الواسطة في معرفة أحوال مالطة ، كشف المخبّا عن فنون أوروبّة

المؤلف:

أحمد فارس الشدياق


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-589-X
الصفحات: ٥٧٩

والنساء ، وكثيرا ما يتفق أن الرجل حين يقبض أجرته يذهب إلى الحانات وينفقها فيها ، فيرجع إلى أهله صفر اليدين فيقوم النقار بينه وبين زوجته ، أو أن يعطيها لزوجته فتذهب هي وتنفقها في المسكرات. ففي هذه الليلة ترى النساء يتضاربن بعضهن مع بعض أو مع بعولتهن أو مع غيرهم ، وكذا شأن الرجال. وكثيرا ما رأيت النساء يغلبن الرجال ويجررنهم بنواصيهم ، وكثيرا ما ترى امرأة مشرومة الأنف أو مملوقة (٣٥٠) العين أو مخلوعة اليد ، أو صرعى في الطريق من الخمر والضرب ، كل ذلك من بركات هذه الليلة. ولو لا أن أصحاب الحانات مشروع عليهم أن يقفلوا حوانيتهم في نصف الليل ، ومن خالف ذلك يغرّم خمس ليرات ، لبقوا وبقين على الجن والروم والجعة إلى الصباح. والواقع أن العملة من الإنكليز وذوي الحرف أقرب إلى مزية الكرم منهم إلى البخل ، فإنهم في تلك الليلة ينفقون إنفاق من لا يخاف الفقر ، ويشترون قطع لحم كبيرة ويتخذون حلواء من الفاكهة وغيرها. وفي يوم الأحد يشربون القهوة بفناجين مخصوصة وبالسكر الأبيض المكرر وهلمّ جرا. وأما عند أصحاب الدكاكين فلعلمهم أن يوم الأحد ليس فيه بيع ولا شراء فيطيلون المكث في دكاكينهم ، رجاء أن يكسبوا شيئا زائدا يكون عوضا عن بطالة الأحد ، فلهذا ترى للطرق والأسواق في تلك الليلة بهجة لا تراها في سائر الليالي ، وكذلك ليلة عيد الميلاد وبعض ليال قبلها ، فإن الدكاكين تبقى فيها مفتوحة وبعضها يكون مزيّنا ، وفيها تسمع آلات الطرب من جهات شتّى ، وترى الناس في إقبال وإدبار ومرح وارتياح.

طريق أكسفورد

ودون الطريق الذي مرّ ذكره في الغنى والرونق طريق اكسفورد ، إلا أنه أطول وأقوم ، وهو يفضي إلى هيد بارك وطوله ٣٠٤. ٢ أذرع ، وقد ترى في هذا الطريق وفي غيره عشرين دكانا للبرانيط ، ومثلها للنعال ، ومثلها للكتب ، ونحوها للخزّ ، ولا ترى من مطعم واحد أو نصف محل للقهوة.

__________________

(٣٥٠)

٤٨١

طريق استراند

ثم الطريق الذي يقال له استراند ، طوله ٣٦٩. ١ وهو أكثر الطرق ملاهي ، فيه فرع من المألك الكبير عنده جرس ذو مادة كهربائية يدل على أوقات البلدة ، وعليه تضبط مواقف سكك الحديد الساعات والأوقات ، وفي الساعة الحادية بعد الظهر يهبط عن مركزه بنفسه.

طريق بيكاديلي وطرق أخرى

ثم بيكاديلي طوله ٦٩٤. ١ ذراعا ، ثم نيو رود ، أي الطريق الجديد ، طوله ١١٥. ٥ ولكنه ليس من الطرق المنتابة ، ونحوه ستي رود وطوله ٦٩٠. ١ ، ثم نيوبون ستريت فيه دكان جوهري رأس ماله خمسمائة ألف ليرة ، وتحت يده من الصاغة والصنائعيين ما يزيد على خمسمائة رجل ، وهو أغنى جميع صاغة المملكة ، وكثيرا ما تستخدمه ملوك الإفرنج من جميع الأقطار في صوغ آنية لقصورهم. ثم هوبرن وهو أوسع الطرق لكنه غير طويل ، فيه دكانان للبزّ والحرير ، لا ينقص عدد المستخدمين في أحدهما عن مائة نفس. ومن هوبرن فصاعدا نحو الشمال بني في سنة ١٦٠٧ وفي زمن الملكة اليصابت منع من تكثير البيوت ، وأمر بأن كل عيلة تسكن في بيت واحد. ثم هلوي ول ستريت مشهورة بالدكاكين التي يباع فيها كتب الفسق وصور النساء وما أشبه هذا. ثم طرق أخرى حسنة أيضا ولكنها ليست نظير هذه. وعدد الطرق المبلطة في لندرة يبلغ ٥٠٠٠ وتمتد أكثر من ٠٠٠. ٢ ميل ، ويوجد فيها نحو ٥٠ طريقا باسم كين ستريت ، أي طريق الملك ، ومثلها كوين ستريت ، أي طريق الملكة. ونحو ستين طريقا باسم وليام ستريت ، ومثلها جون ستريت ، وأكثر من ٤٠ طريقا باسم نيو ستريت.

وسائط النقل

وقد تذاكر الناس هذه السنة في إنشاء سكك الحديد في قلب لندرة بدل

٤٨٢

الحوافل ، فإن جعل هذه يبلغ في السنة ٠٠٠. ٣٠٠ ليرة والسير في الأول لا ينفق فيه أكثر من ٠٠٠. ٣٠ ليرة فقط.

أضواء لندرة

وجميع أسواق لندرة وشوارعها وأزقتها تنوّر بجمال النساء عامّة الليل ، وناهيك أنه في محلة واحدة وهي محلة ماري لابن من جملة نحو ٦٠ محلة يوجد ٠٠٠. ٢٠ مومسة ، منهن ٢٠٠. ٢ لهنّ بيوت خاصّة بهنّ ، وحيثما تكثر أنوار الغاز يكثر ترددهن. ولكثرة الأنوار في الدكاكين والطرق تكون المدينة في الليل أدفأ منها في النهار ، وكذلك مدينة باريس. والغاز في طرق لندرة يوضع في فوانيس على عمد قائمة من حديد ، فهي من هذا القبيل أحسن من باريس لأن كثيرا من فوانيس هذه تجعل في الحائط ، إلا أنه ليس في طرق لندرة شجر ولا محال للقهوة ، على نسق ما في باريس ، لأن الشرطة لا يأذنون لأحد في أن يضع كرسيا في الطريق ويقعد عليه.

اختراع الغاز واستخدامه في الإضاءة

ثم إن اختراع الغاز هو من أعظم البركات التي يتنعم بها الإنسان في الليل ، ومن أقوى الوسائل المعينة على الأمن والسلامة ، ولا سيما في المدن الكبار ، فإن لندرة منذ مائة سنة كانت ممنيّة باللصوص والنهّاب في مسالكها بعد العتمة ، حتى أن السالك فيها كان يعرّض نفسه إمّا للقتل وإما للسلب ، وكانت الأولاد تحمل بأيديهم مشاعل ويجرون بها بين يدي المارين ، ويأخذون منهم شيئا. وفي أيام الملكة ماري كان العسس يتخذون أجراسا يضربون بها للتنبيه والتحذير ، وذلك لقلة الأنوار. وفي سنة ١٧٦٢ وضعت الفوانيس ، وأوقدت بالزيت ، فقلّت اللصوص. وأول من جرّب استخراج الغاز قسيس اسمه كلاطون ، وذلك في سنة ١٧٣٩ ، إلا أن تجربته هذه لم يعمل بها ، وفي سنة ١٧٩٢ تصدّى لهذه العملية رجل من كرنوال اسمه مردوك ، وفكر في أنه إذا صان الغاز المستخرج من الفحم أو الحطب في وعاء ، ثم أجراه في

٤٨٣

قصب من الحديد يكون مغنيا عن المصابيح والشمع. وفي سنة ١٧٩٨ أتم تجربته هذه وأجراها في بعض المعامل في برمنهام إلا أنه كان يعرض لها بعض الخلل أحيانا. وفي سنة ١٨٠٢ انتبه الناس إلى إحكام ذلك وتعميم منفعته. وبعد هذا التاريخ بسنة واحدة نوّر ملهى ليسيوم في لندرة بنور الغاز ، وفي سنة ١٨٠٤ وما بعدها وسّع مردوك دائرة مشروعه هذا في منشستر. وزعم الفرنسيس أنهم هم مخترعوه ، إلا أن هذا النور لم يعرف عندهم إلا في سنة ١٨٠٤ وكان ذلك في باريس ، وقد عرفت أن مردوك صنعه قبل هذا الوقت بعدة سنين ، ومن سنة ١٨٠٢ إلى سنة ١٨٢٢ اشتهر استعمال الغاز ، وأعجب جميع الناس ، حتى إن رأس المال الذي جمع لتنوير لندرة فقط بلغ أزيد من ٠٠٠. ٠٠٠. ١ ليرة ، وشغلت قصبات الغاز في إيصال النور إلى محال مختلفة مسافة ١٥٠ ميلا ، وبعد ذلك بسنين قليلة اشتهر في سائر مدن المملكة لتنوير الطرق والحوانيت والديار. وهو على بقائه وعدم نقصه خلافا لنور الشمع والزيت أرخص سعرا وأخف كلفة ، فإن رطل الشمع الدون مثلا يساوي ثلاثة أرباع شلين ، ومدّة اتقاده لا تزيد على أربعين ساعة ، وإن غالونا من الزيت يساوي شلينين ، وينير ما تنير ستمائة شمعة في ساعة واحدة ، والشمع العال أغلى من الشحمي بثلاثة أضعاف ، وألف مكعب من الغاز يساوي تسعة شلينات فتحصّل من ذلك أن ما قيمته مائة من الشمع العال يكون خمسة وعشرين من الشحمي ، وما قيمته خمسة من الزيت يكون من الغاز ثلاثة ، وبالجملة فإنه من ألزم الأشياء ولا يعلو عليه نور إلا نور الشمس(٣٥١) ، وإذا أوقدت نورا منه فلا ينطفيء إلا إذا أطفأته ، وذلك بأن تدير لولبه إلى جهة الشمال ، وإذا أردت إيقاده أدرته إلى اليمين ، وأدنيت النار من فوهته فيبقى كذلك إلى ما شاء الله. وكيفية تنوير الطرق في لندرة هو أن يرتقي الرجل في سلم إلى الفانوس ، وفي باريس يجعل الرجل النور في عود طويل ، ثم يدنيه من فوهة الفانوس من دون أن يرتقي إليه ، ولا يخفى أن ذلك أسهل وأسرع.

__________________

(٣٥١) منذ سنة ١٨٨٠ نور كثير من طرق باريس ولندرة وغيرها من طرق مدن أوروبا بالنور الكهربائي.

٤٨٤

منازل الأعيان والعظماء في لندرة

وأما قوله بترفّه الأعيان والعظماء وإسرافهم فقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام على أخلاقهم وأحوالهم. وإنما نقول هنا إن هؤلاء الأماجد يسكنون في حارات معلومة من المدينة فرارا من الزحام ومن اختلاطهم بالأوباش ، فترى بقعة فسيحة عظيمة في لندرة ليس فيها سوى ديار متصافّة متصاقبة ، وهي بالنظر إلى وسط المدينة مظلمة موحشة إذ ليس فيها حوانيت ولا مطاعم ولا ملاهي ، لكنها نظيفة سالمة تكاثف الأوحال ، وضغط السائرين وقرقعة العجلات. ومع ما هم فيه من البحبحة والنعيم فيها والإنفراد ، فلا بد وأن يكون لكل منهم دار في الخلاء يسكنها في الصيف ، ففي هذا الصقع الجليل تسطع أنوار السعادة من أبراجهم العلويّة ، وهناك ترى الخدم والحشم ، والخيل المطهّمة والعواجل النفيسة ، وهناك تميد الموائد بما عليها من الأطعمة الفاخرة المجلوبة من جميع البلدان ، وهناك تتيه الكلاب على كثير من بني آدم ممن يتضورون جوعا ، ويهلكون من الوسخ والبرد والعريّ ومن أكل اللحوم المنتنة في أزقة لندرة القذرة ، فليس بين الجنة والجحيم في هذه المدينة بعد ما بين الجنّة والجحيم في الآخرة.

جحيم لندرة

وهاك مثالا على سقر لندرة ، قال في بعض الصحف إن مائة وثمانين نفسا ما بين رجل وامرأة وولد يسكنون في أربع وثلاثين حجرة. وفي أخبار الكون كان يمكث في حجرة واحدة من أربعة عشر نفسا إلى عشرين ليلا ونهارا ، وكان يسكن في حجرة أخرى رجلان مع زوجيهما وأرملتان وثلاث بنات وعزب وثلاثة أولاد ، فجملتهم أربعة عشر نفسا قد جعلوا أنفسهم عيلة عيلة ، كل عيلة تبوأت زاوية من الحجرة. وفي موضع آخر يسمى ساحة فلتشر حجرتان لا تزيدان على سبع أقدام عرضا في عشر طولا ، وقد اشتملتا على ثمانية وعشرين نفسا ، ما أحد منهم يعرف القراءة ، وليس تحتهم وطاء سوى التبن إلا واحدا منهم ، ولا غطاء لهم في الليل سوى ثيابهم

٤٨٥

التي يلبسونها في النهار ، ومع ذلك فإن هذين المحلين إذا قيسا بغيرهما من البيوت المجاورة لهما كان لهما حرمة ، فإنه وجد فيها ٢٠٨ أولاد قد أدركوا ، ولم يدخل منهم المكتب سوى ثمانية وثلاثين فقط ، وهم غارقون في الفساد والخساسة والقذارة والوباء ، وفي هي هوبرن ثلاثون بيتا يسكن فيها مائة وثلاث وثلاثون عيلة ، كل ثلاث عيال أو أربع في حجرة واحدة ، وقد تناهوا في السكر والسفاهة وفي كل نوع من الرذائل.

وكثيرا ما ترى النساء يمشين في الشتاء حافيات ، ويلتقطن الجذور وفتات الخبز ، وغير مرة رأيت رجلا على ذراعه طفل ، وامرأته بجانبه صفراء منجردة على عتبة إحدى الديار في أشد ليالي الشتاء بردا. وفي كل سنة يبقى ألوف من ذوي الحرف معطلين ، ففي سنة ١٨٤٩ كان ٤٠٠. ١ خياط و ٩٠٠ إسكاف بلا عمل ، وكان ٧٠٠. ١ إسكاف يعملون بنصف الأجرة ، وكذا الصاغة وصنّاع الجلود وقس على ذلك. وفي لندرة ٢٦٠. ٢ دارا مشرفة على السقوط ، والحاصل أنه لا فقير أشقى من فقير لندرة ، كما أنه لا غني أترف من غنيها. وكما أن طرف لندرة من جهة الشمال موسوم بحضرة الكبراء ، كذلك كان طرفها الجنوبي مختصا بأهل الضعة والخمول ، فلا ترى هناك شيئا يعجبك غير حسن النساء ، فإن الله تعالى جعل لهن هذا النصيب عامّا.

جهل الإنكليز بالطبخ وميلهم إلى الغش

وأما قول الآخر إنه ليس في لندرة مطاعم أنيقة .. إلخ ، فهو في محله ، إلا أنه لم يذكر سبب ذلك ، وهو جهل الإنكليز بصنعة الطبخ ، أمّا في البيوت فيمكن للواحد أن يعتذر عنهم بقوله إنهم لا يتأنقون في الطبخ حرصا على الوقت أن يضيع في الحشو والتكبيب وما أشبه ذلك ، إلّا أنه لا يمكن الإعتذار عن أصحاب المطاعم العمومية الذين لا شغل لهم إلّا إطعام الناس. وما عدا ذلك فإن المنتقد لم يذكر أنه لا شيء في لندرة مما يؤكل أو يشرب إلّا وهو مغشوش مخلوط مشوب. أو ليس من العار على أهل هذه المدينة مع كونهم أغنى الناس وأقدرهم وأتجرهم ، أن يرخصوا لواحد من

٤٨٦

الأجانب في أن يفتح دكانا في أعظم الطرق ، ويبيع فيه نحو الجبن ولحم الخنزير والخردل واللبن ، ولآخر في أن يبيع المثلوج والحلواء ، ولآخر في أن يبيع الخل والزيت ، ولآخر في أن يفتح محل قهوة تغنّي فيه نساء بلده ، ونحو ذلك مما يمكن لكل أحد أن يصنعه؟ فهل لهذا من تأويل أخر سوى أنكم يا أهل لندرة خرق حمق أو غشاشون غبّانون؟

سبق الفرنسيين وتخلّف الإنكليز

وفي الواقع فإن كل شيء يصنعه أهل فرنسا هو مفخرة للإنكليز ، فإن الحرير الفرنساوي للستات من الإنكليز نصف جمالهنّ ، والنصف الآخر من الشريط والجوارب والكفوف والقيطان ونحوه ، ونصف أدبهن هو التكلم باللغة الفرنساوية ، والنصف الثاني العزف على البيانو. وطباخو أمراء الإنكليز إنما هو فرنسيس ، وكذا شرابهم وجلّ تحفهم ، وأهل الحوانيت يكتبون على كل شيء أنه فرنساوي كما مر ذلك ، فما معنى اتساع لندرة إذا وكثرة دكاكينها ، وسعة طرقاتها وتعدد مراكبها وزحامها وضجيجها وجلبتها؟ وليس فيها من يحسن عمل الخردل ، وليس في مطاعمها مرقة في الشتاء ولا سلاطة في الصيف ، ولا أرز ، ولا عدس ، ولا حمص ، ولا فول ، ولا مقر ، وإنما هو الشواء والبطاطس ، أو شيء من البقل مسلوق سلقا.

طعامهم وطريقتهم في الأكل

ومن الغريب أنهم إذا طبخوا البطاطس مع اللحم سموه إداما إرلانديا ، وملؤه من الفلفل والأبازير حتى يحرق اللسان ، وإذا جلس أحد فيها للغداء رأى بينه وبين جيرانه حاجزا من خشب حتى لا يقع التعارف بينهم ، وهو أشبه بحاجز الحيوانات التي يجمعونها في بستان النباتات ، وترى كلا منهم قد جلس للطعام وبيده صحيفة أخبار يطالعها ، وإذا أراد أخذ شيء من بين يديك تلقفه من غير أن يستأذنك فيه ، خلافا لما تفعل الفرنسيس وغيرهم ، على أن كثيرا من هذه المطاعم يأكل الناس فيها

٤٨٧

وهم وقوف ، فكأنما هم جماعة يهود يأكلون خروف الفصح.

المقاهي وروادها

فأما محال القهوة فأكثرها مجتمع الأراذل ، فترى فيها واحدا راقدا وآخر سكران ، وآخر وسخا. وإذا طلبت فنجان قهوة خلطوا القهوة بالحليب والسكر في محل لا تراه ، وقدموه لك هكذا ، فلا تدري ما وضع فيه.

ملاحظات ومآخذ

فيا ألفي ألف ، ونصف ألف ألف من الناس ، متى تعيشون في هذه الدنيا الصغيرة عيشة مائتين ونصف مئة ، من سكان القرى في فرنسا وإيطالية والشام وبرّ مصر؟ بأن تأكلوا خبزكم غير مخلوط بالبطاطس والشب وجبس باريس ، ولحمكم طريئا سليما لا من حيوان أصابه داء فذبح ، ولا مما يرد إليكم من أمريكا موضوعا في الثلج ، ولا مما خمّ وأنتن فتحشون به المصارين والحوايا؟ فلعمر الله إن كان هذا الغش نتيجة التمدن والترقي في العلوم فللجهل خير ، فإن أهل بلادنا والحمد لله على جهلهم ما يعرفون شيئا من هذه الفنون الكيمياوية ، والأخلاط غير المتناهية التي توجب على الشاري أن يستصحب معه مرآة من المرايا المكبرة ليرى بها تلك الأجزاء والمركّبات فيما يؤكل ويشرب في وطنكم هذا السعيد ، أو ما كفى أن هواكم مخلوط بالدخان؟ وشتاءكم يدوم ثمانية أشهر تقضى بالإصطلاء على نار الفحم الحجري؟ وما أدراك ما الفحم الحجري ، وبخوض الوحول واستنشاق الضباب ، حتى زدتم على هذا البلاء الطبيعي بلاء صناعيا تعافه الحيوانات ، فإن الكلاب والسنانير تأبى أكل هذه الجباجب (٣٥٢) التي تحشونها بلحومهن.

ثم أقول أو لم يكف أن نسّاجيكم وخيّاطيكم وأساكفتكم وصاغتكم وصباغيكم

__________________

(٣٥٢) الجباجب : جمع جبجبة ، وهي الكرش يجعل فيها اللحم المقطع يغلي ثم يقدّد (م)

٤٨٨

وسائر أهل الصنائع منكم ، يغشّون ويموّهون ويلبّسون ويشبّهون ويضلّون ويغوون ، فما يدرى الحرير عندكم من القطن ، ولا الجديد من القديم المصبوغ ، ولا المخيط من الملصق!؟ وأن المومسات يتطاولن على الرجال ويشممنهم المسبت ثم يسرقنهم.

المسبت (الكلوروفورم)

والمراد بالمسبت هنا الدواء الذي يقال له كلوروفورم أو أثير. قيل إن خاصيته كانت معروفة عند الكيماويين الأقدمين وذلك من سنة ١٦٨١ ، وأول من عثر عليه في التاريخ المذكور كنكل. وأول من عرف خاصيته في الإسعاط ثوماس مرطون من بوستان في أميريكا ، ثم استعمله دكطر سيمصون في أيدنبرغ ، ومن بعده دكطر جامس روبنصون في إنكلترة ، ثم شهر في سائر الممالك ، ونشأ عنه الموت بعض الأحيان ، وفائدته تغييب الموجع عن حسّ ما يؤلمه ، حتى أنه يمكن للجراح أن يقطع عضوا منه أو يحرقه ولا يشعر به ، وقد استعملته الملكة عند ولادتها غير مرة.

عودة للملاحظات والمآخذ

وإن منكم نباشين للقبور يسرقون أكفان الموتى ويبيعونها ، وإن الأولاد يختلسون في كل طريق مظلم وفي كل زحام ، وإن سفلتكم عارون عن الأدب والحياء ودأبهم التعدّي على الغريب والإساءة إليه. وإن كثيرا من بيوتكم القديمة وحيطانكم العهيدة تتهدم وتسقط على الناس فتهلكهم ، وإنه قد يمكث الإنسان عندكم شهرا ولا يرى الشمس إلا مرة أو مرتين ، وإن ربيعكم أبرد من شتائكم وصيفكم أمطر من خريفكم. وإنه لا فرجة عندكم ولا مشهد ولا موسم ولا ملهى ، إلا ويغص باللئام الطغام والأوباش والأوغاد والسفلة الأرذال ، حتى عمدتم إلى إفساد ما خلقه الله منا لمأكول والمشروب طيبا مريئا ، أفليست لكم ألسنة تذوق هذا الرجس وتنطق بالحق ، وحلوق تستبشع ذلك الخبيث من الطعام كما تستفظع حروف الحلق؟ فإن كان خلو لغتكم عنها هو مسبّب من استطيابكم لهذا الخبيث ، فمناها الله بضعفيّ ما في لغتنا منها.

٤٨٩

أهكذا علّمكم أهل الشرق أن تختبزوا الخبز مخلوطا بأصناف شتّى؟ أهكذا علّمكم أهل فرنسا أن تطبخوا هذه اللحوم المنتنة في مطاعمكم وتخفوا فسادها بكثرة الفلفل والأفحاء؟(٣٥٣) أهكذا علّمكم باسكت الرومي في سنة ١٦٥٢ أن تصنعوا القهوة مخلوطة بجميع أنواع الحبوب؟ فما معنى كثرة دكاكين الكتب والمؤلفات التي لا عدد لها عندكم في كل فن وصنعة ، وأنتم لا تحسنون أن تطبخوا بضيعة من اللحم ببويقة من البقل؟ فكل لحم مشوي وكل بقل مسلوق ، ويا ليت كان ذلك اللحم لحما وذلك البقل بقلا ، فاعجب أيها القارئ من أن هؤلاء الناس الذين يملكون ما ينيف على ٠٠٠. ٥ باخرة ، منها ما هو أكبر من فلك نوح كما زعموا ، وعندهم أكثر من ٠٠٠. ٢ صحيفة للأخبار ، منها ما يطبع في كل يوم ومنها في كل أسبوع ، لا يعرفون أن يأكلوا ، وليس لهم ذوق يعرفون به الطيب من الخبيث من الطعام ، ويرضون أن يأتيهم رجل من فرنسا أو إيطاليا ليبيعهم الخردل والخل والجبن مما يجلبه من بلاده ، وليس منهم في تلك البلاد أحد يعلّم أهلها من صنعة الطبخ ، فكل شيء دخل في حلوقهم طاب استراطه ، وكل ما عرض للبيع في حوانيتهم حلّ بيعه وشراؤه بحيث يؤدّى عليه مكس للدولة ، وإني لأعجب كيف أنهم لا يختبزون خبزا من البطاطس وحدها ، أو من الشعير وحده ، أو من الأسماك كما في إيرلاند؟ وكيف لا يتّجرون في طين الأرض القريبة من المسكوب الذي يقال إنه يختمر مع الدقيق!؟ وقد حان لي الآن أن أختم الكلام على لندرة فيما يؤول إلى المأكول والمشروب ، وأذكر ما فاقت به سائر مدن العالم فيما يطبع فيها من صحف الأخبار والكتب.

الصحافة في لندرة

فأقول إن أول جرنال في الدنيا بأسرها هو الجرنال المسمّى تيمس ، ومعنى هذه اللفظة الأوقات ، ومعنى الجرنال يومية ، وهي لفظة فرنساوية. وهذه الصحيفة تحوي جميع أخبار المسكونة ، إلا أني رأيت فيها عيبا كبيرا وهو عدم استقصاء أخبار البلاد

__________________

(٣٥٣) الأفحاء : جمع فحا ، وهو ما يتبل به الطعام كالفلفل والكمون ونحو ذلك (م)

٤٩٠

الشرقية وسائر الممالك الإسلامية ، فإذا كان فيها خبر عنها فإنما هو مخصوص بالتجارة ، ولها عدة كتّاب ، وكاتب جملها السياسية يعدّ من أعظم أدباء الإنكليز ، ومرتبه في السنة أكثر من ألف ليرة ، وهذا الجرنال هو لسان الأمة والدولة. ويليه الجرنال المسمّى مورنن أدفرتيسر ، ومعناه معلن الصباح ، وهو لسان الرعية وكأنه نقيض ذاك.

حرية الصحافة بين لندن وباريس

وفي لندرة أكثر ٣٢٠ جرنالا للأخبار الطارئة والأدبيات والعلوم ، ووزن ما يطبع منها في كل يوم وكل أسبوع يبلغ في الأسبوع من ٢٥٠ إلى ٣٧٠. وفي باريس ٣٥٠ صحيفة للأخبار ، إلا أن كتابها مقيدون عن الجري في مضمار الكلام فليس لهم حرية كما لكتاب الإنكليز ، فإن هؤلاء يشهرون في أخبارهم كل ما استحسنوه واستقبحوه ، وليست هذه الرخصة لأصحاب جرنالات فرنسا. وكذلك يشهرون كل ما حدث في مجلس المشورة من المذاكرات والمفاوضات بأن يبعث كل رئيس جرنال كاتبه إلى المجلس ، ويكتب ما يقال فيه حرفا حرفا. ولهم في ذلك طريقة غريبة يسمونها اليد القصيرة (٣٥٤) ، فإن الكلام يكتب مختصرا بنوع من الإشارة ، ولو لا ذلك لم يكن ممكنا للكاتب أن يستوعب جميع الأقوال. وكل ما حدث شيء في قصر الملكة يطبعونه ، حتى أنهم لا يتحاشون من أن يكتبوا أنها حبلى وأنها تلد في الشهر الفلاني. وفي بعض هذه الصحف أن الملكة أهدت إلى أحد العسكر منديلا من حرير ، وفيه رقعة مضمونها أنه مكفوف بيد ابنتها الكبيرة ، ولو كان مثل ذلك يشاع في بلادنا لأصبح مشغلة للألسن كما سبقت الإشارة إليه. وأفحش ما يكون من تلك الجرنالات الجرنال المسمى بول بري ، قرأت فيه في عدد ١٦ ما نصه : «إن كان الله قد قصد أنّ منحه في هذا الأمر تكون غير مستعملة ، فلم منحنا إياها؟ وإن كان إنما قصد أن تكون مستعملة من المتزوجين فقط ، فلم آتاها غير المتزوجين أيضا؟ أم

__________________

(٣٥٤) يقصد بهذه الطريقة ما يسمى اليوم بالاختزال (م)

٤٩١

يقول قائل لا خشية له من الله إنه إنما أعطانا إياها ليبلونا بها ، أفليس هذا يفضي إلى أن نجعله ممتحنا؟ إلا أني لا أبرئ المتزوجين في استعمالهم هذه المنح في غير محلها. أمّا الاقتران الطبيعي بين الرجل والمرأة وهما غير متزوجين وليسا من عائلة واحدة ، فحلال شرعي ، والحاصل أن شرائعنا الأدبية حائدة عن الصواب ، وأن الفضيلة على ما تفهمها العامة شين وتدليس». إلى أن قال : «فكل امرأة غير متزوجة يحل لها على مذهبي أن تخالط أيا شاءت من الرجال ، من دون خوف من أن توسم بالعار والفضيحة أو الخروج عن الأدب ، ولو جرت العادة بأن تعيش الرجال مع النساء من دون زواج ، لأغنانا ذلك عن كثير من الشرور التي تحدث بين المتزوجين كالسم والقتل ونحوه ، بل عن كثرة المومسات وعمّا يقاسين من الموبقات والرذائل. وفي بعض الجرنالات من بعض العامة إلى كاتب الجرنال ما نصه : «اسمح لرجل مسكين أن يقول كلاما وجيزا على أمر موجب لشكوى الإنكليز ، فأقول إنّا معاشر أهل إنكلترة ما برحنا معنّين بما لقينا من مصاريف الحرب الأخيرة ومن المكوس التي لا تطاق ، ومع ذلك فقد خطر الآن ببال بعض أهل الدولة طريقة أخرى لإفقار الرعية ، وهي إمداد مملكة أجنبية بمال سمّى جهاز ابنة الملكة ، وناهيك أن ملكتنا لما تزوجت أحضرت إلى رعيتها رجلا لا ثروة له ، وأن ملك البلجيك رتّب له وظيفة تجري عليه من أهل هذه المملكة ، وما ذلك إلا لكونه تزوّج بنت الملك جورج فصارت بلادنا موردا لصيادي البخت والجدة ، وإنها لتبقى كذلك ما دام جلب المال هينا على طالبيه ، أو ليس لملكتنا من الإيراد الجزيل ما يقدرها على أن تقوم بمؤنة ذريتها؟ ولو أنها قترت على نفسها قليلا لأمكنها أن تجهزهم ، إن كان لا يوجد من كرام الناس من يتزوجهم لمجرد المحبة ، وكيف كان فمن الظلم الواضح أن يكلف أهل بلادنا إغناء بلاد أجنبية. ألا ترى أن لي زوجة وعشرة أولاد ، وأن إيرادي كله لا يزيد على ١١٠ ليرات ، أؤدي منها لتنظيف البلدة شيئا ، ولأجل الفقراء شيئا ، وللكنيسة شيئا ، ولغيرها شيئا ، فهل إذا أردت أن أزوّجهم يجهزهم أهل الشورى عني؟ .. إلخ.

٤٩٢

اعتماد الصحف على الإعلان

وثمن هذه الجرنالات كلها مع ما فيها من الأخبار والفوائد ، ومع حسن طبعها وورقها، لا يفي بثمن الورق فقط ، وإنما يكسب أصحابها من الإعلامات التي يطبعونها للتجار وغيرهم فعلى سطرين أو ثلاثة من هذه الإعلانات خمسة شلينات.

بدايات الصحافة المطبوعة في الغرب

وأول طبع بالبخار ظهر في مطبعة التيمس وذلك سنة ١٨١٤ ، وأول جرنال طبع في بلاد الإنكليز كان في أكسفورد وذلك في سنة ١٦٦٥ ، وكان ديوان الملك يومئذ هناك لأجل الطاعون الذي وقع في لندرة ، فلما رجع إلى لندرة سمّي ذلك الجرنال كازت ، وذلك بعد التاريخ المذكور بسنة واحدة وبقي هذا الاسم خاصّا بالجرنال المشتمل على أخبار الدولة ، والمصالح الملكية ، فلا معوّل في أخبارها إلّا عليه ، فهو بمنزلة المونيتور في باريس. وأصل اسم الكازت أنه في سنة ١٦٢٠ طبع في صحيفة في فينيسيا أخبار مختلفة ، وكانت تشرى بقطعة من الدراهم تسمّى كازتة فلزمها هذا الاسم. وكان اشتهار الجرنال في فرنسا سنة ١٦٣١ ، وفي جرمانيا سنة ١٧١٥ ، وفي دبلين سنة ١٧٦٧ ، وأول جرنال اشتهر في هولاند كان في سنة ١٧٣٢ ، وفي أميريكا سنة ١٧١٩ ، وعدد جرنالات هذه ٨٠٠ منها ٥٠ جرنالا تطبع في كل يوم ، وجملة نسخها ٦٤ مليون. وأول ما يصح تسميته بجرنال لاشتماله على أخبار عمومية في بلاد الانكليز ، هو ما طبع في سنة ١٦٦٣ وبقي كذلك نحو ثلاث سنين ثم خفي بظهور الكازت. وفي زمان الملكة اليصابت وذلك سنة ١٥٨٨ شهر أيضا شيء مثله ولكنه لم يكن على هذا النسق. وأعجب العجب كثرة أوراق التعريف والإعلان في هذه المدينة في كل موضع يباح فيه إلصاقها ، وقد يستخدم بعض التجار خدمة مخصوصين ليطوفوا بها ويفرقوها على المارين مجانا ، وما أحد يريد أن يأخذها ، ومنها ما يطبع بحروف فاحشة الكبر حتى يمكن قراءتها من مسافة بعيدة.

٤٩٣

اختراع الطباعة

أمّا صناعة الطبع فقد اختلفت الأقوال في مخترعها ، فبعض المؤرخين نسبها إلى منتز ، وبعضهم إلى استرازبورغ وهارلم ، وبعضهم إلى فينيسيا ورومية ، وبعضهم إلى فلورنسه وباسيل. وفي رواية أدريان جونيوس أن مخترع الطبع هو يوحنا كستر من هارلم ، طبع على خشب كتابا فيه حروف وصور على وجه واحد ، وذلك في سنة ١٤٣٨. قال وفي سنة ١٤٤٢ أنشأ يوحنا فوست مطبعة في منتز وطبع فيها كتابا ، وزعم بعض أن أول كتاب طبعه كان كتاب المزامير. وقال آخر لا شك أن الطبع على قطع الخشب كان معروفا عند أهل الصين ، وذلك قبل تاريخ النصارى بأحقاب عديدة. وكذلك كان معلوما عند الرهبان في بلاد الإنكليز وفي غيرها من بلاد أوربا ، فإنهم كانوا ينقلون الكلام من ورقة إلى أخرى على الخشب ، ولكن كان ذلك قليلا. فأما استعمال هذه الحروف مصفوفة واحدا بعد واحد فلم يعرف إلّا في متأخر الزمن.

دخول التمدن والمعارف إلى بلاد الإفرنج

قال ولم يكن أحد في الزمن القديم يشتغل بالعلم وبترجمة الكتب والنسخ إلّا الرهبان ، فهم الذين أدخلوا التمدن والمعارف في بلاد الإفرنج. وكانت رومية وبلاد اليونان معدن الكتب والعلوم ، وكان الصكصونيون آباء الإنكليز يسافرون مسافات بعيدة في طلب العلم ، وتحصيل بعض تلك الكتب النادرة ويشترونها بثمن غال ، وعند رجوعهم يترجمونها إلى اللغة الصكصونية ، وكانت الناس تتنافس فيها لندرتها غاية المنافسة ، وكان للأسقف «ولفريد» نسخة من كتاب الإنجيل مكتوبة بحروف من ذهب على ورق أرجواني ، فكان يضعها في صوان من ذهب مرصّع بالجواهر النفيسة. وما عدا هؤلاء الرهبان فلم يكن أحد من العامة من يحسن الكتابة غير أفراد قليلين ، وناهيك أن توقيع «وليترد» ملك «كنت» على مجلة كان علامة الصليب ، وأمر كاتبه بأن يكتب تحتها أن الملك إنما رسم تلك العلامة بدلا من اسمه لجهله الكتابة.

٤٩٤

الدانيزيون وعداؤهم للعلم

ولو لا تخريب الدانيزيين وتدميرهم لكان العلم بين الصكصونيين قد تقدم كثيرا ، إلّا أن ملوك البحر أولئك كانوا على جانب عظيم من الجهل والجفاء ، وكانوا وهم على أصنامياتهم ينظرون إلى الصكصونيين المسيحيين كأنهم مرتدّة ، لأنهم كانوا أولا مثلهم عبدة أوثان ، ولهذا كانوا يرون أن فروض دينهم توجب عليهم إبادة أديار الرهبان وكتبهم ، وما كانوا يعرفون شيئا من جهة السماء سوى أنهم يشربون فيها المزر في جماجم أعدائهم ، ويأكلون من مأكول لا ينقص الآكل منه شيئا مهما أكل ، فمن ثم أتلفوا كتبا كثيرة كانت كلفت الصكصونيين أتعابا عظيمة في تحصيلها ، ولو أنها بقيت لنا لكنا ندري منها أمورا كثيرة نجهلها في تاريخ جميع البلاد.

عودة إلى الطباعة وانتشارها

قال واتفق في القرن الخامس عشر أن شابا اسمه «جون غانسفليش» ويعرف بغاتنبرغ ، من صقع سلغيلوش ، سافر إلى استراسبورغ وكانت مشهورة حينئذ بأنها سوق الكتب ، فأخذ يفكر في إحداث طريقة لتكثيرها ، فخطر بباله أنه إذا صنع حروفا تتركب وتنحل يبلغ بها أربه ، ثم رجع إلى ماينس ، واجتمع برجل اسمه فوست فتواطئا على إبطال نسخ الكتب لما فيه من المشقة بطريقة الطبع بتلك الحروف ، فسبكاها كما خطر لهما وكان ذلك في سنة ١٤٤٠ ، إلّا أن عملهما هذا لم ينتج فائدة إلّا بعد عشر سنين ، ويظن أن تلك الحروف كانت من رصاص أضيف إليه بعض أجزاء كيمياوية لجعلها صلدة قابلة للعمل المراد ، ثم دخل في شركتهما بطرس شوفر ، ثم طبع غاتنبرغ عدة كتب من جملتها التوراة المعروفة الآن بتوراة مازارين ، وقد راج بيعها واشتهارها كثيرا حتى إنه كان يقال إن طبعها من عمل الشيطان. وفي سنة ١٨٣٧ نصب له مثال على قبره إكراما له ، وأرسلت نواب من جميع دول الإفرنج لتحضر مشهده. ولما تفرّق الذين كانوا مستخدمين في مطبعته ذهب بعضهم إلى سوبياكر في إيطاليا فاشتهرت هذه الصناعة فيها في سنة ١٤٦٥ ، ثم سرت إلى باريس

٤٩٥

وذلك في سنة ١٤٦٩ ، وبعد سنة اشتهرت في إسبانيا ، وبعد نحو خمسين سنة عمّت جميع أوربا. ويظهر مما قاله بادان أحد مشاهير الطباعين في باريس في أوائل القرن الخامس عشر ، وكذا مما قاله شكولوكر الإنكليزي أن الأمهات والأبهات في تلك الحروف لم تختلف كثيرا عن المستعمل منها الآن ، وكانت العادة إذ ذاك أن سبك الحروف مختصّ بالطبّاعين فقط ، وفي سنة ١٦٣٧ صدر حكم من ديوان الإنكليز بأن لا يزيد عدد الطباعين على أربعة نفر ، وأنه إذا مات منهم أحد لا يقوم آخر في محله إلّا بإذن رئيس أساقفة كنتربري ، وفي سنة ١٦٩٣ حين صدرت المجلة بإقرار حقوق الأهلين بطل هذا الحكم.

الرقابة وحرية الطبع

وكانت الكتب سابقا تفحص قبل أن تطبع ثم يكتب على صفحة عنوانها «تطبع». وفي سنة ١٧٩٥ أطلقت الحريّة في الطبع من دون فحص ، وأمر بأن تطبع أسماء الطبّاعين في أوائل الكتب وأواخرها.

اشتهار الطباعة في بلاد الإنكليز وتطورها

وأول من شهر الطبع في بلاد الإنكليز كاكسطون وذلك نحو سنة ١٤٧٤ ، وكان قد سافر إلى البلاد الواطئة وحصل معارف كثيرة ، وأول كتاب طبعه كان «تاريخ طروة» ترجمه من اللغة الفرنساوية ، وكان جامعا لثلاث خصال جليلة ، وهي كونه مؤلفا ، وطبّاعا ، وناشرا ، وبسعيه ومعارفه حصل له في أدب لغة الإنكليز تقدم عظيم. إلا أن هذه الصناعة الجليلة كانت غير عامّة المنفعة عندهم ، وخصوصا أنهم كانوا يشترون الحروف من بلاد أوربا القارّة ولا سيما من هولاند ، إلى أن قام كسلون في أوائل القرن الماضي وسبك حروفا حسنة وكثر الأدوات. وفي سنة ١٧٢٠ استخدمته الجمعية المعروفة بجمعية انتشار المعارف المسيحية في سبك حروف عربية ، ثم اشتهر صيته في الآفاق حتى صار أهل البلاد القارّة يستمدون منه ، فلما مات باعت زوجته ما

٤٩٦

كان عنده من الحروف لجمعية العلوم في باريس ، فكانوا يطبعون بها أجلّ المؤلفات في الأدب والعلم. ثم قام دكطر فري وسبك حروفا في جميع اللغات المشرقية ، ويقال إنه سبك في مسبك برسكيف أربعمائة شكل من الحروف الهجائية ، وإن بروبنكاندة رومية مع شهرتها ليس فيها أكثر من ذلك ، وسبك أيضا في معمل ديدو في باريس أبدع ما يمكن صوغه من الحروف في العالم بأسره ، حتى إن بعضها لا يمكن قراءته إلا بالزجاجة المكبرة. وكيفما كان فإن طبّاعي الإنكليز في عصرنا هذا لا يعلو عليهم أحد. ثم إن أحد النمساويين واسمه هركونك رأى أن الطبع بالبخار غير مستبعد ، فعرض رأيه على أهل بلاده فأعرضوا عنه ، فقدم إلى بلاد الإنكليز وأسعفته جماعة منهم لإجراء ما قصده ، فصنع آلة صغيرة طبع بها ألف صحيفة في ساعة واحدة بمساعدة ولدين فقط ، فلما تحقق صحة استعمالها عزم على اتخاذ آلة كبيرة لطبع الأخبار ، فرآها صاحب جرنال التيمس فواطأه على أن يصنع له آلتين مثل تلك ولكن أكبر منها ، وفي سنة ١٨١٤ طبع في ذلك الجرنال إعلان بأنه مطبوع بقوة البخار. ثم قام جماعة وحسّنوا هذه الآلة ، فكان يطبع بها على الوجهين في كل ساعة من ثمانمائة صحيفة إلى تسعمائة ، وكانت الآلة المفردة تطبع على وجه واحد في كل ساعة ألفا وأربعمائة صحيفة. ثم قام مستر لتل واخترع آلة مزوجة يطبع بها في الساعة من عشرة آلاف صحيفة إلى اثني عشر ألفا. وفي بلاد أميريكا مطبعة تطبع في الساعة عشرين ألف صحيفة ما بين جرنال وغيره.

أهمية اختراع الطبع

وفي الحقيقة فإن جميع ما اخترع من الصنائع في هذا العالم هو دون صناعة الطبع. نعم إن الأقدمين بنوا أهراما ، ونصبوا أعلاما ، وشادوا هياكل ، وحصنوا معاقل ، وحفروا خلجانا وأقنية للماء ، ومهدوا مسالك للعساكر ، إلا أن صنائعهم تلك بالنسبة إلى صنعة الطبع إن هي إلا درجة ترق فوق درجات الهمجية ، فإنه بعد اشتهار الطبع لم يبق احتمال لإضاعة المعارف التي ذاعت وشاعت ، أو لفقد الكتب كما كانت الحال حين كانت تكتب بالقلم. وقد قيل إن المعرفة قدرة ، فإن المتصفين

٤٩٧

بالمعارف وهم الأقل يتولون الأمور ، ويسوسون الجمهور وهم الأكثر.

اختراع الورق وتطور صناعته

أمّا إحداث الورق ، فقال فلتير إنه كان في القرن الحادي عشر ، إلا إنه كان مشهورا في الصين من عهد لا يعلمه إلا الله ، وهو أبيض رقيق يتخذونه من البمبو المغلي ، أو من قصب السكر. قال وقد عرف استعمال الزجاج عندهم من ألفي سنة. وقال آخر إن إحداث الورق في الصين عرف في سنة ١٧٠٠ قبل الميلاد ، وفي سنة ١٠٠٠ بعد الميلاد كان يصنع من القطن ، وفي سنة ١٤١٩ صار يصنع من الخرق. وأول من صنع الورق الأبيض الخشن في بلاد الإنكليز رجل نمساوي وذلك في سنة ١٥٩٠ ، وقبل وليم الثالث كان الإنكليز يشترونه من فرنسا وهولاند ، فكانوا يصرفون كل سنة في ثمنه ٠٠٠. ١٠٠ ليرة. فلما قدم بعض الفرنسيس إلى هذه البلاد للاستئمان علّموا الإنكليز صنعة الورق ، وكانوا من قبل ذلك يصنعون ورقا خشنا أسمر. وفي سنة ١٦٩٠ صنعوا الورق الأبيض باليد ، واتخاذه بالآلة كان من مخترعات لويس روبرت ، ثم باعها لطبّاع اسمه ديدو ، فجاء بها هذا إلى بلاد الإنكليز ومن ثم شهر استعمالها ، وفي سنة ١٨٤٠ صنع بها طلحيّة (٣٥٥) بلغ طولها ٨٠٠. ١٣ قدما ، وعرضها أربع أقدام. أمّا الورق المنقوش الذي يلصق على الحيطان فكان إحداثه في إسبانيا وهولاند في سنة ١٥٥٥. فأما البابيروس وهو الورق المتخذ من القصب ، فكان يصنع في مصر والهند إلى أن عمل الرق ، وذلك في سنة ١٩٠ قبل الميلاد ، وكان بتولومي قد منع إخراجه من مصر ، وعليه كتب تاريخ يوسيفوس وهي نسخة جليلة ثمينة ، أخذها نابوليون من جملة ما أخذ وبعث بها إلى باريس ، وفي سنة ١٨١٥ ردّت إلى موضعها.

__________________

(٣٥٥) الطلحيّة : الورقة من القرطاس (م)

٤٩٨

فصل في الستي

مركز لندن التجاري

قد تقدّم الكلام على هذا الخط من حيث اشتماله على أعظم المباني الكائنة في لندرة ، فإن البنك والبوسطة والبورس ، وديوان الضابط وداره ، ودار السكة وكنيسة مار بولس ، جميعها فيه. وهو في الواقع لندرة القديمة وما بني من بعده فهو حادث. وبقي الآن هنا أن أقول إن هذا الخط الفريد هو مركز الأشغال العظيمة والمبايعات الجسيمة لأغنياء تجار الإنكليز ، فما من بناء فيه إلا وهو مصدر للحركة والعمل ، وما أحد يخطو فيه إلا للكسب والشغل ، ولا يتحرك به لسان إلا للنفع والفائدة ، ولا تطلع عليه شمس ولا يوقد فيه نور إلا للسعي ، ولا يخلج صدر مخلوق خاطر إلا للتحصيل والاقتناء ، فترى كل واحد من أهله فاتحا عينيه وفمه لأكل الدنيا وما فيها ، وكثيرا ما ترى في مسالكه مصحبين (٣٥٦) يحدّثون أنفسهم فيما هم فيه من المباشرة للأعمال ، فهنا تجد الغلام شيخا في معرفة الإدارة ، والشيخ غلاما في النشاط والاستعداد ، والشاب قبيلا (٣٥٧).

مركز عالمي لتجارة الجملة

وكيفما توجهت وأينما سلكت رأيت نهم الخلق وحرصهم شاغلا لحواسهم الباطنة والظاهرة بالحرث والادخار ، وليس من قطر في الدنيا إلا ويمدّه أهل هذا الخط بالبضاعة والمهمات ، وهو وإن خلا عن الحوانيت الرحيبة البهيجة مما يرى في سائر شوارع لندرة ، إلا أن الأرباح التي تجنى هنا في يوم واحد لا تجنى في غيره في شهر ، لأن العقود الخطيرة والمراسلات الجزيلة إنما تصدر عن هذا المشغل الحافل. ولا يخفى ن التاجر الذي يراسل تجار البلاد الأجنبية ويبعث لهم ، ويجلب من عندهم ،

__________________

(٣٥٦) المصحب بكسر الحاء : المستقيم الذاهب لا يتلبّث ، والرجل يحدّث نفسه. وبفتح الحاء : المجنون (م)

(٣٥٧) القبيل : الجماعة (م)

٤٩٩

يربح أكثر من التاجر الذي يقعد في حانوته وينتظر شاري شقة من الحرير ، أو ثوب من الخز.

تجار أغنياء وليسوا ظرفاء

ومن هؤلاء التجار من يكسب في السنة نحو مليون ليرة كذا قيل ، ومنهم من له عدة سفن تجري في البحر من بلد إلى بلد ، ومنهم من يستخدم في إدارة مصالحه مائة شخص ، وقد ذكرنا سابقا أن واحدا من هؤلاء له محل في إرلاند فيه أربعة آلاف من الرجال والنساء لعمل القمصان لا غير ، وأن تاجرا مات وخلّف سبعة ملايين ليرة. ولا بد لكل منهم من أن يكون له كتّاب وحسّاب وصيرفي وما أشبه ذلك ، والغالب أن يكون له محترف يشتمل على ثلاث حجرات ، إحداهما للأشغال الخاصة به ، والثانية للكتّاب ، والثالثة مشتركة لهم ، ولوضع الرواميز والمتاع ونحوه. ولا شك أن تجار لندرة عموما ، وتجار هذا الصقع خصوصا ، أغنى من جميع تجار أوربا ، إلّا أنهم دونهم في الظرف والكياسة وعبارتهم ركيكة ، بخلاف تجار فرنسا فإنهم مشاركون لذوي العلم والدراية ، وعبارتهم وإن تكن دون عبارة علمائهم ، إلّا أنها بالنسبة إلى كلام تجار الإنكليز عالية.

الفرق بين تجارنا وتجارهم

كما أن عبارة هؤلاء بالنسبة إلى عبارة تجار بلادنا في غاية الفصاحة ، ولعمري إن تاجرا يكتب : لق ، أي لا. وقمضه ، أي الإمضاء. والسالسي ، أي الثالثة. ومنقول ، أي نقول. وأعرض عن هذا الشيء ، أي عرض هذا الشيء. والخصارة ، أي الخسارة. ونبتدي بحسابا جديدا ، وبخيرا وعافية ، والسارره ، وغث علينا ، وحظونا على ، وفولابت ونحو ذلك ، لجدير بأن يستحي من حرفته. ومن العجيب هنا أن العالم قد يسهو أحيانا ويغلط ، ومثل هؤلاء التجار لا يغلطون أبدا في تأدية عبارة واحدة على حقّها ، فقد قرأت أكثر من ألفي رسالة وردت منهم ، فلم أر فيها ولا جملة واحدة

٥٠٠