حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ظلّا ظليلا! وتعفّف عن أخذ ما يتحصّل من مشهد السيّدة نفيسة من النّذور من شمع وزيت وغيرهما ، وصرفه إلى مصالح المكان من عمارة وغيرها. وكان الخلفاء قبله يأخذون لأنفسهم غالبه ، والباقي يفرّقونه على من شاؤوا من ألزامهم (١) ، فرفع ذلك من أصله.

فصل

قال ابن فضل الله في المسالك : إنّ قاعدة الخلافة أوّل ما كانت المدينة شرّفها الله مدّة أبي بكر وعمر وعثمان ، فلمّا انتهت الخلافة إلى عليّ انتقل من المدينة إلى الكوفة ، واتّخذها قاعدة خلافته ، وربّما استوطن البصرة ، وجاء ابنه الحسن والكوفة قاعدة خلافته على ما كان عليه أبوه ، فلمّا ولي معاوية انتقلت قاعدة الخلافة إلى دمشق ، واستقرّت قاعدة لبني أميّة ؛ وإن كان هشام قد سكن الرّصافة (٢) ، وعمر بن عبد العزيز خناصرة (٣) ، فإنّهما لم يكونا قاعدتي خلافة ، لأنّهما سكناهما غير مفارقين لدمشق ، بل هي القاعدة والمعتمدة بأنّها مستقرّ الخلافة ، ولم تزل كذلك إلى آخر الدولة الأمويّة. فلمّا ملك السفّاح سكن الأنبار ، فلما ولي المنصور بني الهاشميّة وسكنها ، ثمّ بغداد ، فصارت قاعدة الخلافة له ولبنيه إلى المعتصم ؛ فبنى سرّ من رأى ، فانتقلت قاعدة الخلافة إليها. ثمّ بنى ابنه هارون الواثق إلى جانبها الهارونيّة ، فانتقلت قاعدة الخلافة إليها. ثمّ بنى أخوه جعفر المتوكّل إلى جانبها الجعفريّة ، فانتقلت الخلافة إليها ، ثمّ عادت قاعدة الخلافة إلى بغداد في زمن المعتمد إلى المستعصم الّذي قتلته التتار ، فانتقلت قاعدة الخلافة إلى مصر.

قال : فانظر كيف تنقّلت قواعد الخلافة من بلد إلى بلد بتنقّل الزمان ، وقد كانت بخارى قاعدة السلطنة زمن بني ساسان ، ثمّ صارت غزنة مكان محمود بن سبكتكين (٤) وبنيه ، ثمّ همدان زمان الدولة السلجوقيّة ، ثم خوارزم مكان الملوك الخوارزميّة ، ثم

__________________

(١) لعلّ الصواب : أزلامهم.

(٢) في معجم البلدان : الرصافة : رصافة هشام تقع غربي الرقّة بينهما أربعة فراسخ.

(٣) في معجم البلدان : خناصرة : بليدة من أعمال حلب تحاذي قنّسرين نحو البادية.

(٤) كان أبوه أميرا للغزاة الذين يغيرون من بلاد ما وراء النهر عل أطراف الهند ، أما هو فافتتح غزنة ثم بلاد ما وراء النهر ثم خراسان ، ولد سنة ٣٦١ ه‍ وتوفي سنة ٤٢١ ه‍. [شذرات الذهب : ٣ / ٢٢٠].

١٠١

دمشق زمان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ، ثمّ مصر من زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب وإلى اليوم.

وإذ اعتبرت أحوال البلاد تجد السعادة قد نظرت هذه مرّة ، ثمّ تلك أخرى كما قال الشاعر :

وإذا نظرت إلى البقاع رأيتها

تشقى كما تشقى الرجال وتسعد

واعلم أنّ مصر من حين صارت دار الخلافة عظم أمرها ، وكثرت شعائر الإسلام فيها ، وعلت فيهما السنّة ، وعفت منها البدعة ، وصارت محلّ سكن العلماء ، ومحطّ رحال الفضلاء ، وهذا سرّ من أسرار الله أودعه في الخلافة النبويّة حيث ما كانت يكون معها الإيمان والكتاب ، كما أخرج ........... (١).

دلّ هذا الحديث على أنّ الإيمان والعلم يكونان مع الخلافة أينما كانت ، فكانا أوّلا بالمدينة زمن الخلفاء الراشدين ، ثمّ انتقلا إلى الشام زمن خلفاء بني أمية ، ثمّ انتقلا إلى بغداد زمن خلفاء بني العباس ، ثم انتقلا إلى مصر حين سكنها خلفاء بني العباس ؛ ولا يظنّ أن ذلك بسبب الملوك ، فقد كانت ملوك بني أيّوب أجلّ قدرا ، وأعظم خطرا من ملوك جاءت بعدهم بكثير ، ولم تكن مصر في زمنهم كبغداد ، وفي أقطار الأرض الآن من الملوك من هو أشدّ بأسا ، وأكثر جندا من ملوك مصر ، كالعجم والعراق والروم والهند والمغرب ، وليس الدّين قائما ببلادهم كقيامه بمصر ، ولا شعائر للإسلام في أقطارهم ظاهرة كظهورها في مصر ، ولا نشرت السنّة والحديث والعلم فيها كما في مصر ، بل البدع عندهم فاشية ، والفلسفة بينهم مشهورة ، والسنّة والأحاديث دائرة والمعاصي والخمور واللّواط متكاثرة.

ذكر سلاطين مصر الذين فوض إليهم خلفاء مصر العبّاسيون

فاستبدوا بالأمر دونهم

أوّلهم الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداريّ (٢). ولما فوّض إليه

__________________

(١) بياض في المصدر.

(٢) الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨.

١٠٢

خليفة مصر لقّبه قسيم أمير المؤمنين وهو أوّل من لقّب بها ، وكان الملوك قديما يكتب أحدهم من جهة الخليفة : «مولى أمير المؤمنين» أي عتيقه ، ويكتب هو إلى الخليفة «خادم أمير المؤمنين» فإن زيد في تعظيمه لقّب «وليّ أمير المؤمنين» ، ثمّ «صاحب أمير المؤمنين» ، ثمّ «خليل أمير المؤمنين» ، وهو أعلى ما لقّب به ملوك بني أيّوب ، فلقب الظّاهر هذا قسيم أمير المؤمنين ؛ وهو أجلّ من تلك الألقاب ، وكان في الظاهر محاسن وغيرها ، وظلم أهل الشام غير مرّة ، وأفتاه جماعة بموافقة هواه ، فقام الشيخ محيي الدين النّوويّ في وجهه ، وأنكر عليه ، وقال : أفتوك بالباطل! وكان بمصر منقمعا تحت كلمة الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام ، لا يستطيع أن يخرج عن أمره ، حتّى إنّه قال لما مات الشيخ : ما استقرّ ملكي إلّا الآن.

ومن محاسنه ما حكاه ابن كثير في تاريخه أنّه حضر في يوم الثلاثاء تاسع رجب سنة ستّين إلى دار العدل في محاكمة في بئر بين يدي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعزّ ، فقام الناس سوى القاضي ، فإنّه أشار إليه ألّا يقوم ، فقام هو وغريمه بين يدي القاضي وتداعيا ، وكان الحقّ بيد السلطان ، وله بيّنة عادلة به ، فانتزعت البئر من يد الغريم وهو أحد الأمراء.

والظاهر هو الذي أكمل عمارة المسجد النبويّ من الحريق ، وكان الخليفة المستعصم شرع فيه بعد أن احترق ، فقتل قبل أن يتمّ ، فجهّز الظاهر في رمضان سنة إحدى وستّين صنّاعا وأخشابا وآلات ، وطيف بها بالديار المصرية فرحة بها ، وتعظيما لشأنها ، ثمّ ساروا بها إلى المدينة الشريفة ، وأرسل منبرا فنصب هنالك ، وحجّ في سنة سبع وستّين ، فغسل الكعبة بيده بماء الورد (١) ، وزار المدينة الشريفة ، فرأى النّاس يلتصقون بالقبر النبويّ ، فقاس ما حوله بيده ، وأرسل في العام الذي يليه دارابزيا من خشب ، فأدير حول القبر الشريف.

وللظاهر فتوحات كثيرة ، وملك الرّوم ، وجلس بقيساريّة على تخت آل سلجوق ، ولبس التاج ، وضرب باسمه الدينار والدرهم ، وهو الذي جعل القضاة أربعة (٢) من كلّ مذهب قاض ، ولم يعهد ذلك قبله في ملّة الإسلام ، وهو الذي جدّد صلاة الجمعة بالجامع الأزهر وبجامع الحاكم ، وكانا مهجورين من زمن العبيديين ، فأساء في ذلك كلّ الإساءة كما سنبيّنه بعد هذا.

وأمر في أيامه بإراقة الخمور (٣) ، وإبطال المفسدات والخواطىء وإسقاط المكوس المرتّبة عليها ، فأحسن في ذلك كلّ الإحسان.

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ٣٠٢.

(٢) الخطط المقريزية : ٢ / ٣٤٤.

(٣) شذرات الذهب : ٥ / ٣٢٤.

١٠٣

وفي أيامه طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرّفة بالقاهرة وذلك في سنة خمس وسبعين ، وكان يوما مشهودا ، وهو أوّل من فعل ذلك بالديار المصرية. وكان له صدقات كثيرة ؛ من ذلك كلّ سنة عشرة آلاف اردبّ قمح للفقراء والمساكين وأرباب الزوايا ، وكان يخرج كلّ سنة جملة مستكثرة يستفكّ بها من حبس القاضي من المفلسين ، وكان يرتّب في أوّل رمضان مطابخ لأنواع الأطعمة برسم الفقراء والمساكين ، ووقف وقفا على تكفين أموات الغرباء ، وأجرى على أهل الحرمين وطرق الحجاز ما كان انقطع في أيام غيره من الملوك ، وله أنواع من المعروف وأوقاف البرّ.

نقلت من خطّ شيخنا الإمام تقي الدين الشّمنيّ ؛ قال : نقلت من خطّ الشيخ كمال الدين الدّميريّ ، نقل من خط الشيخ جمال الدين بن هشام ، قال : من غريب ما رأيت على كراريس من تسهيل الفوائد بخط الشيخ جمال الدين بن مالك ، في أواخرها صورة قصة رفعها الفقير إلى رحمة ربّه محمد بن مالك : يقبّل الأرض وينهى إلى السلطان أيّد الله جنود وأبّد سعوده ، أنّه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات والنحو واللغة وفنون الأدب ، وأمله أن يعينه نفوذا من سيّد السلاطين ، ومبيد الشياطين ، خلّد الله ملكه ، وجعل المشارق والمغارب ملكه ، على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين ، وإفادة المسترشدين ؛ بصدقة تكفيه همّ عياله ، وتغنيه عن التسبّب في صلاح حاله ؛ فقد كان في الدّولة الناصريّة عناية تتيسّر بها الكفاية ؛ مع أنّ الدولة ، من الدولة الظاهريّة كجدول من البحر المحيط ، والخلاصة من الوسيط والبسيط ؛ وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهريّة الناصريّة خصوصا وعموما ، وكشف بها عن الناس أجمعين غموما ؛ ولمّ بها من شعث الدين ما لم يكن ملموما ، فمن العجائب كون المملوك من مزيد خيراتها وعن يمين عنايتها غائبا محروما ؛ مع أنه من ألزم المخلصين للدعاء بدوامها ، وأقوم الموالين بمراعاة زمامها ؛ لا برحت أنوارها زاهرة ، وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة ، وأياديها مبذولة موفورة ، وأعاديها مخذولة مقهورة ، بمحمد وآله!

وكان الشيخ محيي الدين النوويّ يكثر المكاتبات إليه ، ويعظه في أمور المسلمين. قال الشيخ علاء الدين بن العطار : كتب الشيخ محيي الدين ورقة إلى الظاهر بيبرس ، تتضمّن العدل في الرعيّة ، وإزالة المكوس. وكتب فيها معه جماعة ، ووضعها في ورقة كتبها إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار (١) بإيصال ورقة العلماء إلى السّلطان ، وصورتها :

__________________

(١) في الخطط المقريزية : بيت المال كان وظيفة جليلة معتبرة وموضوع متوليها التحدث في حمول المملكة مصرا وشاما إلى بيت المال وفي صرف ما ينصرف منه. [٢ / ٢٢٤].

١٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله يحيى النوويّ ، سلام الله تعالى ورحمته وبركاته على المولى المحسن ، ملك الأمراء بدر الدين. أدام الله الكريم له الخيرات ، وتولّاه بالحسنات ، وبلّغه من أقصى الآخرة والأولى كلّ آماله ، وبارك له في جميع أحواله ؛ آمين. وينهى إلى العلوم الشريفة ، أنّ أهل الشام في هذه السنة في ضيق عيش وضعف حال ، بسبب قلّة الأمطار وغلاء الأسعار ، وقلّة الغلّات والنبات ، وهلاك المواشي وغير ذلك ؛ وأنتم تعلمون أنّه تجب الشفقة على الرعيّة ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم ؛ فإنّ الدين النصيحة. وقد كتب خدمة الشرع الناصحون للسلطان المحبوبون له كتابا يذّكره النّظر في أحوال رعيّته ، والرّفق بهم ؛ وليس فيه ضرر ، بل هو نصيحة محضة ، وشفقة وذكرى لأولي الألباب. والمسؤول من الأمير أيّده الله تعالى تقديمه إلى السلطان ، أدام الله له الخيرات. ويتكلّم عنده من الإشارة بالرّفق بالرعيّة بما يجده مدّخرا له عند الله تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٣٠].

وهذا الكتاب أرسله العلماء أمانة ونصيحة للسلطان أعزّ الله أنصاره ، فيجب عليكم إيصاله للسلطان أعزّ الله أنصاره ، وأنتم مسئولون عن هذه الأمانة ، ولا عذر لكم في التأخّر عنها ، ولا حجّة لكم في التقصير عنها عند الله تعالى وتسألون عنها يوم القيامة ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء : ٨٨] ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ ، وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧].

وأنتم بحمد الله تحبّون الخير وتحرصون عليه ، وتسارعون إليه ، وهذا من أهمّ الخيرات وأفضل الطاعات ، وقد أهّلتم له ، وساقه الله إليكم ، وهو فضل من الله ونحن خائفون أن يزداد الأمر شدّة ، إن لم يحصل النظر في الرفق بهم ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] ، وقال الله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢١٥].

والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا ، فإذا فعلتم هذا فأجركم على الله (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨] ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فلما وصلت الورقتان إليه ، أوقف عليهما السلطان ، فردّ جوابهما ردّا عنيفا مؤلما ، فتكدّرت خواطر الجماعة الكاتبين ، فكتب رضي‌الله‌عنه جوابا لذلك الجواب وهذه صورته :

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمد

١٠٥

وعلى آل محمد. من عبد الله يحيى (١) النوويّ ، ينهى أنّ خدمة الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعزّ الله أنصاره ، فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد ، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع ، وقد أوجب الله إيضاح الكلام عند الحكّام عند الحاجة إليه ، فقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] ، فوجب علينا حينئذ بيانه ، وحرم علينا السكوت. وقال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ٩٠].

وذكر في الجواب أنّ الجهاد ليس مختصّا بالأجناد ؛ وهذا أمر لم ندعه ، وكان الجهاد فرض كفاية ، فإذا قرّر السلطان له أجنادا مخصوصين ، ولهم أخباز معلومة من بيت المال كما هو الواقع ، تفرّغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم من الزراعة والصنائع وغيرهما ، ممّا يحتاج النّاس كلّهم إليه ، فجهاد الأجناد مقابل بالأخباز المقرّرة لهم ، ولا يحلّ أن يؤخذ من الرعيّة شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد أو متاع أو أرض أو ضياع تباع أو غير ذلك ؛ وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان أعزّ الله أنصاره ، متّفقون على هذا ، وبيت المال بحمد الله معمور ، زاده الله عمارة وسعة وخيرا وبركة في حياة السلطان ، المقرونة بكمال السعادة والتوفيق والتسديد ، والظهور على أعداء الدين ، وما النصر إلّا من عند الله.

وإنّما يستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى ، واتّباع آثار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما لزمه أحكام الشّرع. وجميع ما كتبناه أولا وثانيا ، هو النصيحة التي نعتقدها ، وندين الله بها ، ونسأل الله الدّوام عليها حتّى نلقاه. والسلطان يعلم أنّها نصيحة له وللرعيّة ، وليس فيها ما يلام عليه. ولم نكتب هذا للسلطان إلّا لعلمنا أنّه يحبّ الشرع ومتابعة أخلاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرّفق بالرعيّة ، والشفقة عليهم وإكرامه لآثار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلّ ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبناه.

وأمّا ما ذكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفّار كيف كانوا في البلاد ؛ فكيف يقاس ملوك الإسلام وأهل الإيمان والقرآن بطغاة الكفّار؟! وبأيّ شيء كنّا نذكر طغاة الكفّار وهم لا يعتقدون شيئا من ديننا؟!

__________________

(١) هو محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام النووي. ولد في محرم سنة ٦٣١ ه‍ ، وله عدّة تصانيف ـ توفي سنة ٦٧٦ ه‍. [شذرات الذهب : ٥ / ٣٥٤].

١٠٦

وأمّا تهديد الرعيّة بسبب نصيحتنا وتهديد طائفة العلماء ؛ فليس هذا المرجوّ من عدل السلطان وحمله ؛ وأيّ حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم ، ولا علم لهم به! وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟!

وأما أنا في نفسي فلا يضرّني التهديد ، ولا أكثر منه ، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان ؛ فإنّي أعتقد أنّ هذا واجب عليّ وعلى غيري ، وما ترتّب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى ، (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) [غافر : ٣٩] ، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [غافر : ٤٤] ، وقد أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نقول الحقّ حيثما كنّا ، وألّا نخاف في الله لومة لائم. ونحن نحبّ السلطان في كلّ الأحوال ، وما ينفعه في آخرته ودنياه ، ويكون سببا لدوام الخيرات له ، ويبقى ذكره على ممرّ الأيّام ، ويخلّد به في الجنّة ، ويجد نفسه (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠].

وأما ما ذكر من تمهيد السلطان البلاد ، وإدامته الجهاد ، وفتوح الحصون ، وقهر الأعداء ؛ فهذا بحمد الله من الأمور الشائعة التي اشترك في العلم بها الخاصّة والعامّة ، وطارت في أقطار الأرض ، فلله الحمد ، وثواب ذلك مدّخر للسلطان إلى يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا ، ولا حجّة لنا عند الله تعالى إذا تركنا هذه النصيحة الواجبة علينا ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وكتب إلى الملك الظاهر لمّا احتيط على أملاك دمشق :

بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥]. وقال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] ، وقال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [المائدة : ٢]. وقد أوجب الله على المكلّفين نصيحة السلطان أعزّ الله أنصاره ونصيحة عامّة المسلمين ، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدّين النّصيحة لله وكتابه وأئمّة المسلمين وعامّتهم» ؛ ومن نصيحة السّلطان وفّقه الله تعالى لطاعته ، وأولاه كرامته ، أن ننهي إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام ، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعيّة ، والاهتمام بالضعفة وإزالة الضّرر عنهم ، قال الله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢١٥]. وفي الحديث الصحيح : «إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدّنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

١٠٧

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ولي أمر أمّتي شيئا فرفق بهم ، فارفق اللهم به ، ومن شقّ عليهم ، فاشقق اللهم عليه» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ المقسطين على منابر من نور عن يمين الرّحمن ؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».

وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسّلطان أعزّ الله أنصاره ، فقد أقامه لنصرة الدّين ، والذبّ عن المسلمين ، وأذلّ له الأعداء من جميع الطوائف ، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدّة اليسيرة ، وأوقع الرّعب منه في قلوب أعداء الدّين وسائر الماردين ، ومهّد له البلاد والعباد ، وقمع بسيفه أهل الزيغ والفساد ، وأمدّه بالإعانة واللطف والسداد ، فلله الحمد على هذه النّعم المتظاهرة ، والخيرات المتكاثرة ، ونسأل الله الكريم دوامها لنا وللمسلمين ، وزيادتها في خير وعافية. آمين. وقد أوجب الله شكر نعمه ، ووعد الزّيادة للشاكرين ، فقال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [ابراهيم : ٧]. وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها ، وطلب منهم إثبات ما لا يلزمهم ، فهذه الحوطة لا تحلّ عند أحد من علماء المسلمين ، بل من في يده شيء فهو ملكه ، لا يحلّ الاعتراض عليه ، ولا يكلّف بإثبات ، وقد اشتهر من سيرة السلطان أنّه يحبّ العمل بالشرع فيوصي نوّابه ، فهو أوّل من عمل به ، والمسؤول إطلاق الناس من هذه الحوطة ، والإفراج عن جميعهم.

فأطلقهم أطلقك الله من كلّ مكروه ، فهم ضعفة وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين والضّعفة والصالحون ، وبهم تنصر وتغاث وترزق ، وهمن سكّان الشام المبارك ، جبران الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم ، وسكّان ديارهم ، فلهم حرمات من جهات. ولو رأى السلطان ما يلحق النّاس من الشدائد لاشتدّ حزنه عليهم ، وأطلقهم في الحال ، ولم يؤخّرهم ؛ ولكن لا تنهى إليه الأمور على جهتها.

فبالله أغث المسلمين يغثك الله ، وارفق بهم يرفق الله بك ، وعجّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار وتلف غلّاتهم ، فإنّ غالبهم ورثوا هذه الأملاك عن أسلافهم ، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء وقد نهبت كتبهم. وإذا رفق السلطان بهم حصل له دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن رفق بأمّته ، ونصره على أعدائه ، فقد قال الله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، ويتوفّر له من رعيّته الدعوات ، وتظهر في مملكته البركات ، ويبارك له في جميع ما يقصده من الخيرات ، وفي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سنّ سنّة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنة سيّئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». ونسأل الله الكريم ، أن يوفّق

١٠٨

السلطان للسّنن الحسنة الّتي يذكر بها إلى يوم القيامة ، ويحميه من السّنن السيّئة.

فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان ، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه فيها القبول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب إليه لمّا رسم بأنّ الفقيه لا يكون منزلا في أكثر من مدرسة واحدة :

بسم الله الرحمن الرحيم. خدمة الشرع ينهون أنّ الله تعالى أمر بالتعاون على البرّ والتقوى ، ونصيحة ولاة الأمور وعامة العلماء ، وأخذ على العلماء العهد ، وتبليغ أحكام الدّين ومناصحة المسلمين ، وحثّ على تعظيم حرماته ، وإعظام شعائر الدّين ، وإكرام العلماء وأتباعهم. وقد بلغ الفقهاء أنّه رسم في حقّهم بأن يغيّروا عن وظائفهم ، ويقطعوا عن بعض مدارسهم ، فتنكّدت بذلك أحوالهم ، وتضرّروا بهذا التضييق عليهم ، وهم محتاجون ، ولهم عيال ، وفيهم الصّالحون والمشتغلون بالعلوم ، وإن كان فيهم طائفة لا يلحقون مراتب غيرهم ؛ فهم منتسبون إلى العلم ويشاركون فيه. ولا يخفى مراتب أهل العلم وثناء الله تعالى عليهم وبيانه مزيّتهم على غيرهم ، وأنّهم ورثة الأنبياء صلوات الله عليهم ؛ فإنّ الملائكة عليهم‌السلام تضع أجنحتها لهم ، ويستغفر لهم كلّ شيء حتّى الحوت في الماء.

واللائق بالجناب العالي إكرام هذه الطائفة والإحسان إليهم ومعاضدتهم ، ورفع المكروهات عنهم ، والنظر بما فيه من الرّفق بهم ، فقد ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قال : «اللهم من ولي من أمور أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به». وروى أبو عيسى التّرمذيّ بإسناده عن أبي سعيد الخدريّ رضي‌الله‌عنه ، أنّه كان يقول لطلبة العلم : مرحبا بوصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ رجالا يأتونكم يتفقّهون ، فاستوصوا بهم خيرا».

والمسؤول ألّا يغيّر على هذه الطائفة شيء ، وتستجاب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة ، وقد ثبت في صحيح البخاري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟!». وقد أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك حين أنكر عليه السلطان صرفه الأموال الكثيرة في جهة طلب العلم ، فقال : أقمت لك جندا لا تردّ سهامهم بالأسحار ؛ فاستصوب فعله ، وساعده عليه. والله الكريم يوفّق الجناب دائما لمرضاته ، والمسارعة إلى طاعته والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وقال بعضهم : لمّا خرج السلطان الظاهر بيبرس إلى قتال التّتار بالشام ، أخذ

١٠٩

فتاوى العلماء بأنه يجوز له أخذ مال من الرعيّة ليستنصر به على قتال العدوّ ، فكتب له فقهاء الشام بذلك ، فقال : هل بقي أحد؟ فقيل : نعم ، بقي الشيخ محيي الدين النوويّ ، فطلبه فحضر ، فقال : اكتب خطّك مع الفقهاء ، فامتنع ، فقال : ما سبب امتناعك؟ فقال : أنا أعرف أنّك كنت في الرّقّ للأمير بندقدار (١) وليس لك مال. ثم منّ الله عليك ، وجعلك ملكا. وسمعت أنّ عندك ألف مملوك ، كلّ مملوك له حياصة (٢) من ذهب ، وعندك مائتا جارية ، لكلّ جارية حقّ (٣) من الحليّ ، فإذا أنفقت ذلك كلّه ، وبقيت مماليكك بالبنود الصوف بدلا عن الحوائص ، وبقيت الجواري بثيابهنّ دون الحليّ ، أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من كلامه ، وقال : اخرج من بلدي ـ يعني دمشق ـ فقال : السمع والطاعة! وخرج إلى نوى ، فقال الفقهاء : إنّ هذا من كبار علمائنا وصلحائنا ، وممّن يقتدى به ، فأعده إلى دمشق ، فرسم برجوعه. فامتنع الشيخ ، وقال : لا أدخلها والظاهر بها. فمات الظاهر بعد شهر (٤).

قال الذهبيّ : كان الظاهر خليقا بالملك ، لولا ما كان فيه من الظلم. قال : والله يرحمه ويغفر له ؛ فإنّ له أيّاما بيضاء في الإسلام ، ومواقف مشهودة وفتوحات معدودة.

واستمرّ الملك الظاهر إلى أن مات يوم الخميس سابع عشري المحرّم سنة ستّ وسبعين وستّمائة بدمشق.

وقام بعده في الملك ولده الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد ، وسنّه ثماني عشرة سنة ، وكان أبوه عقد له في حياته ، ولقّبه هذا اللقب ، واستنابه على مصر أيّام سفره ، فاستقلّ بالسلطنة من يوم موته ، واستمرّ إلى سنة ثمان وسبعين ، فاختلف عليه الأمراء وقاتلوه ، فخلع نفسه من السّلطنة ، وأشهد على نفسه بذلك ، وذلك في يوم سابع عشر ربيع الآخر (٥).

وأقيم مقامة أخوه بدر الدين سلامش ؛ ولقّب الملك العادل ، وعمره سبع سنين ، وجعل أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الصالحيّ الألفيّ ـ سمّي بذلك لأنه اشتري بألف

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٠٠ : وكان أولا من مماليك الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري.

(٢) الحياصة : حزام الدابة أو المنطقة.

(٣) الحقّ : الوعاء الصغير.

(٤) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨ : مات بدمشق يوم الخميس سابع عشري المحرم سنة ٦٧٦ ه‍.

(٥) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨ : سابع ربيع الآخر.

١١٠

دينار ـ وضربت السّكّة باسمه على وجه ، وباسم أتابكه على وجه. ودعي لهما معا في الخطبة ، فأقام إلى يوم الثلاثاء حادي عشر رجب من هذه السنة ، فاجتمع الأمراء بالقلعة ، وخلعوا العادل (١). قال صاحب السّكردان : وهو السادس من دولة الأتراك ؛ فإنّ أوّلهم المعزّ أيبك ، وكلّ سادس من الخلفاء والملوك لا بدّ أنه يخلع. وأقاموا بعده قلاوون الصالحي (٢) ، ففوّض إليه الخليفة ، ولقّب الملك المنصور ، وكتب له تقليد هذه صورته ، من إنشاء القاضي محيي الدين عبد الظاهر :

الحمد لله الذي جعل آية السّيف ناسخة لكثير من الآيات ، وناسخة لعقود أولي الشّك والشّبهات ، الذي رفع بعض الخلق على بعض درجات ، وأهلّ لأمور البلاد والعباد من جاءت خوارق تملّكه بالّذي إن لم يكن من المعجزات فمن الكرامات.

ثمّ الحمد لله الذي جعل الخلافة العباسيّة بعد القطوب حسنة الابتسام ، وبعد الشّجوب جميلة الاتّسام ، وبعد التشريد لها دار سلام أعظم من دار السلام. والحمد لله على أن أشهدها مصارع أعدائها ، وأحمد لها عواقب نصرتها وإبدائها ، وردّ شبيبتها بعد أن ظنّ كلّ أحد أن شعارها الأسود ما بقي منه إلا ما أصابته العيون في جفونها والقلوب في سويدائها.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة يتلذّذ بذكرها اللسان ، وتتعطّر بنفحاتها الأفواه والآذان ، وتتلقّاها ملائكة القبول فترفعها إلى أعلى مكان.

ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أكرمنا به وشرّف لنا الأنساب ، وأعزّنا به حتّى نزل فينا محكم الكتاب ؛ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين انجاب الدّين منهم عن أنجاب ، ورضي الله عن صحابته الذين هم أعزّ صحاب ؛ صلاة توفي قائلها أجره بغير حساب يوم الحساب.

وبعد حمد الله على أن أحمد عواقب الأمور ، وأظهر الإسلام سلطانا اشتدّت به من الأمة الظهور ، وشفيت الصدور ، وأقام الخلافة العباسية في هذا الزمن المنصور ، كما أقامها فيما مضى بالمنصور ، واختار لإعلان دعوتها من يحيي معالمها بعد العفاء ورسومها بعد الدثور ، وجمع لها الآن ما كان جمح عليها فيما قبل من خلاف كلّ ناجم ، ومنحها ما كانت تبشّرها به الملاحم ، وأنفذ كلمتها في ممالك الدولة العلويّة

__________________

(١) بعد مائة يوم. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨].

(٢) وهو أحد المماليك الأتراك البحرية ، كان قبجاقي الجنس من قبيلة مرج أغلي ، فجلب صغيرا واشتراه الأمير علاء الدين أق سنقر الساقي العادلي بألف دينار. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨].

١١١

بخير سيف مشحوذ ماضي العزائم ، ومازج بين طاعتهما في القلوب وذكرهما في اللسان ؛ وكيف لا والمنصور هو الحاكم. وأخرج لحياطة الأمّة المحمّدية ملكا تنقسم البركات من يمينه ، وتقسم السعادات بنور جبينه ، ويقهر الأعداء بفتكاته ، وتمهر عقائل العقائل بصفر راياته ؛ ذي السّعد الّذي ما زال سعده يشفّ حتّى ظهر ، ومفخره يرفّ إلى أن بهر ، وجوهره ينتقل من جيد إلى جيد حتّى يملأ الجبين ، وسرّه يكمن في كلّ قلب حتّى علم العلم اليقين.

والحمد لله الّذي جعل بنا تمكينه في الأرض بعد حين ، فاختاره الله على علم ، واصطفاه من بين عباده بما جبله الله عليه من كرم وشجاعة وحلم ، وأتى الله به الأمّة المحمّدية في وقت الاحتياج غوثا ، وفي إبّان الاستمطار غيثا ، وفي حين عبث الأشبال في غير وقت الافتراش ليثا ، فوجب على كلّ من له في أعناق الأمّة المحمديّة بيعة الرضوان ، وعند إيمانهم مصافحة الأيمان ، ومن حيث وجبت البيعة باستحقاقه لميراث منصب النبوّة ، ومن تصحّ به كلّ رسمية شرعية يؤخذ كتابها قوّة ، ومن هو خليفة الزمان والعصر ، ومن بدعواته تنزل عليكم معاشر كماة المسلمين ملائكة النصر ، ومن نسبه بنسب نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم منتسج ، وحسبه بحسبه ممتزج ـ أن يفوّض له ما فوّض الله إليه من أمر الخلق ، ليقوم عنه بفرض الجهاد والعمل بالحقّ ، وأن يولّيه ولاية شرعيّة تصحّ بها الأحكام ، وتنضبط أمور الإسلام ، وتأتي هذه العصبة الإسلامية يوم تأتي كلّ أمّة بإمامها من طاعة خليفتها بخير إمام. وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرّفه الله أن يكون المقرّ العالي المولويّ السلطانيّ الملكيّ المنصوريّ أجلّه الله ونصره ، وأظفره وأقدره وأيّده وأبّده ، كلّما فوّضه مولانا أمير المؤمنين من حكم في الوجود ، وفي التّهائم والنجود ، وفي الجيوش والجنود ، وفي الخزائن والمدائن ، وفي الظّواهر والبواطن ، وفيما فتحه الله تعالى وفيما سيفتحه ، وفيما فسد بالكفر والرّجا من الله أن سيصلحه ، وفي كلّ جود ومنّ وكلّ عطاء ، وفي كلّ تعاهد ونبذ ، وفي كلّ عطاء وأخذ ، وفي كلّ عزل وتولية ، وفي كلّ تسليم وتخلية وفي كلّ إرفاق وإنفاق ، وفي كلّ إنعام وإطلاق ، وفي كلّ استرقاق وإعتاق ، وفي كلّ تقليل وتكثير ، وفي كلّ تأثيل (١) وتأثير ، وفي كلّ تقليد وتفويض ، وفي كلّ تجديد وتعويض ، وفي كلّ حمد وتقريض (٢) ، ولاية تامّة محكمة ، منضّدة منظّمة ، لا يعقبهما نسخ من بين يديها ولا من خلفها ، ولا يعتريها فسخ يطرأ عليها ،

__________________

(١) التأثيل : التأصيل والتعظيم.

(٢) التقريض : الذمّ ، وتأتي بمعنى المدح أيضا (من المتضدات).

١١٢

يزيدها مرّ الليالي جدّة يعقبها حسن شباب ، ولا ينتهي عن الأعوام والأحقاب ، ونعم تنتهي إلى ما نصبه الله تعالى للإرشاد ، ومن سنّة وكتاب ؛ وذلك من شرع الله ، أقامه للهداية علما ، وجعله إلى اختيار الثواب سلّما.

فالواجب أن يعمل بجزئيّات أمره وكلّياته ، وألّا يخرج أحد عن مقدّماته.

والعدل ، فهو الغرس المثمر ، والسحاب الممطر ، والروض المزهر ، وبه تنزل البركات ، وتخلف الهبات ، وتربو الصدقات ، وبه عمارة الأرض ، وبه تؤدّى السنّة والفرض ؛ فمن زرع العدل اجتنى الخير ، ومن أحسن كفي الضّرر والضّير.

والظلم ، فعاقبته وخيمة ، وما يطول عمر الملك إلا بالمعدلة الرحيمة.

والرعيّة ، هم الوديعة عند أولي الأمر ، فلا يختصّ منهم زيد دون عمر.

والأخوال ، فهي ذخائر العاقبة والمآل ، فالواجب أن تؤخذ بحقّها ، وتنفق في مستحقّها.

والجهاد برّا بحرا ، فمن كنانة (١) الله أن يفوّق سهامه ، وتؤرّخ أيّامه ، وينتضى حسامه ، وتجرى منشآته في البحر كالأعلام وتنشر أعلامه ، وفي عقر دار الحرب يحطّ ركابه ، ويخطّ كتابه ، وترسل أرسانه ، وتجوس خلالها فرسانه ، فيلزم منه دنيا ديدنا (٢) ، ويستصحب منه فعلا حسنا.

وجيوش الإسلام وكماته ، وأمراؤه وحماته ، فمنهم من قد علمت قدم هجرته ، وعظم نصرته ، وشدة بأسه ، وقوّة مراسه. وما منهم إلا من شهد الفتوحات والحروب ، وأحسن في المحاماة عن الدين الدؤوب ، وهم بقايا الدّول ، وسجايا الملوك الأول ، ولا سيّما أولي السعي الناجح ، والرأي الراجح ، ومن له نسبة صالحيّة ؛ فإذا فخروا بها قيل لهم : نعم السلف الصالح! فأوسعهم برّا ، وكن بهم برّا ، فهم ممّا يجب من خدمتك أعلم ، وأنت بما يجب من حقّهم أدرى.

والحصون والثغور ، فهي ذخائر الشدة ، وخزائن العديد والعدّة ، ومقاعد القتال ، وكنائن الرّجا والرجال ؛ فأحسن لها التحصين ، وفوّض أمرها إلى كلّ قويّ أمين ، وإلى كل ذي دين متين ، وإلى كلّ ذي عقل رصين.

__________________

(١) الكنانة : جعبة السهام.

(٢) الديدن : الدأب والعادة.

١١٣

ونوّاب الممالك ونوّاب الأمصار ، فأحسن لهم الاختيار ، وأجمل لهم الاختبار ، وتفقّد لهم الأخبار.

وأمّا ما سوى ذلك فهو داخل في حدود هذه الوصايا ، ولو لا أنّ الله تعالى أمر بالتذكير لكان ذلك سجايا المقرّ الأشرف السلطانيّ الملكيّ المنصور مكتفية بأنواره المضيئة الساطعة.

وزمام كلّ صلاح يجب أن يشغل به جميع أوقاته ، وهو تقوى الله تعالى ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] ، فليكن ذلك نصب العين ، وشغل القلب والشفتين.

وأعداء الدّين من أرمن وتتار ، فأذقهم وبال أمرهم في كلّ إيراد وإصدار ، وخذ للخلفاء العباسيين ولجميع المسلمين منهم الثار. واعلم أنّ الله ينصرك على ظلمهم وما للظالمين من أنصار.

وأمّا غيرهم من مجاوريهم من المسلمين ، فأحسن لهم باستنقاذك من العلاج ، وطبّهم باستصلاحك ، فبالطّبّ المنصوريّ والملكي ما زال يصلح المزاج ، والله الموفّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.

واستمرّ قلاوون في السلطنة ، فكان له مشاهد حسنة ، وفتوحات ، فمنها طرابلس (١) وقد كانت في أيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة وإلى الآن. وهو الذي أحدث وظيفة كتابة السرّ ، وأحدث اللعب بالرّمح أيّام إدارة المحمل وكسوة الكعبة ، وغيّر ملابس الدولة عمّا كانوا عليه في دولة بني أيّوب.

قال الصلاح الصفدي : كان الجند يلبسون فيما تقدّم كلّوتات (٢) صفر مضرّبة بكلبندات (٣) بغير شاشات ، وشعورهم مضفورة دبابيق في أكياس حرير ملوّنة ، وفي خواصرهم موضع الحوائص بنود ملوّنة ، وأكمام أقبيتهم (٤) ضيّقة وأخفافهم (٥) برغالي ،

__________________

(١) فتحها عنوة سنة ثمان وثمانين وستمائة بعد أن نازلها أربعة وثلاثين يوما. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨].

(٢) الكلّوتة : غطاء الرأس. حواشي السلوك : ٤٩٣ ، صبح الأعشى : ٤ / ٦.

(٣) الكلبند : جزء من غطاء الرأس. [حواشي السلوك : ٤٩٤] ، وفي الخطط المقريزية : ٢ / ٩٨ : نوع من الرباط تحت الذقن لحفظ الكلوتة فوق الرأس.

(٤) كانوا يلبسون أقبية قصيرة الأكمام. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢١٧].

(٥) ومن زيّهم لبس المهماز على الأخفاف. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢١٧].

١١٤

ومن فوق قماشهم بحلق وإبزيم وجلواز كبير ، يسع نصف ويبة أو كثر ؛ فأبطل المنصور ذلك كلّه بأحسن منه ؛ وأقام في السّلطنة إلى أن توفّي يوم السبت سادس ذي القعدة سنة تسع وثمانين (١).

وأقيم بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل ، فلمّا كان يوم الجمعة رابع عشر شوّال سنة تسعين ، سأل الأشرف الخليفة الحاكم بأمر الله ، أن يخطب بنفسه النّاس ، وأن يذكر في خطبته أنّه قد ولّى السلطنة الأشرف خليل بن المنصور. فلبس الخليفة خلعة سوداء ، وخطب الناس بجامع القلعة (٢) ، ورسم لقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة من ثمّ أن يخطب بالقلعة عند السلطان ، فخطب يوم الجمعة التي خطب فيها الخليفة ، واستمرّ يخطب ويستنيب في الجامع الأزهر. ثمّ أمر الأشرف بقراءة ختمة عند قبر الملك المنصور في ليلة الاثنين رابع ذي القعدة ، فحضرها القضاة والأمراء والأعيان ، ونزل السلطان ومعه الخليفة إليهم وقت السّحر ، وخطب الخليفة بعد الختمة خطبة بليغة ، حرض الناس فيها على غزو بلاد العراق ، واستنقاذها من أيدي التتار ، واستمر الأشرف في السلطنة إلى أن قتل بتروجة (٣) في ثالث (٤) المحرم سنة ثلاث وتسعين ، ونقل فدفن في مدرسته (٥) التي أنشأها بالقرب من السيدة نفيسة ، وقال ابن حبيب يرثيه :

تبّا لأقوام لمالك رقّهم

قتلوا وما رقّوا لحالة مترف

وافوه غدرا ثمّ صالوا جملة

بالمشرفيّ على المليك الأشرف

وأقيم أخوه ناصر الدين أبو الفتوح محمد ، ولقّب الملك الناصر ، وعمره يومئذ تسع سنين (٦) ، واستمرّ إلى حادي عشر المحرّم سنة أربع وتسعين ، فخلع.

وتسلطن زين الدين كتبغا (٧) المنصوري من سبي التّتار ولقّب الملك العادل ، فأقام

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨.

(٢) أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ٧١٨ ه‍. [الخطط المقريزية : ٢ / ٣٢٥].

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٢٥ : الطرّانة. وفي معجم البلدان : تروجة قرية بمصر من كورة البحيرة من أعمال الاسكندرية.

(٤) في المصدر السابق : ثامن عشر المحرّم.

(٥) في المصدر السابق : مدرسة الأشرفيّة.

(٦) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩ : سبع سنين.

(٧) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩ : وهو أحد مماليك المنصور قلاوون.

١١٥

إلى صفر سنة ستّ وتسعين ، فخلع وتسلطن حسام الدّين لاجين المنصوريّ ، وشقّ القاهرة ، وعليه الخلعة الخليفيّة ، والأمراء بين يديه مشاة ، وجاء في تلك السنة غيث عظيم ، بعد ما كان تأخّر فقال الوادعي في ذلك :

يا أيّها العالم بشراكم

بدولة المنصور ربّ الفخار

فالله قد بارك فيها لكم

فأمطر اللّيل وأضحى النّهار

إلى أن قتل ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين ، وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاوون ، وكان منفيّا بالكرك ، فأحضر ، وقلّده الخليفة يوم السبت رابع جمادى الأولى ، وشقّ القاهرة وعليه خلعة الخليفة ، والجيش مشاة بين يديه ، فأقام إلى سنة ثمان وسبعمائة ، فخرج في رمضان قاصدا للحجّ ، فاجتاز بالكرك ، فأقام بها ، ثمّ كتب كتابا إلى الدّيار المصرية ، يتضمّن عزل نفسه عن المملكة ، فأثبت ذلك على القضاة بمصر ، ثمّ نفّذ على قضاة الشام.

وأقيم في السلطنة الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ ، وذلك يوم السبت الثالث والعشرين من شوّال (١) ، ولقّب الملك المظفّر ، وقلّده الخليفة ، وألبسه الخلعة السوداء والعمامة المدوّرة ، وركب بذلك وشقّ القاهرة ، والدّولة بين يديه والصاحب ضياء الدين النّشائيّ حامل التقليد من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود وأوّله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [النمل : ٣٠].

ثم نفذ التقليد إلى الشام ، فقرىء هناك ، ثم عاد الملك الناصر من الكرك طالبا عوده إلى ملكه ، وبايعه على ذلك جماعة من الأمراء ، فبلغ ذلك المظفّر بيبرس ، فاستدعى بالشيخ زين الدين بن المرحّل وبالشيخ شمس الدين بن عدلان ، واستشارهما ، فأشارا عليه بتجديد العهد من الخليفة وتخليف الأمراء ففعل ذلك ، وكتب له عهد من الخليفة ، صورته :

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، من عبد الله وخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبي الرّبيع سليمان العباسيّ لأمراء المسلمين وجيوشها ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩]. وإنّي رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفّر ركن الدّين بيبرس نائبا عنّي لملك الديار المصرية والبلاد الشاميّة ، وأقمته مقام نفسي لدينه وكفايته وأهليّته ، ورضيته للمؤمنين ، وعزلت من كان قبله ، بعد علمي بنزوله عن الملك ، ورأيت ذلك متعيّنا عليّ ، وحكمت بذلك الحكّام الأربع. واعلموا

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩ : ذي الحجّة.

١١٦

رحمكم الله أنّ الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ، ولا كابر عن كابر ، وقد استخرت الله تعالى وولّيت عليكم الملك المظفّر ، فمن أطاعه فقد أطاعني ، ومن عصاه فقد عصاني ، ومن عصاني فقد عصى أبا القاسم ابن عمّي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبلغني أنّ الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور شقّ العصا على المسلمين ، وفرّق كلمتهم ، وأطمع عدوّهم فيهم ، وعرّض البلاد الشامية والمصريّة إلى سبي الحريم والأولاد ، وسفك الدماء ، فتلك دماء قد صانها الله تعالى من ذلك ، وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمرّ على ذلك ، وأدافع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم بهؤلاء الأمراء والجيش العظيم ، وأقاتله حتّى يفيء إلى أمر الله. وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي ، اللواء الشريف ، فقد أجمعت الحكام على وجوب دفعه وقتاله إن استمرّ على ذلك ، وأنا أستصحب معي الملك المظفّر ، فجهزوا أرواحكم. والسلام.

وقرىء هذا العهد على منابر الجوامع بالقاهرة ، وأمّا النّاصر فإنه سار من الكرك بمن معه في أوّل شعبان سنة ثمان وسبعمائة ، فأتى دمشق فانتظم أمره ، ثمّ توجّه إلى مصر ، فلمّا بلغ ذلك المظفّر بيبرس ، أخذ جميع ما في الخزائن من الأموال ، وتوجّه إلى جهة أسوان ، فدخل النّاصر إلى مصر يوم عيد الفطر ، وصعد القلعة وجلس على سرير الملك ، وحلفت له العساكر ، ثمّ وجّه إلى المظفّر من أحضره واعتقله ، ثمّ خنقه في خامس عشر شوال.

وقال العلاء الوداعي في عود الناصر إلى ملكه :

الملك الناصر قد أقبلت

دولته مشرقة الشّمس

عاد إلى كرسيّه مثل ما

عاد سليمان إلى الكرسي

وقال الصلاح الصفديّ :

تثنّى عطف مصر حين وافى

قدوم النّاصر الملك الخبير

فذلّ الجشنكير بلا لقاء

وأمسى وهو ذو جأش نكير

إذا لم تعضد الأقدار شخصا

فأوّل ما يراع من النّصير

وشرع يعاتب الناس في أمره ، فقال للخليفة : هل أنا خارجيّ وبيبرس من سلالة بني العباس؟!

وقال للقاضي علاء الدين بن عبد الظاهر ـ وكان هو الذي كتب عهد المظفّر عن الخليفة ـ : يا أسود الوجه ؛ وقال للقاضي بدر الدين بن جماعة : كيف تفتي المسلمين بقتالي؟! فقال : معاذ الله ، أن تكون الفتوى كذلك! وإنّما الفتوى على مقتضى كلام

١١٧

المستفتي. ثمّ عزله عن القضاء ، وعزل القاضيين : شمس الدين السّروجيّ (١) الحنفيّ والحنبليّ ، وأبقى المالكيّ ، لكونه كان وصيّا عليه من جهة أبيه قلاوون.

وقال الشيخ صدر الدين بن المرحّل (٢) : كيف تقول في قصيدتك :

ما للصّبيّ وما للملك يكفله

شأن الصبيّ بغير الملك مألوف؟!

فحلف ابن المرحّل ما قال هذا ، وإنّما الأعداء زادوا هذا البيت في القصيدة ، والعفو من شيم الملوك ؛ فعفا عنه.

وجاء الشيخ شمس الدين بن عدلان (٣) يستأذن ، فقال الناصر للدوادار : قل له : أنت أفتيت أنّه خارجيّ ، وقتاله جائز ، مالك عندي دخول! ولكن عرّفه أنّه وابن المرحّل يكفيهما ما قال الشارمساحيّ في حقّهما ، وكان الأديب شهاب الدين أحمد بن عبد الدائم الشارمساحيّ الماجن قال :

ولّى المظفّر لمّا فاته الظّفر

وناصر الحقّ وافى وهو منتصر

وقد طوى الله من بين الورى فتنا

كادت على عصبة الإسلام تنتشر

فقل لبيبرس إنّ الدهر ألبسه

أثواب عارية في طولها قصر

لمّا تولّى تولّى الخير عن أمم

لم يحمدوا أمره فيها ولا شكروا

وكيف تمشي به الأحوال في زمن

لا النيل أوفى ، ولا وافاهم مطر

ومن يقوم ابن عدلان بنصرته

وابن المرحّل قل لي : كيف ينتصر؟!

وكان النيل لم يوفّ سنة تولّى المظفر ، وارتفع السعر.

قلت : الكلّ مظلومون مع النّاصر ، فإنهم أفتوا بالحقّ ، ولكن جبروت وظلم وعسف ، وشوكة وصبا وجهل ، فمن يخاطب الإنسان!

واستمرّ الناصر في السلطنة بلا منازع ، فحجّ خفيفا في سنة اثنتي عشرة من طريق الكرك ، وعاد إلى دمشق ، ثمّ حجّ من القاهرة سنة تسع عشرة ومعه قاضي القضاة البدر

__________________

(١) هو قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الشافعي ، توفي في ربيع الآخر سنة ٧١٠ ه‍ وله ثلاث وسبعون سنة. [شذرات الذهب : ٦ / ٢٣].

(٢) هو صدر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد بن عطية بن أحمد الشافعي العثماني المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل. ولد سنة ٦٦٥ ه‍ بدمياط ، وله نظم رائق. توفي بالقاهرة سنة ٧١٦ ه‍. [شذرات الذهب : ٦ / ٤٠].

(٣) وهو شيخ الشافعية ، واسمه محمد بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم بن عدلان. ولد سنة ٦٦٣ ه‍ ، وتوفي سنة ٧٤٩ ه‍. [شذرات الذهب : ٦ / ١٦٤].

١١٨

ابن جماعة ، والأمراء وغالب أرباب الدولة ، وكان خروجه في سادس ذي القعدة ، وأبطل في هذه السنة مكوس الحرمين ، وعوّض أميري مكّة والمدينة عنها إقطاعات بمصر والشام ، ومهّد ما كان في عقبة إيلياء من الصخور ، ووسّع طريقها.

واتّفق في هذه السنة أنّ كريم الدين ناظر الخاصّ حضر إلباس الكعبة الكسوة ، فصعد الكعبة ، وجلس على العتبة يشرف على الخيّاطين ، فأنكر الناس استعلاءه على الطائفين ، فسقط لوقته على رأسه ، وصرخ الناس صرخة عظيمة تعجّبا من ظهور قدرة الله ، وانقطع ظهره ، ولولا تداركه من تحته لهلك ؛ وعلم بذنبه ، فتصدّق بمال جزيل.

ثمّ حجّ الناصر حجّة ثالثة في سنة اثنتين وثلاثين ، وهو الذي حفر الخليج الناصريّ (١) الداخلي من قنطرة قديدّار (٢) وعزم على أن يجري النيل تحت القلعة ، ويشقّ له من ناحية حلوان ، فثبّطه عن ذلك فخر الدين ناظر الجيش ، وقال إنه يحتاج إلى ثلاث خزائن من المال ، ولا يدري : هل يصح أو لا! فرجع عنه.

واستمرّ الناصر إلى أن مات يوم الأربعاء عاشر ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين ، وهو أطول ملوك الترك مدّة.

وأقيم بعده ولده سيف الدين أبو بكر ، ولقّب الملك المنصور ، فأقام دون الشهرين ، ثمّ خلع في يوم الأحد العشرين من صفر سنة اثنتين وأربعين ، ونفي هو وإخوته إلى قوص ، وتهتّكت حريم أبيه الناصر ، وكثر البكاء والعويل بالقاهرة. وكان يوما من أشنع الأيّام ، ثمّ قتل بقوص ، وأقيم بعده أخوه علاء الدين كجك ولقّب الملك الأشرف ، وعمره دون (٣) ستّ سنين ، فقال بعض الشعراء في ذلك :

سلطاننا اليوم طفل والأكابر في

خلف وبينهم الشّيطان قد نزغا

فكيف يطمع من تغشاه مظلمة

أن يبلغ السؤل والسلطان ما بلغا

فأقام خمسة أشهر ، ثمّ خلع في أوّل شعبان ، واعتقل بالقلعة إلى أن مات سنة ستّ وأربعين. قال صاحب السكردان : والله أعلم كيف موته.

وأقيم أخوه شهاب الدين أحمد ولقّب الملك الناصر ، وكان قدم من الكرك ، وكان الذي عقد المبايعة بينه وبين الخليفة الشيخ تقي الدين السبكيّ ، وقد حضر من الشام إلى مصر ، قال في السّكردان :

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٥.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٨ : قدادار على الخليج الناصري.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩ : ولم يكمل من العمر ثمان سنين.

١١٩

فأقام في الملك بمصر أربعين يوما ، ثمّ رجع إلى الكرك ، ولم يزل هناك حتى خلع يوم الخميس (١) ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وأربعين ، ثمّ قتل في أوّل سنة خمس وأربعين ، وأقيم بعده أخوه عماد الدين إسماعيل ولقّب الملك الصالح ، فأقام إلى أن مات في رابع (٢) ربيع الآخر سنة ستّ وأربعين وعمره نحو عشرين سنة.

وقال الصلاح الصفدي يرثيه :

مضى الصالح المرجوّ للباس والنّدى

ومن لم يزل يلقى المنى بالمنائح

فيا ملك مصر كيف حالك بعده

إذا نحن أثنينا عليك بصالح

وأقيم بعده أخوه زين الدين شعبان (٣) ، ولقب الملك الكامل. وقال الجمال بن نباته في ذلك :

طلعة سلطاننا تبدّت

بكامل السّعد في الطلوع

فأعجب لها منه كيف أبدت

هلال شعبان في ربيع

وقال أيضا :

شعبان سلطاننا المرجّى

مبارك الطّالع البديع

يا بهجة البدر إذ تبدّى

هلال شعبان في ربيع

فأقام سنة وأياما ، ثمّ خلع في جمادى الأولى (٤) سنة سبع وأربعين ، وسجن وقتل. وكان من شرار الملوك ظلما وعسفا وفسقا ، فقال فيه الصلاح الصفديّ :

بيت قلاوون سعاداته

في عاجل كانت وفي آجل

حلّ على أملاكه للرّدى

دين قد استوفاه بالكامل

وأقيم بعده أخوه زين الدين حاجي ، ولقّب الملك المظفّر ؛ فأقام سنة وثلاثة أشهر ، ثمّ خلع في يوم الأحد ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وذبح من ساعته ، وقال فيه الصلاح الصفديّ :

أيّها العاقل اللبيب تفكّر

في المليك المظفّر الضّرغام

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٤٠ : الأربعاء حادي عشر المحرم.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٤٠ : رابع عشر.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٤٠ : سيف الدين.

(٤) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٤٠ : جمادى الآخرة.

١٢٠