السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤١٦
لكنها في الخارج لا تقبل الوجود إلاّ بنحو الصدق على كثيرين.
ما يرد عليه من الإشكال
أوّلاً : في قوله : الآليّة والاستقلالية تأتي من ناحية اللّحاظ ، وإلاّ فلا فرق جوهري بينهما.
فإنّ اللّحاظ ليس إلاّ الوجود الذهني ، فإذا لم يكن في حاقّ المعنى وذاته لا آليّة ولا استقلاليّة ، فإنّ لحاظه ـ أي وجوده ـ لا يغيّره عمّا هو عليه.
وبعبارةٍ اخرى : ليس الوجود إلاّ أنْ ينقلب النقيض إلى النقيض ، بأنْ يكون الشيء موجوداً بعد أنْ كان معدوماً ، فالوجود لا يغيّر الماهيّة والحقيقة بل يُظهرها بعد أنْ لم يكن لها ظهور.
وإذا كان اللّحاظ ـ سواء من الواضع أو المستعمِل ـ ليس إلاّ وجود المعنى ، فكيف يكون المعنى باللّحاظ آليّاً تارةً واستقلاليّاً اخرى؟
وثانياً : إنْ كان الموضوع له اللّفظ ذات المعنى ، وكان الاستقلال وعدم الاستقلال خارجين عنه ، غير أنْ الواضع اشترط على المستعمل استعمال الاسم إن كان المعنى ملحوظاً بالاستقلال ، والحرف إنْ لم يكن.
ففيه : أنه إذا كان المعنى الموضوع له اللّفظ مطلقاً غير متقيَّد لا بالآليّة ولا بالاستقلاليّة ، فكيف يصبح بالاستعمال مقيّداً بهذا تارةً وبذاك اخرى؟
وثالثاً : إذا كان الموضوع له هو ذات المعنى فقط ، لصحّ استعمال الحرف في محلّ الاسم وبالعكس ، ومن عدم صحّة هذا الاستعمال يستكشف وجود الفرق الجوهري بينهما.
قال صاحب (الكفاية) : وجه عدم الصحّة هو : إنّ هذا الاستعمال وإنْ كان في الموضوع له ، إلاّ أنه بغير ما وضع عليه.
فقالوا في شرح هذا الكلام : إن مراده تقييد الواضع للعلقة الوضعيّة.
قلنا : إنْ اريد أنّ الوضع مقيَّد ، فليس من المعقول كون الوضع مقيّداً والموضوع له غير مقيَّد ، لأن الوضع من مقولة الإضافة ، فيكون التقييد في ناحية الإضافة موجباً للتقييد في متعلَّقها ، فتقييد الموضوع مع عدم تقييد الموضوع له غير ممكن.
وإنْ كانت العلقة الوضعيّة مطلقة غير مقيَّدة ، فلا بدّ من كون الموضوع والموضوع له كليهما مطلقين ، وحينئذٍ جاز استعمال كلّ في مكان الآخر ، وبطل منع ذلك بناء على تقييد الوضع.
فلا يندفع هذا الإشكال ، اللهم إلاّ بأنْ يقال : إن الواضع شرط على المستعملين لدى الاستعمال لحاظ الاسم مستقلاًّ ولحاظ الحرف آلةً. ويردّه :
عدم وجود الموجب لاتّباع شرط الواضع والالتزام به.
القول الثالث :
إنّ المعنى الحرفي يختلف والمعنى الاسمي اختلافاً جوهريّاً ، وإليه ذهب جمهور المحققين ، غير أنهم اختلفوا في تصوير هذا الاختلاف وبيان حقيقته :
* رأي الميرزا
فقال المحقق النائيني : إنّ المعنى الحرفي يباين المعنى الاسمي ، والتباين بينهما هو بالإيجاديّة والإخطاريّة ، فالمفاهيم الاسميّة إخطاريّة ، والمفاهيم الحرفيّة إيجاديّة.
وقد ذكر لإثبات مدّعاه خمس مقدّمات ، وبناه على أربعة أركان :
وملخّص كلامه هو :
إن المعاني على قسمين ، منها : إخطاريّة ، ومنها : غير إخطاريّة ، فما يكون صالحاً لأنْ يخطر في الذهن بنفسه فهو معنًى اسمي ، وما لا يصلح لذلك بل لا بدَّ من كونه ضمن كلامٍ مرتّب بترتيب معيّن فهو معنى حرفي. والمعاني غير الإخطارية إيجاديّة ، غير أنّ هذه المعاني الإيجاديّة تنقسم إلى قسمين ، فمن الحروف ما يوجد مصداق لمعناه في الخارج ، كحروف النداء والتشبيه ونحوها ، فإنّه لمّا يستعمل حرف النداء ويقال : يا زيد ، يوجد مصداقٌ للنداء خارجاً ، وكذا في : زيد كالأسد ، ومن الحروف ما لا يوجد مصداق لمعناه في الخارج مثل «من» و «على» و «إلى» ، فهي حروف نسبيّة ، أي أن معناها ليس إلاّ إيجاد النسبة والربط بين المعاني المتباينة التي لا ربط بينها ، كما في : سرت من البصرة إلى الكوفة.
فالحروف كلّها إيجاديّة ، غير أنْ بعضها لمعناه مصداق في الخارج وبعضها لا ، بل هي لإيجاد الربط والنسبة فقط ، فما في كلام صاحب (الحاشية) من تقسيم الحروف إلى إيجادية وغير إيجادية غير صحيح.
وبالجملة ، فلا شيء من الحروف بإخطاري.
ثم قال : إن النسبة بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي هي النسبة بين المفهوم والمصداق ، فالمعنى الاسمي له خاصيّة المفهوم ، والمعنى الحرفي له خاصيّة المصداق ، فالتفاوت بين «النداء» الذي هو معنى اسمي ، وبين «يا زيد» الذي هو معنى حرفي ، هو التفاوت بين «مفهوم الماء» و «مصداق الماء» ، مع الالتفات إلى أنا بواسطة الحرف نوجد المعنى ، ولا ظرف لمعناه إلاّ ظرف الاستعمال ، وهو موطن تحقّقه ، بخلاف مثل صيغ العقود والإيقاعات التي موطن تحقّق المنشأ فيها هو وعاء الاعتبار.
فظهر أن الاختلاف بين المعنيين ـ الاسمي والحرفي ـ جوهري ، إذ المعنى الاسمي إخطاري مستقل في التعقّل غير محتاج إلى شيء ، والمعنى الحرفي إيجادي غير مستقل وهو يفيد الربط بين المعاني الإخطارية المتباينة ، فهو غير إخطاري ، إذ ليس إلاّ في عالم الاستعمال ، فالمعاني الاسميّة دائماً مقصودة بالاستقلال ، والمعاني الحرفيّة دائماً آليّة وينظر إليها بالتبع ، بل إنها حين الاستعمال فانية فناء اللّفظ في المعنى ، وهي توجد الربط بين الأسماء ـ كربط «على» بين «زيد» و «السطح» ـ في مقام التكلّم ، لا في الخارج ، وهذا الربط والنسبة من قبيل النسبة بين الظلّ وذي الظل ، ولذا قد تطابق وقد تخالف ـ وليس من قبيل النسبة في الخارج ، التي هي النسبة بين الدّال والمدلول وحقيقة هذه النسبة في الحروف عبارة عمّا يؤخذ من قيام احدى المقولات التسع بموضوعاتها ، فإنْ لم تؤخذ هذه الخصوصيّة في المقولات التسع لم تكن هناك نسبة ، فالعرض لو لم يكن فيه جهة قيام بالجوهر فلا نسبة ، كما هو الحال بين جوهرٍ وجوهرٍ آخر ، إذ حقيقة النسبة ناشئة من قيام احدى المقولات التسع بموضوعاتها (١).
مناقشات الشيخ الاستاذ
وذكر شيخنا الاستاذ على هذا القول إشكالات ، فقال :
١ ـ أمّا قوله : إن حقيقة النسبة ليست إلاّ قيام احدى المقولات التسع بموضوعاتها ، فإن معناه انحصار النسبة بين المقولات العرضيّة ، ويلزم منه انكارها في مثل «شريك الباري ممتنع» لعدم وجود المقولة فيه ، ولا يخفى ما فيه.
__________________
(١) أجود التقريرات ١ / ٢٥ ـ ٣٢ ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج).
٢ ـ وأمّا قوله بأنّ جميع الحروف إيجاديّة ، وليس فيها جهة الحكاية أصلاً ، إذ ليس لها ما وراء كي تحكي عنه ، فما معنى الصّدق والكذب في مثل : زيد على السطح ، عمرو في الدار ...؟
أجاب رحمهالله : بأنّ مناط الصّدق والكذب هو وجود وعدم وجود المطابق.
وفيه : إن موضوع الصّدق والكذب هو الخبر ، وحيث لا يكون خبرٌ فلا يكون صدق وكذبٌ ، ولازم كلامه انتفاء الخبر في مثل زيد في الدار ، لأن الخبر إن كان له مطابَق فهو صدق وإلاّ فهو كذب. وتوضيح ذلك : إن في الجملة الخبرية مسلكين : أحدهما : إنّها تدل على ثبوت أو عدم ثبوت النسبة ، وهذا هو المشهور ـ وربّما ادّعي عليه الاتفاق كما عن التفتازاني ـ والآخر : إن الجملة الخبرية دالّة على قصد الحكاية. وسوف نوضح الفرق بين المسلكين في مسألة الإنشاء والإخبار.
وكيف كان ، فإن قوام الإخبار هو الإعلام والإنباء ، قال تعالى : (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ)(١) فإذا لم يكن هناك منبأ عنه ، ومدلول ، ومحكي ، فلا موضوع للإعلام والإنباء والإخبار ... وهذا هو المهمّ ، وإذا كان شأن الحروف هو الربط وأنه ليس للحروف ما وراء ، فعن أيّ شيء يخبر وينبئ ... والعجيب أنه قد ناقض نفسه في ضمن كلامه ، عند ما ذكر انقسام الألفاظ إلى المستقل وغير المستقل ، وغير المستقل إلى قسمين ، حيث عبَّر عن بعض الهيئات والحروف بأنّها تفيد كذا وتدل على كذا ، فإذا لم يكن للحروف معنىً مطلقاً ، فما معنى الإفادة والدلالة؟
__________________
(١) سورة الحجرات : ٦.
٣ ـ وأمّا قوله بأنّ النسبة بين المعنى الاسمي والحروف نسبة المفهوم إلى المصداق ، فغير صحيح ، لأن المصداق والمفهوم لا اختلاف بينهما إلاّ في الوجود ، وإلاّ فالذات واحدة ، كزيد والإنسان ، فكلاهما حيوان ناطق والنسبة نسبة الكلّي والفرد ، فالنسبة المذكورة تختص في وحدة الذات ، ولا تجتمع مع الاختلاف الذاتي بين مفهوم الاسم ومفهوم الحرف ، كما هو الحق الذي اختاره في مقابل مبنى صاحب (الكفاية) ، بل على هذا المبنى تكون النسبة هي النسبة بين العنوان والمعنون ، كمفهوم الوجود والمصاديق الخارجيّة للوجود.
٤ ـ وأمّا قوله بأن المعنى الحرفي فانٍ في مقام الاستعمال وغير ملحوظ أصلاً. ففيه : أنه خلاف الوجدان ، فقد يكون تمام النظر في موردٍ إلى إفادة معنى حرف من الحروف ، كلفظة «من» في «سرت من البصرة إلى الكوفة». وهذا الإشكال من المحقق الخوئي في (حاشية أجود التقريرات).
٥ ـ إنه لا ريب في أن الحروف موجدة للربط بين المفاهيم الاسميّة ، فالسير بما له من المفهوم مغاير للبصرة بما له من المفهوم ، لكنّها بدلالتها على معانيها توجد الربط ، لا أنها توجده من غير أنْ تدل على معنى.
وعلى الجملة ، فإن دعواه بأنّ الحروف إيجاديّة فقط ، دعوى بلا دليل ، بل الدليل قائم على بطلانها. أمّا وجداناً ، فلأن قولنا زيد في الدار ، يشتمل على «زيد» الحاكي عن الجوهر وهو المكين ، وعلى «الدار» الحاكي عن الجوهر وهو المكان ، وعلى «في» المفيد للظرفيّة الحاكي عن الربط ، فكلّ من الاسمين يفيد معناه الخاص ، و «في» يفيد الربط بينهما ، ولو لا هذا الحرف لما انتقل إلى الذهن الربط بين الاسمين المذكورين. وأمّا برهاناً ، فلأن
حكمة الوضع التي اقتضت أنْ يفاد معنى «زيد» بهذا اللّفظ ، ومعنى «الدار» بهذا اللّفظ ، كذلك هي تقتضي إفادة النسبة والربط بينهما بحاكٍ ، إذْ لا وجه لأنْ يكون لذينك المعنيين حاك ولا يكون هناك حاكٍ عن معنى الربط ، فلا محالة ، توجد في الأسماء والحروف جهة الحكاية ، غير أنّ الأسماء تحكي عن معانٍ مستقلّة ، والحروف تحكي عن معانٍ غير مستقلّة وهذا هو الفرق.
فالأسماء والحروف مشتركة في الإخطاريّة والحكايّة ، والاختلاف في الاستقلال وعدم الاستقلال.
إشكال المحقق العراقي ودفعه
وأمّا ما أورده المحقّق العراقي على الميرزا من أنه : إنْ كان المراد من إيجاد الحرف الربط بين المفهومين إيجاده بين مفهومين مرتبطين فهو تحصيل للحاصل ، وإنْ كانا غير مرتبطين فإيجاده للربط بين غير مرتبطين محال.
فقد أجاب عنه الاستاذ بأن مراد الميرزا أن الحروف توجد الربط بين المفاهيم ، بمعنى أنه لو لا الحروف لما
وجد الارتباط بينها.
* رأي المحقق العراقي
إن الحروف موضوعة للأعراض النسبيّة الإضافيّة (١) ، كمقولة الأين والإضافة ونحوهما. وتوضيح كلامه هو :
إن المعاني على أقسام :
١ ـ المعاني الموجودة في نفسها لنفسها ، وهي الجواهر ، كزيد.
٢ ـ المعاني الموجودة في نفسها لغيرها ، وهي الأعراض ، كالبياض.
٣ ـ المعاني التي لا نفسيّة لها مطلقاً ، لا في نفسها ولا لنفسها ، بل في
__________________
(١) نهاية الأفكار ١ / ٤٢ ـ ٥٢ ط جامعة المدرّسين.
غيرها لغيرها بغيرها ، مثاله : وجود الرابط ، كالرابط بين زيد وقائم ، وهو المعبَّر عنه ب «است» بالفارسيّة.
ثم إنّ القسم الثاني ينقسم إلى قسمين : الأعراض النسبيّة ، والأعراض غير النسبيّة.
العرض لا يكون بغير نسبة ، لأنه لغيره ، لكن بعض الأعراض ليس له إلاّ نسبة واحدة ، وهي النسبة إلى الموضوع ، كالبياض القائم بالجدار ، وبعضها ذو نسبتين ، كمقولة الأين ، فمثل «في» له نسبة إلى المكين وهو «زيد» ، وإلى المكان وهو «الدار» فيسمّى القسم الأول بالعرض غير النسبي ، والثاني بالعرض النسبي.
فالأسماء موضوعة للجواهر كلفظ الجسم ، وللأعراض غير النسبيّة كلفظ البياض.
والحروف موضوعة للأعراض النسبيّة ، ك «من» و «على» و «في» و «إلى» ...
والهيئات موضوعة للرابط ، وهو «است».
فالموضوع له الحرف عبارة عن العرض النسبي ، وعن الوجود الرابطي ، والموضوع له الهيئة عبارة عن وجود الرابط ، فالحروف مثل «من» و «إلى» و «في» هي لأقسام الأين ، الأين الظرفي «في» والأين الابتدائي «من» والأين الانتهائي «إلى».
قال : ومن الحروف ما لا نتمكّن من تصوّر معناه الموضوع له مثل «اللام» فلا ندري هو من أيّ مقولةٍ ، لكن هذا لا يضرّ بالنظرية ، ولا يوجب بطلانها.
وعلى الجملة ، فالهيئات موضوعة لوجود الرابط ، مفاد «است».
والحروف على قسمين : منها ما هو موضوع للنسبة ، مثل حروف التمنّي والترجّي ، فهي موضوعة لنسبة تشوّق المترجّى إلى المترجّى ، والمتمنّي إلى المتمنّى ، مثل ليت ولعل. ومنها الحروف الاخرى ، فهي موضوعة للأعراض النسبيّة مثل «من» و «إلى» و «في».
قال : ومعاني الحروف متعلّقة بالغير ، فلا استقلاليّة لها ، لا في ذواتها ولا في وجوداتها.
المناقشات
قبل كلّ شيء ، لم يذكر هذا المحقق دليلاً على ما ادّعاه من كون المعنى الحرفي عبارةً عن العرض النسبي.
ثم :
١ ـ إذا كان معنى الحرف عبارةً عن العرض النسبي ، فأين الأعراض النسبية لحروف التشبيه والعطف والنداء؟ وقوله بوجود هذا المعنى إلاّ أنّا لا نعرفه بالضّبط ، غير مفيد ، لأنّ الأعراض النسبيّة كمقولة الأين والإضافة والجدة ... معروفة ، فلما ذا لا نعلم بالعرض النسبي في مثل كأنّ زيداً أسد ، ومثل : يا زيد ...؟
إن الحقيقة أن هذه الحروف ليس معناها هو العرض النسبي.
٢ ـ ما ذكره من أنّ المعنى الحرفي متقوّم ماهيّةً ووجوداً بالغير ، فيه : إن كلّ عرض مستقل ماهيّةً ومحتاج إلى الغير وجوداً ، من غير فرق بين النسبي وغيره.
٣ ـ إنّ العرض النسبي نفسه معنىً اسمي ، ففي (الأسفار) (١) في مبحث
__________________
(١) الأسفار ٤ / ٢١٥ ط مكتبة المصطفوي.
الأين ، في نقض تعريف هذه المقولة بنسبة الشيء إلى المكان ، قال ما معناه : ينبغي أنْ نقول بأنّ مقولة الأين هي الهيئة الحاصلة للشيء ، والهيئة معنى اسمي ، ثم قال : فمقولة الأين عبارة عن الهيئة الحاصلة بالاضافة.
فجميع الأعراض النسبية من مقولة الجدة والوضع ... هيئات حاصلة ، والهيئات معانٍ مستقلة ، والحال أن المعنى الحرفي غير مستقل.
٤ ـ ما ذكره في ليت ولعلّ ، فيه : إن التشوق صفة نفسانيّة وليس بنسبة ، غاية الأمر ، هو صفة نفسانية ذات تعلّق وإضافة إلى الغير ، مثل الحب والبغض.
٥ ـ وما ذكره في «الأين الابتدائي» و «الأين الانتهائي» مخدوش ، لأنّ «الأين» هي الهيئة الحاصلة للشيء من الإضافة إلى المكان ، فلا ابتداء لها ولا انتهاء ، نعم ، لكلّ «أين» إضافة اخرى ، ففي «من» إضافة ابتدائية ، وفي «إلى» إضافة انتهائية ، لكنّ كليهما من مقولة الأين ... فجعل «من» للأين الابتدائي ، و «إلى» للأين الانتهائي غير معقول.
قال شيخنا الاستاذ :
هذا كلّه بناءً على أن مسلكه في معنى الحرف هو العرض النسبي.
لكن كلماته مشوّشة ...
* رأي السيد الخوئي
قال طاب ثراه في تعليقة (أجود التقريرات) :
«والتحقيق أن يقال : إن الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسميّة وتقييداتها بقيودٍ خارجةٍ عن حقائقها ، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية ، بل التضييق إنما هو في عالم المفهوميّة وفي نفس المعاني ، كان له
وجود في الخارج أو لم يكن ، فمفاهيمها في حدّ ذاتها متعلّقات بغيرها ومتدلّيات بها ، قبال مفاهيم الأسماء التي هي مستقلاّت في أنفسها.
توضيح ذلك : إن كلّ مفهومٍ اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته ، وسواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة ، أو بالقياس إلى حالات شخصٍ واحد ، ومن الضروري أن غرض المتكلّم كما يتعلّق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته ، كذلك قد يتعلَّق بإفادة حصّةٍ خاصّةٍ منه ، كما في قولك : الصلاة في المسجد حكمها كذا. وحيث أنّ حصص المعنى الواحد فضلاً عن المعاني الكثيرة غير متناهية ، فلا بدّ للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصّص المعنى وتقيّده ، وليس ذلك إلاّ الحروف والهيئات الدالّة على النسب الناقصة ، كهيئات المشتقات ، وهيئة الإضافة أو التوصيف ، فكلمة «في» في قولنا : الصلاة في المسجد ، لا تدل إلاّ على أنّ المراد من الصلاة ليس هي الطبيعة السارية إلى كلّ فردٍ ، بل خصوص حصّة منها ، سواء كانت تلك الحصّة موجودةً في الخارج أم معدومة ، ممكنة كانت أم ممتنعة ، ومن هنا يكون استعمال الحروف في الممكن والواجب والممتنع على نسقٍ واحدٍ وبلا عناية في شيء منها ، فنقول : ثبوت القيام لزيدٍ ممكن ، وثبوت العلم لله تعالى ضروري ، وثبوت الجهل له تعالى مستحيل. فكلمة «اللاّم» في جميع ذلك يوجب تخصّص مدلوله ، فيحكم عليه بالإمكان مرة ، وبالضرورة اخرى ، وبالاستحالة ثالثة.
فما يستعمل في الحرف ليس إلاّ تضييق المعنى الاسمي ، من دون لحاظ نسبة خارجية ، حتى في الموارد الممكنة ، فضلاً عما يستحيل فيه تحقّق
نسبته ، كما في الممتنعات وفي أوصاف الواجب تعالى ، ونحوهما» (١).
هذا ، والأدلّة على هذا المبنى ـ كما في (المحاضرات) ـ هي :
أولاً : بطلان سائر الأقوال.
وثانياً : إن المعنى المذكور يشترك فيه جميع موارد استعمال الحرف ، من الواجب والممتنع والممكن ، على نسقٍ واحد ، وليس في المعاني ما يكون كذلك.
وثالثاً : إنه نتيجة المختار في حقيقة الواضع ، أي التعهّد ، ضرورة أن المتكلّم إذا قصد تفهيم حصةٍ خاصة فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.
ورابعاً : موافقة ذلك للوجدان ، والارتكاز العرفي (٢).
أقول :
لقد أوضح الاستاذ رأي هذا المحقق في الدورة السابقة وقرّبه على البيان التالي :
إن الحروف على قسمين :
القسم الأول ، الحروف التي وزانها وزان الإنشاء.
يعني : كما أن صيغة «بعت» مبرزة لاعتبار الملكية ، و «أنكحت» مبرزة لاعتبار الزوجيّة ، كذلك قسم من الحروف ، فإنها مبرزة ، فمثل «ليت» و «لعلّ» وضعت لإبراز الصفة النفسانية ، وهي التمنّي والترجّي.
والقسم الثاني ، الحروف الموضوعة لتضييق المعاني الاسمية. وكذا الهيئات ، والجمل التامّة ، الاسمية منها كزيد قائم ، والفعليّة منها كقام زيد ،
__________________
(١) أجود التقريرات ١ / ٢٧ ـ الهامش ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج).
(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ / ٨٤.
والجمل الناقصة كغلام زيد ، فهذه كلّها موضوعة لإفادة التضييق.
وتوضيحه : إنه قد تتعلَّق إرادة المتكلِّم لأنْ يفيد معنىً على إطلاقه ، وقد تتعلَّق لأنْ يفيد حصّةً من المعنى بإيجاد ضيقٍ فيه ، فمرةً يقول : الصلاة ، واخرى يقول : الصلاة في المسجد ، فأوجد بواسطة «في» حصّة من الصلاة وأفادها. هذا بحسب الحصص.
وكذا الحال بحسب الحالات ، فهو تارةً : يقول : زيد ، واخرى : يريد إفادة زيد في حالةٍ مخصوصة ، فيأتي بحرفٍ أو بهيئةٍ للدّلالة على ذلك ، كأنْ يقول جاء زيد راكباً ، فبذلك يحصل نوع من التضييق في المعنى.
وكذا الكلام في الجمل التامّة ، فقد يدلّل على الجلوس ويفيده ، وقد يريد إفادة حصّةٍ من الجلوس ، فيقول : جلس زيد ، أو زيد جالس.
وهكذا يتحقق بالحروف التضييق في المعاني الاسمية ، ولكلّ حرفٍ معناه الخاص ، وبه يتحقق التضيق بحسب معناه.
لا يقال : التضييق معنًى اسمي ، فإذا كان المعنى الموضوع له الحرف هو التضييق ، كان معنى الحرف معنًى اسميّاً.
لأنا نقول : الموضوع له الحرف ليس مفهوم التضييق ، بل هو واقعه ومصداقه ، فما يأتي إلى الذهن من لفظ التضييق هو مفهوم التضييق ، ولكن التضييق الآتي إلى الذهن من «في» و «إلى» و «من» وغيرها هو مصداق التضييق.
مناقشات شيخنا الاستاذ
ثم ذكر الاستاذ دام بقاه بأنه : لا ريب في وجود التضييق وتحقّقه في
الموارد المذكورة ، ولكنْ لا دليل على أن ذلك هو الموضوع له الحرف ، بأنْ يكون مدلول الحرف وضعاً هو التضييق ، فلعلّ التضييق هو لازم المعنى الموضوع له الحرف ، وعلى الجملة ، فإنّ المدّعى أعم من الدليل.
ثم إنه لا يمكن أنْ يكون المعنى واقع التضييق ، لأن التضييق قدر مشترك بين الابتداء والانتهاء والظرفيّة ، وإلى جانبه يوجد في كلّ واحدٍ من هذه الموارد تضييق يختصُّ به ، ولذا لا يوجد جامع بين المعنيين الاختصاصيّين لحرفين من الحروف.
مثلاً : كلّ من «من» و «إلى» يفيد التضييق ، فهما يشتركان في هذه الجهة ، لكنْ في كلّ منهما جهة امتياز ، فهل المعنى الموضوع له في هذين الحرفين هو الجهة المشتركة بينهما أو الجهة التي يمتاز بها كلّ منهما عن الآخر؟ إن المدلول هو المعنى الذي في جهة الامتياز ، أما التضييق فذاك هو المدلول الأعمّ الذي يشترك فيه الحرفان ، ولا يمكن أن يكون هو الموضوع له ، لأنه الجامع لتلك الموارد كلّها ، فمدلول «في» ليس تلك الحيثيّة التي بها يكون مصداقاً للقدر المشترك ، بل مدلوله ومفهومه الموضوع له هو حيثيّته المعاندة لحيثيّة «من» ، أعني تلك الحيثية الخاصّة ، وإلاّ ، فالتضييق موجود في كليهما ولا تعاند لهما فيه ، فجعل هذه الحيثية المشتركة التي هي اللاّزم الأعم في الحروف غير صحيح.
هذا أوّلاً.
وثانياً : إذا كانت الحروف موضوعة لواقع التضييق لا مفهومه ، فمن المستحيل أن تكون مضيّقةً لواقع التضييق ، لأن المضيَّق لا يطرأ عليه تضييق ، لأن المماثل لا يقبل المماثل ، هذا من جهة. ومن جهةٍ اخرى : إن التضيّق إنما
يطرق على ما ليس فيه ضيق ، وكذا التوسعة. وعلى ما ذكرنا نقول : إن القضايا على قسمين ، منها : الشرطية الإنشائية ، كقولنا : إذا زالت الشمس فصل ، ومنها : الشرطية الخبرية ، كقولنا : إذا طلعت الشمس فالنهار موجود ، ولا ريب أن الشرط في القسم الثاني يرد على مدلول الهيئة ـ وهو مختار المحققين ، خلافاً للشيخ رحمهالله القائل برجوع القيد في الواجب المشروط إلى المادّة ـ فقيد : «إذا طلعت» يرجع إلى مدلول الجملة الجوابية والنسبة الموجودة بين النهار والوجود.
وحينئذٍ ، فلو كانت الحروف موضوعة لواقع التضييق ، لزم أن يكون التضيق بسبب «إذا» الشرطية ، وارداً على مدلول الهيئة وهو الضيّق ، ومعنى ذلك أن يضيَّق المضيَّق مرّة اخرى ، وهو محال ، لأن التقييد لا يقبل الإطلاق والتقييد ، كما أنّ الإطلاق كذلك ، لأن المقابل لا يقبل المقابل ، والمماثل لا يقبل المماثل.
هذا ما أورده في الدورة السابقة.
أما في الدورة اللاّحقة ، فذكر أن أساس هذا المبنى هو دعوى بطلان القول بوضع الحروف للنسب ، لكنْ سيأتي صحّة هذا القول ، فلا أساس لمبنى التضييق. هذا أوّلاً.
وثانياً : إن الموضوع له الحرف هو ملزوم التضييق ، وقد وقع الخلط في هذا المبنى بين اللاّزم والملزوم ، وهذا ما أشار إليه في تلك الدورة ، أما في المتأخّرة فأوضح قائلاً : بأنّ «في» الذي هو «دريّت» بالفارسية يُصيّر «الصّلاة» حصة في قولنا : الصلاة في المسجد كذا. وكذا «من» و «إلى» يصيّران «السير» حصّةً في قولنا : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فهي حروفٌ
تخرج المفاهيم والمعاني عن إطلاقها ، وتحصّصها ، لكن ليس معاني هي الحروف هذه التحصيصات والتضييقات ، بل هي النسب ، فمعنى «في» النسبة الظرفية ، ومعنى «من» النسبة الابتدائية ، ومعنى «إلى» النسبة الانتهائية ، وهذه المعاني لازمها التضييق. وسيأتي تفصيل ذلك في بيان الرأي المختار.
* مناقشات السيّد الاستاذ
وتكلّم السيد الاستاذ في (المنتقى) (١) على نظرية التضييق في جهاتٍ نلخّصها كما يلي :
١ ـ إنّ التضييق من الأفعال التسبّبية التوليدية التي تتحقق بأسبابها ، بلا توسيط الإرادة والاختيار في تحقّقها ، وهو مسبّب عن الربط بين المفهومين بلا اختيار ، فهو مسبب والربط والنسبة سبب ، ولو لا حصول الربط والنسبة بينهما كالربط بين زيد والدار لا يتحقق التضييق في مفهوم زيد.
فإنْ أراد من وضع الحروف لتضييق المعاني الاسميّة وضعها للمسبَّب ، أي نفس التضييق دون السبب ، فهو غير معقول ، لأنّ الحرف إمّا أن يوضع لمفهوم التضييق ، أو لمصداقه وواقعه ، لكن الأوّل باطل ، للتباين بين مفهوم التضييق ومفهوم الحرف ، عند العرف ، مع استلزام الوضع له الترادف بين اللّفظين في المعنى ، مضافاً إلى أن التضييق من المفاهيم الاسميّة.
والثاني يبطل بوجوه :
الأول : إن الوضع بإزاء الوجود ممتنع ، لكون الغرض من الوضع هو انتقال المعنى عند إلقاء اللّفظ ، والوجود سواء الخارجي أو الذهني ، لا يقبل الانتقال ، ويأبى الوجود الذهني ، لأن المقابل لا يقبل المقابل ، أو أن المماثل لا
__________________
(١) منتقى الاصول ١ / ١١٤.
يقبل المماثل.
والثاني : إن مقتضى حكمة الوضع وضع الحروف لنفس الخصوصية الموجبة للتضييق ، كي يحصل تفهيم الحصّة الخاصة من مجموع الكلام وبضميمة الاسم إلى الحرف ، لا الوضع لنفس التضييق ، فإنه خارج عن دائرة الغرض من الوضع.
والثالث : إنه لو كان الموضوع له الحرف نفس المصداق ، لزم الترادف بين لفظ الحرف وبين الألفاظ الاسمية الدالّة على مصداق التضييق ، فيكون لفظ «في» مرادفاً للفظ «مصداق التضييق» وحصّةً منه ، والوجدان قاض بعدم الترادف.
وإنْ أراد وضع الحروف للسّبب ، أعني نفس الرّبط والنّسبة ـ كما قد يظهر من بعض عبارة التقريرات ـ فهو عبارة اخرى عن مبنى الميرزا.
٢ ـ إن ما ادّعاه من صحّة استعمال الحروف حتى في الموارد غير القابلة للنسبة والربط كصفات الباري ، غير تام ، لأنه بناءً على كون الموضوع له الحرف هو التضييق ، ليس المراد كلّي التضييق الشامل لجميع الأفراد ، بل الموضوع له كلّ حرفٍ تضييق من جهةٍ خاصّةٍ للمفهوم ، والموضوع له لفظ «في» تضييق المفهوم الاسمي من جهة الظّرفيّة ، والموضوع له لفظ «من» تضييقه من جهة خاصّة وهي الابتداء ، وهكذا. وظاهرٌ أنّ التضييق الخاص يتوقّف على ثبوت خصوصيّةٍ وارتباطٍ بين المفهومين الاسميين ، بحيث ينشأ منه التضييق الخاص ، فيصحّ استعمال الحرف فيه ، فلا يحصل تضييق مفهوم زيد بكونه في الدار إلاّ بتحقّق الارتباط والنسبة الخاصّة بينه وبين الدار ، فيعبَّر عن ذلك التضييق بالحرف ، وعليه ، فاستعمال الحرف في صفات الباري
يتوقف على ثبوت النسبة والارتباط بين الصفة والذات ، كي يتحقق التّضييق المعبَّر عنه بالحرف ، فيرجع الإشكال كما هو.
٣ ـ ثم إنه بناءً على أنْ يكون الموضوع له في الحروف هو التضييق ، يكون معنى الحرف من المعاني الإيجاديّة ، وهو الأمر الذي فرَّ منه ، والوجه في كونه إيجاديّاً : إن المفروض وضع الحروف لواقع التضييق ، لكنّه مسبّب عن النسبة والربط ، وقد عرفت إيجاديّة الربط والنسبة ، وأنها تحصل في ذهن السامع بنفس اللّفظ ، فكذلك التضييق يكون إيجاديّاً يحصل في ذهن السامع بواسطة اللّفظ باعتبار تبعيّة وجوده لوجود النسبة ، وهي معنى إيجادي.
٤ ـ وأمّا ما ذكره في (المحاضرات) من الوجوه المعتَمدة لهذا المبنى ، فكلّها مردودة. فبطلان الوجوه الاخرى لا يعني صحّة هذا الوجه وتعيّنه. واختيار التعهّد في حقيقة الوضع لا يقتضي كون الموضوع له في الحروف هو التضييق ، بل هذا المبنى في وضع الحروف ـ بناءً على تماميّته ـ يصلح على جميع المباني في حقيقة الوضع. والقول بهذا المبنى لا يصحّح استعمال الحرف في جميع الموارد ، بل الإشكال الذي وجّهه على مبنى المحقق الأصفهاني والمحقق النائيني من عدم صحة استعمال الحرف في صفات الباري يتوجّه على هذا المبنى أيضاً. ودعوى الارتكاز مجازفة.
* رأي المحقق البروجردي
وقال السيّد البروجردي طاب ثراه : إنه لا بدّ من البحث عن حقيقة المعنى الحرفي على ضوء الأمر الواقع ، فما هو واقع الحال في مثل : سرت من البصرة إلى الكوفة؟
إن الواقع في هذا المثال وجود امور في الخارج ، ووجود معانٍ لا في
الخارج.
أمّا الامور الموجودة في الخارج فهي :
١ ـ السير.
٢ ـ الفاعل.
٣ ـ البصرة.
٤ ـ الكوفة.
فأمّا الامور الاخرى ، التي هي معاني غير موجودة في الخارج ، بل هي موجودة بالوجود الاندكاكي فهي :
أ ـ إن السير الموجود في الخارج ليس هو مطلق السير ، بل هو سير صادر من هذا الفاعل الخاص المعيّن ، وهذا حيث صدوري ، لا يمكن انكاره ، لكنه مندك في الكلام ولا خارجيّة له.
ب ـ إن السير الموجود في الخارج له جهة ابتداء ، فإنه من البصرة ، وهذا حيث شروعي.
ج ـ إنّ السير الموجود في الخارج له جهة انتهاء ، فإنه إلى الكوفة ، وهذا حيث انتهائي.
فظهر أن في مثالنا سبعة معان ، أربعة منها خارجيّة وثلاثة اندكاكيّة ، والخارج ظرف وجود كلّ هذه المعاني على هذا الشكل والترتيب الخاص.
لكنّ ما يتصوَّر ويأتي إلى الذهن من هذا الكلام تارةً يكون على طبق الموجود في الخارج ، واخرى يرى الذهن كلّ واحدٍ من تلك المعاني الخارجيّة والاندكاكيّة مستقلاًّ عن غيره. فإنْ رآها على النحو الأوّل فقد رآها مرتبطة ، وإنْ رآها على النحو الثاني فلا ارتباط بينها ، ولو لا ما يُوجد بينها
الارتباط بفعل الذهن ، فإنه يرى «سيراً» و «فاعلاً» و «بصرة» و «كوفة» و «حيث شروع» ... وهكذا.
وعلى الجملة ، إن هذه المعاني تارةً : تأتي إلى الذهن كما هي مرتبطة في الخارج ، واخرى : تأتي إلى الذهن متفرقة مستقلّة بلا ارتباط فيما بينها ، فهي بحاجة إلى ما يحقّق الارتباط فيما بينها.
قال : فما كان بحسب اللّحاظ الأوّل [يعني اللّحاظ المطابق للخارج] رابطةً بالحمل الشائع ، يصير بحسب اللّحاظ الثاني مفهوماً مستقلاًّ يحتاج في ارتباطه بالغير إلى رابط.
وقال : إن وجدت في الذهن على وزان وجودها الخارجي يكون معنىً أدوياً ، وإنْ انتزع عنها مفهوم مستقل ملحوظ بحياله في قبال مفهومي الطرفين ، يصير مفهوماً اسميّاً (١).
نقد الشيخ الاستاذ
ذكر شيخنا الاستاذ دام بقاه معلِّقاً على قول السيد البروجردي : بأن ما كان بحسب اللّحاظ الأول رابطةً ، يكون باللّحاظ الثاني معنًى اسمياً ، فقال : هل المراد أنّه هو نفسه يصير معنىً اسميّاً أو غيره؟ ظاهر الكلام أنه نفسه ... وحينئذٍ يستلزم القول بأن الذات الواحدة تصير بلحاظٍ شيئاً وبلحاظٍ آخر شيئاً آخر ، وهذا معناه ورود الاستقلال وعدمه على الشيء واحد ، وهو عين مبنى المحقق الخراساني صاحب (الكفاية).
فكان على السيد البروجردي أن يوافق على مبنى صاحب (الكفاية) ، لكنّه يرى الاختلاف الجوهري بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي.
__________________
(١) نهاية الاصول ١٦ ـ ١٧.