنسخها السيد راجي بيازيد أحد التجار المشاهير ليستفيد منها الطلاب ، ويقول إنها غير محررة ، وكانت تعجبه حاشية العلامة الطحطاوي على الدر وحاشية العلامة الحلبي ، وكان يقول : لو لا هاتان الحاشيتان لما تمكن ابن عابدين من تحشية هذا الكتاب.

ومن حين عودته من الأزهر إلى سنة ١٢٩٣ وهي السنة التي توفى فيها كان يقرأ الدروس يوميا بلا كلل ولا ملل ، من الصباح إلى قبيل الظهر يقرأ الدروس الخاصة في علوم شتى ، ومن الظهر إلى العصر صيفا وشتاء ربيعا وخريفا حتى في رمضان يقرأ درسا عاما في الجامع الكبير يبقى فيه مقدار أربع ساعات قاعدا على ركبتيه لا يغير قعدته. وربما قرأ في درسه الحديث أو الحديثين ويتكلم عليهما بالعجب العجاب بصورة تأخذ بمجامع القلب ، وقل أن يمل أحد من المستمعين الذي يقدرون في معظم الأوقات بأزيد من ألف شخص ، ويذكر أثناء ذلك أحوال الحكام ومظالمهم وتقصير العلماء وأحوال التجار وغشهم وكسل الفقراء ، وربما صرح بأسماء بعض الأشخاص غير هياب ولا وجل ، ولذا كان الجميع يهابونه ويخشون أن يذكرهم الشيخ في دروسه. وكان جهوري الصوت فصيح اللسان حسن التقرير ،

٣٥٤

يفهمه القريب منه والبعيد عنه ، وعند تقريره الأحكام الشرعية يعيدها ثلاث مرات لترسخ في أذهان السامعين. وله في أثناء درسه تطورات وشطحات في الكلام تخرج تلك الكلمات منه من فؤاد مليء علما ومعرفة بالله تعالى ، وقد سمع منه غير مرة أنه ما سأل الله شيئا إلا أجابه ولا دعا على أحد إلا وانتقم منه بموت سريع أو غيره.

ويبقى في درسه هذا إلى أن ينادي المؤذن بصلاة العصر ، فيصليها ثم يذهب إلى بيته فلا يخرج منه إلى الصباح.

أحواله وأخلاقه :

كان رحمه‌الله ملازما للعزلة إلا في أوقات الدروس ، لا يزور أحدا من الأمراء ورجال الدولة العثمانية وصدورها العظام ، بل كانوا هم الذين يتقصدون زيارته للتبرك به ، وكانوا يؤمون دروسه الإرشادية ويقعدون فيها كآحاد الناس ، وقل أن يقبل زيارتهم.

وحدثنا عن رشيد باشا الشرواني الصدر الأعظم لما أتى إلى حلب واجتمع بالشيخ بعد جهد أنه قال : لقد حضرت مجالس الملوك كثيرا فلم أر في جميعها ما رأيته في مجلس الشيخ من الخوف والمهابة والجلالة. وحدثنا بمثله عن نامق باشا لما مر بحلب قاصدا بغداد أو عائدا منها إلى الآستانة.

وكان شاه العجم مر بحلب وحضر درسه ، ثم طلب مقابلته ، فبعد جهد حتى أذن له بذلك فقال له وكان واقفا أمامه وقفة الخاضع الخاشع : أسمع أن العجم قوم شيعة مع أن عندهم علماء ، فهل تشيعهم مجرد تعصب أو هو مبني على دليل ، فكيف اعتقادكم؟ فخاف الشاه من الجواب وأن يدخل في البحث مع الشيخ ، فقال له : يا سيدي نحن عائلة الملك من أهل السنة والجماعة ، وأنكر تشيعه بتاتا. وكان الشاه يطلب الاجتماع بعالم مجتهد ، فأجيب : ليس عندنا عالم مجتهد بل إنما لدينا عالم مشهور وهو فلان.

ولما كان جودت باشا واليا على حلب أخذ عنه الحديث بعد وسائل متعددة ، ودعاه إلى ضيافة عملها في رمضان ، ولم يجب إلا بعد جهد ، ولما حضر وضعت الشوربا أولا على العادة المتبعة ، فتناول منها لقيمات ، ثم قاموا إلى صلاة المغرب ، وبعد أن فرغوا منها كلفوا إلى المائدة ثانيا فقال : أما تعشينا ، فأعلم أن هذه مقدمة لأجل الإفطار ، فقال :

٣٥٥

لا قد اكتفينا ، ولم يأكل سوى ذلك. ولم نسمع أنه أجاب دعوة أحد من الكبراء غير هذه ، ولعله أجاب دعوة جودت باشا لأنه من العلماء كما ذكرنا ذلك في الكلام على ولايته.

وكانت له الهيبة العظيمة في القلوب بحيث إن كل من رآه من الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم يهابه بحيث إنه إذا كان مارا في الطريق يقف له المارون هيبة. وما كان يسلم في طريقه على أحد من الناس ، بل كان مشتغلا بقراءة الفاتحة ، هذا كله مع كمال التواضع والحلم والأناة ، حتى إنه قد اشتهر عنه أنه كان يخبز خبزه بيده ويحمله على كتفه وهو قد جاوز الثمانين ، ويأتي بجميع لوازمه البيتية يحملها بنفسه ، واجتهد كثير من خاصة أهل بلدته وعامتهم أن يساعدوه في حمل شيء منها فكان يأبى.

وكان مع ما امتاز به من العلم والعمل على مقتضى الشريعة الإسلامية قد اشتهر عنه نصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يغلظ القول في رجال الدولة وغيرهم من الأمراء عندما يرى منهم أو يسمعه عنهم ما يخالف الشرع والحق ، لا يبالي بهم ولا تأخذه في الله لومة لائم.

وكان ديدنه التأليف بين الناس وجمع القلوب إلى بعضها بعيدا عن كل فتنة ، لا يدع مجالا لمن رام ذلك ، عرف هذا الخلق منه عامة الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم فعكفت القلوب جميعها على محبته وأجمعوا على مدحه والثناء عليه.

وقد علم أهله وجيرانه أنه كان ينام نصف الليل أو ثلثيه بدون اضطجاع ولا فراش ، بل ينام على جلد محتبيا فلا يعلم أهل بيته أهو نائم أو مستيقظ ، ثم يقوم إلى الصلاة وقراءة الأوراد والأذكار بصوت متوسط بحيث يؤنس المستيقظ ولا يوقظ النائم. وأجمع أهل عصره أنه كان ورده في النهار قراءة الفاتحة يقرؤها دائما في قعوده وقيامه وفي طريقه ويقول : إنها مفتاح الخير ومغلاق الشر وفيها النجاة.

وبلغ من احتياطه وتباعده عن مواطن الشبهات أنه كان لبناته بعض عقارات قد اشترينها من مالهن الموروث عن والدتهن ، فكان حينما يقبض بدل الإيجار لهن يضع ما يخص كل واحدة منهن على حدة خشية اختلاط المال من غير إذنهن. وحدثت مرة أنه قد اختلط معه البدل المذكور بماله فجمعهن وطلب منهن المسامحة وأنه لم يكن ذلك منه إلا سهوا.

٣٥٦

وبلغ من زهده أن قدم إليه كثير من الوزراء ورؤساء الحكومة من الهدايا العظيمة التي تبلغ مئات من الدنانير ، فردها عليهم ولم يقبل منها شيئا معتذرا عن قبولها بأن عنده من المال ما يكفيه فلا حاجة له بها ، مما يدل على أن هناك نفسا قد اتخذت من حضائر القدس وجهة خاصة أغنتها عن زخارف الدنيا وزهرة الحياة الفانية.

وكان ربع القامة أبيض اللون أسود العينين خفيف اللحية يلبس فروة من جلود الغنم.

مكاشفاته وتنبؤاته :

لا زال الناس يتحدثون عن مكاشفات الشيخ بالكثير الذي بلغ مبلغ التواتر بحيث لم يبق مجال لإنكارها ، وسلم له بذلك معاصروه وملازموه ، ولو جمعت ما كنت أسمعه منذ ثلاثين سنة إلى الآن من كراماته لبلغت مجلدا. وحمل هذه الكرامات الكثيرة والمكاشفات على مجرد الصدفة كما يقول منكر وذلك مجرد عناد ومكابرة منهم. وقد اشتهر في حياته أن دروسه كانت بغية السائل وهداية الضال ، فكثيرا ما أخبر في درسه العام عن الشؤون والأحوال التي تعترض الدولة التركية في أدوارها المستقبلية ، فجاءت بعد وفاته كفلق الصبح يتبع بعضها بعضا ، وقد أخبر عن هذه الحرب العامة قبل خمسين سنة بحيث قال غير مرة : يا ويل الناس من البلاء الذي سيحل بهم سنة ١٣٣٣ ، ولم يزل بين ظهرانينا من سمعها منه أو سمعها ممن سمعها منه.

ومن مكاشفاته ما حدثت به عن تلميذه شيخنا الشيخ أحمد المكتبي رحمه‌الله تعالى قال : كنت في حياة الشيخ مجاورا في المدرسة العثمانية وملازما للعزلة والانفراد في حجرتي ، فحدثتني نفسي يوما في الاجتماع مع بعض المجاورين وأن يكون اجتماعنا قاصرا على مطالعة كتاب أو قراءة مولد ترويحا للنفس ، فجئت ذلك اليوم إلى درس الشيخ فكان أول ما سمعته منه أن قال : أيها الإخوان ، إن بعض الطلبة يسأمون من دوام العزلة ويشتهون أن يجتمعوا مع رفقائهم ، إخواني إن الله إذا أحب عبدا كرّهه في معاشرة الناس.

ومنها ما حدث به الشيخ حمادة البيانوني قال : كنت عولت على أن أتزوج ، ولكن ترددت أتزوج حلبية أو قروية ، فذهبت إلى درس الشيخ فسمعته يقول : إن بعضا من الناس يريد أن يتزوج ويتردد في أي المرأتين أحسن الحلبية أو القروية ، فأقول : إن القروية له أحسن لأنها تكون أقنع باليسير.

٣٥٧

ومنها ما حدث به الشيخ محمد الحجار أنه كان يوما في درسه الخاص حسب عادته ، وإذ قد رأيناه ينظر إلى الكراس الذي يقرأ فيه بتأمل ، ثم ينتفض بسرعة ويقول : يا لطيف ، وقد تكرر منه هذا العمل مرارا ، فتعجب كل الحاضرين من هذه الحالة الغريبة التي لم يعهدوا مثلها في الشيخ من قبل ، حتى إذا ما فرغ من الدرس وهممنا بالخروج من عنده وإذا زلزلة عظيمة كاد يسقط لها المكان.

ومنها ما كنت سمعته من خالي السيد محمد كلزية غير مرة قال : كنت وأنا غلام أشتغل عند والدي في صنعة المنير ، فسمعت بدرس الشيخ فتوجهت إليه ، ولما سمعته تعشقته وواظبت على الدرس ، فتعطل لذلك بعض شغل والدي ، فنهاني عن ذلك إلا في أوقات الفراغ ، فلم أصغ لنهيه لشدة حبي للشيخ وتعلقي بدرسه ، وذهبت للجامع ، فما كاد يستقر بي الجلوس وإذا بالشيخ قد التفت نحو جهتي وقال ما معناه : يا إخوان ، إن بعض الناس يأتون إلى الدرس ليستمعوا وقد نهاهم آباؤهم عن ذلك إلا في بعض الأحيان ، ألا فليعلموا أن طاعة الوالدين واجبة ، فليسمعوا منهم ، ولا فلاح لمن لا يبر بوالديه. قال خالي : فأثرت فيّ تلك الكلمات ووصلت إلى أعماق فؤادي ، فنهضت للحال. وله مثل ذلك كثير.

وممن ترجمه الشيخ يوسف النبهاني في كتابه «جامع كرامات الأولياء» ، ومما قاله :

وكان رحمه‌الله من أفضل فضلاء هذا العصر وأعلمهم في العلوم العقلية والنقلية وأزهدهم في الدنيا وأرغبهم في الآخرة. وكان لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يداهن أهل الدنيا لدنياهم ، بل يصدع بالحق ولا يبالي بكبير ولا صغير مأمور أو أمير. وحصل منه في نشر العلم في حلب وجهاتها النفع التام العام ، ووقع الإجماع عليه في تلك البلاد أنه فريد هذا العصر عندهم في العلم والعمل. وقد سمعت أوصافه هذه كلها من كثيرين ممن اجتمع بهم من أهل العلم وغيرهم بحيث لا شك بأنه كان كذلك وفوق ذلك ، وقد حدثني عنه الثقات أنه كان مع وفرة العمل والعلم صاحب كرامات وخوارق عادات ، فمن ذلك أنه كان يذكر في درسه ما يوافق ضمائر الحاضرين ويحل مشكلاتهم التي تتعلق في دنياهم وأخراهم ، ولما تكرر ذلك منه واشتهر بين الناس صاروا يقصدون درسه لذلك ، فإذا حضر الرجل في الدرس يسمع كلاما يتعلق بنيته من استحسان ما عزم على فعله أو استقباحه ،

٣٥٨

فيعمل بمقتضى ما فهمه من كلام الشيخ فيحصل له الخير. وممن أخبرني بكرامات كشفه الشيخ محمد الناشد الحلبي ، وكان من تلامذته الملازمين لدرسه ، قال : ومن ذلك أن رجلا جاءه مولود أسمر مخالف للون أبيه وأمه ، فاشتبه الرجل بزوجته وأساء الظن بها ، ثم وقف على دروس الشيخ فكاشفه الشيخ وقال إن الله تعالى قد حرم الجماع في الحيض لحكمة ، فمن فعل ذلك وأتاه ولد أسمر مخالف للون أبيه وأمه فلا يلومن إلا نفسه ، فإن تغير اللون إنما هو بسبب الجماع في الحيض. فعرف الرجل أنه هو المراد بهذا الكلام لأنه كان قد وقع منه ذلك وعزم على أن لا يعود إلى مثله وزال سوء ظنه بزوجته ، وذلك ببركة الشيخ رضي‌الله‌عنه.

مؤلفاته :

(١) تفسير القرآن العظيم.

(٢) شرح متن الشمسية في علم المنطق سماه «الهبات الربانية للقواعد المنطقية» ، رأيته بخطه وهو في ٢٢ كراسة.

(٣) حاشية على شرح التهذيب في المنطق سماها «هبة الحبيب على شرح التهذيب» ، وهو في ٥ كراريس ألفه سنة ١٢٤٩ ، وفي هذه الحاشية ذكر أنه جاور في الأزهر ثلاث عشرة سنة.

(٤) «الفتوحات الربانية على الرسالة الخانية» في علم المنطق أيضا.

(٥) «شرح على القطر» في النحو في ثلاث مجلدات هو الآن في الديار المصرية لا أدري في أي مكتبة.

(٦) شرح على الشافية في علم الصرف سماه «العبارات الوافية بما يفهم من ظاهر الشافية» ، أول هذا الشرح : الحمد لله الذي جمع مقصور عقولنا على المنسوب لمصدر التحقيق ، وأمال ممدود نفوسنا للوقوف على ما ألهم من الاستعداد لماضي التدقيق. ثم قال : فإنني ولله الحمد أدلجت مع المحصلين ، وشربت من ماء تحت أقدام سيد المرسلين ، وحزت من فن البلاغة أسهما ، وسقيت من بحار التلقي حتى أنسيت الظما ، ولو كان فرسان الحظوظ بالمعارف والتبيين ، لأتيت بجميع ذلك بسلطان مبين. وهو في عشرين كراسا

٣٥٩

شرحه إملاء بدون مراجعة كتاب كما ذكر ذلك في آخره ، وحسبك ذلك دليلا على قوة حفظه وسعة علمه. وإنشاؤه هذا يدلك على أنه ممن أخذ من الأدب وعلوم البلاغة بحظ وافر.

(٧) تعليقات على البخاري الشريف.

(٨) «شرح على الهداية» للأبهري في الحكمة والفلسفة.

(٩) «شرح على منظومة البرهانية» في الفرائض.

(١٠) «شرح على معفوات ابن العماد».

(١١) «شرح كبير على المنظومة التائية» للعلامة السبكي في نحو ثلاثين كراسة.

(١٢) «حاشية على الشذور» لابن هشام رأيتها بخطه على هامش نسخة من الشذور.

(١٣) «حواشي على المغني» لابن هشام رأيتها بخطه على هامش نسخة لو أفردت كانت في مجلد.

(١٤) تعليقات على شرح السعد على التلخيص في المعاني والبيان والبديع.

(١٥) «رسالة في أحكام الإمام والمقتدي» على مذهب الإمام الشافعي.

(١٦) «رسالة في أحكام المستحاضة» على مذهب الإمام الشافعي أيضا.

(١٧) «رسالة في أحكام توريث ذوي الأرحام».

(١٨) «رسالة في المسبوق والموافق» ، ألفها سنة ١٢٥٨.

(١٩) «شرح على حكم الشيخ رسلان».

(٢٠) «مؤلفات في علم الكيميا» في سبع مجلدات ، جمع فيها ما قاله علماء هذه الصنعة فيها وما ذكروه من التجاريب. ولم يكن عند الشيخ من الوقت ما يسمح له أن يشتغل فيها ، لكن كان بعض الصاغة من تلامذته يطلبون منه أن يقوموا بتجربة ذلك ، فكان يبين لهم ما قاله علماء الكيميا في ذلك ، وكانوا بعد التجربة يخبرونه بنتائج اختباراتهم ، وفي آخر عمره ذكر غير مرة أنه لم يترك علما إلا واشتغل فيه حتى علم الكيميا ، وأنه قد تبين له أن هذا العلم قد فقدت أربابه ولا يصح إلا بموقف ، فصار ينصح الناس ألا يضيعوا أوقاتهم في هذه التجاريب فإنها لا تأتي لهم بفائدة. وقد أنحى عليه باللائمة بعض أهل عصرنا لاشتغاله في هذا العلم وتصديه للتأليف فيه ولا حق له في ذلك ، فقد ألف واشتغل فيه قبله كثير من علماء الإسلام ، وعلماء الغرب الآن عادوا إلى الاشتغال فيه بعد إنكارهم

٣٦٠