تاريخ المدينة المنوّرة

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]

تاريخ المدينة المنوّرة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

ولقد كان في وسط المسجد سقاية يحمل إليها الماء من العين ، بناها شيخ الخدّام في ذلك الوقت ، وأوقف عليها أوقافا من ماله ، وكانت متقدّمة على النخل ، تقديرها خمسة عشر ذراعا في مثلها ، وجعل في وسطها مصرفا للماء مرخما ، ونصب فيها مواجير للماء وأزيارا ، ودوارق وأكوابا ، حجرها بالخشب والجريد ، وجعل لها غلقا من حديد ، واستمرت السنين العديدة ، فكثر الشرّ فيها والتزاحم عندها ، وصار يدخلها من يتوضأ فيها ، وربّما يزيل عنه فيها الأذى من استقرب المدا.

ثمّ تعدى الحال في شرّها إلى أن تضورب عليها بالسلاح ، وطلب الخدّام شريفا أساء على أهل الحرم ، فسلّ سيفه على الناس ، وغلقت الأبواب ، واحتمى بالسكين حتى جاءت رسل الأمير فأخرجوه ، وذلك كلّه بسبب السقاية ومن فيها.

فلما غلبت مفسدتها على مصلحتها ، أزيلت عن اجتماع من القاضي شرف الدين الأميوطي (١) ، والشيخ ظهير الدين (٢) ، فانظر هذا التحجير الكثير في وسط المسجد كيف اغتفر للمصلحة حتى كثرت المفسدة ، وتعدّت فأزيلت.

وممّا أدركت من البدع التي أراح الله منها ، ما كان يفعله الشرفاء من آل سنان وغيرهم ، كانوا إذا أظل الحاجّ يسارعون إلى الحجرة بصناديق وكراسي ينصبونها حول الحجرة الكريمة يتخذونها مقامات ، يجلسون عليها للتزوير عند الصندوق الذي قابل رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا ، وعند المسمار الذي في الرخام اليوم واحدا ، وعند أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه واحدا ، وعند بيت فاطمة رضي‌الله‌عنها واحدا ، وعند المحراب الذي في الحجرة واحدا ، لا يقدر أحد أن يشاركهم في مناصبهم ، ولا ينفصل عنهم الزائر إلا بشيء ، وإن كان معه شمع أو ماء ورد ، أو هدية أو نذر ، فهم الآخذون له يجعلونه في صناديقهم بدعا مقرونة بجاه الولاة من الشرفاء.

__________________

(١) هو : محمد بن محمد بن إبراهيم شرف الدين الأميوطي ؛ ولد سنة ٦٧٤ ه‍ ، ولي القضاء والإمامة والخطابة بالمدينة إلى أن توفي سنة ٧٤٥ ه‍. ترجمته في : «الدرر الكامنة» (٤ / ١٥٩).

(٢) هو : مختار الأشرافي ، ظهير الدين شيخ الحرم.

٢١

لم يزل كذلك حتى قويت السنة وأهلها ، واتفقت الجماعة كلها على قاضيها وشيخها ، فزال ذلك ببركة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما ذلك بسبب اجتماع الكلمة ، وحسن النية ، وفّقنا الله لما يرضيه ، ورضّانا بما يقضيه ، وزال ببركة الاجتماع ، أشياء كثيرة من هذه الأنواع ، منها : أني أدركت قرّاء الإمامية وأئمتها إذا دخل شهر رمضان ، أخذوا من القبة شمعا وشمعدانات على عددهم ينصبونها بعد صلاة الآخرة في مجالسهم ، ويدعون في كتبهم ، ويرفعون أصواتهم حول الروضة ، والناس في الصّلاة لا يعلمون صلاتهم من رفع أصواتهم ، ولا يسمعون قراءة إمامهم لكثرة قرائهم ، ويجتمع عليهم من الناس خلق كثير ، ويتخللون تلك الأدعية بسجدات لهم مؤقتة. ولم يزالوا كذلك إلى أن اجتمعت الكلمة ، وظهر الحق ، فمنعوا من ذلك إلا في بيوتهم ومجالسهم ، فانحسمت المادة ، وزالت تلك العادة.

ولقد أدركت جماعة من المجاورين والخدّام لا يقرؤون كتبهم ، ولا يسمعون حديث نبيهم إلا في خفية ، حتى قدم الصاحب ابن حنّا (١) رحمه‌الله تعالى ، وأقام بالمدينة فكثّر من قراءة المواعيد ، وقام على آل سنان والقياشين ، فهابوا مكانه من السلطان ، وأذعنوا واستعملوا التقية حتى رجعوا فيما زعموا كلهم سنّة.

وكان يأتيه من الينبع قوافل بالدقيق والقمح والأرز ، وأنواع الحبوب ، فيعطي منه الخدام والمجاورين ، ويمد رؤوساء الإماميين وكبار الشرفاء المقيمين ، حتى أشهدوا على أنفسهم أنهم سنّة ، ولا يحكمون بأحكام البدعة ، وكان الحكّام منهم والفقهاء منهم ، ولم يزالوا كذلك حتى سافر الصّاحب عنهم ، فرجعوا إلى حالهم ، ولكن بعد هضم جانبهم وكسر شوكتهم ، فاستمرت المواعيد والقراءات والاستماعات والسماعات ، وذهب

__________________

(١) هو : أحمد بن محمد بن علي بن حسن ، زين الدين بن الصاحب محيي الدين : جاور بالمدينة سنة ٧٠١ ه‍ ، وكان فقيها ديّنا رئيسا وافر الحرمة ، أزال كثيرا من البدع بالحرمين ، وتوفي بمصر سنة ٧٠٤ ه‍. ترجمته في «التحفة اللطيفة» (٢ / ١٤١) ، «الدرر الكامنة» (١ / ٢٨٣).

٢٢

ببركة إقامته كثير من البدع المؤسّسة في المسجد الشريف منها : صلاة الرغائب التي روي أنّها تصلّى ليلة أول جمعة من شهر رجب.

أدركت القاضي سراج الدين الآتي ذكره يصلّيها في جماعة في الروضة المشرفة بلا نكير ، ولا معارض ، وسنده في ذلك ما رواه فيها وأخذ به كثير من الصوفية ، وقد نص العلماء على أنها من البدع وإن كانت من فضائل الأعمال المسندة لحديث ضعيف (١) ، لكنه عارض العمل به بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيام ، ولا يومه بصيام» (٢) ، ورحمه‌الله وجزاه خيرا.

وفي إقامته بالمدينة توفيت زوجته في شهر رجب ، وهي بنت الشيخ ابن أبي حمزة ، وقيل : إنها ورثت سرّ الشيخ والدها نفعنا الله به ، وحملت من المدينة إلى عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد الشهداء ، ودفنت عند شهداء أحد رضي‌الله‌عنهم ، وقبرها معروف يزار للبركة ـ رحمها الله ـ.

وأما الصاحب زين الدين ، فكانت وفاته بمصر سنة أربع وسبعمائة ، وكان في الزمن الأول مقرئ الحرم ورئيسه ، الشريف الموصلي محمد بن سعيد (٣) ، فبلغني أنّ شريفا سمع يوما أنّ سعيد يقرأ : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١].

فضربه برجله وقال : قم يا عدو الله ، كم تكذب على الله ، وخوّفه بالقتل حتى دخل على بعض الشرفاء فأمنه منه ، وتوفي محمد بن سعيد بمصر سنة تسع وتسعين وستمائة.

فنحن اليوم في عافية ، ونعم من الله متتالية ، ببركة هذا النبي الكريم

__________________

(١) انظر كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني على حديث صلاة الرغائب في «تبيين العجب بما ورد في شهر رجب» ، ص ٥٢ وما بعدها.

(٢) روى مسلم في «صحيحه» ٢ / ٨٠١ ؛ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ... الحديث». ورواية المصنف للحديث على سبيل الاختصار.

(٣) وقع في جميع النسخ العبارة كما يلي : «... مقرئ الحرم ورئيسه الشريف الموصلي ومحمد بن سعيد ...» ، لكن السخاوي في «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤٨٠ ذكر أن الشريف الموصلي هو محمد بن سعيد ، ونقل طرفا من هذه القصة عن ابن فرحون ، وسياق العبارة يؤكد ذلك وأن الواو زائدة.

٢٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لو سلمنا من البغضاء التي يتحملها بعضنا في بعض ، أزالها الله بالاجتماع والموافقة على الكلمة السنية ، والشريعة العلية.

وإنما ذكرت هذه البدع ـ وإن لم تكن مقصودنا استرسالا عند ذكر ما ابتدع ، لمصلحة ليعلم أنّ الحقّ يدوم بدوام الباعث عليه ، ويزول بزواله ، ولو طال زمانه وكثر اتباعه ، ويعلم أنّ للاجتماع أثرا ، وللتّفريق أشرا ، ولقد كان الأولى بالنّاس اليوم إنكار البدع المتعلّقة بالصلّاة التي هي عماد الدّين.

فمن ذلك : ما أحدث في الصفوف من التقطيع ، وتقديم من هو أهل للتقديم ، وتأخير من هو أهل للتأخير ، وتأديب من صلّى وحده مع القدرة على الدخول في الصّفّ.

قال ابن حبيب من علمائنا : أدركت بالمدينة رجالا موكّلين بالصفوف ، فإذا رأوا رجلا يصلّي خلف الصّفّ وحده وفي الصّفّ له مدخلّ ، تركوه حتى يفرغ من صلاته ، ثمّ ذهبوا به إلى الحبس ، ومذهب أحمد بن حنبل بطلان الصّلاة ، ولقد رأيت عن يمين الإمام وشماله أهل الصناعات الدنية ، كالدباغ والحداد والجزار ، ومن اشتهر منهم بقلّة الدّين ، وذلك يتكرر منهم كثيرا ، ويليه أيضا من جهة الفقراء من لا يفهم صلاته ، ولا يعقل ما وجب عليه منها وفيها ، ويترك الفقهاء والقراء في أطراف الصفوف ، وخلف تلك الجلوف.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى» (١).

قال القاضي أبو بكر بن العربي : ينبغي أن لا يصلي خلف الإمام إلا من يصلح للاستخلاف ، لما يتوقع من حاجة الإمام من يستخلفه ، أو يردّ عليه ، أو يصلح صلاته.

قال : ولو سبقه من ليس هو كذلك أقيم ، وقدّم إلى الأمام من هو أحقّ.

وأغرب من هذا كلّه أنّه يأتي عاميّ أو جاهل إلى مكان عالم أو فقيه له يصلّي فيه نحو العشرين سنة ، أو أكثر منها فيجلس فيه ، فإذا قيل له : هذا موضع فلان ، يقول : ليس في المسجد موضع لأحد ، وأنا وهو في ذلك

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة «باب تسوية الصفوف وإقامتها» ١ / ٣٢٣ (١٢٢).

٢٤

سواء ، أين هذا المتعرض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذه المنكرات الخفيات؟

ومن ذلك ما يقع عند فتح أبواب الحرم الشريف في السّحر لصلاة الصبح من الزحمة والجري العظيم ، وقلّة الأدب في تلك الحضرة الشريفة ، وفي ذلك الوقت المبارك ، والمضاربة والمشاتمة حتى إنّهم ليقتل بعضهم بعضا من شدّة الخنق ، ولقد أراد تكروريّان أن يقتتلا بالسكاكين في الروضة لأجل ذلك ، وهذه المصيبة العظيمة تدفع بأيسر شيء ، وهو لو كان قومة المسجد وأصحاب النوبة يفتحون للأول فالأول من الناس ، ما حصل هذا البلاء العظيم ، ولكنهم يتركون الناس على الأبواب حتى تضيق أنفسهم ، فيدخلون دفعة واحدة يحطم بعضهم بعضا ، وإثم ذلك على من منعهم ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤]!

ومن ذلك السجاجيد التي يؤبدونها في المسجد ليلا ونهارا ، ولقد كنت أعرف خداما موكلين بالسجاجيد كريحان الموصلي (١) ، إذا وضع أحد سجادته ـ وما كان أهلا لذلك ـ أخذوها ورموها ، ومتى غلبوا عليهم وكثروا ، جمعوا السجاجيد وأخفوها حتى يحترق عليها صاحبها ، فيردونها عليه ويتوبونه ، ولقد أحرقت مرة على باب النساء ، وما زالوا على سائر الأزمان يهتبلون بذلك اهتبالا عظيما ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال الشيخ أبو عبد الله القصري (٢) رحمه‌الله : رأيت في المنام كأن نارا استعرت في الروضة وهي تعمل في السجاجيد ، وأنا أصيح : والله يا رب ما سجادتي من تلك السجاجيد ، وكان يحكي هذه الرؤيا في الميعاد ، وكان رضي‌الله‌عنه يقول : إذا جئت إلى الروضة ولم أجد لي فيها مدخلا فرحت وسررت لما أرى من الحرص على الخير ، وكان ـ رحمه‌الله ـ يقصد طرف الصف من جهة المنبر حتى يرفع البساط ، ويصلي على الرمل.

ومن ذلك : علو الرّمل في الروضة ، ووضع بعضه على بعض ، ولقد

__________________

(١) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» (١ / ٣٥٢).

(٢) هو : أبو عبد الله محمد بن غصن الأنصاري القصبري.

٢٥

كنت دائما أرى الشيوخ من أهل الخير ينفضون الرمل من الروضة ينسفونها نسفا بالمساحي حتى يعلو ما حول المحراب من الرخام محافظة على قرب مقام المأموم من الإمام في العلو ، وبالغوا مرة في الحفر ، فوجدوا يدا مقطوعة مكفنة مدفونة في الروضة ، كأنها قطعت ظلما ، فأراد من هي منه أن تكون بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهلا منه وقلة يقين بالله ، فإن الله تعالى يعلم من ظلم فيكافيه ، ومن ظلم فيجازيه ، ومرة وجدوا إصبعا مدفونة تحت الشباك.

وما زال العلماء والأئمة يتحرجون من كون الحضرة منخفضة انخفاضها اليوم ، فمن قائل بالكراهة ، ومن قائل بالمنع ، وقد اعتبرتها اليوم بالذراع فوجدتها ذراعا بالرمل والبساط الذي علا عليها وعلى ترخيمها ، وفي المذهب قولان في صحة صلاة الإمام والمأموم ، وعلى هذا يجب القول بالمنع. وأما في أيام القاضي سراج الدين فمن بعده إلى أيام شرف الدين ، فإنهم كانوا يرفعون مقام الإمام بشيء من الرمل حتى تزول الكراهة والمنع.

ولما قام في ذلك شرف الدين الأميوطي ـ رحمه‌الله ـ ، وأراد إزالة الخشب وما حوله وطمس المقام أو رفعه ، قام في وجهه الخدام وكرهوا أن يتغير مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستعانوا على القاضي بالأشراف ، فكف وانتقل عن المحراب ، وصار يصلي إلى الإسطوانة التي تقابل إسطوانة الوفود ، ولزمها إلى أن مات رحمه‌الله.

ثم ان الخدام رفعوا الرمل الذي كان يرتفع به المقام فنزل بزواله ، ثم جعلوا الرمل على الترخيم الذي حول المحراب ، فارتفع مقام المأموم وانخفض مقام الإمام واتضع ، وصار من الفقهاء من يدفع الكراهة بما يحصل من القرب إلى مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموقع قدميه.

ويقول : في هذا من الفضل ما يوازي لي ما في ذلك من النقصان.

وهذه ، والله أعلم ، نزعة صوفية لا علمية ولا عملية.

وكذلك كل من رأيت بحث في هذه المسألة لا يصوب الانخفاض إلا لمعنى ليس من الشريعة ، وما أقرب قولهم إلى قلوب العامة وضعفة الفقهاء ، وأسرعه إليها.

إذ يقال : ما يدنيني من محل كان الرسول الله يصلي فيه ويجلس عليه ،

٢٦

ويمسّ جبهته ويديه ، أحق بأن أمرّغ وجهي عليه ، وأملأ محاجري من تراب قدميه ، وهذا حق وكلنا نقول به ونحبه ، لكن الخير كله في اتباع سنته ، وما أمر به ، وما حضّ عليه ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن موقفه من المأموم أخفض ولا أعلى ، بل كان هو وأصحابه في الموقف سواء ، فمن خالف سنته بالهوى فقد غوى ، بل التمادي على المكروهات والبدع الموضوعات يعظمها ويصيرها كبائر ، فمن قدر على التغيير والإزالة فلم يفعل ، يخاف عليه أن عمله لا يقبل ، وأن الله تعالى عن ذلك منه يسأل ، ثم إن القيام في ذلك صار جانبا عن هذه المعاني ، بل داخله حظّ النفس والتعصب في صورة التعبد والتقرب ، أعاذنا الله من حظوظ أنفسنا ، وهدانا لما فيه صلاح ديننا ، وألف بين قلوبنا ، برحمته وكرمه.

ثم مع ما في المقام الشريف من الكراهة في الانخفاض أضف إليه كتابة القرآن العزيز في قبلة الإمام والمأموم ، ولا خلاف بين الناس في كراهة هذا حتى قيل ببطلان صلاة من قرأه واشتغل به مع التزويق العظيم والتذهيب الأنيق الذي يشغل المصلّي ، ولو كان بالولاية متحليّا ، ألا ترى كيف ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخميصة لما خاف أن يشغله علمها في الصلاة؟ وقال : «ردوا هذه الخميصة على أبي جهم ، وائتوني بأنبجانية أبي الجهم فإن علمها كاد يفتني في صلاتي» (١).

وهذا إنما هو تعليم للأمة وتحذير لهم من أن يكون مثل هذا في الجملة من السنّة.

وانظر إلى فعل أبي طلحة رضي‌الله‌عنه لما كان يصلي في حائطه ، فطار دبسي ، فطفق يتردّد يلتمس مخرجا ، فأعجبه ذلك فجعل يتبعه بصره ساعة ، ثم رجع إلى صلاته ، فإذا هو لا يدري كم صلى!!

فقال : لقد أصابتني في مالي هذا فتنة فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب إذا صلى في ثوب له أعلام (٣٧٣) ، ومسلم في المساجد ، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام (٥٥٦).

٢٧

وقال : يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت (١).

وفي «الموطأ» (٢) أيضا : أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقفّ ـ واد من أودية المدينة ـ في زمان التمر والنخيل قد ذللت ، فهي مطوقة بثمرها ، فنظر إليها فأعجبه ما رأى من ثمرها ، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى!!

فقال : لقد أصابتني في مالي هذا فتنة.

فجاء عثمان بن عفان ـ وهو يومئذ خليفة ـ ، فذكر له ذلك.

وقال : هو صدقة فاجعله في سبيل الخير ، فباعه عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه بخمسين ألفا ، فسمي ذلك المال : الخمسين.

وكم مثل هذا أثبتته السنّة خوفا من مثل هذه البدعة.

قال أبو الحسن اللخمي في «التبصرة» : قال مالك رحمة الله عليه : كره الناس ما فعل في قبلة المسجد بالمدينة من التزويق ؛ لأنه يشغل الناس في صلاتهم ، وأرى أن يزال كل ما يشغل الناس عن صلاتهم وإن عظم ما كان أنفق فيه.

قلت : وإنما زخرف المساجد من زخرفها لمعنى قصدوه ، لا للزخرفة ، لأن الوقت كان من الكفر والجاهلية قريبا ، فما كان يقوم للمسجد من التعظيم والتفخيم قبل ما صنع فيه ما يقوم له بعد ذلك ، فأرادوا ذلك المعنى.

ومما يدل عليه : أن جامع بني أمية لما بني على هيئته اليوم بالفسيفساء وولي عمر بن عبد العزيز ، كره أن يكون المسجد على هيئة تشغل المصلي ، فأمر بأن تستر القبلة والجدار بالقباطي ، ثم قدم الشام راهبان فسألوا عن الكشف حتى ينظروا إليه ، فأرسلوا إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يسألونه في ذلك ، فأذن لهم ، فلما رأوه استعظموا ذلك ، ودخل عندهم من ملك الإسلام رهبة وعظمة ، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز.

__________________

(١) الموطأ «باب النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها» (٢٢٠).

(٢) باب «النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها» (٢٢٣).

٢٨

فقال : أرى ما هناك يغيظهم ويكبتهم ، ارفعوا القباطي فرفعوها.

وأما ما يتأوله بعض الناس أن الزخرفة مأذون فيها من قوله عليه الصّلاة والسّلام : «لا تقوم الساعة حتى تزخرف المساجد» (١).

فهو غلط بيّن ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدّ هذا من الأشياء التي تدل على فناء الدين وذهاب من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

فقال : «من أشراط الساعة أن تزخرف المساجد كأنها البيع والكنائس» (٢).

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ذهب الرجال العاملون بعلمهم

والمنكرون لكل أمر منكر

وبقيت في خلف يزيّن بعضهم

بعضا ليدفع معور عن معور

وما أشين البدعة في مثل هذه الحضرة التي عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزيينها ورفع جذوعها.

فقال : «بل عريش كعريش أخي موسى» (٣).

أما ما فعل من ذلك لضرورة أو لعذر ما ، فيكاد أن يغتفر منه شيء ما وجد مبتدعه لبدعته عذرا إن خفف من ذلك قدرا ، وإنما الميزان القويم ، والقسطاس المستقيم ، في اتباع هذا النبي الكريم ، فالناس اليوم في جانب عن سنته واتباع ملته وطريقته ، وما أحق المجاورين له بالأدب معه ، والسؤال عن أحواله وأقواله فيتبعونها ، خصوصا قومة مسجده الشريف ، وخدّامه ، ويعلمون أن من خدمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيم العلم وأهله ورفع منزلتهم والقيام بحقهم ، والتغافل عن زللهم والشفقة على ضعيفهم ، لأن منزلتهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفيعة ، ونسبتهم إليه عظيمة ، إذ جعلهم الوارثين له ، ولا ميراث لهم إلا ما حملوه من سنته وشريعته.

وفي الحديث أن أبا هريرة رضي‌الله‌عنه دخل السوق فقال لأهله :

__________________

(١) روى أبو داوود ٣١١ (٤٤٩) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد».

(٢) سنن ابن ماجه ١ / ٢٤٤ (٧٤٠) ، ورواية الحديث هنا بالمعنى.

(٣) سنن الدارمي ١ / ٢٣ (٣٨).

٢٩

أراكم هاهنا وميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم في المسجد؟ فذهب الناس إلى المسجد وتركوا السوق فلم يروا شيئا.

فقالوا : يا أبا هريرة ، ما رأينا ميراثا يقسم!

قال : فما رأيتم؟

قالوا : رأينا قوما يذكرون الله عزوجل ، ويقرؤون القرآن ، وينشرون العلم.

فقال : ذلك ميراث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فواجب إذا تعظيمهم وتوقيرهم ، وما أحق من إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتمى بهذا المعنى ، فإن سر المخدوم يسري إلى خادمه فيتأدب بآدابه ، ويشكر الله تعالى إذ جعله على بابه ومن حجّابه ، وأن أهّله لنسبة الخدمة ، وكفى بها من نسبة ، فيقال : خادم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويمثل نفسه الغوية بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيرضى لها من الأدب ما يعلم أنه يرضاه لو رآه ، وأين القلب الصافي ، والعقل الوافي ، الذي ينظر الأولياء بهما في هذه المعاني.

تنبيه

حكى لي الشيخ الإمام العلامة أقضى القضاة جمال الدين محمد بن أحمد المطري (١) أنه كان بالمدينة الشريفة رجل صالح عظيم القدر من أرباب القلوب يقال له : الزجّاج ، وكان شيخا لجمال الدين وللشيخ محمد بن إبراهيم المؤذن (٢) ، وكانا بعد موت والديهما مؤذنين متواخيين في رئاسة الأذان ، يتعاقبون في الوقت.

قال لي : فكنا نجيء إلى باب المسجد في السّحر للدخول لأجل الأذان ، فنجد الشيخ قاعدا على الباب في ذكر وقراءة.

قال : فأدق الباب ، فيقول لي صاحب النوبة : من هذا؟

__________________

(١) ترجمته في : «لحظ الألحاظ» ص ١١٠ ، «الدرر الكامنة» ٣ / ٣١٥ ، «الأعلام» ٥ / ٣٢٥ ، «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤١٣.

(٢) هو : محمد بن إبراهيم بن محمد الجمال أبو عبد الله الكناني ؛ ولد سنة ٦٢١ ، وكان شيخا صالحا خيّرا فاضلا ، رئيسا بالحرم ، توفي سنة ٧٢٧. انظر ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤٠٧ ، «المغانم المطابة» الورقة ٢٦٤ / ب.

٣٠

فأقول له : محمد. فيفتح لي ، ثم يجيء صاحبي فيفعل معه مثل ذلك ، ثم كذلك لثالثنا ، وكان اسمه عبد الرحمن ، من قرابة الشيخ محمد بن صالح (١) نائب الإمامة والخطابة.

قال : فخلا الشيخ بي وقال لي : يا محمد ، أنت تتصور ما أنا وأنت فيه كل ليلة؟

فقلت له : لا علم لي.

فقال لي : صدقت ، لو علمت لظهر عليك أثره. ثم قال لي : أحضر عقلك وانظر إلي كيف أبقى بعدك محجوبا عن الدخول ، وأنت مأذون لك دوني ، فتدخل وتجتمع بمحبوبك وتخلو به وتتلذذ بمناجاته ، وأنا مطرود وراء الباب مبعود! يا بني هذا حال الآخرة ، لا يفعل بك مثل ما هو اليوم يفعل بي.

قال : فوجدت بذلك موعظة عظيمة كنت عنها غافلا.

فانظر إلى هذا الشيخ كيف نبه على هذا الكيف ، وحال من انتمى إلى هذا المحل يجري هذا المجرى ، أليس هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع من يسلم عليه؟

فإذا وقف أحدنا بين يديه كوقوف المملوك بين يدي المالك ، وقد خالفه في أمره له ونهيه ، وارتكب من الأخلاق السيئة ما لا يرضى به ، أليس جديرا بأن يعرض عنه ، ويغضب عليه ، ويقول له بلسان الحال : أنت لا تصلح لقربي ، ولا أن تكون في زمرتي ، ولا أرضى أن تكون معي ، بأي وجه تأتي إليّ وأنت المسيء إلى جيراني وأحبابي ، ومن هو منتمي إلى سنّتي؟

فما الجواب يا ضعيف الرأي ، وقد أخرك عملك ، وجنى عليك خلقك؟

ولا أقول هذا لغيري حتى أبدأ بنفسي ، ولهذا أمثال في شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشهد لما ذكرته.

__________________

(١) هو : محمد بن صالح بن إسماعيل الشمس بن التقي الكناني : ولد سنة ٧٠٣ ، تولى الخطابة والإمامة ، وكان عارفا بالقراءات ، توفي سنة ٧٨٥. انظر ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤٨٤ ، «الدرر الكامنة» ٣ / ٤٥٧.

٣١

قال علماؤنا رحمهم‌الله : إذا أكرى رجل داره لرجل ، فظهر منه دعارة ، أو فسق ، أو شرب خمر ، أو سرقة ، أو شبه ذلك مما يؤذي الجيران ، فإن الحاكم يكفّ أذاه عن رب المنزل وعن الجيران ، فإن كفّ وإلا أخرج منها ولزمه كراؤها ، فإن جاء من يكتريها ، وإلا تركت خالية ووزن كراءها.

وكذلك لو كانت الدار ملكه ، وظهر منه شيء من ذلك عاقبه الحاكم على ذلك ، فإن لم ينته أخرجه الحاكم منها وباعها عليه ليستريح جيرانه من ضرره.

وفقنا الله للأدب في هذه الحضرة الشريفة ، ورزقنا حسن جواره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم.

فاحذر أن يمحى اسمك من جيران المجاورين ، وأن تحبط خدمتك لهذا النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن تنفى عن هذا المحل الأسنى إن لم يكن حسا فبالمعنى ، فيجب على كل من انتمى إلى هذا الجناب الكريم أن يتخلق بأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعامل جيرانه بما يرضيه من احترام الكبير والصغير ، والشفقة عليهم والعفو عن المسيء.

فمن أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحلم والاحتمال ، والعفو مع القدرة ، والصبر على ما يكره.

ولما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد ، قيل له : يا رسول الله لو دعوت عليهم.

فقال : «إني لم أبعث لعانا ، ولكن بعثت داعيا ورحمة لهم ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

قال القاضي عياض (١) : انظر ما في هذا القول من جماع الفضل [ودرجات الإحسان](٢) وحسن الخلق ، وكرم النفس وغاية الصبر والحلم ، إذ لم يقتصر صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السكوت عنهم حتى عفا ، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم.

__________________

(١) الشفاء : ١ / ١٠٦.

(٢) ساقطة في جميع النسخ ، وما أثبته من «الشفا».

٣٢

فقال : «اللهم [اغفر أو](١) اهد» ، ثم أظهر سبب تلك الشفقة عليهم والرحمة.

بقوله : «لقومي» ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم.

ولما قال له الرجل : اعدل ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. لم يزده في جوابه أن بين له ما جهله ، ووعظ نفسه وذكرها بما قال له.

ومن عظيم عفوه وصفحه : عفوه عن اليهودي الذي سحره ، وعفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة ، وكفه عن المنافقين مع علمه بنفاقهم وسوء نياتهم ، وعفوه عن الأعرابي الذي جبذه بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه الشريف ، ولما أظهره الله على قريش ، لم يشكّوا في استئصال ساقتهم ، وإبادة خضرائهم ، فعفى عنهم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقولون إني فاعل بكم»؟

فقالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال عليه الصلاة والسلام : «أقول كما قال أخي يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف : ٩٢] ، اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وروي (٢) أن أعرابيا جاء يطلب منه شيئا فأعطاه ثم قال له : «أحسنت إليك»؟

فقال الأعرابي : لا ، ولا أجملت.

فغضب المسلمون وقاموا ، فأشار إليهم أن كفوا ، ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده شيئا.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحسنت إليك؟

قال : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي منك شيء ، فإن

__________________

(١) ساقطة في جميع النسخ ، وما أثبته من «الشفا».

(٢) الشفا : ١ / ١٢٣. قلت : قال الخفاجي في «الشرح» ٢ / ٧٥ ؛ هذا الحديث رواه البزار عن أبي هريرة بسند ضعيف ، وكذا ابن حبان وغيره ولم يسموا الأعرابي اه.

وقال ٢ / ٧٨ : وهذا الحديث رواه البزار وأبو الشيخ بسند ضعيف عن أبي هريرة وابن حبان في «صحيحه» وابن الجوزي في «الوفا» اه.

٣٣

أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك.

قال : نعم.

فلما كان الغد أو العشي جاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي ، أكذلك؟».

قال : نعم جزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل هذا ، مثل رجل له ناقة شردت عليه ، فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحبها : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجّه لها بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها واستوى عليها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار».

ولما كذبه قومه ، ناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال : مرني بما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين؟.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا».

وقال له جبريل عليه‌السلام : إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك.

فقال عليه الصلاة والسلام : «أؤخّر عن أمتي لعل الله أن يتوب عليهم».

ورفقه عليه الصلاة والسلام بالأعرابي الذي بال في المسجد ، وقال لأصحابه : «لا تزرموه».

وأما حسن عشرته وأدبه فقد انتشرت به الأخبار الصحيحة.

وقال علي رضي‌الله‌عنه وكرم وجهه في وصفه عليه الصلاة والسلام : كان أوسع الناس صدرا ، وأصدقهم لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة.

ومن ذلك قصته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قيس بن سعد ، لما زار سعدا وأراد الانصراف ، قرب سعد حمارا ووطاء عليه بقطيفة فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قال سعد : يا قيس ، اصحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٤

قال قيس ؛ فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اركب» ، فأبيت.

فقال لي : «إما أن تركب ، وإما أن تنصرف» ، فانصرفت.

وفي رواية أخرى : «اركب أمامي ، فصاحب الدابة أولى بمقدمها».

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤلفهم ، ولا ينفرهم ، ويكرم كريم قوم ويولّيه عليهم.

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما دعاه أحد من أصحابه وأهل بيته إلا قال : «لبيك».

وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجالسهم ، ويجلسهم في حجره ، ويجيب دعوة العبد والحر والأمة والمسكين ، ويعود المرضى في أقصى المدينة.

ولقد قال يوما : «أين فلان»؟

فقيل : مريض.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نذهب إليه لنعوده».

فقيل له : بعيد منزله.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «منه كان يأتينا».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل عذر المعتذر.

وقال أنس : ما التقم أحد أذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينحي رأسه ، حتى يكون الرجل الذي ينحّي رأسه ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده ، حتى يرسلها الآخر ، ولم يزل على خلق عظيم ، ولم يرى مقدما ركبتيه بين يدي جليس له ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ، ولم ير قط مادا رجليه بين أصحابه حتى لا يضيق بهما على أحد ، حتى إنه يوما أراد أن يمد رجله لتعب لحقه ، فتلطف إلى جلسائه ، فمد رجله الكريمة.

وقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تشبه هذه؟».

فدارت أذهانهم إلى وجوه المشابهة ، فلما أعيوا وقد استراح ، مد الأخرى وقال : «هذه» ، يعني صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يشبهها إلا الأخرى ، فحصل مقصوده مع بقاء حسن الأدب معهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٥

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرم من يدخل عليه ، وربما بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة ، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ، ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز ، فيقطعه بنهي أو قيام ، ويروى : بانتهاء.

ويروى أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته ، وسأله عن حاجته ، فإذا فرغ عاد إلى صلاته ، وكان أكثر الناس تبسما ، وأطيبهم نفسا ، ما لم ينزل عليه قرآن ، أو يعظ ، أو يخطب.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويرقع ثوبه ، ويخصف نعله ، ويخدم نفسه ، ويقمّ البيت ، ويعقل البعير ، ويعلف الناضح ، ويأكل مع الخادم ويعجن معها ، ويحمل بضاعته من السوق.

وقال أنس رضي‌الله‌عنه : خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، فما قال لي : أفّ ، قطّ ، ولا قال لي في شيء صنعته : لم صنعته ، ولا لشيء تركته : لم تركته؟

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء.

وكان دائم البشر سهل الخلق ، لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا فحّاش ، ولا عيّاب ، ولا مزّاح ، ولا يجز بالسّيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو تتبّع هذا لملأ الصّحف فصوله وأبوابه ، وأعجز الكتاب تدوينه وكتابه ، فحقّ على جميع أمته ؛ العامي والشريف ، والقوي منهم والضعيف ، خصوصا من جاوره وخدم ضريحه ، أن يقتبس من أخلاقه ، ويتأدب بآدابه ، ويروض نفسه الغوية على اتباع سنّته العلية ، ولو أن يكف يده إذا غلب على لسانه ، ويعظّم من تفقه في دينه ، واتبع سنّة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنن آله وصحابته ، وإذا رأى من حملة القرآن والعلم أحدا سرّ به وبرؤيته ، وسأل من دعوته ، ولا يسيء الظن بأحد بأدنى هفوة أو زلة ، فإن الإنسان ليس بمعصوم ولو حاز كل العلوم.

٣٦

فصل

ولقد أدركت من الخدام الصالحين ، ومن المجاورين العالمين العاملين ، أقواما على الخير متعاونين ، وعلى البر متظاهرين ، وبسنته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاملين ، رحمهم‌الله أجمعين.

فأول من أدركته من مشايخ الخدام بالحرم الشريف ممن عقلته العزيزي ، عزيز الدولة (١) ، وفي أيامه غرس كثير من النخل الذي بالمسجد اليوم ، وكان منه شيء قبل العزيزي ومات أكثره.

وإن قلت : كيف فعل ذلك وهو من البدع المنهي عنها ، وكيف ترك ورأيه في ذلك؟

قلت : المسألة مختلف فيها ، فمنهم من منع ، ولا يكون الإنكار سمحا إلا في مسائل الإجماع فيها ، وأما حكم ثمره؟ فقد سئل مالك ـ رحمه‌الله ـ عن شجرة نبتت في صحن المسجد ، أو المقبرة ، أو محجة الطريق؟

قال : أكلها حلال لجميع المسلمين.

وكان كثير الخير والبر ، وقف من النخيل شيئا ، وحرّر من الأرقاء جمعا غفيرا ، وكان العزيزي ـ رحمه‌الله ـ يوالي الأشراف ، ويحسن إليهم إحسانا كثيرا ، حتى اتّهم بمذهبهم ، لكثرة اختلاطه بهم ، وقضاء حوائجهم ، كنت إذا مررت عليه مع جماعته ذاهبا إلى سيدي الشيخ أبي محمد البسكري وهم جلوس بين باب النساء وباب جبريل صفّا واحدا ، أقول بأعلى صوتي : السّلام عليكم ، فيردّون كلهم حتى تسمع لهم لجة عظيمة ، ثم ينادوني ، ويقولون : خذ جزاء تحيتك ، فيعطيني كل منهم على قدره ، وأول من يبدأني الشيخ رحمه‌الله ، وأحيانا يذهب بي إلى بيته ويخرج الكيس من خرزة حجر

__________________

(١) ترجمته في : «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٤١ / أ.

٣٧

أعرف اليوم مكانها من البيت ، فيعطيني ويبرّني ويفرح بي. جزاه الله خيرا ، وأعظم له أجرا ، توفي عزيز الدولة سنة سبعمائة.

ثم خلفه في المشيخة شبل الدولة كافور المظفري (١) المعروف ـ بالحريري ـ رحمه‌الله ، كان من أحسن الناس شكلا ، وأتمهم كمالا ، وكان مهيبا قد ملأ قلوب الشرفاء رعبا ، كان إذا انكسر قنديل ، أو وقع تجصيص يصيح حين وقعته صيحة يغلب بها ، يرجف أهل المسجد من قوتها وعظم مبلغها.

وكان يقول : إنه توأم ، مات أخوه بعد أن ولدتهما أمهما ، وكان له على الأميرين سلار وبيبرس (٢) الجاشنكير دلّية بتربية ، حتى إنهما لها حجّا والوه بأحسن الموالاة ، فكلمهما في بناء المنارة التي بباب السلام اليوم ، فأنعما ، ثم إنه خشي أنهما يشتغلان بملكهما عن ذلك ، أو يستثقلان النفقة على عمارتها ، فقال : أنا لا أطلب منكما مالا ، عندي من قناديل الذهب والفضة ما يقوم بها وزيادة ، فأنعما له بإرسال الصنّاع ، وشرع هو في تحصيل الحجر والمؤنة بينما يأتي الحاج ، فحمل من الحجر ما يحتاج إليه من أنواعه كلها ، فكانت كالجبال فيما بين بابي الرحمة والسلام ، وأمر بالحفر لها في مكانها اليوم ، فلم ينزلوا إلا قليلا إذ وجدوا باب مروان بن الحكم أسفل من أرض المسجد بقدر قامة ، ثم وجدوا برنية فخار ملأى بدراهم مظفرية قد استحالت صفتها من طول مكثها ، ثم وجدوا تحصيب المسجد في أيام مروان بالرمل الأسود يشبه أن يكون من جبل سلع ، وذلك تحصيب عام في سائر مسجدهم القديم ، لأنهم لما أسّسوا الرواقين اللذين زادهما الملك الناصر شمالي الروضة المقدسة في سنة تسع وعشرين وسبعمائة ، وجدوا ذلك التحصيب ، فوقفت عليه فوجدته يشبه ما وجدوا في أساس المأذنة ، وسمكه نحو ذراعين بالعمل أو أكثر ، ثم إنهم نزلوا في الأساس حتى بلغوا

__________________

(١) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٣ / ٢٦١ (٦٧٦) ، وذكره في : «التحفة اللطيفة» (٢ / ٣٩٠) نقلا عن ابن فرحون.

(٢) وقعت العبارة في جميع النسخ ما صورته : «الأمير بن سلال وبكير بن سكبد ربكيد» ، وقد صححتها من : «التحفة اللطيفة» ، و «الدر الكامنة».

٣٨

الماء ، وكان بعض المؤرخين يذكر أن هناك مأذنة مشرفة على دار مروان فهدمها غيرة على أهله من مؤذنها ، فلم يجدوا لذلك صحة ولا أثرا البتة (١).

وكان الحريري ـ رحمه‌الله ـ مباشرا ذلك كله مجتهدا بنفسه وماله وخدامه ، ثم إنه أمر من كان بالمدينة يتعانى البناية كالشيخ إبراهيم البنا والشيخ علي الفراش ، وغيرهما ممن ليس له البناية كبير قدم أن يحفروا الأساس ، فحفروا إلى أن ظهر الماء ، وأخرجوا منه شيئا شرب منه الشيخ ، وشرب الناس منه ، يرون ذلك بركة ومسرة وتفاؤلا بتمام العمل ، ثم دكّوا الأساس ، فلما جاء الموسم وحضرت الصناع والمعلمون ، كان فيهم المقدم عليهم في البناية والهندسة والدراية.

فقال للشيخ : لم استعجلت علينا؟. لا نبني على هذا حتى تنقضه جميعه ، فإن لا نأمن عاقبته ، وألحّ في نقضه ، فألحّ الشيخ في تركه على حاله فرجع إلى مصر من حينه ، وقال : أنا أخشى من الدرك ، وما يلحقني في صنعتي من العيب ، فقال الشيخ لمن كان معه من المعلمين : اعملوا عملكم والله تعالى يتممه ببركة هذا النبي الكريم ، فعملوها على ما هي اليوم عليه ، وعمّ نفعها وعظم أجرها ، وصارت في صحيفة من سعى فيها ، والعمل اليوم عليها لأنها متوسطة المدينة حتى إن رئيس المؤذنين محمد بن إبراهيم (٢) قال لي رحمه‌الله : لو تركت لي هذه المأذنة لكفت المدينة ، وهو الحق ، فإن المدينة من جهة الشمال قليلة العرض ، وإنما امتدادها وقوة عمارتها وكثرة أبياتها من جهة الغرب ، وكانت عمارتها في سنة ست وسبعمائة.

وإنما ذكرت حكاية المأذنة ، لأن ذكرها مما نحن بسبيله من المحدثات في المسجد للمصلحة العامة للمسلمين.

ومما للشيخ الحريري من الآثار الحسنة : تبطيل الطوف بالشعل من جريد النخل ، وتبديلها بالفوانيس التي يطوفون بها اليوم كل ليلة بعد صلاة

__________________

(١) ذكر هذه المأذنة ابن النجار في «تاريخه».

(٢) هو محمد بن إبراهيم العسقلاني ، وقد تقدمت ترجمته.

٣٩

العشاء الأخيرة ، وذلك أنهم كانوا قبل الحريري وصدرا من ولايته يأخذ عبيد الخدام وبعض الفراشين شعلا من سعف ، فيطوفون بها عوض الفوانيس يجرون بها كأشد ما يكون من الجري ، فإن وصلوا باب النساء خرجوا بها ، وخبطوا بما بقي معهم منها ، فكانت تسود المسجد وتسود بابه أيضا ، وفيها من البشاعة ما لا يخفى ، فأمر بالفوانيس عوضا ، وترتبت في صحيفته رحمه‌الله تعالى ، وكان يوالي المجاورين ويحسن إليهم ويقضي حوائجهم.

وسيأتي فعله مع المجاورين حين أمر الأمير منصور بإخراجهم وارتحالهم بأولادهم وعيالهم ، ومناقبه كثيرة ، وحسناته عديدة. توفي سنة إحدى عشرة وسبعمائة.

ثم خلفه في المشيخة سعد الدين الزاهري (١) ، ولم يمكث إلا قليلا نحو سنتين ، وكان قد عمي وكفّ بصره ، فلم يقم بوظيفة المشيخة على ما ينبغي ، فلما حج الملك الناصر (٢) الحجة الثانية وهي سنة تسع عشرة وسبعمائة وقدم المدينة زائرا ودخل الحرم ، فوجده أعمى ، فعظم ذلك على السلطان فعزله ، ثم ولّى في الحين ظهير الدين مختار (٣) الأشرفي رحمه‌الله ، وكان له هيبة وصولة مع زمانه بالنسبة إلى من قبله ، فقام بالمشيخة أحسن قيام ، وأدخل الرعب في قلوب الشرفاء والأمراء ، واستخلص من أيديهم أوقافا وأملاكا كانوا هم وآباؤهم فيهما كالمارستان اليوم ، والفرن الذي أمامه ، والحوش الذي بإزائه ، ودار المدرسة الشهابيّة ، ونخيل وغير ذلك.

ولأجل هيبته عزّ المجاورون والخدام ، وقويت حرمتهم ، ولم يزل كذلك حتى حج النائب أرغون (٤) ، وشكوا عليه ما يلقون من الشيخ ، فكأنه تكلم عليه بحضرتهم كلاما غض من صولته ، ورده عن شدته ، ولم يمكث بعد ذلك إلا قليلا حتى توفاه الله إلى رحمته.

__________________

(١) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ١ / ٣٩٤ (١٤٨٦).

(٢) هو الناصر محمد بن قلاوون.

(٣) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٣٤٥ (٩٣٨).

(٤) هو : أرغون الدوادار ، أحد مماليك السلطان منصور ، اشتراه ورباه مع ابنه الناصر محمد.

انظر ترجمته في : «الدرر الكامنة» ١ / ٣٥١ (٨٧٣).

٤٠