مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

التعريف ، فإن قيل عند انتفاء معانيها الحقيقية لا يصدق الجواز أيضا ؛ لأن معنى صحة الإرادة للشيء صحة صدق الكلام في ذلك الشيء ولا صدق حالة الانتفاء ، وليس المراد صحة إرادة اللافظ بلفظه شيئا وإن كان كذبا لوجود مثل هذه الصحة في المجاز.

قلنا : لا نسلم عدم صحة الصدق عند الانتفاء ، وإنما يتحقق عند الانتفاء عدم الصدق على تقدير الإرادة ، لا عدم صحته ضرورة أن الموصوف بهذه الكنايات يصح أن توجد له تلك الأمور بمعنى أن هذه الأمور تجوز في حقه ، وإذا جازت جاز الصدق بتقدير وجودها ، وإذا جاز الصدق جازت إرادة ما يصح فيه الصدق. نعم ، لو كانت هذه المعاني مستحيلة ورد ما ذكر ، وأيضا لو حمل الكلام على ظاهره من أن الكناية يراد بها المعنى الأصلي ولازمه معا ـ كما هو ظاهر عبارة السكاكي في بعض المواضع كغيره ـ لزمت صحة الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي في الكناية.

وظاهر مذهب المصنف المنع أي منع الجمع بين المجازي والحقيقي مطلقا ؛ لقوله في المجاز : مع قرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي ، وإنما قلنا ظاهر مذهبه المنع إلخ ؛ لأنه لا يمكن أن يحمل كلامه على معنى مع قرينة مانعة عن إرادة الأصل فقط ، فالممنوع إرادته فقط ، وأما إرادتهما معا فلا يمتنع على هذا ، فلا يرد البحث ، ولكن عليه تدخل الكناية في حد المجاز كما لا يخفى.

ويجاب عن هذا بتقدير وروده بأن الذي لا يصح أن يراد به المعنى المجازى والحقيقي هو المجاز الخاص الذي هو غير الكناية ؛ إذ هو المشترط فيه مصاحبة قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي لا مطلق المجاز الصادق بالكناية بناء على أنها ليست واسطة بين المجاز والحقيقة كما تقدم ، فإن أحد معنييها على هذا مجازي مجامع للحقيقي ، ويدل على ذلك مقابلته ذلك المجاز بالكناية ، وأما الجواب عن هذا بأن الممنوع الجمع على أن يستوي المعنيان في الإرادة لا على أن يكون المجازي أرجح في الإرادة كما في الكناية ففيه بحث من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن قوله مع قرينة مانعة إلخ لا يخرج الكناية عن تعريف المجاز حينئذ كما لزم من الحمل على غير الظاهر كما تقدم ؛ لأنه على هذا يكون المعنى مع قرينة

٤٤١

مانعة من إرادة الأصلي على وجه التساوي ، فيكون الداخل في المجاز هو ما يصحبه قرينة تمنع من التساوي في الإرادة بأن تصحبه قرينة ترجح أحد المعنيين ، فإذا صحبته قرينة التساوي ، أو قرينة لا مرجحة ولا مسوية ، فذلك هو الخارج عن تعريف المجاز.

ومن المعلوم أن الكناية ليس في تعريفها إلا صحة إرادة المعنيين ، وذلك صادق بذي القرينة المرجحة ، الذي هو المجاز على ذلك التعريف وبغيره ، فتكون الكناية أعم ، ويلزم على هذا التقدير أن لا يصح إخراجها ولا مباينتها ، وعموم الحد أنواع المجاز غير الكناية إلا بجعل أنواع المجاز غير الكناية لا بد فيها من قرينة مرجحة ، وجعل الكناية مختصة بالقرينة المسوية ، أو بالتي هي لا مرجحة ولا مسوية ، ومعلوم أن هذا من التحكم الذي لا دليل عليه.

وثانيها : أنه إن أريد بالترجيح الذي يكون في الكناية كون المعنى المجازي هو المقصود وإليه ينصرف التصديق والتكذيب والحقيقي واسطة ؛ فالمجاز كذلك ؛ إذ لا يمتنع أن يقصد الإشعار به لينتقل منه إلى المراد الذي نصبت القرينة عليه ، وإن أريد به كونه أهم ، ولكن يراد الحقيقي معه بحيث ينصب إليه التصديق والتكذيب ، فهذا مما لا يتحقق ، إذ ما ينتفي الصدق بانتفائه لا تتحقق أهمية غيره عليه ، وعلى هذا فما تقدم من أن الفرق بين ما يفهم منه باللازم ولا يكون كناية وما يفهم منه ويكون كناية ، أن الأصلي في الأول هو المقصود بالذات ، واللازم في الثاني هو المقصود ، ينبغي أن يحمل على معنى أن الذي ينصرف إليه التصديق والتكذيب هو الأصلي في الأول ، واللازم في الثاني لا أنهما ينصرف التصديق والتكذيب إلى الملزوم واللازم فيهما معا إلا أن أحدهما أهم ، تأمل.

وثالثها : أن ذلك على تقدير تسليمه لا يدل عليه اللفظ في تعريف المجاز ، ولا في تعريف الكناية ، بل يحتاج إلى وحي يسفر عنه فبطل الجواب به ، فافهم.

وههنا بحث لا بد من التنبه له وهو أن المراد بجواز إرادة المعنى الحقيقي في الكناية هو أن الكناية من حيث إنها كناية أي : من حيث إنها لفظ أريد به لازم معناه بلا قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، لا تنافي ذلك ، بمعنى أنها من حيث اقتضاء

٤٤٢

حقيقتها عدم نصب القرينة المانعة لا تنافى جواز إرادة المعنى الأصلي ، كما أن المجاز من حيث اقتضاه حقيقة نصب القرينة المانعة ينافيه ، لكن قد يمتنع ذلك أي قد تمتنع تلك الإرادة في تلك الكناية ، لا من حيث إنها كناية ؛ لأنها من تلك الحيثية لا تمنع لعدم نصب القرينة بل من حيث خصوص المادة لاستحالتها ، ولا ينافي ذلك كون اللفظ كناية ، فيجوز أن يكون اللفظ لا تنصب معه قرينة مانعة من المعنى الأصلي ، فيكون كناية لصحة المعنى الأصلي ، ثم يعرض له المنع لكون الأصلي في خصوص الجزئية المستعمل فيها اللفظ مستحيلا ، ولا ينافي ذلك كونه كناية ؛ لأن مقتضى حقيقتها وهو أن لا تنصب القرينة على المنع كما في المجاز ما زال مستصحبا كما ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(١) أنه من باب الكناية من حيث إن السلب أو الإثبات عن المثل يستلزم عرفا بعاضد العقل السلب أو الإثبات عن مماثلة ، كما في قولهم مثلك لا يبخل ، فإن نفى البخل عمن كان مثلك وعلى أخص وصفك يستلزم نفيه عنك ، وإلا لزم التحكم في نفي الشيء عن أحد المثلين دون الآخر ، فيعتبرون أنهم إذا نفوا البخل عمن يماثل الإنسان ، وعمن يكون على أخص وصفه ، فقد جعلوا النفي لازمه ، ويلزم من كونه ، أعني : نفي البخل لازما لأحد المثلين كونه لازما للآخر لاستواء الأمثال في اللوازم ، وهذا كما يقال : بلغت أترابه جمع ترب بكسر التاء ، وهو القرن أي : بلغت أقرانه يريدون بذلك بلوغه ؛ لأن البلوغ إذا ثبت لمن هو قرنه ومثله في السن ، وصار لازما لذلك القرن ، فقد ثبت له لمساواته لذلك القرن في السن وإلا لزم التحكم والخروج عن المعتاد ، فليس كالله شيء وليس كمثله شيء عبارتان متعاقبتان على معنى واحد ، وهو نفي المماثلة عن ذات الله العلي الكبير ، وإن كان مضمون الأول بالمطابقة نفى أن يكون شيء مماثلا له تعالى ، ومضمون الثانية أن يكون شيء مماثلا لمثله إلا أنه يلزم من نفي كون الشيء مماثلا لمثله بالمطابقة نفي كونه مماثلا له تعالى ، إذ لو كان ثم مماثل له تعالى كان مماثلا لمثله ضرورة أن ما ثبت لأحد المثلين ثابت للآخر ، وإلا افترقت لوازم المثلين ، فمفاد العبارتين واحد إلا أن الثانية تفيد المعنى بطريق

__________________

(١) الشورى : ١١.

٤٤٣

الكناية التي هي أبلغ من الحقيقة لإفادتها المعنى بطريق اللزوم الذي هو كادعاء الشيء ببينة فإذا كان قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) كناية ولا يخفى فيه أن المعنى الأصلي وهو أن يكون له تعالى مثل ، ومن هو على أخص وصف له نفى عنه مماثلا لينتقل من ذلك إلى أنه تعالى نفى عنه المثل مستحيل في خصوص هذه المادة التي استعمل لها اللفظ ، وهو نفي المماثل عنه تعالى فإنه لا يمكن أن يثبت معها مماثلة تنفي معها مماثلة بخلاف ما لو استعمل مثل هذا الكلام في مادة أخرى ، كأن يقال : ليس كمثل زيد مثل فإنه لا يستحيل أن يكون لزيد مثل ينفى عنه المثل لينتقل منه إلى نفي المثل عن زيد ، وإن كان اللفظ يعود إلى نفي المماثلة أيضا على كل حال لعموم النفي إلا أنها لا تستحيل في ذات هذه المادة ، ولكن ما ذكر من أن الكناية لا ينافيها المنع من قبل المادة والتمثيل لذلك بقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فيه بحث من وجهين :

أحدهما : أن الامتناع المادي من أقوى الأمارات على عدم إرادة الأصلي ؛ إذ لا تختص قرينة المجاز بالأمور اللفظية فليكن قرينة مانعة من الإرادة ، فالأولى أن نحو ذلك من المجاز المتفرع عن الكناية بمعنى أن اللفظ قد يكون كناية لصحة المعنى الأصلي به كثيرا ، فإذا عرضت الاستحالة جعلت قرينة على منع الإرادة فعادت مجازا ، وهذا هو المطابق لما أشرنا إليه فيما تقدم من أن عدم الوقوع بدون الاستحالة لا يمنع الكناية ؛ إذ معه الجواز بخلاف الاستحالة ، وقد يجاب عن هذا بأن الاستحالة إنما تكون قرينة إن كانت ضرورية لا ما إذا كانت بالدليل ؛ لأن الدليل قد يخفى عن السامع ؛ فيحمله على الظاهر ، والقرينة لا بد من وضوحها.

والجهة الثانية : أن الاستحالة في المثال مبنية على أن مفاده هو : أن ثم مثلا موجودا نفى عن ذلك المثل الموجود مماثلا له ، إذ من المعلوم أن وجود المثل له تعالى محال ، وهذا إنما يجري على أن السلب عن الشيء يقتضي وجوده ، وليس بمرضي بل المرتضى أن السلب يستلزم وجود المسلوب عنه فنفي المثل عن مماثله تعالى لا يستلزم أن له مماثلا حتى يكون محالا ، بل يستلزم فرضه وإن كان محالا ؛ ليفهم من نفي المثل عنه نفيه عنه تعالى ، فعلى هذا لا تمنع مادة المعنى من حيث النفي فليفهم ؛ فإن هذا المعنى من

٤٤٤

الغوامض على الأفهام ، ولما قدم الفرق المسلم عنده بين المجاز والكناية ، وهو أن الكناية معها جواز إرادة الأصل بعدم نصب القرينة المانعة ، والمجاز ليس معه ذلك بنصبها أشار إلى فرق آخر بينهما وإلى الاعتراض الوارد عليه فقال : (وفرق) يحتمل أن يكون مبنيا للمجهول وهو الأقرب ؛ لعدم تقدم الفاعل ، والمفرق بما سيذكره هو السكاكي وغيره ، ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، والفاعل هو ضمير السكاكي للعلم به من أن الكلام في المباحثة إنما هو معه غالبا (بأن الانتقال) أي : فرق السكاكي وغيره بين المجاز والكناية بأن الانتقال (فيها) أي : في الكناية إنما هو (من اللازم) إلى الملزوم كما إذا قيل : فلان طويل النجاد كناية عن طول القامة فإن طول القامة هو الملزوم والأصل وطول النجاد هو اللازم والفرع ، فقد انتقل في هذه الكناية من اللازم الذي هو طول النجاد إلى الملزوم الذي هو طول القامة ، لا يقال طول القامة لا يستلزم طول النجاد لصحة أن لا يكون له نجاد أصلا ، فكيف يكون ملزوما؟ لأنا نقول اللزوم عرفي أغلبي وذلك كاف مع وجود القرينة (و) الانتقال (فيه) أي : في المجاز إنما هو (من الملزوم) إلى اللازم كما إذا استعمل لفظ الغيث لينتقل من تصور معناه الذي هو الملزوم إلى معنى النبات الذي هو اللازم ، والملزوم هنا أيضا أغلبي وعرفي وهو كاف مع القرينة ، وكذا إذا استعمل لفظ الأسد لينتقل منه إلى لازمه بالقرينة وهو الرجل الشجاع ، وقد تقدم أن اللازم في الحقيقة هو معنى الجراءة ، لكن لما لا بست الرجل أيضا انتقل من الأسد بواسطة القرينة إلى الرجل المقيد بالجراءة ، فصار الأسد ملزوما والرجل الشجاع لازما بانضمام القرينة إلى الرجل المقيد بالجراءة ، فصار الأسد ملزوما والرجل الشجاع لازما بانضمام القرينة (ورد) هذا الفرق (بأن اللازم ما) دام (لم يكن ملزوما) بأن بقى على لازميته (لم ينتقل منه) إلى الملزوم ، وذلك لما تقرر أن اللازم من حيث إنه لازم أي يلزم من وجود غيره وجوده ، يجوز أن يكون أعم من ملزومه ضرورة أن مقتضى لازميته أن وجود غيره لا يخلو عنه ، فغيره إما مساو أو أخص ، وأما أن وجوده لا يخلو من وجود غيره حتى يكون هو مساويا أو أخص فلا دليل عليه فجاز أن يكون أعم كالحيوان للإنسان فلا يخلو الإنسان من الحيوان ، وقد يخلو الحيوان من الإنسان ، وإذا صح أن يكون أعم فلا دلالة للأعم على الأخص ، وإنما ينتقل من اللازم إلى الملزوم إن كان ذلك اللازم ملزوما لذلك

٤٤٥

المنتقل إليه بأن يكون مساويا أو أخص ، إما بنفسه كالناطق للإنسان فإنه ولو كان يتبادر منه أنه لازم للإنسان هو ملزوم له لمساواته له ، فيلزم من وجوده وجود الإنسان ، أو بواسطة قرينة كقولنا كناية عن المؤذن : رأيت إنسانا يلازم المنار ؛ فإن الإنسان الملازم للمنار فيما يتبادر ملازم للمؤذن ، ويصح أن يكون أعم منه ؛ لصحة ملازمة المنار لا للأذان لكن قرينة العرف دالة على أنه المؤذن ؛ لأن ذلك هو الغالب المتبادر فيشكل على أنه المفهوم عرفا ، فهذا لازم أعم صار ملزوما بالقرينة ، وقد يمثل للازم بالقرينة بنحو قولك : رأيت أسدا في الحمام ؛ لأن الأسد باعتبار القرينة التي هي كونه في الحمام مساو للرجل الشجاع أو أخص منه ، وفي هذا التمثيل مخالفة لما تقرر في نحو هذه الاستعارة من أن الملزوم هو الأسد والرجل الشجاع لازمه باعتبار القرينة لا العكس ، وهو أن الرجل الشجاع يستلزم الأسدية العامة حتى تخصص بالقرينة ، وإنما يعتبر ذلك عند روم التشبيه ؛ لأنه يخطر الرجل الشجاع فينتقل منه إلى الأسدية فيشبه بها ، وأما بعد التجوز فالأمر بالعكس لكن البحث في المثال خطبه سهل.

(وحينئذ) أي إذا تقرر اللازم ما دام لم يكن ملزوما (يكون الانتقال من الملزوم) إلى اللازم لا من اللازم إلى الملزوم ؛ إذ الغرض أن الانتقال لا يحصل حتى يكون المنتقل منه ملزوما ، فينتقل منه من حيث إنه ملزوم لا من حيث إنه لازم والمجاز كذلك ؛ لأن الانتقال فيه من الملزوم إلى اللازم ، فلا يقع الفرق بينهما بما ذكر من أن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم ، وفي المجاز من الملزوم إلى اللازم إذ الفرض أن اللازم لا ينتقل منه إلا إذا كان ملزوما ، فاتحد المجاز والكناية في المنتقل عنه وإليه ، وهذا الرد يتأكد على السكاكي ؛ لاعترافه بأن اللازم ما لم يكن ملزوما يمتنع الانتقال منه ، وقد أجيب عن هذا بأن مراده بالانتقال من اللازم في الكناية مع تصريحه بأنه لا بد أن يكون من الطرفين بحيث يستلزم كل منهما الآخر وأن ذلك من خواصها وشرط لها دون المجاز فإنه يصح حيث يكون اللزوم من الطرفين ، وحيث يكون من أحدهما فينتقل من الملزوم منهما إلى اللازم ، وليس مراده أن الكناية ينتقل فيها من اللازم من حيث إنه لازم إلى الملزوم ؛ لأنه لا يصح لإمكان عمومه كما ذكرنا فلا يريده لمناقضته لما ذكر ،

٤٤٦

وهو أن اللازم ما لم يكن ملزوما لم ينتقل منه ، ولكن هذا الجواب ضعيف ؛ لأن فيه حمل السكاكي على ما هو تحكم محض ، إذ لا دليل على الاختصاص ، ويبعد ارتكاب السكاكى التحكم المحض ؛ فالتماس جواب آخر أقعد ، وقد أجيب أيضا بأن مراده باللازم في قوله : إن الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم ما يكون وجوده على سبيل التبعية لوجود الغير ، وما يكون اعتباره فرعا عن الغير كطول النجاد النابع وجوده في الغالب لطول القامة والتابع اعتباره لاعتبار طول القامة ، وكنفي مثل المثل التابع اعتباره وجريانه في الألسن لنفي المثل فإنهما ولو تلازما في نفس الأمر الأول فهما أكثر اعتبارا وأسبق ملاحظة ، ويدل على هذا أمران : اشتراطه في اللازم أن يكون ملزوما فإن ذلك يدل على أن اللازم لا يبقى على معناه ، وتجويزه كون اللازم أخص.

واللازم من حيث إنه لازم ليس إلا مساويا أو أعم ، وإنما يكون أخص ما يكون تابعا ورديفا في الوجود والاعتبار ، ومثل له بالضاحك بالفعل للإنسان فجعله لازما مع أنه أخص يدل على أن معنى لزومه تبعيته في الوجود للإنسان ؛ فالكناية على هذا أن يذكر من المتلازمين ما هو تابع ورديف ، ويراد به ما هو متبوع ومردوف ، والمراد بالمتلازمين ما بينهما لزوم في الجملة لا ما بينهما التلازم الحقيقي ، وهو ما يكون من الجانبين بدليل أنه قد ينتقل من الأخص إلى الأعم ، والمراد بالرديف نفس التابع كالمثالين ، ويحتمل أن يراد بالتابع ما يتبع وجوده وجود الغير كطول النجاد لطول القامة ، والضحك بالفعل للإنسان ، وبالرديف ما يعتبر بعد الآخر ولو تحقق معناه مع الآخر ، كنفي مثل المثل لنفي المثل ؛ لأن اعتبار الثاني واستعماله قبل الأول ؛ لأنه أصرح وأكثر دورا على اللسان فيسمى رديفا لاستناده للآخر مع مساواته له في الصحة والتحقق في نفس الأمر ، والخطب في ذلك سهل.

وإذا كانت الكناية ما ذكر فالمجاز بالعكس وهو أن يقال : إن المجاز هو أن يذكر أحد اللذين بينهما لزوم ، وهو المتبوع والمردوف والملزوم ، ويراد به اللازم والتابع والرديف ، وفي هذا الجواب أيضا نظر ؛ لأن نحو النبات مما يكون تابعا مع التلازم قد يطلق على نحو الغيث مجازا مرسلا ، كما نصوا عليه.

٤٤٧

فلو اختصت الكناية بالتابع كان مثل ذلك من الكناية ، وقد مثلوا به للمجاز ونصوا على أنه منه ، وأجيب عن ذلك برعاية الحيثية في نحو النبات يستعمل في الغيث ، وذلك بأن يقال : إذا استعمل النبات في الغيث مثلا من حيث إنه رديف للغيث وتابع له في الوجود غالبا كان كناية ، وإن استعمل فيه من حيث اللزوم الغالب كان مجازا مثل ما تقدم ، وهو أن اللفظ الواحد يجوز أن يكون مجازا مرسلا واستعارة باعتبارين ، ومع هذا كله لا يخلو الكلام من مطلق التحكم ؛ لأن تخصيص الكناية بالتبعية والمجاز باللزوم مما لم يظهر الدليل عليه ، إلا أن يدعي أن ذلك تقرر بالاستقرار وقرائن أحوال المستعملين ، ثم لا يخفاك أن المراد باللزوم هنا ـ كما تقدم غير ما مرة ـ مطلق الارتباط ولو لقرينة وعرف ، لا اللزوم العقلي الذي هو امتناع الانفكاك ، ثم أشار إلى أقسام الكناية بعد تعريفها فقال :

أقسام الكناية

(وهي) أي الكناية من حيث هي (ثلاثة أقسام) ووجه القسمة أن المعنى المطلوب بلفظ الكناية أي الذي يطلب الانتقال من المعنى الأصلي إليه إما أن يكون غير صفة ولا نسبة ، أو يكون صفة ، ونعني بالصفة الصفة المعنوية لا النعت النحوي ، أو يكون نسبة والقسمة حاصرة ف (الأولى) أي القسم الأول من هذه الأقسام ، وعبر عنه بصيغة التأنيث مع أن لفظ القسم مذكر نظرا إلى أن المعبر عنه بهذه الصيغة الكناية وهي مؤنثة ، أو باعتبار القسمة أي : القسمة الأولى من هذه الأقسام المنسوبة للكناية هي (المطلوب) أي : الكناية التي يطلب (بها) ما هو (غير صفة) وقد تقدم أن المراد الصفة المعنوية.

(ولا نسبة) هو عطف على صفة ، وزاد لا لأن المعطوف بعد غير منفي ، ويجوز تأكيد نفيه بزيادة لا ، ومعنى كون الكناية يطلب بها ما ذكر ، أن يقصد الانتقال من الشعور بمعناها الأصلي إلى الفرع الذي استعملت هي فيه وسيأتي معنى طلب الصفة وطلب نسبتها ، ثم أشار إلى قسمي هذه الأولى بقوله (فمنها) أي : ثم إن الأولى المطلوب بها غير الصفة وغير النسبة منها (ما) أي قسم (هي معنى واحد) وأنث الضمير باعتبار

٤٤٨

أن معناه الكناية ، والمراد بوحدة المعنى هنا أن لا توجد هنالك أجناس من المعاني لا ما يقابل التثنية والجمعية الاصطلاحية بدليل المثال الآتي ، ثم لا يخفى ما في كلامه من التسامح وهو إطلاق الكناية على المعنى الأصلي ، وإنما هي كما تقدم لفظ كان له معنى حقيقي أطلق لينتقل منه إلى لازمه ، ولكن لما كان الانتقال من معنى اللفظ سمى المعنى كناية ، وذلك كما إذا اتفق أن للشيء صفة اختصت به ، فيذكر لفظ تلك الصفة ليتوصل بتصور معناه إلى ذلك الموصوف أي : إلى ذاته لا إلى وصف من أوصافه أو إلى نسبة من النسب المتعلقة به ، فيصدق حينئذ أن المطلوب بلفظ تلك الصفة الذي جعلناه كناية غير الصفة والنسبة ؛ إذ هو ذات الموصوف ، وإنما اشترطنا في الصفة المكنى بها الاختصاص لما تقدم أن الأعم لا يشعر بالأخص وإنما يستلزم المطلوب ما يختص به بحيث لا يكون أعم بوجوده في غير وذلك (كقوله : الضاربين) (١) أي : أمدح الضاربين (بكل أبيض) أي بكل سيف أبيض (مخذم) بضم الميم وسكون الخاء وفتح الذال المعجمة وهو القاطع (والطاعنين) أي : أمدح الطاعنين ، أي : الضاربين بالرمح (مجامع الأضغان) والمجامع جمع مجمع اسم مكان من الجمع ، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد ، فمجامع الأضغان كناية عن القلوب ، فكأنه يقول : والطاعنين قلوب الأقران لإجهاز نفوسهم بسرعة ، وهو أعني المجامع معنى واحد ، إذ ليس أجناسا ملتئمة وإن كان لفظه جمعا ، وذلك المعنى صفة معنوية مختصة بالقلوب ؛ لأن مدلولها كون الشيء محلا تجتمع فيه الأضغان ، ولا شك أن هذا المعنى مختص بالقلوب ، إذ لا تجتمع الأضغان في غيرها ، لا يقال مصدوق قولنا مجمع الضغن هو القلب ، وإطلاق اللفظ على مصدوقه حقيقة فليس هذا من الكناية ؛ لأنا نقول : لم يطلق المجمع على القلب من حيث إنه مجمع الضغن ؛ إذ لا يقصد الإشعار بهذا المعنى فيه ، إذ المضروب ذاته لا من حيث هذا المعنى ، فالمفهوم من مجمع الضغن عند إطلاقه لم يرد ، وإنما أتى لينتقل منه إلى ذات القلب

__________________

(١) البيت لعمرو بن معد يكرب ، فى الإشارات ص (٢٤٠) ، والإيضاح ص (٢٧٣) بتحقيق الدكتور / عبد الحميد هنداوى.

٤٤٩

فالمفهوم من اختصاصه جعل كناية عن ذات المقصود ، ومثل هذا يتصور في كل صفة جعلت كناية عن ذات المقصود فليفهم.

(ومنها) أي : ومن الأولى وهي التي يطلب بها غير الصفة والنسبة (ما) أي : قسم (هي مجموع معان) وأنث الضمير لما تقدم ، والمراد بجمعية المعاني ما يقابل الوحدة السابقة ، وذلك بأن توجد أجناس أو جنسان من الصفات يكون ذلك المجموع هو المختص بالمكنى عنه الموصوف ، فيتوصل بمجموعها إليه بحيث تكون كل صفة لو ذكرت على حدة لم ينتقل منها إلى الموصوف المكنى عنه لعمومها ، وكيفية ذلك أن يضم لازم إلى لازم آخر ، أو إلى لازمين فأكثر ، فيذكر المجموع فينتقل من مفهومهما الغير المقصود بالذات إلى ذات الموصوف (كقولنا : كناية عن ذات الإنسان) بدا لنا مثلا (حي مستوى القامة عريض الأظفار) فإنه لو كنى عن الإنسان باستواء القامة وحده شاركه فيه بعض الشجر إذ المراد باستواء القامة نفي الاعوجاج ، ولو كنى عنه به وبالحي لساواه التمساح كما قيل : ولو كنى بعرض الأظفار وحده أو بعرض الأظفار مع الحي ساواه الجمل مثلا ، بخلاف مجموع الأوصاف الثلاثة يختص بها الإنسان ، فكانت كناية : نعم ، عرض الأظفار مع استواء القامة يغني عن حي بل قيل الحي مع استواء القامة يغني عن عرض الأظفار ؛ إذ لا يوجد حي كذلك خلاف ما قيل في التمساح وكذا الأفعوان ؛ لأن المراد بالقامة ما يكون إلى أعلى لا ما يمتد على الأرض وشبهه والخطب في هذا سهل.

وتسمى هذه الكناية خاصة مركبة ، وتقدم ما يندفع به ما يتوهم من أن الأوصاف صادقة على المكنى عنه فتكون حقيقة لا كناية (وشروطهما) أي : وشرط هاتين الكنايتين وهما قسما الأولى وأفرادها محصورة فيهما ، وإن كان التعبير بمن لا يفي الحصر ، واتكل في ذلك على ما علم من أن الإفراد والجمعية لا واسطة بينهما على ما تقدم.

(الاختصاص بالمكنى عنه) أي شرط كون القسمين كناية اختصاص المعنى الواحد المكنى به بالمكنى عنه ، كما تقدم في مجامع الأضغان ، واختصاص المجموع من

٤٥٠

المكنى بالمكنى عنه كما في قوله حي إلخ كناية عن الإنسان ، وهذا لا يختص بهاتين الكنايتين اللتين هما قسما الأولى ، بل كل كناية كذلك إذ لا يدل الأعم على الأخص ، ولا ينتقل من الأول إلى الثاني ، وإنما نص على ذلك فيهما تذكرة لما علم ، لئلا يغفل فيتوهم أن الأوصاف أو الصفة ينتقل منها إلى الموصوف مع عموم مفهومها فتخرج بذلك التوهم هذه عن قاعدة الكناية.

والأولى من هاتين أعنى ما هي معنى واحد ينتقل منها إلى الموصوف جعلها السكاكي قريبة أي : سماها قريبة بمعنى أنها سهلة المأخذ ، أي : الأخذ بمعنى أن محاول الإتيان بها يسهل عليه تناولها ، ويسهل على السامع الانتقال فيها ، كما يسهل على المتكلم الإتيان بها بعد إدراك وجه الانتقال فيها ، وإنما سماها سهلة ؛ لبساطتها وعدم التركيب فيها فلا يحتاج فيها إلى ضم وصف إلى آخر ، والتأمل في المجموع حتى يعلم اختصاص هذا المجموع بلا زيد ولا نقص.

وجعل الثانية بعيدة المأخذ والانتقال ؛ لتوقفها بالنسبة للآتي بها على جمع أوصاف يكون مجموعها مختصا بلا زيد ولا نقص ، وذلك يحتاج إلى التأمل في عموم وخصوص وتوقف الانتقال على ما ذكر ، وكلما توقف الانتقال على تأمل أو الإتيان عليه كان ثم بعد ، وقد علم من هذا أن مراده بالقرب سهولة الانتقال والتناول للبساطة ، وبالبعد صعوبتهما للتركيب ؛ لأن إيجاد المركب والفهم منه أصعب من البسيط غالبا ، وليس المراد بالقرب هنا انتفاء الوسائط والوسائل بين الكناية والمكنى عنه ، وبالبعد وجودها كما سيأتي ؛ فالبعد والقرب هنا خلافهما بهذا المعنى الآتي ، وإن كان يمكن مجامعتهما لما يأتي ؛ لصحة وجود البساطة بلا واسطة ، ووجود التركيب مع الوسائط ، وقولنا : للبساطة وللتركيب للإشارة إلى أن الصعوبة والسهولة نسبيان يحصل كل منهما في الغالب مما نسبا له ، وإنه وإن كانت ثم صعوبة أو سهولة لشيء آخر عارض فهما يندرجان فيما يأتي على ما سيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى فتأمل.

(والثانية) من أقسام الكناية هي (المطلوب) أي : التي يطلب (بها صفة) من الصفات بمعنى أن ما قصد إفادته وإفهامه بطريق الكناية هو صفة من الصفات ويعني بها

٤٥١

المعنوية لا خصوص النعت النحوي كما تقدم ، ومعنى طلب الصفة دون النسبة أن يكون المقصود بالذات هو إفهام معنى الصفة في صفة أخرى أقيمت مقام تلك ، فصار تصور المثبتة المكنى عنها هو المقصود بالذات ؛ لأن نفس إثباتها كالمعلوم من وجود نسبة المكنى بها ، وأما طلب النسبة دون الصفة ففي ما إذا صرح بالصفة وقصد الكناية بإثباتها لشيء عن إثباتها للمراد فيصير الإثبات بسبب ذلك هو المقصود بالذات ، وإذا قصدت النسبة والصفة معا فلعدم وجود العلم بإحداهما أو ما يقوم مقامه ، والحاصل أن النسبة إن كانت معلومة أو كالمعلومة للتعرض لها في ضمن صفة كنى بها عن أخرى فالمطلوب تصور الأخرى التي أثبتت في ضمن إثبات ما أفهمها ، فتكون الكناية لطلب الصفة وإن كانت الصفة معلومة أو كالمعلومة وكنى بإثباتها لشيء لينتقل إلى إثباتها للمراد ، فالمطلوب ذلك الإثبات وتكون الكناية لطلب النسبة وإن جهلا معا بناء على صحته ، وقصد الانتقال لهما فالمطلوب هما معا ، وتكون الكناية لطلب الصفة والنسبة معا على ما سيأتي ؛ فالصفة لا تخلو من النسبة ، والنسبة لا تخلو من الصفة ، ولكن اختلفا في الاعتبار والقصد الأولى وعدمه فافهم ، ففي المقام دقة.

فإذا تقرر هذا فالمطلوب بها الصفة كأن يذكر جبن الكلب لينتقل منه إلى الجود ، وكأن يذكر كثرة الرماد لينتقل منه لذلك ، وكذا ما أشبه ذلك ، وإنما كان هذا مما طلبت به الصفة على ما قررناه ؛ لأن النسبة التي هي إثبات المنتقل إليه ولو تقرر في نفس الأمر إذ هو المطلوب ، لما ناب عنه إثبات المنتقل عنه وهو الإثبات من جنس ذلك صارت الفائدة ، والحاصل إدراك معنى المثبت الذي هو الكرم لا إثباته.

(وهي) أعني المطلوب بها صفة (ضربان : قريبة وبعيدة) ثم أشار إلى هذا التفصيل فيها أعني بيان قريبها وبعيدها مرتبا له على ذكرها إجمالا فقال : (فإن لم يكن الانتقال) من الكناية إلى المطلوب الذي هو الصفة المكنى عنها ؛ لأن الكلام في الكناية المطلوب بها صفة (بواسطة) بين المنتقل عنه وإليه ، وذلك بأن يكون الذي يعقب إدراك المعنى الأصلي والشعور به هو المكنى عنه (ف) تلك الكناية (قريبة) لانتفاء الوسائط التي يبعد معها غالبا زمن إدراك المكنى عنه عن زمن الشعور بالمعنى الأصلي ، ولما كان معنى

٤٥٢

القرب هنا عدم الوسائط أمكن أن يكون المعنى المكنى عنه خفيا بالنسبة إلى الأصل وأن يكون واضحا ، ولهذا انقسمت القريبة إلى الواضحة والخفية ، وإلى هذا أشار بقوله : والقريبة المذكورة قسمان لأنها إما (واضحة) لكون المعنى المنتقل إليه يسهل إدراكه بعد إدراك المنتقل منه ؛ لكونه لازما بينا بحسب العرف أو القرينة أو بحسب ذاته (كقولهم : كناية عن طول القامة طويل نجاده) أي : كقولهم فلان طويل نجاده برفع النجاد على أنه فاعل طويل ، والضمير المضاف إليه عائد على الموصوف حال كون هذا القول كناية عن طول القامة ، ولا شك أن طول النجاد اشتهر استعماله عرفا في طول القامة ففهم منه اللزوم بلا تكلف إذ لا يتعلق بالإنسان من النجاد إلا مقداره ، وليس بينه وبينه واسطة فكانت واضحة قريبة ، وكانت كناية عن صفة ؛ لأن النسبة هنا مصرح بها ، وإنما المقصود بالذات صاحبها وهو الوصف فكان كناية مطلوبا بها صفة (و) مثل هذا في كونه كناية مطلوبا بها صفة هي قريبة واضحة قولهم مثلا فلان (طويل النجاد) بإضافة الصفة إلى النجاد إذ الموصوف بالطول باعتبار المعنى في المثالين هو النجاد لا فلان ، وإنما عدد المثال ليشير إلى الفرق بينهما بقوله (والأولى) أي : والكناية الأولى وهي قوله طويل نجاده برفع النجاد كناية (ساذجة) أي : خالصة لا يشوبها شيء من التصريح بالمعنى المقصود ؛ لأن الفاعل بطويل هو النجاد لينتقل منه إلى طول قامة فلان فإن قلت : إذا كان الذي أثبت له الصفة هو النجاد ، فلم يتقدم الإثبات للموصوف الذي هو النسبة ، فتكون هذه كناية طلبت بها صفة ونسبة معا؟ قلنا : الإخبار بالطويل عن زيد الذي طلبت له الصفة إثبات له ، ولا يضر كون الإثبات في الحقيقة لسببيه ؛ لأن الإثبات اللفظي الحاصل بالإخبار مع كون النجاد الذي أسند إليه سببيه ينزل منزلة الإثبات الحقيقي ، فأغنى ذلك عن طلب الإثبات الذي هو النسبة.

(وفي الثانية) وهي قوله : طويل النجاد بإضافة الصفة إلى النجاد (تصريح ما) بالمقصود الذي هو طول القامة ، فكانت كناية مشوبة بالتصريح ، وإنما كان فيها تصريح ما (لتضمن الصفة) التي هي لفظ طويل (الضمير) وإنما تضمنت الصفة الضمير ، لكونها مشتقة فهي بمنزلة الفعل لا تخلو من الضمير والضمير عائد على الموصوف ، وكأنه

٤٥٣

قيل : فلان طويل ، ولو قيل كذلك لم يكن كناية ، بل تصريحا بطوله الذي هو طول قامته ، فلما لم يصرح بطوله لإضافته إلى النجاد ، وأومأ إليه بتحمل الضمير كانت كناية مشوبة بالتصريح ولم تجعل تصريحا حقيقيا كما جعل قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) تشبيها حقيقة كما تقدم لا استعارة مشوبة بالتشبيه ؛ لأن الموصوف في نفس الأمر بالطول ، والمقصود نسبة الطول إليه كما اقتضت قواعد العربية هو المضاف إليه ، وتحميل الصفة للضمير إنما هو لرعاية الأمر اللفظي ، ونعني بالأمر اللفظي هنا : ارتكاب ما حكمت به قواعد الإعراب من أن المشتق لا بد له من الضمير ، ولو لم يكن الضمير هو المقصود بالوصف في نفس الأمر ، وصح لنا أن نحمله ضمير غير الموصوف لقضاء ما اقتضته القواعد ؛ لأن موصوفه الحقيقي سببى صاحب الضمير فكأنه هو ، ولما كان الموصوف حقيقة هو النجاد صار بمنزلة طويل نجاده ، فكانت مشوبة بالتصريح لا تصريحا ، والدليل على أنا حملناه الضمير وهو فاعله لفظا لا أنه مضاف لفاعله لفظا بل لفاعله معنى أنا نقول هند طويلة النجاد بتأنيث الصفة نظرا لهند ، والزيدان طويلا النجاد بتثنيتها نظرا للزيدين ، والزيدون طوال النجاد بجمعها نظرا للزيدين فقد أنثنا الصفة وثنيناها وجمعناها لزوما ؛ لإسنادها إلى ضمير الموصوف فوجبت مطابقتها للموصوف ، ولو أخليناها عن ضمير الموصوف ما جرت عليه بالمطابقة ؛ لأن الصفة المسندة لغير ضمير ما جرت عليه لا تطابق ما قبلها ، وقد تقرر ذلك في محله ، ولذلك نفردها مذكرة حيث يكون ما أسندت إليه يقتضي فيها ذلك ، ولو كان الموصوف بها لفظا مؤنثا أو مثنى أو مجموعا فنقول : هند طويل نجادها فتذكر الصفة لا طويلة ؛ لأنك أسندتها إلى النجاد لا إلى ضمير هند ، والزيدان طويل نجادهما ، والزيدون طويل نجادهم بالإفراد بعد التثنية والجمع لإسنادها إلى المفرد وهو النجاد لا إلى ضمير المثنى والمجموع ، بخلاف ما إذا أسندتها لضمير ما قبلها فتجب مطابقتها ، ولذلك قلنا : إن فيها شوبا من التصريح ، وقد تقدم وجه جعلها كناية لا تصريحا محضا فإن قلت : قد قررت بما ذكر أن نحو : النجاد في نحو المثالين هو

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

٤٥٤

الموصوف ، وتحمل الضمير لرعاية حق الاشتقاق وإلا فمفاده ليس هو المقصود بالوصف ؛ لتكون الصفة كناية ، وإنما جعلناه في منزلة الموصوف للسببية بينه وبين الموصوف فقضينا به حق الاشتقاق وصحح ذلك سببيته ؛ إذ لا يصح تحمل المشتق ضمير أجنبي من كل وجه غير معتبر الوصفية بحال من الأحوال ، وإلا كان في التركيب تخاذل ومنافاة ، فهل لأحد التركيبين محل يحسن فيه دون الآخر أو هما سواء؟ وإنما كل منهما بالنسبة إلى الآخر تفنن في التعبير ، قلنا : التركيب الذي فيه الإضافة وفيه يوجد تحمل الضمير ، ويوجد فيه شوب من التصريح إنما يحسن إذا حسن جريان الصفة بنفسها على الموصوف بوجود السببية المصححة للجريان عرفا كقولك : فلان حسن الوجه بالإضافة ، إذ يحسن عرفا فيمن حسن وجهه أن يقال : هو حسن ، أو لا يحسن جريانها بنفسها ولكن يحسن جريان ما نابت عنه كقولك : فلان أبيض اللحية بالإضافة فإنه لا يحسن أن يقال لمن ابيضت لحيته : إنه أبيض ، ولكن يحسن أن يوصف بما نابت عنه هذه الصفة وهو الشيخوخة ، إذ يحسن أن يقال : هو شيخ ، ومثل ذلك فلان كثير البنين أي : متقو ، وأما إذا لم يحسن جريانها على الموصوف عرفا ولا جريان ما نابت عنه لعدم نيابتها عما يحسن لم يحسن تركيب الإضافة ، وإنما يحسن الإسناد إلى السببى بعد الصفة كقولك فلان أحمر فرسه ، وأسود ثوره ؛ إذ لا يحسن أن يقال فيمن حمر فرسه : إنه أحمر ، ولا فيمن سود ثوره : إنه أسود فقد ظهر أن تركيب الإضافة له محل لا يحسن فيه ، وتركيب غير الإضافة ظاهر كلام النحويين أنه يحسن في كل محل فكأنه أعم محلا فافهم.

(أو خفية) هو معطوف على واضحة أي : الكناية المطلوب بها صفة إن لم يكن الانتقال بها بواسطة فهي إما واضحة كما تقدم ، وإما خفية وخفاؤها لكون الانتقال فيها لا بواسطة فهي إما واضحة لا تحتاج إلى تأمل في المراد حتى يستخرج من خزانة الحفظ ، أو يستخرج بالقرينة وهي خفية الدلالة ، وذلك حيث يكون اللزوم بين المكنى به وعنه فيه غموض ما فيحتاج إلى إعمال روية في القرائن ، وفي سر المعاني ليستخرج المقصود منها وذلك (كقولهم : كناية عن الأبله) فلان (عريض القفا) والقفا مؤخر

٤٥٥

الرأس ، وعرضه يستلزم عظم الرأس غالبا ، والمقصود هنا العظم المفرط ؛ لأنه هو الدال على البلاهة ، وأما عظمه بلا إفراط بل مع اعتدال فيدل على علو الهمة والنباهة وكمال العقل ، ولذلك وصف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدلالة عرض القفا على البلاهة فيه خفاء ما ؛ لأنه لا يفهمه كل أحد ، ولكنه يفهم عند من له اعتقاد في ملزميته للبله ، فإن قلت : من له الاعتقاد لا خفاء بالنسبة إليه ، ومن لا اعتقاد له لا كناية باعتباره ؛ إذ لا يفهم المراد أصلا قلت : المراد بالخفاء هنا كثرة الجاهلين باللزوم ، فالمعنى أنها من شأنها أن تخفى لكثرة الجاهلين ، وعلى المتكلم بها أن لا يخاطب إلا من يظن اعتقاده فإن لم يصادفه حصل خفاء ، ولكن هذا بينه وبين قولهم يفهمها بإعمال الروية منافاة ما إلا أن يحمل على أنه قد يفهم بالقرينة الآن ، ولو لم يتقدم له اعتقاد ، ويحتمل أن يكون الخفاء على بابه ، وأنه باعتبار المخاطب والمتكلم ؛ إذ لا يلزم من تقدم اعتقاد اللزوم حضوره حال الخطاب ، فيجوز أن يكون بعض المعاني المخزونة يدرك لزومها بمطلق الالتفات ، فلا تخفى الكناية عنها على المتكلم عند روم إيجادها ، ولا تخفى على السامع عند سماعها ، ويجوز أن يكون إدراك لزومها يحتاج إلى تصفح المعاني ، والدلالة بالقرائن الخفية الدلالة فيحتاج المتكلم في إيجادها إلى تأمل السامع في فهمها إلى روية فافهم.

وكون عرض القفا كناية عن البله بلا واسطة واضح باعتبار العرف ؛ لأن اللزوم بينهما متقرر به حتى قيل : إنه الآن لا خفاء به أصلا ، وإن الخفاء المذكور فيه لعله في العرف القديم ، ولا عبرة بقول الأطباء إنما استلزم البله لدلالته على قوة الطبيعة البلغمية المستلزمة للبرودة المستلزمة للغفلة ؛ لأن تدقيقات الأطباء لا عبرة بها في التخاطب ، ويجوز أن يكون عرض القفا بعرض الوساد فتكون الكناية عن عرض القفا بعرض الوساد قريبة ، وعن البله بواسطة ولا محذور في ذلك ؛ فإنه يجوز أن تكون الكناية قريبة باعتبار ، بعيدة باعتبار آخر ، ولما لم يكن الخفاء في الكناية عن البله بعرض القفا من جهة الوسط لم تسم عرفا بعيدة ، وإن كان فيها خفاء ، فهي ولو كانت بعيدة باعتبار الفهم قريبة باعتبار نفي الوسائط ثم أشار إلى مقابل قوله إن لم يكن الانتقال بواسطة بقوله : (وإن كان) الانتقال من الكناية إلى المطلوب بتلك الكناية إما هو

٤٥٦

(بواسطة ف) تلك الكناية (بعيدة) أي تسمى بذلك اصطلاحا لبعد زمن إدراك المقصود منها ؛ لاحتياجها في الغالب إلى استحضار تلك الوسائط ، وظاهره أنها بعيدة ولو كانت الواسطة واحدة ؛ لأن فيها بعدا ما باعتبار ما لا واسطة فيها أصلا ، ثم مثل للبعيدة فقال : (كقولهم : كثير الرماد) حال كون هذا القول (كناية عن المضياف) أي كثير الضيافة التي هي القيام بحق الضيف ، فكثرة الرماد كناية عن المضيافية بكثرة الوسائط ، ثم أشار إلى تلك الوسائط بقوله (فإنه) أي : إنما قلنا : إن كثرة الرماد كناية عن المضيافية بكثرة الوسائط ؛ لأن الشأن هو هذا ، وهو أنه (ينتقل) من كثرة الرماد المكنى به (إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور) ضرورة أن الرماد لا يكثر إلا بكثرة الإحراق ، ولما كان مجرد كثرة الإحراق لا يفيد هنا وليس بلازم في الغالب ؛ لأن الغالب من العقلاء أن الإحراق لفائدة الطبخ ، وإنما يكون الطبخ إذا كان الإحراق تحت القدور زاده ، ليفيد المراد وليتحقق الانتقال (و) ينتقل (منها) أي من كثرة الطبخ (إلى كثرة الطبائخ) جمع طبيخ أي : ما يطبخ ؛ لأن غالب العقلاء أن الإحراق إنما هو للطبخ كما ذكرنا (و) ينتقل (منها) أي : من كثرة الطبائخ (إلى كثرة الأكلة) أي : الآكلين لذلك المطبوخ ؛ فالأكلة جمع آكل ، وذلك لأن العادة أن المطبوخ إنما يطبخ ليؤكل ، فإذا كثر كثر الآكلون له (و) ينتقل (منها) أي : من كثرة الأكلة (إلى كثرة الضيفان) بكسر الضاد جمع ضيف وذلك لأن الغالب أن كثرة الأكلة إنما تكون من الأضياف ؛ إذ الغالب أن الكثرة المعتبرة المؤدية لما ذكر من الرماد لا تكون من العيال (و) ينتقل (منها) أي : من كثرة وجود الضيفان للموصوف (إلى المقصود) وهو المضيافية ، والفرق بين كثرة الضيفان والمضيافية حتى ينتقل من أحدهما إلى الآخر أن كثرة وجود الضيفان وصف للأضياف والمضيافية للمضيف ؛ إذ هي القيام بحق الضيف كما تقدم ، وهما متلازمان ، ولشدة اللزوم بينهما ربما يتوهم اتحادهما فيقال : ليس هنالك انتقال.

وقد ذكر المصنف أربع وسائط بين الكناية والمقصود وزاد بعضهم بعد كثرة الرماد كثرة الجمر فكانت الوسائط به خمسة والخطب في مثل ذلك سهل ، ثم إن كثرة الوسائط من شأنها خفاء الدلالة ، وقلتها من شأنها وضوحها ، وإذا انتفت رأسا ظهرت

٤٥٧

شائبة الوضوح ؛ لأن أول ما يدرك في الغالب عند الالتفات إلى اللوازم ما يكون منها بلا واسطة ، إذ اللازم الملاصق للملزوم أظهر ، وإنما كانت الوسائط موجبة للبعد ؛ لأن الإدراك حينئذ يتوقف على إدراكات قبله ، وذلك مما ينسي اللزوم ، ولا يخفى غالبا من خفاء إدراك بعض الوسائط فمن أجل هذا مع بعد زمان الإدراك فيها سميت بعيدة ، وإنما قلنا : إن الشأن في كل منهما ما ذكر إشارة إلى أن كلا منهما قد يكون على خلاف ذلك ، فيمكن في المنتفية الوسائط الخفاء كما تقدم في عرض القفا ، وفي كثيرتها الوضوح ؛ لمرور الذهن بسرعة إلى المقصود ، إما مع إحضارها لظهورها ، وإما بدون الإحضار لكثرة الاستعمال حتى يسرع الانتقال ، ولا يقال : إذا أسرع بدون إحضار فلا واسطة ؛ لأنا نقول : يكفي في كون الكناية ذات وسائط وجودها في نفس الأمر مع إمكان إحضارها عرفا تأمل والله أعلم.

(والثالثة) من أقسام الكناية هي (المطلوب بها نسبة) والمراد بالنسبة كما هو العرف إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه ، وقد عبر المصنف في هذا المقام ـ كما يأتي وكذلك غيره ـ بالاختصاص ، وربما يتوهم من ذلك أن النسبة المطلوبة لا بد أن تكون على وجه الاختصاص الذي هو الحصر وليس كذلك ، وإنما المراد بالاختصاص مجرد ثبوت النسبة المقصودة سواء أريد إثباتها على وجه الحصر أم لا ، فقوله بعد : فترك التصريح بالاختصاص إلى الكناية مراده ترك التصريح بما يفيد مجرد الثبوت أو السلب سواء كان ذلك على وجه الحصر أم لا ، وليس المراد ترك التصريح بما يفيد الاختصاص الذي هو الحصر ؛ لأنه قد يكنى عن غير النسبة الحصرية ، وإنما عبر بالاختصاص عن مجرد الثبوت ، وإن كان مجرد الثبوت أعم ؛ لأن من ثبت له الشيء لا يخلو عن الاختصاص به في نفس الأمر ، ولو لم تقصد الدلالة عليه إذ لا بد من تحقق من ينتفي عنه ذلك الشيء في نفس الأمر ، ثم مثل للكناية المطلوب بها النسبة فقال (كقوله :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج (١)

__________________

(١) البيت لزياد الأعجم ، في الطراز (١ / ٤٢٢) ، ونهاية الإيجاز ص (٢٧١) ، والإشارات ص (٢٤٥) ، والإيضاح ص (٢٧٨).

٤٥٨

فإنه) أي : وإنما كان هذا مثالا للكناية المطلوب بها النسبة ؛ لأن الشاعر (أراد أن يثبت اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات) الثلاث التي هي السماحة وهي بذل ما لا يجب بذله عن طيب النفس ولو لم يكثر على ظاهر تفسيرهم ، والندى وهو بذل الأموال الكثيرة لاكتساب الأمور الجليلة العامة كالثناء من كل أحد ، ويجمعهما الكرم والمروءة وهي في العرف سعة الإحسان بالأموال وغيرها كالعفو عن الجناية ، وتفسر بكمال الرجولية ، وذلك يقتضي اختصاصها بالرجل دون المرأة إلا أن تفسر الرجولية بالإنسانية لعمومها الذكر والأنثى ؛ لأنه قد يقال للمرأة رجلة وكمالها بالإحسان المذكور ، وتفسر بالرغبة في التحافظ على دفع ما يعاب به الإنسان ، وعلى ما يرفع على الأقران وهو قريب من الأول ، والدليل على أنه أراد اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات فحوى الخطاب ، ومفهوم الكلام على ما يتقرر ، وأراد المصنف بالاختصاص ـ كما تقدم ـ مجرد الثبوت ، والدليل على ذلك ما علم من أن الكناية في النسبة لا يشترط فيها كونها في النسبة الحصرية ، بل تجري في المطلقة كما أفاده هذا المثال ؛ إذ ليس فيه أداة حصر وكما يدل عليه ما يأتي مما مثل به في المفتاح (ف) حين أراد إثبات الاختصاص الذي هو ثبوت الصفات لمن ذكر (ترك التصريح) باللفظ الدال على هذا الاختصاص ، ويحصل ذلك التصريح لو أتى به (بأن يقول) إن ابن الحشرج (مختص) بهذه الصفات (أو) يقول (نحوه) أي : نحو مختص مما يفيد مجرد الثبوت ، كما تقدم أن المراد بالاختصاص هنا الثبوت لا الحصر ، فقوله : نحوه على هذا منصوب عطفا على معمول يقول كما قررنا ، ويحتمل أن يكون مجرورا عطفا على مدخول الباء أي : يحصل ذلك بقوله مختص وبنحو ذلك القول ونحو لفظ الاختصاص في هذا المعنى ، كل ما يفيد ثبوت النسبة للموصوف ، إما بإضافتها إليه مع الإخبار بحصولها كأن يقول : سماحة ابن الحشرج حاصلة ؛ لأن إضافتها تفيد كونها له أو بإسنادها إليه في ضمن الفعل كأن يقول سمح ابن الحشرج ، أو بنسبتها إليه نسبة تشبه الإضافة مع الإخبار بالحصول كأن يقول : حصلت السماحة لابن الحشرج ، أو بإسنادها إليه على أنها خبر في ضمن الوصف كأن يقال ابن الحشرج سمح ، أو نحو ذلك ، ونحو هذا يجري في الندى والمروءة ، وبهذه الأمثلة

٤٥٩

التي ليس فيها دلالة على الحصر يعلم أن مرادهم بالاختصاص الممثل له في المفتاح الثبوت للموصوف لا الحصر ، وقد تقدم وجه التعبير به عن مجرد الثبوت (إلى الكناية) يحتمل أن يتعلق بترك مضمنا معنى التجاوز وما يشبهه بقوله ترك التصريح عادلا عنه إلى الكناية ، وحصلت تلك الكناية في المعدول إليها (بأن جعلها) أي جعل تلك الصفات لابن الحشرج حاصلة وواقعة (في قبة مضروبة عليه) أي مضروبة على ابن الحشرج ، والقبة مأوى يشبه الخيمة إلا أنه فوقها في العظم والاتساع ، ووجه دلالة إثباتها في القبة على ثبوتها لابن الحشرج أنه لما جعل ظرف حصولها قبة ابن الحشرج ومعلوم أن تلك الصفات لا تخلو من محل تقوم به في تلك القبة ، وهي صالحة لصاحب القبة الحائز لها ، والأصل عدم مشاركة سواه له في تلك القبة ، كان ذلك دليلا على أنه موصوفها ، وأنه هو الذي قامت به لاستحالة قيامها بنفسها ففي إثباتها في قبة تنبيه على أن صاحبها أو موصوفها هو ذو القبة ؛ لأن كون الشيء في حيز الإنسان مع صلاحيته له والأصل عدم ما سواه يتبادر منه أن ذلك الشيء لمن حصل في حيزه ، فالسماحة والندى والمروءة أوصاف صرح بها فلم تطلب من ذاتها ، وإنما طلبت نسبتها أي ثبوتها لمن كانت له ، وقد كنى بثبوتها في القبة على ما قررنا عن ثبوتها للموصوف ، فهذه كناية مطلوب بها النسبة أي الثبوت لصاحبها (ونحوه) أي : ومثل البيت المذكور في كونه كناية طلبت بها النسبة أي إثبات الصفة للموصوف بسبب إيقاع تلك النسبة فيما يحيط بالموصوف ويشتمل عليه في الجملة فينتقل من ذلك الإثبات إلى الإثبات للموصوف على ما قررناه في البيت (قولهم) في ممدوح ما (المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه) المجد والكرم معروفان ، والثوبان والبردان متقاربان ، وثناهما بالنظر إلى أن الغالب في الملبوس تعدده ، وهما على تقدير المضاف أي : بين أجزاء الثوبين والبردين ، وإنما قررناه كذلك ؛ لأن الشخص حل في بينية أجزاء البردين والثوبين ؛ لأن كلا منهما محيط بكل أو بعضه على وجه الاشتمال ، ويحتمل على بعد أن يبقى على ظاهره بأن يقدر أن ثوبا ستر طرفا منه من غير إحاطة والآخر ستر الطرف الآخر والخطب في مثل ذلك سهل وإنما كان هذا نحو ما تقدم لأن هنا ـ أيضا ـ أراد بدليل خطابه أن يثبت المجد والكرم للمدوح فترك التصريح بذلك

٤٦٠