البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

المعظم سيدنا محمد الناصر باشا باي أدام الله دولته وأمد بالسعادة مملكته ، في دور جديد وعصر سعيد في العقد الرابع من القرن الرابع بعد الألف بولاية العالم الجليل والخطيب المصقع ، والبليغ اللسن والشاعر المفلق ، والسياسي المدرب والمصلح المتنور الصديق الوفي والنحرير اللوذعي الشيخ سيدي الطاهر ابن عاشور قاضي قضاة المالكية بالمملكة التونسية ، فرسمت هذا الكتاب باسمه تذكارا بعام ولايته لهاته الخطة وأداء لما توجبه روابط الوداد من التهنئة التي جعلت هدية هذا الكتاب عنوانا عنها بدل قصيدة من الشعر الذي أكثر له منه أرباب الود والأدب. وقد رسمت من تلك القصايد ما أرسل به صديقنا النحرير الفاضل الشيخ سيدي الخضر بن الحسين من دمشق الشام برسم التهنئة وما نظمه الصديق الماجد الأديب سيدي عبد العزيز المسعودي الكاتب بالقسم الأول بالحكومة التونسية (برد الله ثراه) ، وهما ركنان من النادي الأدبي الذي يجمعنا منذ عشرين سنة أقام أركانه ، وأشاد بنيانه ، ونظم عقده وألف بين قلوب أعضائه متين الود ووفي العهد الشيخ قاضي القضاة أمده الله بروح منه وها أنا أخاطبه متذكرا أيام النادي ومتمثلا بما لبعض الأدباء :

لقيتك في «ناد» وأنت رئيسه

وبابك للأعلام مجتمع الوفد

فإن لم ندر فيه الكؤوس فإننا

أدرنا به للأنس مستعذب الورد

جمعتنا حلقات العلم به في نصف ما قطعنا من الطريق ، فقضينا معه من أدوار الحياة الدور الذهبي الذي هو من العشرين إلى الأربعين. وها نحن مستقبلون مسافات بقية السفر في هذا العالم ، ونسأله تعالى فيها الحفظ والعصمة ودوام النعمة. وإليك قصيدة أحد الركنين من النادي الأدبي الذي أصبحت أخاطبه بمثل ما خاطب به ابن الخطيب صاحبه ابن خلدون وقد بعدت داره وشط مزاره :

بنفسي وما نفسي علي رخيصة

فينزلني عنها المكاس بأثمان

حبيب نأى عني وصم لأنثني

وراش سهام البين عمدا فأضناني

٤١

قال ابن الحسين الشاعر المجيد :

بسط الهناء على القلوب جناحا

فأعاد مسود الحياة صباحا

أبه محيا الدهر أنك مونس

ما افتر ثغرك باسما وضاحا

ونعد ما أوحشتنا في سالف

خالا بوجنتك المضيئة لاحا

لو لا سواد الليل ما ابتهج الفتى

إن أبصر المصباح والإصباحا

أنست تحت سماء تونس مزنة

تحيي بلامع برقها الأرواحا

نشأت بترقية ابن عاشور إلى

أوج القضاء ليستجد صلاحا

أنباؤها تغشى وأفئدة الورى

تحسو على نغماتها أفراحا

يا طاهر الهمم احتمت بك خطة

تبغي هدى ومروءة وسماحا

سحبت رداء الفخر واثقة بما

لك من نوايا تعشق الإصلاحا

ستشد بالحزم الحكيم إزارها

والحزم أنفس ما يكون وشاحا

وتذود بالعدل القذى عن حوضها

والعدل أقوى ما يكون سلاحا

في الناس من ألقى قلادتها إلى

خلف فحرم ما ابتغى وأباحا

٤٢

بادر قضاياها بفهمك إنه

فهم يرد من العويص جماحا

وإذا أقمت العقل قسطاسا فما

يلفي لديك أولوا الخداع مراحا

يا من ترفع أن يسوس مباحثا

بالفكر إلا أن تكون صحاحا

بصر الزمان بأنك الشهم الذي

يملي عليه سعادة وفلاحا

فتفتقت أزراره عن أنعم

نقشت على قلب الحسود جراحا

وسعت إليك نظارة البيت الذي

من روضه نشر المعارف فاحا

فاطرح عليها ثوب جد إنها

ظلت تمج كما علمت مزاحا

وإذا الشهامة خالطت جأش امرئ

جعلته يصدع بالحقوق صداحا

يا من تموج نظمه بفصاحة

فترشفت منه المسامع راحا

أنسى ولا أنسى إخاءك إذ رمى

صرف الليالي بالنوى أشباحا

أسلو ولا أسلو علاك ولو أتت

لبنان تهدي نرجسا وأقاحا

كأس الهناء عصرتها من مهجة

شربت من الود العتيق قراحا

أو لم نكن كالفرقدين تقارنا

والصفو يملأ بيننا أقداحا

٤٣

دامت يد الأنعام تكسبكم حلى

شرف وتطلق للقريض سراحا

وها هي قصيدة ثاني الركنين من النادي الأدبي وقد بت أنشد في شأنه رحمه الله :

لو كان يدري الميت ما ذا بعده

بالحي منه بكى له في قبره

غصص تكاد تفيض منها نفسه

ويكاد يخرج قلبه من صدره

قال المسعودي برد الله ثراه :

حري باليراعة أن تناجي

عبارات المسرة بابتهاج

وتنسج للهناء بها برودا

فتغني الطرس عن حلل الديباج

فهذا الفوز إذ أوتيت علما

وحكما قد توقد كالسراج

وأصبحت العدالة في انتصار

ودست الشرع نحوك في انفراج

علوت منصة للحكم فيه

فكنت لعز هامته كتاج

وحاكيتم ضياء البدر لما

تطلع نيرا والليل داج

وكنت لإفريقية خير قاض

نفى ظلما وقوّم ذا اعوجاج

٤٤

وبشر كل من علم المزايا

وكان إلى ارتقائك خير راج

وأثنى الكل عن ملك نبيل

تخيّركم لإمحاق اللجاج

خطوتم منذ نشأتكم بخط

قويم للسيادة ذي انتهاج

وغذيت المعارف مع كمال

فأمزجتا بكم أي امتزاج

وزان خلالكم خلق زكي

ومجد للنبوءة ذو انعراج

وهاك اليوم قد أحييت ذكرا

لجدكم المقدس بانبلاج

فإهنأ بالمنى وليهن قطر

بهذا الفوز والخير المفاجي

وعفوا إذ تأخر وفد شعري

عن الإتيان نحوك والتناجي

فإن الجسم أتعبه سقام

فأصبح وهو منحرف المزاج

ولو لا مسرتي مسكت يراعي

لما سكن اليراع من ارتجاج

بقيتم والإله لكم حفيظ

وعيشك والسعادة في ازدواج

بواعث السفر ودواعيه

قدمت الكلام في هذا الموضوع المبتكر في بواعث السفر بين يدي الحديث على

٤٥

أيام الترحال وأرجو أن تكون فيه فائدة ولم أر من رسمه في طالعة كتاب ، أو نوع ومثل جزيئات الأسباب باستيعاب. وإن لم أبسط القول كما ينبغي في هذا المجال المتسع واقتصرت على ما أمكن وقنعت برسم المثال وتخطيط الأساس ، وعسى أن أشبع القول في مناسبات قابلة إن شاء الله تعالى ، وهو ولي الإعانة والتوفيق. غالبا يكون السفر للأسباب الآتية :

١. المال ـ كالتجارة ، التغلب والاستيلاء ، ما ينشأ عنه من نزوح بعض السكان الأصليين ، الاستجداء بالشعر والتأليف.

٢. العلم ـ كطلب الفنون والصنائع ، حضور المؤتمرات ، المداواة ، تطلّب الأقاليم الملائمة للصحة في بعض الفصول ، استطلاع أحوال الأمم النائية ومعارفها ودرجة عمرانها ، وهو سفر الاعتبار والاطلاع على الآثار.

٣. الدين ـ كالحج والهجرة ، الفرار من الاضطهاد في المال أو النفس في أيام الحروب.

٤. لشئون سياسية ـ كتولي الخطط بالأقطار البعيدة ، السفارة بالهدايا أو للصلح أو للاستنجاد ، تبادل الزيارات بين الملوك ، النفي والأسر.

٥. لأمور أدبية ـ كزيارات الأقارب والأودّاء لإزالة الشوق وتمكين المحبة والوفاء بالعهد. أسفار الزفاف عند بعض الأمم.

١ ـ فالتجارة قديمة العهد يميل لها الأفراد والجماعات والسفر لها إذا كان متخطيا ما جاور أو قرب تكون الأرباح فيه أكثر. أما التجارة البسيطة فتكون حتى للمجاور أو في جهات القطر ، وأفراد هذا القسم وإن كانوا أكثر إلا أن ربحهم أقل لكون حياتهم في أمن ومعاناتهم للشوق والمشاق أقل ، وأوفر ما تكون الأرباح في الفجاج المخوفة ، والمسافة الغير المعروفة ، والأمم الغير المألوفة ، وبقايا من تلك فيما بين المملكة التونسية وسودان الصحراء الكبرى ، وهي بلاد التبروسن الفيل وريش النعام وغير ذلك مما خص الله به تلك الأصقاع التي سادت فيها السذاجة واسودت فيها الأجسام واكفهرت العقول بقدر ما صفا فيه الجو وضحكت النجوم وتجملت الغزالة. ولصاحبنا السيد علان النبيه النشيط نزيل قابس الآن «والذكاء والتجارة من قديم في الشرق

٤٦

عموما والعراق خصوصا» علم بما يروج في تلك الأقاليم ويجلب منها ، وخبرة بطرقها وحداء نوقها ، حدثنا عنها كثيرا بغرائب وعجائب ، وربما كان من أسباب الأرباح الطائلة في التجارة الحروب في بعض الأقار لكثرة الحاجة وانقباض المخاطر بماله وحياته وقلة الناض ومثل ذلك سنوات الجدب والمجاعة. وفي جميع هاته الأحوال تباع النفائس ما عدا المأكولات ومواد الحرب بثمن بخس لما قررناه ، والغريب أن الحرب موت لأجل الحياة ، وارتفاع الأسعار فيها لمواد الحياة والموت. وقد سافر الأنبياء عليهم السلام والعلماء للتجارة وهي من أسباب الغنى وعلامة على نشاط الأمم وحزم الأفراد. وقد قرروا أن السواد الأعظم من الذين رفعوا منار العرب والعربية ووضعوا قواعد الفخر الباقي كانوا من أهل السياحة والتجارة. ومن أروبا الآن تسير القطارات والسفن مفعمة بالمصنوعات إلى أطراف القارات وفي يد أفرادهم وهم يجوبون في كل مكان كتب بها أمثلة وصور وأسعار كل ما يطلب ترويجا للبضاعة واستدرارا للأموال (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا). والقيروان من قديم محط ركاب التجارة من المشرق والمغرب والسودان لتوسط الموقع وثروة السلطنة وتعدد نتايج قطرها ومصنوعات سكانها. من ذلك جيد الحبوب ورفيع الزيت وفايق التمر وفاره الحيوان وغريبه ، وأنواع الطّيب وأصناف المنسوجات الصوفية المتقنة. وإلى الآن شيء من ذلك كالبسط بالقيروان والقطيفة بالهمامة والأردية والأكسية والبرد والبرانس الخفيفة بالجريد وشبه هذه بجربة. والبرانس الشتوية بالكاف ودقة. وابن خلدون أشار إلى هذا في شأن جربة بقوله : واختصت جربة بالنسج وعمل الصوف للباسهم فيتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال وغير المعلمة للباس ويجلب منها إلى الأقطار. والرياسة بها على الكل لبني النجار من الأنصار من جند مضر ، ولاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فقدم إفريقية وفتح جربة سنة سبع بعدها. وللمصنوعات الخزفية ونقوشها وأشكالها من عهد الرومان بإفريقيا رونق بديع لا زالت بقايا منه في المتاحف ويستخرجها إلى الآن سكان البادية من مقابرهم بما لا يقل لونها الأحمر القاني عن المصنوعات الملونة الآن بنابل ظرفا وبهاء. ومن أهم صادرات القيروان بالخصوص الصوف لكثرة الحيوان الذي يجد في ساحتها وبسائطها نبتا طيبا ومناخا فسيحا.

ومن المشتهرين الآن بالأسفار من القيروان إلى أروبا للتجارة السيد الحاج حسين

٤٧

النخلي الذي تكررت رحلاته إلى الشرق والغرب. ومن تونس صديقنا الماجد السيد الحبيب ابن الشيخ النشيط الشهير المتجول في القارات الثلاث. وصاحبنا النشيط السيد محمد جمال بتونس الذي اجتمعت به في فيشي ناسجا على منوال والده الحازم ينشر البضايع الشرقية في المصيف بأروبا وفي الشتاء في صحراء الجزائر ببسكرة التي يقصدها الأروباويون ، فهو يصطاف بلد الثلج ويشتو بلد التمر. والتجارة ربح وراحة ، والسيد الشاذلي الخلصي بتونس والسيد عبد الرحمان اللوز بصفاقس ، والسيد علاله ابن الحاج الرحالة سنويا بالعطورات التونسية إلى أروبا. وقد شاهدت مركز دكانه في المجكستي بباريز وحسن الذوق في تنسيقه وطيب الرايحة التي قاد بها الأنظار ، وجمع حوله سكان باريز في الليل والنهار. وفي تجارة الكتب والسفر لجلبها وترويجها ، وبالأخص للنفيس منها والعتيق الغريب يد طولى لصاحبنا السيد محمد الأمين الكتبي ، وشيخ الجميع الثقة الخبير سيدي الحاج محمد المبزع الذي شد الرحال إلى الهند وبغداد والقسطنطينية وأروبا. وفي القديم سافر محمد بن سعدون القيرواني في أواسط القرن الخامس بقصد التجارة فطاف بلاد المغرب والأندلس وهو من أهل العلم والتأليف.

وأكثر أصحاب الاغتراب في التجارة بالمملكة التونسية أهالي صفاقس وجربة والمنستير ، وأبناء البلد الأخير مثل أبناء مدينة نابل وقرى الساحل ممن يستسهلون الاغتراب في طلب العلم وتولي الوظائف كما سيأتي في القسم السياسي.

وقد يكون السفر لطلب الرزق بالممالك البعيدة التي تحتاج لأرباب الحرف والصنائع إما لثروة تلك المملكة وكثرة أعمالها التي تستلزم الاستعانة بأيدي أفراد البشر النائين أو لافتقار السكان الأصليين لمن يستخرج كنوز أراضيهم ويدير دولاب شئونهم الداخلية.

وهكذا كانت القارة الجديدة «أمريكا» ، ولا زالت إلى الآن في دوري تأخرها وترقّيها وجهة المهاجرين من القارات القديمة حتى عبر عنها بعض أرباب الرحلات ببلاد الذهب. وهذا المعدن الشريف نور يتهافت عليه فراش البشر في ليل الحياة المدلهمة التي لا يعرف صاحبها أين يذهب ، ولا في أي مكان يبيت أو يصبح ، فكلما لاحت له بارقة نجاح طار إليها.

٤٨

والمهاجرون من أروبا لهذا الغرض على النسبة الآتية وأكثرهم من إيطاليا لكثرة النسل وحاجة الأمة ، وأقل المفارقين لمملكتهم أمة فرنسا لثروة الأمة وحضارة العنصر وخصب التربة وحرية الجنس وعدل الحكومة. وحق لمن كانت هاته حالة أمته ومملكته أن لا يفارقها أو يرضى بما سواها بديلا ، وأماني الحكماء ومدائح الشعراء تقول :

وكنت فيهم كممطور ببلدته

يسر أن يجمع الأوطان والوطرا

وإليك جدولا في المهاجرين من أروبا بالنسبة للمائة ألف :

١٥        فرنسا

٤٥        ألمانيا

٥٠        هولانده

١٤٠      السويس

١٧٠      الدانمارك

٤٨٠      السويد

٥٣٠      إسبانيا

٥٣٠      البرتكال

٥٤٦      النمسا

٥٩٠      انكلتيرا

٨٤٠      النرويج

١١٢٠    إيطاليا

وفي السنوات الأخيرة كثر سفر الراغبين في الاسترزاق إلى جهات المغرب الأقصى بعد ما مدت عليه دولة فرانسا جناح الحماية وظلّ أمن السبل ، وسرت فيه روح العمران ، وتدرجت فيه حرية العمل وتعارفت أبناء البشر على أديم تربته. والحياة ميدان عمل ، فكما أن العلم يطلب ولو بالصين ، وهو حياة للروح ، كذلك منافع حياة

٤٩

البدن واستدرار الأرزاق تركب إليها متون البحار إلى سائر الأقطار.

إذا نزل الربيع بأرض قوم

رعيناه ولو كانوا غضابا

٢ ـ والتغلب والاستيلاء يكون في دور العصبيات أو الوطنية التي قامت مقامها في القرون الأخيرة ، واتساع المطامع وحب السيادة ، ويكون على المجاور قبل البعيد حفظا لخط الرجعة ، ويدل على ما للدولة أو الأمة من قوة الساعد ومضاء العزيمة وبذل الدماء العزيزة لتشترى بها الأموال الغزيرة. أما في دواخل المملكة الواحدة فهو عيث وفساد ومن علامات ضعف الحكومة وانشقاق وحدة الأمة وافتراق كلمتها واختلاف جماعتها واستعدادها للفقر للعاجل ، والانخذال أمام كل طارق أو منازل. وفي دور الحماية انقطعت مشاغبات القبايل بالمملكة التونسية وتمهدت طرق الأمن وعمرت الطرقات في القفر مثل شوارع المدن.

ومن الذين طوحت بهم الأسفار في الفتوحات من العرب فيما يرجع لإفريقيا عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة ٢٧ والعبادلة الذين معه وأبناء فاطمة الزهراء ، وجيشه الذي به عشرون ألفا اجتازوا صحراء برقة من مصر وتجازوا قابس وصمموا على سبيطلة بعد الاستراحة في بسايط القيروان الآن. ورجعوا بعد خمسة عشر شهرا بثلاثمائة قنطار من الذهب صلحا أو مليونين ونصف من الدنانير التي ضربها جرجير باسمه وصورته مستبدا على القسطنطينية ، عدا ما ناب الفرس وهو ثلاثة آلاف دينار وفارسه ألف دينار والراجل ألف وكذا الخمس أربعمائة ألف دينار. ثم جيش عقبة بن نافع عام ٦٢ إلى شاطئ المحيط الأطلانتيكي الذي خاضه بقوايم فرسه بعد أن سبح في بحار الرمال بالسودان.

ثم موسى بن نصير سنة ٩٣ من القيروان ، وابنه عبد العزيز من بعده إلى دروب جبال البيريني وفجاجها حتى مسك بعنان فرس موسى حنش الصنعاني وذكره في عواقب الإبعاد في الترحال وما جرى لعقبة من تألب أمم البربر عليه وسد الطرق في وجهه عند رجوعه. ومعلوم أن الإيغال في الفتح والإبعاد في السفر ، من أسباب الخطر. وسيأتي ما جرى لأبي الحسن المريني ملك المغرب الأقصى لما رام ضم

٥٠

إفريقية إلى سلطنته الطويلة العريضة البرية والبحرية. فآب موسى عام ٩٤ وهو يجر الدنيا وراءه بذخاير ملوك إسبانيا على مائة وأربع عشرة عجلة تتداول عليها الأزواج في كل يوم بعد أن قال لحنش ما معناه : لو تركتموني لوقفت بكم على أبواب رومة ، وهي أعظم مدينة بأروبا في عصرها.

ثم جيش أسد ابن الفرات في البحر عام ٢١٢ إلى جزيرة صقلية ، ثم القايد جوهر الكاتب الصقلي رمى به المعز لدين الله العبيدي المغرب الأقصى فدوخه ثم شرق إفريقيا الأقصى ، وهو مصر ، فافتتحه عام ٣٥٨. وأسس مع دعائم الملك جدران الجامع الأزهر عام ٣٥٩ ، ونقل إليها المعز لدين الله كرسي خلافته عام ٣٦٢ من صبرة منصورية أبيه الملاصقة لمدينة القيروان ، والآن مكسوة الأطلال بتين الهندي. ومن الأفراد الذين نجحوا في التغلب على الممالك وتأسيس الدول بها عبد الرحمان الداخل الذي أقام خلافة بالأندلس بعد أن فرّ بدمه في ظهور الدولة العباسية وخلص إلى المغرب عام ١٣٨ وسماه أبو جعفر المنصور صقر قريش. كما قال فيه لمناسبة أخرى : الحمد لله الذي جعل البحر بيننا وبين هذا الشيطان. وإدريس الذي نجا في واقعة فخ بجهات مكة من العباسيين إلى إفريقية وظهر أمره المغرب الأقصى عام ١٧١ ، وأقام دولة له ولبنيه قاعدتها مدينة فاس. وعبيد الله المهدي عقد النية من مكة مع ابنه أبي القاسم على مداخلة البربر والدخول لبلادهم ، وبعد أن سجن في سجلماسة آل أمره إلى تأسيس خلافة عبيدية بالقيروان فوق الستين عاما ، إلى أن انتقل رابع بنيه إلى مدينة القاهرة المعزية بمصر ، وأناب يوسف بلكيز بن زيري بن مناد على إفريقية ، وأوصاه على أن لا يرفع السيف على البربر ولا الجباية على أهل البادية وأن لا يولي أحدا من أقاربه. ولكن ذريته من بعده خالفوا الوصية فالتوى عليهم الأمر وانقسم ملكهم ونكروا الجميل أخيرا لأولياء نعمتهم ، فعاد على المملكة من جراء ذلك ما سيتلى في استيلاء العرب من هلال على إفريقية بأواسط القرن الخامس. والمهدي ابن تومرت الذي آب من آسيا مملوء الوطاب من تعاليم الإمام الغزالي واخترق إفريقيا بحرا متفجرا من علم ، وشهابا واريا من دين ، وأسس الدولة الموحدية بالمغرب الأقصى التي ضمت جناحيها على عدوتي الأندلس وإفريقيا في أوايل القرن السادس.

٥١

أما الأمم التي تغلبت على إفريقية أي المغرب الأدنى المعروف بالمملكة التونسية وعلى البرابرة السكان الأصليين ، وهم أبناء حام بن نوح الذي دعا عليه أبوه نوح بأن يكون ذريته عبيدا وخولا لولد أخويه سام ويافث ، وكان دينهم المجوسية إلّا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم ، ولا يعلم عددهم وآماد أجيالهم إلّا من خلقهم. فيقال أول من غزاهم عرب اليمن وإن إفريقيا نسبة إلى إفريقش. قال الحموي : ذكروا أنه لما غزا المغرب انتهى إلى موضع واسع رحيب كثير الماء فبنى هناك مدينة وسماها إفريقية اشتق اسمها من اسمه ، ثم نقل إليها الناس ثم نسبت تلك الولاية بأسرها إلى هذه المدينة ، ثم انصرف إلى اليمن فقال بعض أصحابه :

سرنا إلى المغرب في جحفل

بكل قرم أريحي همام

نسري مع إفريقش ذاك الذي

ساد بعز الملك أولاد سام

قالوا فلما اختط المسلمون القيروان خربت إفريقية وبقي اسمها على الصقع جميعه.

ثم ملوك العرب الرعاة بمصر حوالي سبع عشرة مائة قبل المسيح ، ولكن لم يبق من أثر مدون يخبر بتفاصيل هذا الاحتلال وتحقيقه.

والفنيقيون بدأوا أمرهم بالتجارة بإفريقيا ، وهي من مقدمات الاستيلاء للتعرف بطرق البلاد والاطلاع على مكامن الضعف وترقّب الفرص واتخاذ البطانة وتسريب الأموال للأعوان والأدلاء ، فدامت دولتهم من سنة ٨٨٠ ق م إلى سنة ١٤٦ ق م ، ثم أمة الرومان من سنة ١٤٦ ق م إلى ٤٣٩ سنة ب م ثم أمة الفندال ٤٣٩ ـ ٥٣٤.

ثم الروم «الكريق» ٥٣٤.

ثم العرب ٢٧ ه‍ ، وقد تقدم ذكر عبد الله بن أبي سرح.

ثم قبايل الهلاليين لما أمر المعز بن باديس بلعن عبيد الله في الخطب ، فخطب قاضي مدينة صبرة وإمام الجامع الأعظم بها القاضي محمد بن جعفر وقال : اللهم والعن الفسقة الكفار. وأمر السلطان خطيب جامع القيروان أن يفعل مثل ذلك على

٥٢

المنبر في الجمع في كل خطبة. ثم محا سكة العبديين وكتب على السكة (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) ذكر ذلك ابن خلدون وابن الخطيب ، وقرأت على دينار من أيام المعز بن باديس بدائرة أحد وجهيه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ ،) وفي الوسط ثلاثة أسطر لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، محمد رسول الله. وبدائرة الوجه الثاني ضرب بمدينة عز الإسلام والقيروان «هكذا» سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ، وفي الوسط ثلاثة أسطر (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). قلت وعلى عضادتي باب تونس بالقيروان إلى الآن كتابة كوفية يستفاد منها تاريخ البناء ٤٣٧ على يدي أمين الدولة وصفي الخاصة أحمد ولفظ «هذه مدينة عز الإسلام» ، وحيث إن التاريخ أثبت أن بناء سور القيروان عام ٤٤٤ ، وأن السور الذي بني عام ٤٢٧ وسور مدينة صبرة على ما ذكره ابن عذاري ، وعلما بأن المعز ابن باديس كانت إقامته بمدينة صبرة فالذي يظهر أن عضادتي باب تونس الآن هما من بقايا باب مدينة صبرة خصوصا إذا نظرنا إلى ما في نقوش دنانير المعز من عطف القيروان بالواو ، وعلى مدينة عز الإسلام ، فتتحتم المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، ويكون المراد بمدينة عز الإسلام هي صبرة لسكنى المعز الصنهاجي والمعز العبيدي قبله بها. وهي تأسست ٣٣٧ عند تغلب المنصور العبيدي على أبي يزيد النكاري صاحب الحمار الأبيض. كتب للمعز وزير المستنصر العبيدي : أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا ، وأرسلنا عليها رجالا كهولا ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وكان المعز عند ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين ، فلم يكن مجربا للأمور ولا بصيرا بالسياسة ولا كانت فيه عزة وأنفة ، هكذا قال في شأنه ابن خلدون. وبعد أن طمى سيل العرم وهزموا بثلاثة آلاف جيش المعز البالغ ثلاثين ألفا نجا المعز سنة ٤٤٩ إلى المهدية بنفسه. وترك صبرة والقيروان نهبة للأعراب الذين سرحهم العبيدي فخربوا بناءات إفريقية واكتسحوا أشجارها وعاثوا في أطرافها وأفنوا سراتها واستبدوا بخيراتها ، فانذعر الساكن وعفت الرسوم وهاجرت العلماء إلى الأقطار البعيدة ، ومن بينهم الشاعر الشهير ابن رشيق ، ولم يبق بمدينة القيروان على ما ذكروا إلّا رجل واجد يترنم برثائها ليلا في صومعة جامعها. قال السيد البشير صفر في جغرافيته : بلغ عدد سكان المملكة على عهد الرومان إلى ستة ملايين ، واستمر هذا العمران إلى

٥٣

أن كانت الفتن العظمى بهجوم الأعراب الوافدين من مصر. قلت وتحرير هذا الحادث الجلل على القيروان أنه في يوم الاثنين عيد الأضحى خرج المعز إلى جهة قرية هلال صباحا ، وفي نصف النهار بلغه قرب العرب فأمر بالنزول في أوعار وأودية ، وعاجله العرب وحملوا عليه فانهزم العسكر وصبر المعز ، ومات من العبيد لديه خلق كثير وانتهبت العرب النقد والأمتعة والخف والكراع ، وكانت الأخبية نحو عشرة آلاف ، والجمال نحو خمسة عشر ألفا ، والبغال لا تحصى ، وسلك أكثر الناس جبل حيدران ، «ومن ينبئنا أين هو الآن؟ وفي ثالث العيد بلغ الخبر للقيروان ، وفي السابع عشر من الشهر انتقل سكان صبرة للقيروان وأسكن السلطان العساكر والصنهاجيين بها بعد أن أخرج السكان من القيروان. وقعة باب تونس : خرج العامة لمدافعة العرب إلى هذا الباب بسلاح وعصي لا تدفع ضعاف الكلاب على ما ذكره ابن عذاري ، فحملت عليهم العرب بالسيوف والرماح فتساقطوا على وجوههم وجنوبهم ، فقامت النوايح والنوادب بكل جهة من أزقة القيروان تنصدع لمنظرها وسماعها الجبال ، وسودت النسوة وجوهها وحلقت رؤوسها ، فكان هذا اليوم يوم مصائب وأنكاد لم ير الناس مثله في سائر الأمصار ، وفيما مضى من الأعصار ، قال ذلك ابن شرف القيرواني. قلت مثل هذا وقع للقيروان عام ١١١٢ على عهد مراد بوبالة أي بعد نحو ستمائة وستين عاما حيث أباحها إلى خليل صاحب محلة طرابلس ، فسبى نساءها وذراريها وأخرج رجالها إلى ذراع التمار وقتلهم ، وتركها خاوية فحرثها مراد ولم يبق إلّا على المساجد والزوايا.

وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها

تشقى كما تشقى العباد وتسعد

والذي أحيى عمارتها هو حسين باي ، الرجل العظيم مؤسس الدولة الحسينية أدام الله عزها. وبقيت إفريقية مجالات للعرب من سليم. وهوارة من البربر مغلوبون تحت أيديهم وقد تبدوا معهم ونسوا رطانة الأعاجم وتكلموا بلغات العرب ونحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم ، قرر ذلك في شأنهم ابن خلدون. ثم الصقليون على شواطي المهدية قاعدة الملوك الصنهاجيين في أيام ضعفهم وعجزهم على ما حوالي المهدية عند ما انتزى العرب على سلطنة القيروان وشردوا سلطانها المعز بن باديس إلى

٥٤

المهدية ، وخربوا بلدان مملكته واكتسحوا أشجارها وطمسوا معالمها ، واستبدوا بكورها ولم يبق ولذريته من بعده إلّا ما حوالي مدينة المهدية ، وكانت أعظم الوقايع على المهدية سنة ٥٤٣ أتاها أسطول رجار في ثلاثمائة مركب فاستولى عليها قايده جرجي ابن مناسل. قال ابن خلدون : وكان مذهب رجار وديدنه فيما ملك من سواحل إفريقية أن يبقيهم ويستعمل عليهم منهم ويذهب إلى العدل فيهم. وقال قد تقرر أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في مملكتها والاعتدال في إيالتها. وفي سنة ٦٦٨ نزل صان لوي التاسع ملك فرانسا بأطلال قرطاجنة ومعه حارل ملك صقلية وتيباط ملك نبارة ، هاكذا سماهم رسم الصلح المنعقد مع محمد المستنصر الحفصي بتاريخ الخامس لربيع الآخر عام ٦٦٩ ، وبه معين الصلح معهم ومن انضاف إليهم مثل الأنبرور بادوين صاحب قسطنطينة ، وانفوس كمت طلورة ، وكي كمت دامفدر ، وهري كمت لوسنبرك ، مائة ألف أوقية ذهبا وعشرة آلاف أوقية ، ويقبض عن كل أوقية خمسون درهما بدراهمهم. قلت وإذا اعتبر ثمن الكرام ثلاثة فرنكات (والأوقية ثلاث وثلاثون كراما) ، كان ثمن الأوقية مائة فرنك ، فيكون مال الصلح واحدا وعشرين مليونا من الفرنكات ، ومدة الصلح خمسة عشر عاما شمسية مبدؤها نونبر الموافق لشهر ربيع الآخر المذكور ، وأن يؤدي الحفصي إلى ملك صقلية عن خمسة أعوام ماضية ما كان يودي للأمبرور سواء ، وفي المستقبل يودي له ما كان يودي للأنبرور مثنيا. قال ابن خلدون وكانوا زهاء ستة آلاف فارس وثلاثين ألفا من الرجالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله ، وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين كبار وصغار ، فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة ، وكانت ماثلة الجدران ، ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضدوا شرافاتها. وسرح إلى السلطان محمد بن عبد القوي عسكر بني توجين لنظر ابنه زيان ، واتهم السلطان بالتحول عن تونس إلى القيروان. قلت وبنو توجين بجبل ونشريس بالمغرب ، وقال أيضا وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأول سنة تسع وستين ، فتولى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاما ، وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوي أمير بني توجين. ونقل ابن خلدون أن مال الصلح عشرة أحمال. قلت وبفضل الاعتناء بفرنسا على الآثار قد أمكن الاطلاع

٥٥

على رسم الصلح الذي نشرنا مضمونه. قال وأمر الحفصي بتخريب قرطاجنة وأن يوتى بنيانها من القواعد فصيّر أبنيتها طامسة. قلت ويحقق أنه عرض لذلك الجيش مرض الوباء وأنه انتشر إلى المتحاربين ما قرره ابن ناجي في ترجمة الشيخ عمار المعروفي دفين أريانة قائلا : لما نزل الافرانسي وشرون «كذا» بتونس سنة ٦٦٨ بجيوش النصارى ، توجه عمار المعروفي وسالم القديدي في جمع كثير من الناس. فلما وصلوا إلى قرب تونس نزلوا بأريانة وضربوا خيامهم إلى أن انقضت المقاتلة ووقع الصلح بينهم وبين أمير المومنين المستنصر بالله ، ثم حدث بالشيخ أبي عمار مرض استرسال ببطنه فأقام الشيخ سالم بسببه هناك أياما إلى أن مات فدفنه بها.

ثم الإسبان على الشواطي من عام ٩٤١ ـ ٩٨١.

ثم الترك استنجد بهم أهل القيروان في أواسط القرن التاسع على الشابية الذين ساموا أهلها سوء العذاب فشردهم عنهم حيدر باشا الذي ضرب السكة الحيدرية بالقيروان ، ثم احتلوا تونس عقب الإسبانيول من عام ٩٨١.

ثم دولة فرنسا سنة ١٢٩٨ و ١٨٨١ بمعاهدة باردو يوم الخميس في ١١ جمادى الثانية و ١٢ مايه. وقد ذكر فصولها الكاتب الكبير والمؤرخ الخبير سيدي محمد بن الخوجة في الرحلة الناصرية. قلت بلغوا القيروان في يوم الأربعاء الثالث من حجة الحرام عام ١٢٩٨ وقت الزوال ، وكبير المحلة الأولى القادمة من جهات سوسة شرقا الجنرال لوجرو ، ودخل المدينة من باب الخوخة مع عامل المدينة الفريق المنعم أحد رجالات المملكة وأصهار العايلة السيد محمد «بالفتح» المرابط ، والعساكر ضربت جوفي المدينة بإزاء زاوية أبي يوسف الدهماني ، وفي ٥ يوم الجمعة وصلت محلة من الجوف لنظر الجنرال سوسي ، وفي ٧ يوم الأحد بلغت محلة الغرب لنظر الجنرال فرجمول. قلت ومرت عساكر الحماية بعيد ذلك على جهات ورتتان وبني عيار. عهدي بالسيد خضر بن علي من فحص أبة ووالدنا في سرى ورتتان ، وأنا دون الاثغار ، بدأت في التعليم بمنزلنا ، وقد طارت بهما مع رجال القبيل من الأقارب والأصهار والأعياص عقبان خيلهم ، وجياد خيل ورتتان لها شأن من قديم الزمان يحق أن تقرأ عليها :

عرايس أغنتها الحجول عن الحلى

فلم تبغ خلخالا ولا التمست وقفا

٥٦

فمن يقق كالطرس تحسب أنه

وإن جردوه من ملاءته التفا

وأبلق أعطى الليل نصف إهابه

وغار عليه الصبح فاحتبس النصفا

ووردي يغشى جلده شفق الدجا

فإذ جازه دلى له الذيل والعرفا

وأشقر مج الراح صرفا أديمه

وأصفر لم يسمح بها جلده صرفا

وأشهب فضي الأديم مدنّر

عليه خطوط غير مفهمة حرفا

كما خطط الراهي بمهرق كاتب

فجر عليه ذيله وهو ما جفا

ترى كل طرف كالغزال فتمتري

أظبيا ترى تحت العجاجة أم طرفا

تناوله لفظ الجواد لأنه

على ما أردت الجري أعطاكه ضعفا

لعبت في أثناء التعليم الابتدائي دورا على صهواتها في عهد الصبى ، بتلك البسايط والربى ، والخيل أعز مركوب ، وأنفس مكسوب :

أعز مكان منتقى سرج راكب

وخير أنيس في الزمان كتاب

استنزلت تلك اللمة بعض القبايل الدخيلة والعائثة من صياصي جبال الزيتونة جوفي العين البيضاء وشعاب البعلية على الثنيات المفضية من الخنقة إلى جبل العمود ، فانسدل الأمن على تلك الجبال وقصورها ذات النسيم المعطر بالشيح والقيصوم والماء الفرات ولا مياه كرونوبل :

٥٧

بلاد بها نيطت علي تمايمي

وأول أرض مس جلدي ترابها

وقد أنعمت الحكومة بوظايف خصت والدي من بينهم وظيفة القبيل الخاص ، وبعد ذلك استكفى به السيد خضر بن علي عامل ورتتان البعيد عن مواطن السرى في مهمات كافة العمل لما لقبيلنا الخاص ، وهم من ذرية عيسى بن الأكحل من الساقية الحمراء بالمغرب الأقصى من السمعة والاحترام والنباهة في تلك العروش من سالف القرون ، مستوطنين بين قبائل البربر جنوب أبة والقصور وشرقي فحص مرماجنه وجبل الحناش ، وهذه مجالات هوارة من قديم وكان ثالث جمعهما ومصقلة رأيهما وبيت نجواهما ومودع سرهما أحد رجالات المملكة خبرة واعتبارا الشيخ عمار بن علي النوري من بيوت العلم والمجد بالقصور. ولقبيلنا امتياز بانتحال العلوم والأخذ بطرق الصلاح ، وجدنا الأعلى هو علي بن القروي صالح تلك الجهة ومقصد التماس التبرك ومدفن القبائل المحيطة في حوالي تربة ضريحه رجاء الرحمة من الخالق في جواره ، وابنه القروي جدنا الأدنى هو عالم جهته وثقة نشأته. أعطت الإدارة العسكرية بطاقات خاصة إلى منازل الأعيان بالقيروان في مبدء الأمر.

وفي ١٨ يوم الخميس رحلت محلة الجنرال لوجرو إلى الجريد ومعها نائب عن المنعم السيد الفريق المرابط الممتد عمله من القيروان إلى واحات قصطيلية. وفي ٢٠ يوم السبت سافرت محلة إلى الأعراض ومعها عين رجالات العرب وطائر السمعة في النباهة والوجاهة السيد عبد الرحمان زروق من قبيل الرماضنية وعرش أولاد يدير الجائلين في جنوب القيروان ، فكان خير واسطة أرشد الأهالي إلى صالحهم وحذرهم مغبة أمرهم ، وسعى من جهة أخرى على ما يقال لجلب الصالح العام وصار الحاكم العسكري بالمدينة الجنرال إتيان ، واتصل التلغراف بين سوسة والقيروان يوم ٢ محرم عام ١٢٩٩ ، وبعده ربطت سكة حديد بين المدينتين تجرها الخيل ، وأخذت هاته الدولة في إجراء الإصلاحات وتمهيد الطرقات. ومن فارق المملكة في تلك الهيعة لظن بدا له رجع لها مغتبطا ، أما الذين خرجوا من القطر على عهد دخول العرب من مصر أواسط القرن الخامس ، وبالأخص العلماء الأجلاء مثل ابن رشيق وابن شرف ، فلم

٥٨

يرجعوا حيث رأوا الظلم عيانا وتخريب المملكة جهارا ، فقد أقفرت المملكة وأجدبت بذهابهم ، وفقد أهل العلوم وأرباب الصنايع نقص في العمران وهدم للحضارة. ومن هذا العهد صار للمملكة وللقيروان بالخصوص تاريخ جديد أساسه الأمن ورائده العلم ، فيه تعارفت الأمم واقتبست المعارف وانطلقت الألسن وجرت الأقلام ودونت الأخبار ، وسهلت الأسفار وطبعت التاليف ورقيت الصنائع وأتقنت الفلاحة ونمت الغراسة وحفظت الصحة ودونت القوانين ، وها هي المملكة بعد جيل من ذلك التاريخ تتفيأ ظلال الأمن متسنمة ذرى الرقي.

٣ ـ وقد تكون مفارقة الوطن فرارا بالمال الذي يخشى صاحبه على العادية عليه وخروجه من يده فتهون على النفس مفارقة الوطن حبا في المال حبا جما ، وهو في الدرجة الرابعة والوطن في الدرجة الخامسة فيما يظهر في منازل القرب من النفس.

وأولها الدين ثم العرض والشرف ، ثم الحياة ثم المال ثم الوطن. وكل واحدة من هذه يضحى له ما بعده ويهون فقده للإبقاء على السابق منها دون العكس ، مثل العرض ولشرف تضحى الحياة والمال والوطن لأجله أما الدين فلا. والحياة يضحى المال والوطن دونها أما الشرف أو الدين فلا :

يهون علينا أن تصاب جسومنا

وتسلم أعراض لنا وعقول

وهذا لا يكون إلّا في أيام الدولة المنحرفة عن واجبات العدل والعمران فتمتد أيدي الولاة لأرباب الأموال أو في زمن ضعفها وعجزها عن كف هجمات النهب وقطع أيدي السرقات ، وبذلك لا يأمن السكان على أموالهم فتجدهم لا يظهرونها في هاته الأدوار للانتفاع بها في التجارة ونحوها خوفا من الغايلة جهرا أو خفية. فمن نامت عنه أنظار التفتيش على كنوز الأغنياء وجهلت منه أرباب السعايات والغايات مدافن معادنها استنام وأخلد إلى زوايا منزله يأكل ماله درهما بعد درهم ، وربما لابست هاته الصفات بعض الأغنياء حتى في أدوار العدل ، وهو أمر مشاهد في بعض الأفراد مع كمال الأمن على الأموال وحرية الأعمال في دور الاحتلال لما ألفته نفوسهم من خلال الخوف على إظهار المال مع القصور عن التعرف بطرق الانتفاع بالناض منه. والدنانير كالرجال لها طرق في أسفارها متى علمت واعتيدت كان

٥٩

سلوكها من أسباب نجاحها ، والربح في غدوها عليها ورواحها. أما الجهل بذلك فيصل منه إلى أدمغة الرجال زمهير الجمود ، وإلى قلب المال لام الجحود.

ومن توجهت نحوه سهام المطامع ، ولم يجد لها من مدافع احتضن ماله وطار إلى منازل الأمن واستنشاق رياح الراحة :

إذا ناكرتني بلدة أو نكرتها

خرجت مع البازي علي سواد

وقد جرت قوانين الأمم الراقية ذيلها على آثار العادات المؤلمة من المصادرة للمتوظفين في المال ، وأسدلت ستار الإنصاف دون تلك الروايات المدهشة. ومن هذا يتجلى أن الأمة في تلك الأدوار تفقد المال من عدم الاستعمال كما تفقد الرجال في بعض الأحوال. والآن أخذت المملكة تعلق على المستقبل آمالها وتدير أموالها وتظهر نباهة رجالها ومقدرة أعمالها في التجارة وغيرها في فسيح الأمن وجنبات الحرية بفضل الامتزاج بالأمم الحية.

٤ ـ ومن السفر للمال الاستجداء بالشعر وإهداء التأليف. وإجازة الشعراء من قديم أوجبتها العرب على نفسها وكذلك الملوك وعظماء الرجال وكبار النفوس ، ولصاحب النبوءة الخاتمة صلى الله عليه وسلم عند سماع الشعر اهتزاز وجود.

وللملوك في أنواع الإجازة غرائب يقصدونها حتى تخيلوا أن المجيز يملؤ فم الشاعر باللآلي كما ترى صورة ذلك عند الكلام على مكتبة باريس أخذا من نسخة مقامات الحريري العتيقة.

صور الخليفة الآمر بأحكام الله في أوايل القرن الخامس بمصر شعراؤه واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح ، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهّب ، حتى إذا دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارا وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده. ويقول الخليل بن أحمد :

لا تقبلن الشعر ثم تعقه

وتنام والشعراء غير نيام

٦٠