الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

لا شيء مما يستدل به دعاة حق المرأة في الانتخاب يصح أن يكون دليلا لهم. ولا شيء منه يمكن أن يكون من الولاية العامة.

أما الذي هو من الولايات العامة فهو تولى شجرة الدر ملك مصر. لكنا لا نظن أحدا من أهل الجد في القول يلجأ إلى هذا الأمر فيجعل منه دليلا شرعيا على أن الإسلام يجيز في الملك أن تتولاه امرأة ، هذا ما رأته اللجنة في حكم أحد الأمرين وهو الخاص بانتخاب المرأة لتكوين عضوا في البرلمان.

أما الأمر الثاني وهو اشتراكها في انتخاب من يكون عضوا فيه ، فاللجنة ترى أنه باب تريد المرأة أن تنفذ منه إلى تلك الولاية العامة التي حظرتها عليها الشريعة ذلك أن من يثبت له حق الاشتراك في الانتخاب فإنه يثبت له حق ترشيح نفسه لعضوية البرلمان متى توافرت فيه الشروط القانونية لهذه العضوية. وبعيد أن ينشأ للمرأة قانون يبيح لها الاشتراك في التصويت ثم يمنعها ـ لأنوثتها ـ من ترشيح نفسها للعضوية وهي التي لا تقنع بأن الأنوثة تمنعها من شيء ولا ترضى إلا بأن تكون مساوية للرجل في كل شيء.

وإذا لا يصح أن يفتح لها باب التصويت عملا بالمبدأ المقرر في الشريعة والقانون.

إن وسيلة الشيء تأخذ حكمه. فالشيء الممنوع بسبب ما يلازمه أو ما يترتب عليه من ضرر أو مفسدة تكون الوسيلة إليه ممنوعة لهذا السبب نفسه ، فإنه لا يسوغ في عقل ولا شرع أن يمنع شيء لما يترتب عليه أو يلازمه من مضار ويسمح في الوقت نفسه بالوسائل التي يعلم أنها تتخذ طريقا إليه ، وبهذا يتبين أن حكم الشريعة في اشتراك المرأة في انتخاب عضو البرلمان هو كحكمها في اختيارها لتكون عضوا فيه. كلاهما ممنوع. هذا ـ ويتبين مما قدمنا أن الحكم في المسألة بشقيها على هذا الوجه لم ينظر فيه إلى شيء آخر وراء طبيعة هذين الأمرين ، أما إذا نظرنا إلى ما يلازم عملية

١٠١

الانتخاب المعروفة والترشيح لعضوية البرلمان من مبدأ التفكير فيه إلى نهايته. فإنا نجد سلسلة من الاجتماعات والاختلاطات والأسفار للدعاية والمقابلات وما إلى ذلك مما تتعرض المرأة فيه لأنواع من الشر والأذى ، ويتعرض لها فيه أرباب القلوب المريضة الذين ترتاح أهواؤهم وتطمئن أنفسهم لمثل هذا الاختلاط بين الرجال والنساء فهذه مواقف لا ينبغي للمرأة أن تزج بنفسها في معتركها غير المأمون. ويجب عليها أن تنادي بنفسها عنها حفظا لكرامتها وصونا لسمعتها. وهذا واقع لا ينبغي إغفاله أو التغافل عنه ويجب تقدير الأمور وتقرير الأحكام على أساسه ، وقد تكفي هذه الإشارة في التنبيه إلى مضار الاختلاط في اجتماعات الرجال والنساء ، وآيات من الكتاب العزيز ترسم لنا الطرق الصالحة في التربية الاجتماعية والتهذيب الخلقي والأدب الديني الصحيح ، فعلينا أن نعتبر بها ونقيس بتعاليهما ما هو واقع في اجتماعاتنا لنعرف مدى قربنا أو بعدنا من هذه التعاليم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، بإمضاء : محمد عبد الفتاح العناني رئيس لجنة الفتوى بالأزهر.

وقد كتب الدكتور أحمد زكي بك والأستاذ إسماعيل مظهر يؤيدان

١٠٢

قضية المرأة ، ورد عليهما علماء الوعظ بالأزهر بآيات وأحاديث شريفة ، مغزاها خلاف ما ذهب إليه الدكتور زكي والأستاذ مظهر.

وقد نشر الشيخ علام نصار المفتي آراء له حول : تعدد الزوجات ، والطلاق وسواها .. وقد قامت معركة حول هذه الآراء ، واشتركت في مناقشتها والرد عليها «جبهة علماء الأزهر» في كتاب نشرته.

ـ ٩ ـ

فكرة توحيد التعليم :

هذه الفكرة أيدها الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة» ، فرأى أن يكون التعليم موحدا في الدولة وأن تكون المعاهد الثانوية مدارس ثانوية خاضعة لوزارة المعارف ، وتستقل كليات الأزهر بالدراسات الدينية.

وقد كتب الدكتور محمد يوسف موسى في ٦ اغسطس ١٩٥٠ كلمة في الأهرام يؤيد فيها هذا الرأي ، ورد عليه الأستاذ الشيخ الطيب النجار عضو جماعة كبار العلماء وغيره من أساتذة الأزهر.

ـ ١٠ ـ

لمناسبة الاحتفال بسفر المحمل والكسوة الشريفة عام ١٩٥٢ وما يلازم هذا الاحتفال عادة من تقاليد والطقوس بعث علي ماهر رئيس الوزراء سابقا إلى فضيلة مفتي الديار المصرية بكتاب يستفتيه في حكم الشريعة في هذه التقاليد والطقوس وقد جاء فيه : جرت العادة في حفلة المحمل السنوية على نظم وتقاليد وطقوس نرجو التفضل ببيان الحكم الشرعي فيها قبل الموعد المحدد للحفلة في هذا العام ، مع الإحاطة بأننا نعتبر هذه لا تعدوا أن تكون إيذانا بافتتاح موسم الحج ، وإذا رأيتم فضيلتكم الاتصال بصاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وصاحب الفضيلة رئيس المحكمة الشرعية

١٠٣

ليكون الرأي إجماعيا نكون لكم من الشاكرين.

وقد قدم حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية فتواه في الرد على رئيس الوزراء مؤيدة برأي فضيلة شيخ الجامع الأزهر وفضيلة رئيس المحكمة العليا الشرعية إلى الرئيس علي ماهر ، وجاء فيها ما يلي بعد الديباجة : تشرفت اليوم بتلقي كتابكم المؤرخ ١٨ / ٨ / ١٩٥٢ الذي تطلبون فيه الرأي الشرعي في النظم والتقاليد والطقوس التي تجري في الحفلة السنوية للمحمل ، ونفيد أننا منذ مدة قد بينا الحكم في ذلك بيانا واضحا واستنكرنا بعض هذه التقاليد استنكارا صريحا لمخالفتها لتعاليم الإسلام ، وقد جرت العادة على إقامة هذه الحفلة كل عام عند سفر المحمل وعند عودته بما في ذلك هذه التقاليد التي ينكرها الشرع والتي هي بدع سيئة لا أصل لها في الدين ويجب إزالتها والقضاء عليها ، من ذلك :

١ ـ الطواف بالمحمل سبع مرات حول الدائرة التي ترسم له أمام السرادق المعد للاجتماع الرسمي رمزا إلى الطواف حول الكعبة سبعة أشواط مع أن الطواف لم يشرع إلا حول الكعبة في مناسك الحج والعمرة ، ولا يجوز الرمز إلى ذلك بأية حال.

٢ ـ دوران عدة من الجمال حول هذه الدائرة وعليها رجال يطبلون ويزمرون بملابس خاصة وصورة مزرية.

٣ ـ تقبيل أمير الحج والعظماء المدعوين إلى الحفلة مقود الجمل الذي يحمل الهودج المرموز به إلى هودج شجرة الدر حين حجت في عهد دولة المماليك وليس لهذا أصل في الدين فضلا عن أنه مما تأباه النفوس الكريمة. فالتقبيل لم يؤذن به شرعا في المناسك أو غيرها إلا في الحجر الأسود وفيه قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا أني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك».

١٠٤

٤ ـ وقوف جماعة من مشايخ الطرق وأتباعهم أمام السرادق يقرأون الفاتحة ويبتهلون بأصوات صاخبة مزعجة وما كانت تلاوة القرآن لذلك وعلى هذا الوجه.

وقد تأصلت هذه الأعمال في النفوس حتى ظن عامة الناس أنها من الدين أو على الأقل من البدع الحسنة ، والدين يأباها ويرشد إلى أنها من السوء بمكان وفي إقراره تضليل للعامة باعتقادهم أنها من الدين وهي ليست من الدين في شيء. وبما أن الواجب شرعا رد المسلمين إلى الحق والهدى وإرشاد العامة إلى ترك المعتقدات الباطلة والبدع السيئة وقد صح من المأثور أن من أمات بدعة فقد أحيا سنة.

لهذا كله نرجو أن يفتتح هذا العهد الإصلاحي بتطهير العقائد والأعمال من شوائب المنكرات ، والله يوفقكم ويصلح بكم ويسدد خطاكم

١٠٥
١٠٦

الباب التاسع

ألوان ثقافية في حياة الأزهر العلميّة

ـ ١ ـ

كان الأزهر لا يعني كثيرا بالعلوم العقلية في عهد الانحطاط العثماني ، ومن شواهد ذلك أن أحمد كور باشا الذي تولى ولاية مصر عام ١١٦١ ه‍ في عهد مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي ، ناقش شيخ الأزهر الشيخ الشبراوي ، في إهمال الأزهر ومصر للعلوم الرياضية (١).

ومع ذلك فقد كان هناك قلة من العلماء تعني بهذه العلوم وتدرسها ، ومن هؤلاء الشيخ حسن الجبرتي الذي كان ذا شهرة عظيمة في العلوم الرياضية ، وقد ذكر ابنه المؤرخ في حديثه عنه في تاريخه أنه في سنة ١١٥٩ ه‍ ـ ١٨٠٥ م أتي إليه طلاب من الفرنجة ، وتلقوا عليه علم الهندسة ، وأهدوا إليه من مصنوعاتهم وآلاتهم أشياء نفيسة ثم رجعوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت ، وأخرجوه من القوة إلى الفعل ، واستخرجوا به صناعات بديعة ، مثل طواحين الهواء ، وجر الأثقال ، واستنباط المياه ، وما إلى هذا من الصناعات ، فأي شيء بعد هذا يحتاج إليه في إثبات فضل الأزهر على العلم؟ وأية يد أثيمة بعد هذا تحاول

__________________

(١) ١٩٢ و ٩٣ ج ١ الجبرتي.

١٠٧

أن تناله بسوء ، وأن تقابل فضله بالجحود؟ وقد تلقى الشيخ حسن الجبرتي هذه العلوم الرياضية في الأزهر ، وكذلك غيرها من العلوم الدينية والعربية ، وهو في الأصل من أهل الحبشة الذين رحلوا إلى الأزهر لطلب العلم ، ولهم رواق فيه يسمى رواق الجبرتية ، وقد تلقى العلوم الدينية والعربية على السيد محمد البنوفري والشيخ عمر الأسقاطي والشيخ أحمد الجوهري وغيرهم ، وبدأ تلقي العلوم الرياضية على الشيخ محمد النجاحي ، ثم قدم الشيخ حسام الدين الهندي إلى الأزهر ، وكان بارعا في العلوم الرياضية والفلسفية ، فتلقاها عليه بعض طلاب الأزهر ، مثل الشيخ الوسيمي ، والشيخ أحمد الدمنهوري ، فذهب إليه الشيخ حسن الجبرتي ولازمه ، وتلقى عليه كتبا نفيسة في هذه العلوم ، مثل أشكال التأسيس في الهندسة ، وتحرير أقليدس ، والمتوسطات والمبادىء والغايات ، والأكر ، وعلم الأرتماطيقي ، والجغرافيا ، وعلم المساحة ، ولم يزل يطلب هذه العلوم حتى برع فيها ، وطارت شهرته بها ، وكان يعرف اللغة التركية والفارسية ، ويتكلم بهما كأهلهما ، ثم اشتغل بالتدريس في الأزهر ، وتلقى عليه فيه الشيخ أحمد الشيخ عبد الرحمن البنان والشيخ محمد الصبان والشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ محمد الأمير ، وغيرهم من أفاضل علماء الأزهر. وكان يقتنى كثيرا من الكتب النفيسة في العربية والفارسية والتركية ، ومما كان يقتنيه من الكتب الفارسية كتاب الكلستان ، وديوان حافظ ، وشاه نامه ، وكان بها من الصور العجيبة ما يكسبها رونقا وبهاء ، وكان عنده كثير من الآلات الفلكية ، والكرات النحاسية ، والآلات الإرتفاعية ، والميالات ، وحلق الأرصاد ، والأسطرلابات ، والعدد الهندسية ، وآلات أكثر الصناعات كالنجارة وغيرها ، وآلات الرسم والتقاسيم ، وكان كل ماهر في صناعته يجتمع به ليتسفيد منه ، وكان مع هذا يعرف صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المايه ، وقد رسم في أيام اشتغاله ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول ، وفي سنة ١١٧٢ ه‍ ـ ١٧٥٨ م ، وقع الخلل في الموازين

١٠٨

فتحركت همته لتصحيحها ، وأحضر الحدادين والسباكين ، وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار ، ورسمها بطريق الاستخراج على أصل العلم العملي والوضع الهندسي ، ولم ينقص هذا من إلمامه بالعلوم الدينية ، بل كان حجة في الفقه وغيره من هذه العلوم ، حتى إن القضاة لم يكونوا يثقون إلا بفتواه ، وكانت وفاة هذا العالم الأزهري سنة ١١٨٨ ه‍ ـ ١٧٧٤ م ..

ـ ٢ ـ

وقد نعى الشيخ حسن العطار على الأزهر إهماله هذه العلوم وسواها وذلك في حاشيته على شرح جمع الجوامع في أصول الفقه (١) وكان من تلامذة العطار رفاعة رافع الطهطاوي الأزهري ، الذي سافر مع بعثات محمد علي إلى باريس ، وله كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وكتاب مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية ، الذي يقول فيه عن محمد علي وعهده (٢) إنه جدد دروس العلوم بعد اندراسها ، وأوجدت بعد العدم رؤساء العلماء والفضلاء نتيجة قياسها ، لقصد انتشار العلم والزيادة في الفضائل ، فأتى من ذلك بما لم تستطعه الأوائل ، غير أنه ـ حفظه الله وأبقاه ـ ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه. لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور ، ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر ، نعم إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية ، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الإثني عشر ، وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر ، غير أن هذا وحده لا يفي للوطن بقضاء الوطر ، والكامل يقبل الكمال كما هو متعارف عند أهل النظر ، ومدار سلوك جادة الرشاد والإصابة ، منوط بعدول الأمر ، بهذه العصابة ، التي ينبغي أن

__________________

(١) ٤٦١ / ٢.

(٢) ٢٨ تاريخ الإصلاح في الأزهر للصعيدي ، ٢٤٧ ـ ٢٥٠ مناهج الألباب المصرية لرفاعة.

١٠٩

تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة ، ورفع أعلام الشريعة المنيفة ، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية ، التي لها مدخل في تقديم الوطنية ، من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية ، فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام ، يكون من الأعمال الباقية على الدوام ، ويقتدى بهم في اتباعه الخاص والعام ، حتى إذا دخلوا في أمور الدولة ، يحسن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قوله ، فإن سلوك طريق العلم النافع من حيث هو مستقيم ، ومنهجه الأبهج هو القويم ، يكون بالنسبة للعلماء سلوكه أقوم ، وتلقيه من أفواههم أتم وأنظم ، لا سيما أن هذه العلوم الحكمية العملية التي يظهر الآن أنها أجنبية هي علوم إسلامية نقلها الأجانب الى لغاتهم من الكتب العربية ، ولم تزل كتبها إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة ، بل لا زال يتشبث بقراءتها ودراستها من أهل أوروبا حكماء الأزمنة الأخيرة ، فإن من اطلع على سند شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الدمنهوري (١١٠١ ـ ١١٩٢ ه‍) ـ الذي كانت مشيخته قبل شيخ الإسلام أحمد العروسي الكبير (١١٣٢ ـ ١٢٠٨ ه‍) جدّ شيخ شيوخ الجامع الأزهر ، السيد المصطفوي العلم الشهير (١) رأى أنه أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير ، وأنه له فيها المؤلفات الجمة ، وأن تلقيها إلى أيامه كان عند الجامع الأزهر من الأمور المهمة ، فإنه يقول فيه بعد سرد ما تلقاه من العلوم الشرعية وآلاتها معقولا ومنقولا :

أخذت عن أستاذنا الشيخ المعمر الشيخ علي الزعتري. خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات وبما توقف عليها. كالفرائض والميقات ، وسيلة ابن الهائم ومعونته ـ كلاهما في الحساب ـ والمقنع لابن الهائم ، ومنظومة الياسمين في الجبر والمقابلة ، ودقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج ، ورسالتين إحداهما على ربع المقنطرات وأخراهما على ربع

__________________

(١) يعني بذلك الشيخ مصطفى العروسي (١٢١٣ ـ ١٢٩٣ ه‍).

١١٠

المجيب ـ كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط ـ ونتيجة الشيخ اللاذقي المحسوبة لعرض مصر ، والمنخرفات لسبط المارديني في علم وضع المزاول ، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفة في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي ، وبعضا من قانون ابن سينا ، وبعضا من كامل الصناعة ، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى ـ والجميع في الطب ـ وقرأت على استاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في الحدود والدوائر لسبط المارديني في الهيئة السماوية ، ورسالة ابن الشاطر في علم الاضطراب ، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها ، والدر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة ، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة ، وبعضا من رفع الأشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة ، وقرأت على الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب ، منها رسالة في علم الأرتماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ الشهير بالسحيمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على علم التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب ، ورسالة اخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسيط المارديني ، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن صاعد الأنصاري ، وهي كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما ، أولهما علم الحرف وآخرها علم الطلاسم ، ورسالة للإسرائيلي ، ورسالة للسيد الطحان ـ كلاهما في علم الطالع ـ ورسالة للخازن في علم المواليد ـ أعني الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن ـ وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في علم الحكمة ، ومتن الجغميني في علم الهيئة ـ بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه ـ وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم

١١١

الكواكب السبعة. ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ فقال : طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرتماطيقي ، في نحو كراسين ، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه ، ورسالة الكلام اليسير في علام البواسير ، في نحو كراسين ، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح ، في نحو كراسين ، وكتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب ، في نحو خمسة كراريس ، ورسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب ، في نحو كراس ، وكتاب منهج السلوك في نصيحة الملوك ، في نحو عشرة كراريس ، وكتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب ـ معنونا باسم السلطان مصطفى خان بن السلطان أحمد خان ، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس ، الجالس على سرير الملك في سابع عشر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف يوم الأحد قبل الشمس. ويقول رفاعة : فانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر ، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر ، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام ، فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية ، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية ، وفضل العلامة الجبرتي المتوفي في أثناء هذا القرن في هذه العلوم ، وفي فن التاريخ أمر معلوم ، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي ، وكان للمرحوم العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم ، حتى في العلوم الجغرافية ، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة ، المشهور أيضا بالملك المؤيد ، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ ، وعلى طبقات لأطباء وغيرها ، كان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها ، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية ،

١١٢

مع غاية الديانة والصيانة ، وله بعض تآليف في الطب وغيره ، زيادة عن تآليفه المشهورة ، فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو بمصر ، بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته ، لفازوا بدرجة الكمال ، وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال ، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة ، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد ، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر ، فترجع المسألة دورية ، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل ، ليغتنم فرصة ذلك كل طالب وسائل ، وكل من سار على الدرب وصل ، وإنما المكافأة على تمام العمل.

ـ ٣ ـ

وقد ازدهر القرن التاسع عشر بكوكبة من المصلحين ، من أمثال الأفغاني (١٨٣٩ ـ ١٨٩٧ م) وعلى مبارك (١٨٢٣ ـ ١٨٩٣ م) والسيد عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٨ ـ ١٩٠٢ م) والشيخ محمد عبده (١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ م) ، وكان هؤلاء المصلحون يتجهون أول ما يتجهون إلى إيقاظ الفكر المصري والعربي ، وإلى تجديد النهضة الدينية.

ولما حضر جمال الدين الأفغاني إلى مصر لأول مرة سنة ١٢٨٦ ه‍ أقام في القاهرة أربعين يوما ، تردد فيها على الجامع الأزهر ، واتصل به كثير من العظماء والطلاب ، ثم ترك القاهرة إلى الأستانة ، فوصل إليها في سنة ١٢٨٧ ه‍ ، ولكن الدسائس أحاطت من كل جانب ، ومن أجل ذلك عاد جمال الدين إلى القاهرة في أوائل سنة ١٢٨٨ ه‍ ، فأكرمه إسماعيل ، وأجرى عليه راتبا يليق به ، فجعل من بيته مدرسة يقصدها النابهون من طلاب العلم في الأزهر وغيره ، وكان يدرس لهم أمهات الكتب في علم الكلام والحكمة والهيئة والتصوف وأصول الفقه ، ولم يكن يقصد من دروسه

١١٣

التعليم فقط ، بل كان يقصد منها الدعوى إلى الإصلاح ، وفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم وبث الأخلاق العالية في النفوس ، وكان إلى هذا يرشد الطلاب إلى مطالعة كتب الأدب ، ليتعلموا منها حسن الكتابة والإنشاء ، ويستطيعوا أن ينهضوا بالأمة بالكتابة في الجرائد وغيرها ، فأيقظ النفوس من غفلتها ، وفتح عيون الطلاب في الأزهر لضعف التعليم فيه ، حتى ألفوا من بينهم جماعة تسعى في إصلاحه ، وكان أول ما عملوه كتابة منشور علقوه على أعمدة الأزهر في سواد الليل ، وبينوا فيه مواضع الخلل في التعليم بالأزهر ، وشرحوا الوسائل التي تؤدي إلى إصلاحه ، فبدأ جمال الدين بدروسه في الإصلاح ، الجهاد في إصلاح الأزهر ، وأوجد من أبنائه وغيرهم من يعمل فيه بكل ما يمكنه من الوسائل التي توصل إليه.

وكان نشاطه التعليمي ذا شعبتين : دروس علمية منظمة يلقيها في بيته (في خان الخليلي) ، وكان يتلقاها أمثال الشيخ محمد عبده ، والشيخ عبد الكريم سلمان ، والشيخ سعد زغلول ، والشيخ إبراهيم الهلباوي من مجاوري الأزهر وعلمائه ، وكان يدرس لهم كتب منطق وفلسفة وتصوف وهيئة ، ويظهر أن هذه الكتب لم تكن لها قيمة في ذاتها ، وإنما قيمتها كانت فيما يضيفه عليها الشيخ في شرح آرائه وأفكاره ، والتبسط في مناحي الفكر ، والتطبيق على الحياة الواقعية ، بربط الحياة العملية بالعلمية ، هذا إلى أنه كان يأخذ بيد تلاميذه ، فيجعلهم يسيطرون على الكتاب ، ويسمون عن قيود الألفاظ والجمل إلى معرفة الحقائق ذاتها ، يحدد لهم موضوع الدرس من الكتاب ، ويفيض عليهم في شرحه من عنده حتى يحيطوا به ، ويتفهموه من جميع أطرافه.

وكانت مدرسته الثانية غير النظامية أكبر أترا وأعم نفعا ، وكان تلاميذه فيها زواره في بيته أو في بيوتهم حين يزورهم ، ومن يلتقي بهم في (قهوة البوستة) وفي المجتمعات من أمثال : محمود سامي البارودي ، وعبد السلام المويلحي وأخيه إبراهيم المويلحي وسعد زغلول ، ومحمد عبده

١١٤

وعلي مظهر ، وأديب إسحق وغيرهم. وفي هذه المدرسة حول مجرى الأدب ونقله من حال إلى حال ، كان الأدب عند الحكام لا هم له إلا مدح الملوك والأمراء ، والتغني بأفعالهم وصفاتهم ، فأتى جمال الدين وسخّر الأدب في خدمة الشعب ، يطالب بحقوقه ، ويدافع عنه من ظلمه ، يبين للناس سوء حالتهم ، ويبصرهم بمن كان سبب فقرهم ، ويحرضهم أن يخرجوا من بؤسهم وضلالهم وألا يخشوا بأس الحاكم فليست قوته إلا بهم ، فكان أدبه ينظر للشعب أكثر مما ينظر إلى الحاكم ، وينشد الحرية ويفيض في حقوق الناس وواجبات الحاكم ، ويجعل من الأديب مشرفا على الأمراء ، لا سائلا يمد يده للأغنياء ، كنت تتصفح آثار الأدباء أمثال : السيد على أبي النصر ، والشيخ علي الليثي وعبد الله باشا فكري ، فلا ترى موضوعاتهم غير غزل في حبيب ، أو رسالة إلى صديق ، أو مدح لأمير ، أو استعطاف له ، أو اعتذار إليه ، أو وصف سفينة ، أو شكر على هدية. أما مصر وحال شعبها ، وبؤس أهلها ، وظلم حكامها ، وحقوق الناس ، وواجبات الحكام ، فلا ترى لذلك أثرا. فقلب جمال الدين هذا الوضع وفتح للأدباء منافذ القول ، وكانت خطته في ذلك ما يأتي :

١ ـ كون جماعة حبب إليهم الكتابة ، ورسم لها خطتها وأوحى إليهم بالمعاني وشجعهم على إنشاء الجرائد ، يكتب فيها ، ويستكتب القادر منهم ، فأنشأ أديب إسحق جريدة «مصر» في القاهرة ، و «التجارة» بالأسكندرية ، وكان جمال يكتب فيها أحيانا باسم مستعار أو باسمه الحقيقي وقد كتب مقالين : أحدهما في الحكومات الشرقية وأنواعها ، والثاني سماه «روح البيان في الأنجليز والأفغان» كان لهما صدى بعيد ، ولقيت الصحيفتان رواجا كبيرا ، ثم أغلقهما رياض باشا وكذلك وجه الكتاب في «الوقائع المصرية» وغيرها ، وبذلك ربى طائفة من الكتاب تحسن الكتابة» واختيار الموضوعات ، ووضع النواة الأولى للصحافة الشرقية والكتاب الذين يعالجون شئون وطنهم وحالة شعوبهم ، والذي ساعده على النجاح في ذلك

١١٥

حال مصر المالية والسياسية وتدخل الأجنبي فيهما وجزع الشعب والحاكم معا لذلك فشجعوا هذا النقد من الصحافة ، ولو لا ذلك لخابت دعوة جمال الدين في مصر كما خابت في غيرها.

٢ ـ أحاديثه في المقهى وفي المحافل وبيوت الزيارة ، تواتيه المعاني ، ويطاوعه اللسان ، فيخلق أمتع الأحاديث ، ويحدث كل من بمجلسه بلسان عربي مبين ، فيدهش السامعين ، ويفحم السائلين ، ويبكم المعترضين ، وبذلك خرج مدرسة عجيبة تحسن السمر والحديث والاستطراد ، وتملك على السامع لبه من أمثال محمد عبده ، وسعد زغلول ، والهلباوي ، ولطفي السيد ، وغيرهم.

وهكذا بدأ جمال الدين تعليمه في حجرة ثم في مقهى أو مجتمع ، ثم في محفل يريد توسيع العقول ، وتعليم الحرية في البحث والنقد ، وتبصير الشعب بحقوقه وواجبات الحاكم نحوه ، ويضع يده في صميم السياسة فيريد أن يسيطر على الوزارات والحكومة بمحفله ، ورأى أول أمره أن لا قيمة لمجلس النواب ما دام الشعب غافلا جاهلا ، فلما نضجت الأمة واستبد الحكام ، غير رأيه وألح في طلب الحكم النيابي وحرض عليه. وكان يلتقي بالأمير توفيق في المحفل فيقدره ويدين بمبادئه ، ولكنه لما تولى الحكم بعد إسماعيل دس له الدساسون ، فاجتمع مجلس الوزراء وقرر نفي جمال الدين فقبض عليه في ٢٤ أغسطس سنة ١٨٧١ ، ونفى إلى بمباي في الهند ، وكان ذلك آخر عهد له بمصر.

وسافر الأفغاني إلى لندن عام ١٨٨٣ ومنها إلى فرنسا ، ووافاه إليها تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده وكان منفيا في بيروت. وأخذا يتشاوران فيما يعملان من وجوه الإصلاح ، وكان من رأى الشيخ محمد عبده بعد ما رأى من غدر الناس في ثورة عرابي أن يذهبا إلى مكان بعيد ، ينشئان فيه مدرسة للزعماء يختاران لها أنجب التلاميذ من الأقطار الإسلامية ،

١١٦

ويعدانهم للزعامة ونشر الإصلاح ، ولكن لم يعجب السيد هذا الرأي ، ورأى فيه خورا وضعفا ويأسا ، ووضع خطته بإنشاء جريدة في باريس للعالم الإسلامي تبصره بحقوقه وواجباته ووظيفته ، وكانت جريدة «العروة الوثقي» للسيد فيها الأفكار والمعاني ، وللشيخ التحرير والصياغة ، وميرزا محمد باقر يعرب لها عن الصحف الأجنبية ما يهم الشرق ، وكان وراءها جمعية سرية في جميع أقطار الإسلام ، ولها فروع في بلدانه يجتمعون للمذاكرة ، ويتبرعون بالمال ينفق منه على الجريدة والقائمين بها ، فقد كانت ترسل بالمجان أكثر أعدادها ، وكان الأعضاء يقسمون اليمين لأحياء الأخوة الإسلامية ، وتقوية الإسلام بقدر ما يستطيعون. وكان أهم أغراض الجريدة كما لخصت هي ذلك في أول عدد لها :

١ ـ بيان الواجب على الشرقيين ، وأسباب فساد حالهم.

٢ ـ إشراب النفوس عقيدة الأمل وترك اليأس.

٣ ـ الدعوة إليالتمسك بالأصول التي كان عليهم أسلافهم وعزوا بها.

٤ ـ الدفاع عما يتهم به الشرقيون عموما والمسلمون خصوصا من أنهم لن يتقدموا ما داموا متمسكين بدينهم.

٥ ـ إخبارهم بما يهمهم من حوادث السياسة العامة والخاصة.

٦ ـ تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية ، ومناصرة من لا يجحف بحقوقهم من أمم الخارج.

وأخذ يكتب في ذلك في الجريدة ويفصل هذه الأسباب في مقالات ، وكان مثله الأعلى حكومة إسلامية موحدة للجميع ، ولما رأى عدم إمكان ذلك دعا إلى أن تحكم الأقطار الاسلامية بحكومات إمامها القرآن ، وأساسها العدل والشورى وترتبط جميعا بروابط محكمة.

وقد قاده هذا التفكير في الحكومة الإسلامية وأخلاق الشعب التي

١١٧

يجب أن يكون عليها إلى أن يناهض في الجريدة الاحتلال الأجنبي في الأقطار الإسلامية وخاصة في مصر ، وشغل هذا حيزا كبيرا منها بأسلوب مهيج وعبارات شديدة ، كما استخدم بجانبها رسلا متخفين إلى الأقطار المختلفة ينشرون التعاليم التي لا يستطيع نشرها في الجريدة ، وكان منهم الشيخ محمد عبده ـ وهو محكوم عليه بالنفي ـ فجاء إلى مصر وتونس وكان من نتائج هذا أن روقبت الجريدة من أصحاب السيادة على حكومات الهند ومصر ، فمنعت من دخولهما ، واستحال وصولها إلى أصحابها وقرائها فاحتجبت عن أداء رسالتها.

وقد كان يدعو إلى الاجتهاد وترك التقليد في الدين ، فإن الأئمة اجتهدوا وأحسنوا ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. ويرى أن التفرقة بين أهل السنة والشيعة سببها مطامع الملوك ، فالفريقان يؤمنان بالقرآن ورسالة محمد ، ففيم الخلاف والقتال؟. ويرى أن الإشتراكية في الإسلام ملتحمة مع الدين ، ملتصقة مع الخلق ، يبعث عليها حب الخير ، على النقيض من إشتراكية الغرب التي يبعث عليها جور الحكام وعوامل الحسد في العمال لأرباب الغنى. كما يرى أن المرأة تساوي الرجل في تكوينها العقلي والتفاوت بينهما أتى من التربية وإطلاق السراح للرجل ، وتقييد المرأة في البيت. ومهمتها في هذا أسمى ، ولا تقل عن مهمة الرجل ، ومن يطلب مساواتها فهو مخطي ، ولا مانع من أن تعمل في الخارج إذا فقدت عائلها ، واضطرتها ظروفها ولكن بطهارة. كما أنه لا مانع عنده من رفع الحجاب إذا لم يتخذ وسيلة للفجور. ويرى كذلك أن الدين لا يخالف الحقائق العلمية ، وإذا ظهر غير ذلك وجب تأويله ، فالقرآن أعظم من أن يخالف العلم الحقيقي خصوصا في الكليات.

وقد أجمع معاصروه ومن درسوا تاريخ حياته على أن له غرضين واضحين :

١١٨

١ ـ بث الروح في الشرق لينهض بثقافته وعلمه وتربيته ، وتنقية عقيدته من الخرافات واستعادة عزه ومكانته.

٢ ـ مناهضة الاحتلال الأجنبي حتى تعود الأقطار الشرقية إلى استقلالها مرتبطة بروابط على أي شكل ، لتلقي ما يحيط بها من أخطار.

ولما مات حمل المصلحون بعده لواء هذين الغرضين متفرقين وقد كان يحمل لواءهما معا ، فحمل الشيخ محمد عبده لواء الإصلاح الثقافي ، فإن الواجب الأول على المصلح في رأيه تثقيف الشعب وتهذيبه ، ثم الاستقلال يكون الخاتمة. وقد رفع العلم الآخر وهو العلم السياسي لمناهضة الحكم الأجنبي عبد الله نديم ، ثم مصطفى كامل وفريد ، ثم سعد زغلول. وكذلك كان في غير مصر من أقطار الشرق من حملوا لواء الإصلاحين وساروا على هداه ولكن في بطء لا يعجبه فقد كان طموحا إلى مقصده ، شجاعا مقداما لا يهاب الموت ، حديد المزاج ، لا يريد الحق إلا من طريق الحق ، يريده غاية ويريده وسيلة ، ولكن سياسة الدنيا غير ذلك تقوم على المصالحة ، وأخذ شيء بترك شيء ، ومن أراد الحق كاملا فليطلب ذلك في المثل الأعلى للخلق لا في السياسة أو فلينتظر حتى تخضع السيادة للخلق ولن يكون.

ـ ٤ ـ

ويقول. في إهمال العلوم الرياضية والفلسفية في الأزهر ـ الأستاذ مصطفى بيرم من رسالة له عن الأزهر قدمها لمؤتمر علماء اللغات الشرقية المنعقد بمدينة همبورج بالمانيا عام ١٩٠٢ : إن تلك العلوم الرياضية والجغرافية والعقلية والفلسفية مهجورة من الأزهر ينظر إليها بعين السخط ، ويفر من سماعها فرار الصحيح من الأجرب ، ولكن بفضل الله وكرمه لم يطل الأمر على ذلك كثيرا ، حتى قيض الله لنا علماءنا الأعلام من ثنيه لأسباب تأخرنا العلمي ، وأخذوا في السعي لإعادة تدريس تلك العلوم

١١٩

النافعة المقوية للملكة الذهنية ، ولخشية المفاجأة بإعادة تدريسها للجامع بعد ما رسخ في أذهان الكثير من أن بها ما يعدوا على الدين ، رأى ولاة الأمور أن يمهدوا السبيل لادخالها في الجامع الأزهر بأخذ آراء أفاضل العلماء الأزهريين ، فكلفوا والدي المرحوم السيد محمد بيرم بهاته المهمة العلمية ، وبعد أخذ وعطاء بينه وبين المرحومين : العلامة الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام بمصر وشيخ الجامع الأزهر ، والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في ذلك العهد ، استقر الرأي أن يكتب لهما استفتاء صورته ، بعد الديباجة : «ما قولكم رضى الله عنكم؟ هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية؟ مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء ، وغيرها من سائر المعارف ، لا سيما ما ينبني عليه منها من زيادة القوة في الأمة ، بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة؟ بمعنى أن يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء العلوم ، ونقله علماء الحنفية أيضا وأقروه ، وإذا كان الحكم فيها كذلك ، فهل يجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين؟ أفيدوا الجواب ، لا زلتم مقصدا لأولى الألباب : فأجابه العلامة الشيخ محمد الأنبابي بالفتوى الآتية بعد الديباجة : يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافيا ، لأنه لا تعرض فيها شيء من الأمور الدينية ، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا ، كما يجب علم الطب لذلك «كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء ، وإن ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة التمكن في القدر الواجب فتعلمه فضيلة ، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وغيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية ، فإنه حرام كما

١٢٠