مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-039-0
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٦٢

هذه الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض.

وأمّا آيات البلوى بمعنى الاختبار قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ)(١).

وقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)(٢).

وقوله : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ)(٣).

وقوله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(٤).

وقوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ)(٥).

وقوله تعالى : (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(٦).

وكلّما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أوّلها فهي اختبار ، وأمثالها في القرآن كثير ، وإنّ الله عزوجل لم يخلق الخلق عبثا ولا أهملهم سدى ولا أظهر حكمته لعبا ، بذلك أخبر في قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً)(٧).

فإن قال قائل : أفلم يعلم الله ما يكون من العباد حتّى اختبرهم؟

قلنا : بلى قد علم ما يكون منهم قبل كونه وذلك قوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)(٨) وإنّما اختبرهم ليعلمهم عدله ولا يعذّبهم إلّا بحجّته بعد الفعل ، وقد أخبر بقوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً)(٩) وقوله :

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

(٢) آل عمران : ١٥٢.

(٣) القلم : ١٧.

(٤) الملك : ٢.

(٥) البقرة : ١٢٤.

(٦) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤.

(٧) المؤمنون : ١١٥.

(٨) الأنعام : ٢٨.

(٩) طه : ١٣٤.

٢٦١

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) ، وقوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(٢) فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملّكها عبده وهو القول بين الجبر والتفويض ، وبهذا نطق القرآن وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإن قالوا : ما الحجّة في قول الله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٣) وما أشبهها؟

قيل : مجاز هذه الآيات كلّها على معنيين : أمّا أحدهما فإخبار عن قدرته أي إنّة قادر على هداية من يشاء وضلال من يشاء ، وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب على نحو ما شرحناه في الكتاب.

والمعنى الآخر الهداية منه تعريفه كقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) أي عرّفناهم (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى)(٤) فلو أجبرهم على الهدى لم يقدرون يضلّوا وليس كلّما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجّة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها ، من ذلك قوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)(٥) وقال : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(٦) أي أحكمه وأشرحه (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧) وفّقنا الله وإيّاكم إلى القول والعمل لما يحبّ ويرضى ، وجنّبنا وإيّاكم معاصيه بمنّه وفضله والحمد لله كثيرا كما هو أهله ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) النساء : ١٦٥.

(٣) فاطر : ٨ ، المدّثّر : ٣١. وفي المتن : «يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء».

(٤) فصّلت : ١٧.

(٥) آل عمران : ٧.

(٦) الزمر : ١٧ ـ ١٨.

(٧) الزمر : ١٨.

٢٦٢

تحقيق بعض المحقّقين في إبطال الجبر

قال : قالت الجبريّة في قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)(١) إنّ الله تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدّهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه ، وقالوا : هذا هو حقيقة لفظ الضلال في أصل وضع اللغة لأنّ الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالّا.

قلنا : هذا التأويل غير جائز لا يجب الوضع اللغويّة ولا بحسب الدلائل العقليّة ، أمّا الأوضاع فبيانه من وجوه :

(١) إنّه لا يصحّ من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرها وجبرا إنّه أضلّه بل يقال منعه منه وصرفه عنه ، وإنّما يقولون إنّه أضلّه عن الطريق إذا لبّس عليه وأورد من الشّبه ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له.

(٢) إنّة تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضلّين مع أنّ فرعون وإبليس ما كانا خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق وأمّا عند الجبريّة فلأنّ العبد لا يقدر على الإيجاد ، وأمّا عند القدريّة فلأنّ العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد فلمّا حصل اسم المضلّ حقيقته مع نفي الخالقيّة بالاتفاق علمنا أنّ اسم المضلّ غير موضوع في اللغة لخالق الضلال.

(٣) إنّ الإضلال في مقابلة الهداية فكما صحّ أن يقال هديته فما اهتدى ، وجب صحّته أن يقال أضللته فما ضلّ ، وإذا كان استحال حمل الإضلال على خلق الضلال.

وأمّا بحسن الدلائل العقليّة فمن وجوه :

(١) إنّه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثمّ كلّفه بالإيمان لكان قد كلّفه بالجمع بين

__________________

(١) البقرة : ٢٦.

٢٦٣

الضدّين وهو سفه وظلم وقال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١) ، وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٢) ، وقال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٣)

(٢) لو كان تعالى خالقا للجهل وملبّسا على المكلّفين لما كان مبيّنا لما كلّف العبد به وقد أجمعت الأمّة على كونه تعالى مبيّنا.

(٣) إنّه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدّهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب وبعثه الرسل إليهم فائدة لأنّ الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثا وسفها.

(٤) إنّه على مضادّه كبيرة من الآيات نحو قولهم : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٤) ، (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(٥) ، (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً)(٦) فبيّن أنّه لا مانع لهم من الإيمان وإنّما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر ، وقال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ)(٧) ، وقال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ)(٨) ، وقال : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(٩) وقال : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(١٠) ، فلو كان الله تعالى قد أضلّهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت باطلة.

__________________

(١) فصّلت : ٤٦.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الحجّ : ٧٨.

(٤) الانشقاق : ٢٠.

(٥) المدّثّر : ٤٩.

(٦) الإسراء : ٩٤.

(٧) الكهف : ٥٥.

(٨) البقرة : ٢٨.

(٩) يونس : ٣٢ ، الزمر : ٦.

(١٠) الأنعام : ٩٥ و...

٢٦٤

(٥) إنّه تعالى ذمّ إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحقّ ، وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) إلى قوله : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ)(١) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)(٢) ، (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ)(٣) ، (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٤) فلو كان الله تعالى يضلّ عباده عن الدين كما تضلّ الشياطين لاستحقّ من المذمّة مثل ما استحقّوه ولو وجب الاستعاذة منه كما وجب منهم لوجب أن يتّخذوه عدوّا من حيث أضلّ أكثر خلقه كما وجب اتّخاذ إبليس عدوّا لأجل ذلك قالوا بل خصّيصيّة الله في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنّه هو المؤثّر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبايح وإحالتها كلّها على الله تعالى فيكون الذمّ منقطعا بالكلّيّة عن إبليس وعائد إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين.

(٦) إنّه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمّهم لأجل ذلك ، فقال : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)(٥) ، (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ)(٦) ، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(٧) ، (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(٨) ، وقوله تعالى حاكيا عن إبليس : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ

__________________

(١) الناس : ١ ـ ٤.

(٢) الفلق : ١.

(٣) المؤمنون : ٩٧.

(٤) النحل : ٩٨.

(٥) طه : ٧٩.

(٦) طه : ٨٥.

(٧) الأنعام : ١١٦.

(٨) ص : ٢٦.

٢٦٥

وَلَآمُرَنَّهُمْ)(١) فهؤلاء إمّا أن يكونوا قد أضلّوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أن يكون الله هو الذي أضلّهم وحصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة فإن كان الله تعالى قد أضلّهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقوّل عليهم إذ قد رماهم بداء به وعابهم بما فيه وذمّهم بما لم يفعلوه والله متعال عن ذلك ، وإن كان الله تعالى مشاركا لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمّهم على فعل هو شريك فيه ومساو لهم فيه؟! وإذا فسد الوجهان صحّ أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله تعالى.

(٧) إنّه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوبا إلى العصاة على ما قال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)(٢) ، (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ)(٣) ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٤) ، (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ)(٥) ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(٦) ، فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه ، كان ذلك إثباتا للثابت وهذا محال.

(٨) إنّه تعالى نفى إلهيّة الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث أنّهم لا يهدون إلى الحقّ ، قال : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى)(٧) فنفى ربوبيّة تلك الأشياء من حيث أنّها لا تهدي ، وأوجب ربوبيّة نفسه من حيث أنّه سبحانه وتعالى يهدي ، فلو كان سبحانه وتعالى يضلّ عن الحقّ لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتّباعهم وهو باطل قطعا.

__________________

(١) النساء : ١١٩.

(٢) البقرة : ٢٦.

(٣) إبراهيم : ٢٧.

(٤) المائدة : ٦٧.

(٥) غافر : ٣٤.

(٦) غافر : ٢٨.

(٧) يونس : ٣٥.

٢٦٦

(٩) إنّه تعالى يذكر هذا الضلال جزأ لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليهم ، فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديدا بأمر هم له ملابسون ، وعليه مقبلون ، وبه ملتذّون ومغتبطون ، ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا ، وبشرب الخمر على شرب الخمر ، وهذا لا يجوز.

(١٠) إنّ قوله تعالى (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)(١) صريح في أنّه تعالى إنّما يفعل بهذا الأفعال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه فدلّ ذلك على أنّ هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقا وناقضا للعهد مغاير لفسقه ونقضه.

(١١) إنّه تعالى فسّر الإضلال المنسوب إليه في كتابه إمّا بكونه ابتلاء وامتحانا أو بكونه عقوبة ونكالا ، فقال في الابتلاء : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي امتحانا ـ إلى أن قال : ـ (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٢) فبيّن أنّ ضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلا متشابها لا يعرف حقيقة الغرض فيه والضلال به هو الذي لا يقف على المقصود ، ولا يفكّر في وجه الحكمة فيه بل يتمسّك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)(٣).

وأمّا العقوبة والنكال فكقوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) إلى أن قال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)(٤) فبيّن أنّ إضلاله لا يعدو أحد هذين

__________________

(١) البقرة : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) المدّثّر : ٣١.

(٣) آل عمران : ٧.

(٤) غافر : ٧١ ـ ٧٤.

٢٦٧

الوجهين ، وإذ كان الإضلال مفسّرا بأحد هذين الوجهين وجب أن يكون مفسّرا بغيرهما دفعا للاشتراك فثبت أنّه يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال ، وإذا ثبت ذلك فنقول : بيّنّا أنّ الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه وذلك لا يجوز على الله فوجب المصير إلى التأويل ، والتأويل الذي ذهبت الجبريّة إليه قد أبطلناه بأوضح بيان وأمتن برهان فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات.

تأويل الضلال في الآيات :

أحدها : إنّ الرجل إذا ضلّ باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون لذلك الشيء أثر في إضلاله فيقال لذلك الشيء إنّه أضلّه ، قال تعالى في حقّ الأصنام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ)(١) أي ضلّوا بهنّ ، وقال : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً)(٢) ، أي ضلّ كثير من الناس بهم ، وقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً)(٣) ، وقال : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً)(٤) ، وقال : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي)(٥) وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكّرونهم الله ويدعوهم إليه ولكن لمّا كان اشتغالهم بالسخريّة منهم سببا لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم.

وقال : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى

__________________

(١) إبراهيم : ٣٦.

(٢) نوح : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) المائدة : ٦٤.

(٤) نوح : ٦.

(٥) المؤمنون : ١١٠.

٢٦٨

رِجْسِهِمْ)(١) فأخبر سبحانه أنّ نزول السورة المشتملة عليا لشرايع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيمانا ، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفرا ، فإذا أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة إذ كانوا إنّما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضا فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذ كان أحدثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم.

وقال تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً)(٢) فأخبر تعالى أنّ ذكره لعدّة خزنة النار امتحان ممنه لعباده ليميز منه المخلص من المرتاب ، فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون ، وأضاف زايدة الإيمان وضدّها إلى ممتحنين ، فقال : (لِيَزْدادُوا إِثْماً)(٣) قال بعد قوله : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٤) فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معاقبين تعالى أنّ الضلال مفسّر بهذا الامتحان.

ويقال في العرف أيضا : أمرضني الحبّ أي مرضت به ويقال : قد أفسدت فلانة فلانا وهي لم تعلم به ، وقال الشاعر :

* دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء*

أي يغري الملوم باللوم ، والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على أنّ الكافرين ضلّوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات.

وثانيها : إنّ الإضلال هو التسمية بالضلال فيقال : أضلّه أي سمّاه ضالّا وحكم عليه به ، وأكفر فلان فلانا إذا سمّاه كافرا ، وأنشدوا بيت الكميت :

__________________

(١) التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) المدّثّر : ٣١.

(٣) آل عمران : ١٧٨.

(٤) المدّثّر : ٣١.

٢٦٩

وطائفة قد أكفروني بحبّكم

وطائفة قالوا مسيء ومذنب

وقال طرفة :

وما زال شرب الراح حتّى أضلّني

صديق وحتّى سائني بعض ذلكا

أراد سمّاني ضالّا.

وثالثها : أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر فيقال : أضلّه إذا خلا وضلاله ، قالوا : ومن مجازه قولهم : أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمّر عليه إذا لم يتعهّده بالتأديب ، ومثله قول العرجي :

أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتّى فسد : أفسدت سيفك.

ورابعها : الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)(١) فوصفهم الله تعالى بأنّهم يوم القيامة في ضلال وذلك لا يكون إلّا عذابهم. وقال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)(٢) فسّر ذلك الضلال بالعذاب.

وخامسها : أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)(٣) قيل : أبطلها وأهلكها ، ومن مجازه قولهم : ضلّ الماء في اللبن إذا صار مستهلكا فيه ، ويقال : أضللته أنا إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيّرته كالمعدوم ،

__________________

(١) القمر : ٤٧ و ٤٨.

(٢) غافر : ٧١ ـ ٧٤.

(٣) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ١.

٢٧٠

وقال تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(١) أي أإذا اندفنّا فيها فخفيت أشخاصنا ويقال : أضلّ القوم بينهم إذا واروه في قبره فأخفوه حتّى صار لا يرى فيحتمل على هذا المعنى يضلّ الله إنسانا أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى عليه هذا الوجه.

فهذه الوجوه الخمسة إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الدين.

وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنّة لأنّ الآية تدلّ على أنّه تعالى يضلّهم وليس فيها دلالة على أنّه عمّا يضلّهم فنحن نحملها على أنّه تعالى يضلّهم عن طريق الجنّة ومنه قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٢) أي يضلّه عن الجنّة وثوابها ، هذا كلّه إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية.

وسابعها : أن تحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان فيقال : أضلّ فلان بعيره أي ضلّ عنه فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنّه تعالى وجدهم ضالّين.

وثامنها : أن يكون قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من تمام قول الكفّار فإنّهم قالوا : ما ذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ثمّ قالوا : يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا ، ذكروه على سبيل التحكّم ، فهذا من قول الكفّار ، ثمّ قال تعالى جوابا لهم : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي ما ضلّ به إلّا الفاسق ، فإذا جائت هذه الاحتمالات بطل قول المجبّرة بتاتا ، والحمد لله ربّ العالمين.

تحقيق العلّامة الحلّي رحمه‌الله في إبطال الجبر : قال قدس‌سره في رسالة «استقصاء النظر في القضاء والقدر» : ذهب جهم بن صفوان إلى انّه لا فعل للعبد وأنّ الفاعل لجميع

__________________

(١) السجدة : ١٠.

(٢) الحجّ : ٤.

٢٧١

الأشياء هو الله تعالى لا غير ، ولا قدرة للعبد.

وذهب الأشاعرة والنجاريّة إلى أنّ الله هو الموجد للأفعال بأجمعها لكن العبد مكتسب لأفعاله ، وأثبتوا للعبد قوّة غير مؤثّرة في الفعل بل الفعل صادر من الله ، وهذا في الحقيقة مذهب جهم بن صفوان لكن لمّا رأى أبو الحسن الأشعري أنّ الشناعة تلزمه من إسقاط فائدة التكليف وعدم الفرق بين حركتنا يمنة ويسرة وصعودنا إلى السماء اعتذر بإثبات القدرة لكن لمّا لم يجعل لها أثرا ساوى قول جهم ابن صفوان.

وأمّا الإماميّة والمعتزلة فإنّهم قسموا الأفعال إلى ما يتعلّق بقصودنا ودواعينا وإرادتنا واختيارنا كحركتنا الاختياريّة الصادرة عنّا كالحركة يمنة ويسرة ، وإلى ما يتعلّق بقصودنا ودواعينا كالأشياء التي يفعلها الله فينا من الألوان وحركة النموّ والتغذية وحركة القبض وغير ذلك ، وهو مذهب الحكماء والحقّ أنّا نعلم بالضرورة أنّا فاعلون ، ويدلّ عليه العقل والنقل. أمّا العقل فوجوه :

(١) إنّا نعلم بالضرورة الفرق بين حركتنا الاختياريّة والاضطراريّة وحركات الجماد ، ونعلم بالضرورة قدرتنا على الحركة الأولى كحركتنا يمنة ويسرة ، وعجزنا الثانية كحركتنا إلى السماء وحركة الواقع من شاهق وانتفاء قدرة الجماد ، ومن أسند الأفعال إلى الله نفى الفرق بينهما ويحكم بنفي ما قضت الضرورة بثبوته.

(٢) إنّه لو كانت الأفعال كلّها منسوبة إلى الله تعالى لم يبق عندنا فرق بين من أحسن إلينا غايه ألإحسان وبين من أساء إلينا غاية الإسائة طول عمره وكان يقبح منّا مدح الأوّل وذمّ الثاني لأنّ الفعلين صادران عن الله لا عن الفاعلين ، ولمّا علمنا بطلان ذلك وأنّه يحسن منّا مدح الأوّل وذمّ الثاني علمنا أنّ العلم باستناد الأفعال إلينا قطعيّ لا سبيل للشكّ فيه.

(٣) إنّه لو كانت الأفعال صادرة عن الله قبح منه أن يأمرنا وينهانا ويكلّفنا كما

٢٧٢

أنّه يقبح من أحدنا أمر الزمن بالطيران إلى السماء لأنّا عاجزون عن الأفعال لاستحالة صدورها عنّا كما أنّ الزمن عاجز عن ذلك ، فكما أنّه يقبح منّا أمر الواقع من شاهق بالحركة والسكون كذا يقبح أمر المكلّف بالطاعة واجتناب المعصية لعجزه عنها ووقوعها لغيره لكن الله قد أمر ونهى وأنذر وحذّر ووعد وتوعد وكيف يحسن منه أن يقول : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(١) ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٢) وهو الذي فعل الزنا والسرقة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(٤) إنّ أفعالنا نعلم بالضرورة أنّةا تقع عند قصودنا ودواعينا وتنتفي عند كراهتنا وصوارفنا ، فإذا أردنا الحركة يمنة فعلناها ولم يقع منّا سكون ولا حركة يسرة ، ولو لا إسنادها إلينا لجاز أن يقع وإن كرهنا ، وأن لا تقع وإن أردناها.

(٥) إنّه يلزم منه أن يكون الله في غاية من الظلم للعباد والجور تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا لأنّه يخلق فينا المعاصي وأنواع الكفر والشرك ويعذّبنا عليها ولا فرق بين خلقه الكفر في الكافر وخلق لونه وطوله فكذا يلزم الظلم لو عذّبه على الكفر الذي خلقه فيه وقد نزّه الله نفسه وقال عزّ من قائل : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٣) ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)(٤) ولا ظلم أعظم من تعذيب الغير على فعل يصدر من الظالم لا حيلة للمظلوم فيه ولا يتمكّن من تركه ، ومن أغرب الأشياء وأعجبها أنّهم ينزّهون أنفسهم عن المعاصي والكفر وأنواع الفاسد وينزّهون إبليس عن ذلك أيضا ويصفون الله تعالى بذلك وقد كذّبهم الله تعالى في كتابه العزيز ، فقال

__________________

(١) النور : ٢.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) فصّلت : ٤٦.

(٤) غافر : ٣١.

٢٧٣

عزوجل : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)(١) ، وقال الله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ)(٢) ، والأشاعرة يقولون : إنّة يريد منهم الكفر وأيّ عاقل يرضى لنفسه مذهبا يلزم منه تكذيب الله.

(٦) إنّه يلزم منه أن يكون الكافر مطيعا لله تعالى بكفره لأنّه قد فعل ما هو مراد الله وهو الكفر ولم يفعل ما يكرهه الله وهو الإيمان لأنّ الإيمان عندهم غير مراد الله من الكافر بل هو ممّا يكرهه تعالى وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقاد أنّ الكفر طاعة وأنّ الإيمان معصية ، نعوذ بالله من ذلك.

(٧) إنّه يلزم منه نسبة السفه إلى الله تعالى وإنّه يفعل ضدّ الحكمة لأنّ العقلاء إنّما يأمرون الغير لما يريدون إيقاعه منه وينهون عمّا يكرهون إيقاعه منه ، وأنّ من أراد غيره فعلا ونهاه عنه ومن كره من غيره فعلا وأمره به نسبه العقلاء إلى الجور والسفه.

(٨) يلزم أن يعذّب الله تعالى سيّد المرسلين العذاب الدائم ويخلد إبليس وفرعون الجنان ويورثهما إيّاها حيث أنّه لا مدخل للطاعة والمعصية في استحقاق الثواب والعقاب عندهم فتبطل جميع التكاليف ويلتجئ كلّ عاقل إلى الراحة من التكاليف وفعل أنواع الملاذ والملاهي والمناهي والمعاصي ، وترك التكاليف الشاقّة إذ لا فرق بين ارتكاب المشاقّ وأمثال الأوامر بالطاعات وبين ارتكاب أنواع الفسوق بل يجب الحكم بسفه الزاهد العابد المنفق أمواله في أصناف الخير من بناء المساجد والربط والمدارس لأنّه يجعل لنفسه ارتكاب المشقّة وما يحتاج إليه من الأموال لغرض لا يحصل بفعل ذلك بل قد يحصل له بالعذاب ويترك الراحة والملاذّ

__________________

(١) الأعراف : ٢٨.

(٢) الزمر : ٧.

٢٧٤

والملاهي مع أنّه قد يحصل به النعيم السرمدي ، وأيّ عاقل يرضى لنفسه ـ نعوذ بالله ـ من هذا المذهب المؤدّي إلى خراب العالم واختلاف نظام أنواع الإنسان واضطراب أمر الشريعة المحمّديّة صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٩) إنّه يلزم منه الكفر وعدم الجزم بصدق الرسول وانتفاء الوثوق بشيء من الشرايع والأديان لأنّ الكفر والإضلال وجميع المعاصي وأنواع الفسوق ودعوى الكذّابين في النبوّة صادرة عنهم واقعة بإرادة الله فجاز أن يكون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره من الأنبياء كموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام وغيرهما قد ادّعوا النبوّة وهم كاذبون والله تعالى خلق المعجز عقيب دعواهم لإضلال الخلق لأنّ العصاة الغلاة والفسّاق والكفّار في العالم أكثر من المطيعين لقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(١) ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ)(٢) فتكون عادة جارية بالإضلال فكيف يعرف صدق الأنبياء حينئذ وأيّ طريق يوصلنا إلى ذلك مع علمنا بأنّه يضلّ العالم ويفعل بهم ضدّ الحقّ ولا يريد هدايتهم ولا إرشادهم ، فنعوذ بالله من المصير إلى مثل هذا المذهب المؤدّي إلى مثل ذلك.

(١٠) لو كانت الأفعال مخلوقة لله لزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح عقلا ، والسمع قد منع منه ، فقال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٣).

تلك عشرة كاملة اقتطفناه من كتاب المذكور ، ثمّ ذكر قدس‌سره آياتا كثيرة لإبطال الجبر لا حاجة لنا إلى نقلها لكثرة وضوحها.

بيان من المجلسيّ رحمه‌الله في الجزء الثالث من البحار بعد أن ذكر الرواية ، قال : قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) سبأ : ١٣.

(٢) ص : ٢٤.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

٢٧٥

«ولكان المذنب أولى بالإحسان» لأنّه حمله على ما هو قبيح عقلا وشرعا وصيّره بذلك محلّا للائمة الناس فهو أولى بالإحسان ليتدارك ذلك. وأيضا لمّا حمل المحسن على ما هو حسن عقلا وشرعا وصار بذلك مورد المدح للناس فإن عاقبه وأضرّ به تداركا لما أحسن إليه كان أولى من جميع الإضرارين على المسيء. وقيل : إنّما كان المذنب أولى بالإحسان لأنّه لا يرضى بالذنب كما يدلّ جبره عليه والمحسن أولى بالعقوبة لأنّه لا يرضى بالإحسان لدلالة الجبر عليه ، ومن لا يرضى بالإحسان أولى بالعقوبة من الذي يرضى به.

بيان من المفيد في شرح الجبر والتفويض : قال قدس‌سره : الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقسر والغلبة وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه وقد يعبّر عمّا يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الإكراه له على التخويف ولا لجأ أنّه جبر ، والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه منه وإذا تحقّق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب الجبر وقول من يزعم أنّ الله خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدّها والامتناع منها ، وخلق فيهم المعصية كذلك فهم المجبّرة حقّا والجبر مذهبهم على التحقيق.

والتفويض هو القول برفع الخطر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم مع ما شاؤوا من الأعمال وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات.

والواسطة بين هذين القولين أنّ الله أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم وحدّ لهم الحدود في ذلك ورسم لهم الرسوم ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبّرا لهم عليها ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض على ما بيّنّا ، انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

٢٧٦

وروى الطبرسيّ رحمه‌الله في الاحتجاج بسنده عن مولانا عليّ الهادي عليه‌السلام قال : إنّ أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : إنّ الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه وما جبر الله أحدا من خلقه على معصية بل اختبرهم بالبلوى كما قال الله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(١).

وروى الصدوق في معاني الأخبار بالإسناد عن عبد العظيم الحسني قال : سمعت أبا الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه‌السلام يقول : معنى الرجيم أنّه مرجوم باللعن مطرود من مواضع الخير لا يذكره مؤمن إلّا لعنه ، وإنّ في علم الله السابق أنّه إذا خرج القائم عجّل الله فرجه لا يبقى مؤمن في زمانه إلّا رجمه بالحجارة كما كان قبل ذلك مرجوما باللعن.

كلامه عليه‌السلام في أنّ الموت هو المصفّاة : روى الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن أحمد بن الحسن الحسيني عن أبي محمّد العسكري عن آبائه عليهم‌السلام قال : دخل موسى بن جعفر عليه‌السلام على رجل قد غرق في سكرات الموت وهو لا يجيب داعيا ، فقالوا له : يابن رسول الله ، وددنا أن نعرف كيف الموت؟ وكيف حال صاحبنا؟

فقال عليه‌السلام : الموت هو المصفّاة ؛ تصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة لآخر وزر بقي عليهم ، وتصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية ، وخلص حتّى نقي كما ينقى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد.

وفيه أيضا بالإسناد عن أبي الحسن عليّ بن محمّد عليه‌السلام قال : قيل لمحمّد بن عليّ

__________________

(١) الملك : ٢.

٢٧٧

ابن موسى : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ قال : لأنّهم جهلوه فكرهوه ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزوجل لأحبّوه ، ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا. ثمّ قال عليه‌السلام : ما بال الصبي والمجنون يمتنع عن الدواء المنقى لبدنه والنافي للألم عنه؟ قال : لجهلهم بنفع الدواء. قال : والذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا من استعدّ للموت حقّ الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المعالج ، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعى العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات وجلب السلامة.

وفيه أيضا : دخل الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام على مريض من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت ، فقال له : يا عبد الله ، تخاف من الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتّسخت وتقذّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك وأصابك قروح وجرب وعلمت أنّ الغسل في الحمام يزيل ذلك كلّه أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال : بلى يابن رسول الله ، قال : فذلك الموت هو ذلك الحمّام وهو آخر ما بقي عليك تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيّئاتك فإذا أنت وردت عليه وجاورته فقد نجوت من كلّ همّ وغمّ وأذى ووصلت إلى كلّ سرور وفرح ، فسكن الرجل ونشط واستسلم وغمّض عينيه ومضى لسبيله.

وروى الطوسيّ في الأمالي بسنده عن عبد الله بن محمّد بن قيس ، عن أبي الحسن الثالث عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الناس اثنان : رجل أراح ورجل استراح ؛ فأمّا الذي استراح فالمؤمن استراح من الدنيا ونصبها وأفضى إلى رحمة الله وكريم ثوابه ، وأمّا الذي أراح فالفاجر أراح منه الناس والشجر والدوابّ وأفضى إلى ما قدّم.

في صفة الموت وعقباتها : وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام بالإسناد عن أبي الحسن الثالث عليّ الهادي عن آبائه عن الصادق عليهم‌السلام قال : جاء رجل إلى

٢٧٨

الصادق عليه‌السلام فقال : قد سئمت من الدنيا فأتمنّى من الله الموت؟ فقال : تمنّ الحياة لتطيع لا لتعصي ، فلئن تعيش فتطيع خير لك من أن تموت فلا تعصي ولا تطيع.

وفيه أيضا : قال عليّ الهادي نقلا عن آبائه عليهم‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : كم من غافل ينسج ثوبا ليلبسه وإنّما هو كفنه ، ويبني بيتا ليسكنه وإنّما هو موضع قبره.

وفيه أيضا : قال عليّ الهادي عليه‌السلام : قيل للصادق : صف لنا الموت. قال : للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فنعش لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه منه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ.

قيل : فإنّ قوما يقولون إنّه أشدّ من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ورضخ بالأحجار وتدوير قطب الأرحية على الأحداق.

قال : كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين ، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدايد والذي يرى بعد ذلك هو أشدّ من هذا إلّا من عذاب الآخرة فإنّه أشدّ من عذاب الدنيا.

قيل : فما بالنا نرى كافرا يسهّل عليه النزع فينطفي وهو يحدّث ويضحك ويتكلّم ، وفي المؤمنين أيضا من يكون كذلك ، ومن المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدايد؟

فقال : ما كان من راحة للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شدايده فتمحيصه من ذنوبه ليرد الآخرة نقيّا نظيفا مستحقّا لثواب الأبد لا مانع له دونه ، وما كان من سهولة هناك على الكافرين فليوفّي أجر حسناته من الدنيا ليرد الآخرة وليس له إلّا ما يوجب عليه العذاب ، وما كان من شدّة على الكافرين فهو ابتداء عذاب الله له فإنّ الله عدل لا يجور.

٢٧٩

ومن كلامه عليه‌السلام في معنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ)(١) : قال المجلسيّ في الجزء السابع من البحار في باب الاضطرار إلى الحجّة : الفحام ، عن المنصوريّ ، عن موسى بن عيسى ، عن أبي الحسن الثالث عن آبائه عن الصادق في قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ)(٢) قال عليه‌السلام : إمام بعد إمام.

ومن كلامه في معنى قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)(٣) : وفيه أيضا في باب الآيات الدالّة على شأنهم عن كنز الفوائد للكراجكيّ قال : روي أنّة سئل أبو الحسن الثالث عن قول الله عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ،) فقال عليه‌السلام : وأيّ ذنب كان لرسول الله متقدّما أو متأخّرا ، وإنّما حمّله الله ذنوب شيعة عليّ ممّن مضى منهم وبقي ثمّ غفرها له.

وروى الشيخ الطوسيّ في الأمالي عن الفحّام عن المنصوري عن عمّه أبيه عن أبي الحسن الثالث عن آبائه قال : قال رسول الله : يا علي ، إنّ الله عزوجل قد غفر لك ولشيعتك ولمحبّي شيعتك ومحبّي محبّي شيعتك (٤).

__________________

(١) القصص : ٥١.

(٢) معنى (وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي بيان الحقّ والإنذار وتبليغ الشرايع بنصب إمام بعد إمام أو القول والاعتقاد بولاية إمام بعد إمام ، والمراد به قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي هذا الوعد والتقدير متّصل إلى آخر الدهر.

(٣) الفتح : ٢.

(٤) قال المجلسي بعد أن ذكر هذه الرواية في الجزء الخامس عشر من البحار في باب الصفح عن الشيعة : كأنّ المراد بالشيعة هنا الكمّل من المؤمنين كسلمان وأبي ذر والمقداد رضي‌الله‌عنهم ، وبمحبّهم من لم يبلغ درجتهم مع علمهم وورعهم ، وبمحبّ محبّهم الفسّاق من الشيعة ، ويحتمل شمولهما المستضعفين من المخالفين فإنّ حبّهم للمؤمنين ولمحبّيهم علامة استضعافهم.

٢٨٠