شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

فلا بد من تقدير محذوف أيضا ، أي : ومدّوا الغسل إلى المرافق ، إذ لا يكون غسل ما وراء الكف غاية لغسل الكف.

الثاني عشر : قول ابن دريد [من الرجز] :

٦٩٩ ـ إنّ امرأ القيس جرى إلى مدى

فاعتاقه حمامه دون المدى (١)

فإن المتبادر تعلق «إلى» بـ «جرى» ، ولو كان كذلك لكان الجري قد انتهى إلى ذلك المدى ، وذلك مناقض لقوله :

فاعتاقه حمامه دون المدى

وإنما «إلى مدى» متعلّق بكون خاصّ منصوب على الحال ، أي : طالبا إلى مدى ، ونظيره قوله أيضا يصف الحاج [من الرجز] :

٧٠٠ ـ ينوي الّتي فضّلها ربّ العلى

لمّا دحا تربتها على البنى (٢)

فإن قوله : «على البنى» متعلق بأبعد الفعلين ، وهو «فضّل» ، لا بأقربهما وهو «دحا» بمعنى : بسط ، لفساد المعنى.

الثالث عشر : ما حكاه بعضهم من أنه سمع شيخا يعرب لتلميذه (قَيِّماً) من قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) [الكهف : ١ ـ ٢] صفة لـ «عوجا» ، قال : فقلت له : يا هذا كيف يكون العوج قيما؟ وترحّمت على من وقف من القرّاء على ألف التنوين في (عِوَجاً) وقفة لطيفة دفعا لهذا التوهم ؛ وإنما (قَيِّماً) حال : إما من اسم محذوف هو وعامله ، أي : أنزله قيما ؛ وإمّا من «الكتاب» ؛ وجملة النفي معطوفة على الأول ومعترضة على الثاني ، قالوا : ولا تكون معطوفة ، لئلا يلزم العطف على الصلة قبل كمالها ؛ وإما من الضمير المجرور باللام إذا أعيد إلى «الكتاب» لا إلى مجرور «على» ؛ أو جملة النفي «وقيما» حالان من «الكتاب» ، على أن الحال يتعدّد ؛ وقياس قول الفارسي في الخبر إنه لا يتعدّد مختلفا بالإفراد والجملة أن يكون الحال كذلك. لا يقال : قد صحّ ذلك في النعت ، نحو : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠] ، بل قد ثبت في الحال في نحو : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] ثم قال سبحانه (وَلا جُنُباً) [النساء : ٤٣] ، لأن الحال بالخبر أشبه ، ومن ثمّ اختلف في تعددهما ، واتفق على تعدّد النعت ؛ وأما (جُنُباً)

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لابن دريد في ديوانه ص ١١٧ ، وتاج العروس مادة (دون).

(٢) البيت من الرجز ، وهو لابن دريد في ديوانه ص ١٢٠.

٤٢١

فعطف على الحال ، لا حال ؛ وقيل : المنفية حال ، و (قَيِّماً) بدل منها ، عكس «عرفت زيدا أبو من هو».

الرابع عشر : قول بعضهم في (أَحْوى) [الأعلى : ٤ ـ ٥] إنه صفة لـ «غثاء» ، وهذا ليس بصحيح على الإطلاق ، بل إذا فسّر «الأحوى» بالأسود من الجفاف واليبس ، وأما إذا فسر بالأسود من شدّة الخضرة لكثرة الريّ كما فسّر (مُدْهامَّتانِ) (٦٤) [الرحمن : ٦٢ ـ ٦٤] فجعله صفة لـ «غثاء» كجعل «قيما» صفة لـ «عوجا» ، وإنما الواجب أن تكون حالا من «المرعى» وأخّر لتناسب الفواصل.

الخامس عشر : قول بعضهم في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) [الأنعام : ٩٩] ، فيمن رفع (جَنَّاتٍ) إنه عطف على «قنوان» ؛ وهذا يقتضي أن جنات الأعناب تخرج من طلع النخل ، وإنما هو مبتدأ بتقدير : وهاك جنّات ، أو ولهم جنّات ؛ ونظيره قراءة من قرأ (وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢) [الواقعة : ٢٢] بالرفع بعد قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (٤٥) [الصافات : ٤٥] أي : ولهم حور ؛ وأما قراءة السبعة (وَجَنَّاتٍ) بالنصب فبالعطف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) وهو من باب (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

السادس عشر : قول ابن السيّد في قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، إن (مَنْ) فاعل بالمصدر ، ويردّه أن المعنى حينئذ : ولله على الناس أن يحجّ المستطيع ؛ فيلزم تأثيم جميع الناس إذا تخلف مستطيع عن الحج ، وفيه مع فساد المعنى ضعف من جهة الصناعة ، لأن الإتيان بالفاعل بعد إضافة المصدر إلى المفعول شاذ ، حتّى قيل : إنه ضرورة كقوله [من البسيط] :

٧٠١ ـ أفنى تلادي وما جمّعت من نشب

قرع القواقيز أفواه الأباريق (١)

فيمن رواه برفع «أفواه» ، والحق جواز ذلك في النثر ، إلّا أنه قليل ، ودليل الجواز هذا البيت ، فإنه روي بالرفع مع التمكّن من النصب وهي الرواية الأخرى ، وذلك على أن «القواقيز» الفاعل ، و «الأفواه» مفعول ؛ وصحّ الوجهان لأن كلّا منهما قارع ومقروع ، ومن مجيئه في النثر الحديث : «وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا» ، ولا يتأتى فيه ذلك

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للأقيشر الأسدي في ديوانه ص ٦٠ ، والأغاني ١١ / ٢٥٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٩١ ، الدرر ٥ / ٢٥٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٦٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٩١ ، ولسان العرب ٥ / ٣٩٦ مادة / ققز /.

٤٢٢

الإشكال ، لأنه ليس فيه ذكر الوجوب على الناس ؛ والمشهور في (مَنْ) في الآية أنها بدل من «الناس» بدل بعض ؛ وجوّز الكسائي كونها مبتدأ ؛ فإن كانت موصولة فخبرها محذوف ، أو شرطيّة فالمحذوف جوابها ، والتقدير عليهما : من استطاع فليحج ؛ وعليهن فالعموم مخصّص إما بالبدل أو بالجملة.

السابع عشر : قول الزمخشري في قوله تعالى : (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) [المائدة : ٣١] إن انتصاب (فَأُوارِيَ) في جواب الاستفهام ، ووجه فساده أن جواب الشيء مسبّب عنه ، والمواراة لا تتسبب عن العجز وإنما انتصابه بالعطف على (أَكُونَ) ، ومن هنا امتنع نصب (تصبح) في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، لأن إصباح الأرض مخضرة لا يتسبّب عن رؤية إنزال المطر ، بل عن الإنزال نفسه ، وقيل : إنما لم ينصب لأن (أَلَمْ تَرَ) في معنى : قد رأيت ، أي : أنه استفهام تقريريّ مثل (أَلَمْ نَشْرَحْ) [الانشراح : ١] ؛ وقيل : النصب جائز كما في قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ) [الحج : ٤٦] ، ولكن قصد هنا إلى العطف على (أنزل) على تأويل «تصبح» بـ «أصبحت» ، والصواب القول الأول ، وليس (أَلَمْ تَرَ) مثل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) لما بينّاه.

الثامن عشر : قول بعضهم في (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) [الأحقاف : ٢٨] ، إن الأصل : اتخذوهم قربانا ، وإن الضمير و «قربانا» مفعولان ، و «آلهة» بدل من «قربانا» ؛ وقال الزمخشري : إن ذلك فاسد في المعنى ، وإن الصواب أنّ «آلهة» هو المفعول الثّاني ، وأن «قربانا» حال ؛ ولم يبّين وجه فساد المعنى ؛ ووجهه أنهم إذا ذمّوا على اتّخاذهم قربانا من دون الله اقتضى مفهومه الحثّ على أن يتّخذوا الله سبحانه قربانا ، كما أنك إذا قلت «أتّتّخذ فلانا معلّما دوني؟» كنت آمرا له أن يتخذك معلّما له دونه ، والله تعالى يتقرّب إليه بغيره ، ولا يتقرّب به إلى غيره ، سبحانه.

التاسع عشر : قول المبرّد في قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] إن جملة (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) جملة دعائية ؛ وردّه الفارسيّ بأنه لا يدعى عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتال قومهم ، ولك أن تجيب بأن المراد الدّعاء عليهم بأن يسلبوا أهليّة القتال حتى لا يستطيعوا أن يقاتلوا أحدا ألبتة.

المتمم العشرين : قول أبي الحسن في قوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) [الكهف : ٢٥] فيمن نوّن «مائة» إنه يجوز كون «سنين» منصوبا بدلا من «ثلاث» ، أو

٤٢٣

مجرورا بدلا من «مائة» ، والثاني مردود ، فإنه إذا أقيم مقام «مائة» فسد المعنى.

الحادي والعشرون : قول المبرد في (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] : إن اسم الله تعالى بدل من «آلهة» ، ويردّه أن البدل في باب الاستثناء مستثنى موجب له الحكم ، أما الأول فلأن الاستثناء إخراج ، و «ما قام أحد إلا زيد» مفيد لإخراج «زيد» ؛ وأمّا الثاني فلأنه كلّما صدق «ما قام أحد إلا زيد» صدق «قام زيد» ، واسم الله تعالى هنا ليس بمستثنى ولا موجب له الحكم ؛ أمّا الأول فلأن الجمع المنكّر لا عموم له فيستثنى منه ، ولأن المعنى حينئذ لو كان فيهما آلهة مستثنى منهم الله لفسدتا ، وذلك يقتضي أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم يفسدا ، وإنما المراد أن الفساد يترتّب على تقدير التعدّد مطلقا ؛ وأمّا أنه ليس بموجب له الحكم فلأنه لو قيل : لو كان فيهما الله لفسدتا لم يستقم. وهذا البحث يأتي في مثال سيبويه «لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا» لأن «رجلا» ليس بعامّ فيستثنى منه ، ولأنه لو قيل : لو كان معنا جماعة مستثنى منهم زيد لغلبنا اقتضى أنه لو كان معهم جماعة فيهم زيد لم يغلبوا ، وهذا وإن كان معنى صحيحا إلّا أن المراد إنما هو أن زيدا وحده كاف.

فإن قيل : لا نسلّم أن الجمع في الآية والمفرد في المثال غير عامّين ، لأنهما واقعان في سياق «لو» ، وهي للامتناع ، والامتناع انتفاء.

قلت : لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال : لو كان فيهما من أحد ، ولو جاءني ديّار ، ولو جاءني فأكرمه بالنّصب لكان كذا وكذا ، واللازم ممتنع.

الثاني والعشرون : قول أبي الحسن الأخفش في «كلمته فاه إلى فيّ» إن انتصاب «فاه» على إسقاط الخافض ، أي : من فيه ؛ وردّه المبرد فقال : إنما يتكلّم الإنسان من في نفسه لا من في غيره ؛ وقد يكون أبو الحسن إنما قال ذلك في «كلّمني فاه إلى فيّ» ، أو قاله في ذلك وحمله على القلب لفهم المعنى ؛ فلا يرد عليه سؤال أبي العباس ، فلنعدل إلى مثال غير هذا.

حكي عن اليزيدي أنه قال في قول العرجيّ [من الكامل] :

٧٠٢ ـ أظلوم إنّ مصابكم رجلا

ردّ السّلام تحيّة ظلم (١)

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه ص ٩١ ، والاشتقاق ص ٩٩ ، والأغاني ٩ / ٢٢٥ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ٢٢٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢١٠.

٤٢٤

إن الصواب «رجل» بالرفع لـ «إنّ» وعلى هذا الإعراب يفسد المعنى المراد في البيت ، ولا يتحصل له معنى ألبتة ، وله حكاية مشهورة بين أهل الأدب.

رووا عن أبي عثمان المازني أن بعض أهل الذمة بذل له مائة دينار على أن يقرئه كتاب سيبويه ، فامتنع من ذلك مع ما كان به من شدّة احتياج ، فلامه تلميذه المبرد ، فأجابه بأن الكتاب مشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آيةمن كتاب الله تعالى ، فلا ينبغي تمكين ذميّ من قراءتها ؛ ثم قدّر أن غنّت جارية بحضرة الواثق بهذا البيت ، فاختلف الحاضرون في نصب «رجل» ورفعه ، وأصرّت الجارية على النصب ، وزعمت أنها قرأته على أبي عثمان كذلك. فأمر الواثق بإشخاصه من البصرة ، فلما حضر أوجب النصب ، وشرحه بأن «مصابكم» بمعنى : إصابتكم ، و «رجلا» مفعوله ، و «ظلم» الخبر ، ولهذا لا يتم المعنى بدونه ، قال : فأخذ اليزيديّ في معارضتي ، فقلت له : هو كقولك : «إن ضربك زيدا ظلم» فاستحسنه الواثق ، ثم أمر له بألف دينار ، وردّه مكرما. فقال للمبرد : تركنا لله مائة دينار فعوضنا ألفا.

الجهة الثانية : أن يراعي المعرب معنى صحيحا ، ولا ينظر في صحّته في الصناعة ، وها أنا مورد لك أمثلة من ذلك.

أحدها : قول بعضهم في (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) [النجم : ٥١] إن «ثمودا» مفعول مقدّم ، وهذا ممتنع ، لأن لـ «ما» النافية الصّدر ، فلا يعمل فيما قبلها ، وإنما هو معطوف على (عاداً) أو هو بتقدير وأهلك ثمودا ، وإنما جاء [من الرجز] :

ونحن عن فضلك ما استغنينا

لأنه شعر ، مع أن المعمول ظرف ، وأما قراءة عمرو بن فائد (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (٢) [الفلق : ٢] بتنوين «شرّ» ، فـ «ما» بدل من «شرّ» ، بتقدير مضاف ، أي : من شر شر ما خلق ، وحذف الثاني لدلالة الأول.

الثاني : قول بعضهم في «إذ» من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠) [غافر : ١٠] إنها ظرف للمقت الأول ، أو للثاني ، وكلاهما ممنوع ؛ أما امتناع تعليقه بالثاني فلفساد المعنى ، لأنهم لم يمقتوا أنفسهم ذلك الوقت ، وإنما يمقتونها في الآخرة.

ونظيره قول من زعم في (يَوْمَ تَجِدُ) [آل عمران : ٣٠] إنه ظرف لـ «يحذركم» ، حكاه مكي ، قال : وفيه نظر ، والصواب الجزم بأنه خطأ ، لأن التحذير في الدنيا لا في الآخرة ،

٤٢٥

ولا يكون مفعولا به لـ «يحذركم» كما في (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) [غافر : ١٨] لأن «يحذر» قد استوفى مفعوليه ، وإنما هو نصب بمحذوف تقديره : اذكروا أو احذروا.

وأما امتناع تعليقه بالأوّل ـ وهو رأي جماعة منهم الزمخشري ـ فلاستلزامه الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبيّ ، ولهذا قالوا في قوله [من الطويل] :

٧٠٣ ـ وهنّ وقوف ينتظرن قضاءه

بضاحي غداة أمره وهو ضامز (١)

إن الباء متعلقة بـ «قضائه» ، لا بـ «وقوف» ولا بـ «ينتظرن» ، لئلا يفصل بين «قضائه» و «أمره» بالأجنبي ؛ ولا حاجة إلى تقدير ابن الشجري وغيره أمره معمولا لـ «قضى» محذوفا لوجود ما يعمل ، ونظير ما لزم الزمخشريّ هنا ما لزمه إذ علق (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٩) [الطارق : ٩] بـ «الرجع» من قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) (٨) [الطارق : ٨] ، وإذ علّق «أياما» بـ «الصيام» من قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٣ ـ ١٨٤] ، فإنّ في الأولى الفصل بخبر «إنّ» وهو لـ «قادر» ، وفي الثاني الفصل بمعمول «كتب» وهو كما كتب.

فإن قيل : لعلّه يقدر (كَما كُتِبَ) صفة لـ «الصيام» ، فلا يكون متعلّقا بـ «يكتب».

قلنا : يلزم محذور آخر ، وهو إتباع المصدر قبل أن يكمل معموله ، ونظير اللازم له على هذا التقدير ما لزمه إذ قال في قوله تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧] : إن «المسجد» عطف على «سبيل الله» ، وإنه حينئذ من جملة معمول المصدر ، وقد عطف (كفر) على المصدر قبل مجيئه.

والصواب أن الظروف الثلاثة متعلّقة بمحذوف ، أي : مقتكم إذ تدعون ، وصوموا أياما ، ويرجعه يوم تبلى السرائر ، ولا ينتصب «يوم» بـ «قادر» ، لأن قدرته تعالى لا تتقيّد بذلك اليوم ولا بغيره ، ونظيره في التعلّق بمحذوف (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٢٢] ألا ترى أن «اليوم» لو علّق بـ «بشرى» لم يصحّ من وجهين : أنه مصدر ، وأنه اسم لـ «لا» ، وأما (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] فعلى الخلاف في جواز تقدّم منصوب «ليس» عليها.

والصواب أن خفض (المسجد) بباء محذوفة لدلالة ما قبلها عليها ، لا بالعطف ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للشماخ في ديوانه ص ١٧٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٢١ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٩٥ ، ولسان العرب ٥ / ٣٦٥ مادة / ضمز /.

٤٢٦

ومجموع الجارّ والمجرور عطف على (به) ، ولا يكون خفض «المسجد» بالعطف على الهاء ، لأنه لا يعطف على الضمير المخفوض إلا بإعادة الخافض.

ومن أمثلة ذلك قول المتنبي [من الطويل] :

٧٠٤ ـ وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه

بأن تسعدا والدّمع أشفاه ساجمه (١)

وقد سأل أبو الفتح المتنبي عنه ، فأعرب «وفاؤكما كالربع» مبتدأ وخبره ، وعلق الباء بـ «وفاؤكما» ، فقال له : كيف تخبر عن اسم لم يتمّ؟ فأنشده قول الشاعر [من البسيط] :

٧٠٥ ـ لسنا كمن جعلت إياد دارها

تكريت تمنع حبّها أن يحصدا (٢)

أي أن «إياد» بدل من «من» قبل مجيء معمول «جعلت» وهو «دارها» ، والصواب تعليق «دارها» وب «أن تسعدا» بمحذوف ، أي : جعلت ووفيتما ، ومعنى البيت : وفاؤكما يا صاحبي بما وعدتماني به من الإسعاد بالبكاء عند ربع الأحبة إنما يسلّيني إذا كان بدمع ساجم ، أي : هامل ، كما أن الربع إنما يكون أبعث على الحزن إذا كان دارسا.

الثالث : تعليق جماعة الظروف من قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] ، (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف : ٩٢] ، ومن قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت» ، باسم «لا» ، وذلك باطل عند البصريّين ، لأن اسم «لا» حينئذ مطول ، فيجب نصبه وتنوينه ، وإنما التعليق في ذلك بمحذوف إلا عند البغداديّين ، وقد مضى.

والرابع : وهو عكس ذلك : تعليق بعضهم الظّرف من قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٨٣] بمحذوف : أي كائن عليكم ، وذلك ممتنع عند الجمهور ، وإنما هو متعلّق بالمذكور وهو «الفضل» ، لأن خبر المبتدأ بعد «لولا» واجب الحذف ، ولهذا لحّن المعرّي في قوله [من الوافر] :

٧٠٦ ـ يذيب الرّعب منه كلّ عضب

فلولا الغمد يمسكه لسالا (٣)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، انظر : قرى الضيف ١ / ١٨٢ ، ودلائل الإعجاز ص ٧٩ ، والخصائص ٢ / ٤٠٣.

(٢) البيت من الكامل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٢٨١ ، ولسان العرب ١٣ / ٤١٩ مادة / مننى / بلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٠٢.

(٣) البيت من الوافر ، وهو لأبي العلاء المعري في أوضح المسالك ١ / ٢٢١ ، والجني الداني ص ٦٠٠ ، والدرر ٢ / ٢٧ ، ورصف المباني ص ٢٩٥.

٤٢٧

الخامس : قول بعضهم في (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] : إن الظّرف كان صفة لـ «أمة» ، ثم قدم عليها فانتصب على الحال ، وهذا يلزم منه الفصل بين العاطف والمعطوف بالحال ، وأبو عليّ لا يجيزه بالظرف ، فما الظن بالحال التي هي شبيهة بالمفعول به؟ ومثله قول أبي حيّان في (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة : ٢٠٠] إن (أَشَدَّ) حال كان في الأصل صفة لذكرا.

السادس : قول الحوفي : إن الباء من قوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] متعلّقة بـ «ناظرة» ، ويردّه أن الاستفهام له الصّدر ؛ ومثله قول ابن عطيّة في (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : ٣٠] : إنّ «أنّى» ظرف لـ «قاتلهم الله» ، وأيضا فيلزم كون «يؤفكون» لا موقع لها حينئذ ، والصواب تعلّقهما بما بعدهما.

ونظيرهما قول المفسّرين في (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] : إن المعنى إذا أنتم تخرجون من الأرض ، فعلّقوا ما قبل «إذا» بما بعدها ، حكى ذلك عنهم أبو حاتم في كتاب الوقف والابتداء ، وهذا لا يصحّ في العربيّة.

وقول بعضهم في (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا) [الأحزاب : ٦١] : إن «ملعونين» حال من معمول «ثقفوا» أو «أخذوا» ، ويردّه أن الشّرط له الصّدر. والصواب أنه منصوب على الذم ، وأما قول أبي البقاء إنه حال من فاعل (يُجاوِرُونَكَ) فمردود ، لأن الصّحيح أنه لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان.

وقول آخر في (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف : ٢٠] : إنّ «في» متعلقة بـ «زاهدين» المذكور ، وهذا ممتنع إذا قدرت «أل» موصولة وهو الظاهر ، لأن معمول الصّلة لا يتقدّم على الموصول ، فيجب حينئذ تعلّقها بـ «أعني» محذوفة ، أو بـ «زاهدين» محذوفا مدلولا عليه بالمذكور ، أو بالكون المحذوف التي تعلّق به من «الزاهدين» ؛ وأمّا إن قدرت «أل» للتعريف فواضح.

السابع : قول بعضهم في بيت المتنبي يخاطب الشيب [من البسيط] :

٧٠٧ ـ ابعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظّلم (١)

إن «من» متعلقة بـ «أسود» ، وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل ، وذلك ممتنع في

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، انظر : قرى الضيف ١ / ١٩٤.

٤٢٨

الألوان ، والصحيح أن «من الظلم» صفة لـ «أسود» ، أي : أسود كائن من جملة الظلم ، وكذا قوله [من الكامل] :

٧٠٨ ـ يلقاك مرتديا بأحمر من دم

ذهبت بخضرته الطّلى والأكبد (١)

«من دم» إمّا تعليل ، أي : أحمر من أجل التباسه بالدم ، أو صفة كأن السيف لكثرة التباسه بالدم صار دما.

الثامن : قول بعضهم في «سقيا لك» إن اللام متعلّقة بـ «سقيا» ، ولو كان كذا لقيل : سقيا إيّاك ، فإن «سقي» يتعدّى بنفسه.

فإن قيل : اللام للتقوية مثل (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقرة : ٩١].

فلام التقوية لا تلزم ، ومن هنا امتنع في (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) [محمد : ٨] كون «الذين» نصبا على الاشتغال ، لأن «لهم» ليس متعلّقا بالمصدر.

التاسع : قول الزّمخشري في (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الروم : ٢٣] : إنه من اللّف والنشر ، وإن المعنى منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، وهذا يقتضي أن يكون «النّهار» معمولا للابتغاء مع تقديمه عليه ، وعطفه على معمول «منامكم» وهو بالليل ، وهذا لا يجوز في الشّعر ، فكيف في أفصح الكلام؟

وزعم عصريّ في تفسير له على سورتي البقرة وآل عمران في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة : ١٩] أن (مِنَ) متعلّقة بـ «حذر» أو بـ «الموت» ، وفيهما تقديم معمول المصدر ؛ وفي الثاني أيضا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف ؛ وحامله على ذلك أنه لو علّقه بـ «يجعلون» وهو في موضع المفعول له لزم تعدّد المفعول له من غير عطف ، إذا كان حذر الموت مفعولا له ؛ وقد أجيب بأن الأول تعليل للجعل مطلقا ، والثاني تعليل له مقيدا بالأول ، والمطلق والمقيد غيران ، فالمعلّل متعدّد في المعنى ، وإن اتحد في اللفظ ، والصواب أن يحمل على أن المنام في الزمانين والابتغاء فيهما.

العاشر : قول بعضهم في (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] : إن «ما» بمعنى «من» ، ولو كان كذلك لرفع «قليل» على أنه خبر.

الحادي عشر : قول بعضهم في (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) [البقرة : ٩٦] :

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للمتنبي في ديوانه ص ٢ / ٦٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٢٤٠.

٤٢٩

إن «هو» ضمير الشأن ، و «أن يعمر» : مبتدأ ، و «بمزحزحه» : خبر ، ولو كان كذلك لم يدخل الباء في الخبر.

ونظيره قول آخر في حديث بدء الوحي «ما أنا بقارىء» : إن «ما» استفهامية مفعولة لـ «قارىء» ، ودخول الباء في الخبر يأبى ذلك.

الثاني عشر : قول الزمخشري في (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] فيمن رفع «يدرك» : إنه يجوز كون الشّرط متّصلا بما قبله ، أي : ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا ؛ يعني فيكون الجواب محذوفا مدلولا عليه بما قبله ، ثم يبتدى (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨] ، وهذا مردود بأن سيبويه وغيره من الأئمة نصّوا على أنه لا يحذف الجواب إلا وفعل الشّرط ماض ، تقول : «أنت ظالم إن فعلت» ولا تقول : «أنت ظالم إن لم تفعل» إلا في الشعر ؛ وأما قول أبي بكر في كتاب الأصول : إنه يقال : «آتيك إن تأتني» فنقله من كتب الكوفيّين ، وهم يجيزون ذلك ، لا على الحذف ، بل على أن المتقدّم هو الجواب ، وهو خطأ عند أصحابنا ، لأن الشّرط له الصّدر.

الثالث عشر : قول بعضهم في (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف : ١٠٣] : إن (أَعْمالاً) مفعول به ، وردّه ابن خروف بأن «خسر» لا يتعدّى كنقيضه «ربح» ، ووافقه الصفار مستدلّا بقوله تعالى : (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) [النازعات : ١٢] ، إذ لم يرد أنها خسرت شيئا ، وثلاثتهم ساهون ، لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به ، ولأن «خسر» متعدّ ؛ ففي التنزيل : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [الأنعام : ١٢] ، (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١] ؛ وأما «خاسرة» فكأنه على النسب : أي ذات خسر ؛ و «ربح» أيضا يتعدّى فيقال : «ربح دينارا». وقال سيبويه : «أعمالا» مشبه بالمفعول به ، ويردّه أن اسم التفضيل لا يشبه باسم الفاعل ، لأنه لا تلحقه علامات الفروع إلا بشرط ، والصواب أنه تمييز.

الجهة الثالثة : أن يخرج على ما لم يثبت في العربيّة ، وذلك إنما يقع عن جهل أو غفلة ، فلنذكر منه أمثلة.

أحدها : قول أبي عبيدة في (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال : ٥] إن الكاف حرف قسم ، وإن المعنى : الأنفال لله والرسول والذي أخرجك ، وقد شنّع ابن الشجري على مكي في حكايته هذا القول وسكوته عنه ، قال : ولو أن قائلا قال «كالله لأفعلنّ» لاستحقّ أن يبصق في وجهه.

ويبطل هذه المقالة أربعة أمور ، أن الكاف لم تجىء بمعنى واو القسم ، وإطلاق

٤٣٠

«ما» على الله سبحانه وتعالى ، وربط الموصول بالظاهر وهو فاعل «أخرج» ، وباب ذلك الشعر كقوله [من الطويل] :

٧٠٩ ـ [فيا ربّ أنت الله في كلّ موطن]

وأنت الّذي في رحمة الله أطمع (١)

ووصله بأول السورةمع تباعد ما بينهما.

وقد يجاب عن الثاني بأنه قد جاء نحو : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٥) [الشمس : ٥] وعنه أنه قال : الجواب (يجادلونك) ويردّ عدم توكيده ؛ وفي الآية أقوال أخر ؛ ثانيها : أن الكاف مبتدأ ، وخبره فاتّقوا الله ، ويفسده اقترانه بالفاء ، وخلوّه من رابط ، وتباعد ما بينهما ؛ وثالثها أنها نعت مصدر محذوف ، أي : يجادلونك في الحقّ الذي هو إخراجك من بيتك جدالا مثل جدال إخراجك ، وهذا فيه تشبيه الشيء بنفسه. ورابعها ـ وهو أقرب مما قبله ـ أنها نعت مصدر أيضا ، ولكنّ التقدير : قل الأنفال ثابتة لله والرسول مع كراهيتهم ثبوتا مثل ثبوت إخراج ربك إيّاك من بيتك وهم كارهون ؛ وخامسها ـ وهو أقرب من الرّابع ـ : أنها نعت لـ «حقّا» ، أي : أولئك هم المؤمنون حقّا كما أخرجك ؛ والذي سهّل هذا تقاربهما ، ووصف الإخراج بالحق في الآية ؛ وسادسها ـ وهو أقرب من الخامس ـ أنها خبر لمحذوف ، أي : هذه الحال كحال إخراجك ، أي : أن حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك الغزاة مثل حالهم في كراهية خروجك من بيتك للحرب ، وفي الآية أقوال أخر منتشرة.

المثال الثاني : قول ابن مهران في كتاب الشواذّ فيمن قرأ (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ) [البقرة : ٧٠] بتشديد التاء : إن العرب تزيد تاء على التاء الزائدة في أول الماضي ، وأنشد [من الكامل] :

تتقطعت بي دونك الأسباب

ولا حقيقة لهذا البيت ولا لهذه القاعدة ، وإنما أصل القراءة (إِنَّ الْبَقَرَ) بتاء الوحدة ، ثم أدغمت في تاء «تشابهت» ، فهو إدغام من كلمتين.

الثالث : قول بعضهم في (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦] : إنّ الأصل : وما لنا وأن لا نقاتل ، أي : ما لنا وترك القتال ، كما تقول : «ما لك وزيدا» ولم يثبت في العربية حذف واو المفعول معه.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٣١

الرابع : قول محمد بن مسعود الزكي في كتابه البديع ـ وهو كتاب خالف فيه أقوال النحويّين في أمور كثيرة ـ : إن «الذي» و «أن» المصدريّة يتقارضان ، فيقع «الذي» مصدرية ، كقوله [من الطويل] :

٧١٠ ـ أتقرح أكباد المحبّين كالّذي

أرى كبدي من حبّ ميّة يقرح؟ (١)

وتقع «أن» بمعنى «الذي» ، كقولهم : «زيد أعقل من أن يكذب» ، أي : من الذي يكذب ، ا ه.

فأما وقوع الذي مصدريّة فقال به يونس والفرّاء والفارسيّ ، وارتضاه ابن خروف وابن مالك ، وجعلوا منه (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) [الشورى : ٢٣] ، (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩].

وأما عكسه فلم أعرف له قائلا ، والذي جرّأه عليه إشكال هذا الكلام ، فإن ظاهره تفضيل «زيد» في العقل على الكذب ، وهذا لا معنى له ، ونظائر هذا التّركيب كثيرة مشهورة الاستعمال ، وقلّ من يتنبّه لإشكالها ؛ وظهر لي فيها توجيهان :

أحدهما : أن يكون في الكلام تأويل على تأويل ، فيؤوّل «أن» والفعل بالمصدر ، ويؤوّل المصدر بالوصف ، فيؤوّل إلى المعنى الذي أراده ولكن بتوجيه يقبله العلماء. ألا ترى أنه قيل في قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧] ، إن التقدير : ما كان افتراء ، ومعنى هذا ما كان مفترى : وقال أبو الحسن في قوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣] : إن المعنى ثم يعودون للقول ، والقول في تأويل المقول : أي : يعودون للمقول فيهن لفظ الظهار ، وذلك هو الموافق لقول جمهور العلماء : إنّ العود الموجب للكفارة العود إلى المرأة لا العود إلى القول نفسه كما يقول أهل الظاهر ، وبعد فهذا الوجه عندي ضعيف ؛ لأن التفضيل على الناقص لا فضل فيه ، وعليه قوله [من الطويل]:

٧١١ ـ إذا أنت فضّلت امرأ ذا براعة

على ناقص كان المديح من النّقص (٢)

التوجيه الثاني : أن «أعقل» ضمن معنى «أبعد» ، فمعنى المثال : زيد أبعد الناس من الكذب لفضله من غيره ، فـ «من» المذكورة ليست الجارّة للمفضول ، بل متعلّقة ب

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجميل بثينة في ديوانه ص ٤٦ ، وبلا نسبة الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٨.

(٢) البيت من البحر الطويل ، ولم أجده.

٤٣٢

«أفعل» ، لما تضمّنه من معنى البعد ، لا لما فيه من المعنى الوضعيّ ، والمفضل عليه متروكّ أبدا مع «أفضل» هذا لقصد التعميم.

ولو لا خشية الإسهاب لأوردت لك أمثلة كثيرة من هذا الباب لتقف منها على العجب العجاب.

الجهة الرابعة : أن يخرج على الأمور البعيدة والأوجه الضعيفة ،ويترك الوجه القريب والقويّ ، فإن كان لم يظهر له إلّا ذاك فله عذر ، وإن ذكر الجميع فإن قصد بيان المحتمل أو تدريب الطالب فحسن ، إلا في ألفاظ التنزيل فلا يجوز أن يخرج إلا على ما يغلب على الظنّ إرادته ، فإن لم يغلب شيء فليذكر الأوجه المحتملة من غير تعسّف ، وإن أراد مجرد الإغراب على الناس وتكثير الأوجه فصعب شديد ، وسأضرب لك أمثلة مما خرّجوه على الأمور المستبعدة لتجتنبها وأمثالها.

أحدها : قول جماعة في (وَقِيلِهِ) [الزخرف : ٨٠ ، ثم ٨٥ ـ ٨٨] إنه عطف على لفظ (السَّاعَةِ) [الزخرف : ٨٥] فيمن خفض ، وعلى محلّها فيمن نصب ، مع ما بينهما من التّباعد ؛ وأبعد منه قول أبي عمرو في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) [فصلت : ٤٠ ـ ٤٤] إن خبره (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ؛ وأبعد من هذا قول الكوفيّين والزجّاج في قوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) [ص : ١] : إن جوابه (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) [ص : ٦٤] ؛ وقول بعضهم في (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٤] : إنه عطف على (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) [الأنعام : ٨٤ ، الأنبياء : ٧٢] وقول الزمخشري في (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) [القمر : ١ ـ ٣] فيمن جرّ «مستقر :» إنّ «كلّا» عطف على «الساعة ،» وأبعد منه قوله في (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ) [الذاريات : ٣٨] : إنه عطف على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) [الذاريات : ٢٠] ، وأبعد من هذا قوله في (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) [الصافات : ١٤٩] إنه عطف على (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) [الصافات : ١١]. قال : هو معطوف على مثله في أول السورةو إن تباعدت بينهما المسافة ، انتهى.

والصواب خلاف ذلك كله.

فأما (وَقِيلِهِ) [الزخرف : ٨٨] فيمن خفض ، فقيل : الواو للقسم وما بعده الجواب ، واختاره الزمخشري ؛ وأما من نصب ، فقيل : عطف على (سِرَّهُمْ) [الزخرف : ٨٠] أو على مفعول محذوف معمول لـ «يكتبون» أو لـ «يعلمون» ، أي : يكتبون ذلك ، أو يعلمون

٤٣٣

الحق ، أو أنه مصدر لـ «قال» محذوفا ، أو نصب على إسقاط حرف القسم ، واختاره الزمخشري.

وأما (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) [فصلت : ٤١] فقيل : «الذين» بدل من «الذين» في (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) [فصلت : ٤٠] ، والخبر (لا يَخْفَوْنَ) [فصلت : ٤٠] ، واختاره الزمخشريّ ؛ وقيل : مبتدأ خبره مذكور ، ولكن حذف رابطه ، ثم اختلف في تعيينه ؛ فقيل : هو (ما يُقالُ لَكَ) [فصلت : ٤٣] أي في شأنهم ؛ وقيل : هو (لَمَّا جاءَهُمْ) [فصلت : ٤١] أي : كفروا به ؛ وقيل : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) [فصلت : ٤٢] أي : لا يأتيه منهم ، وهو بعيد ؛ لأن الظاهر أن (لا يَأْتِيهِ) من جملة خبر إنه.

وأما (ص وَالْقُرْآنِ) [ص : ١] الآية ؛ فقيل : الجواب محذوف ، أي إنه لمعجز ، بدليل الثّناء عليه بقوله (ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] ، أو (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) [يس : ٣] ، بدليل (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ص : ٤] ، أو ما الأمر كما زعموا ، بدليل (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) [ص : ٤] ، وقيل : مذكور ؛ فقال الأخفش (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) [ص : ١٤] ؛ وقال الفرّاء وثعلب (ص) لأن معناها : صدق الله ، ويردّه أن الجواب لا يتقدّم ، فإن أريد أنه دليل الجواب فقريب ، وقيل (كَمْ أَهْلَكْنا) [ص : ٣] الآية ، وحذفت اللام للطول.

وأما (ثُمَّ آتَيْنا) [الأنعام : ١٥٤] فعطف على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) [الأنعام : ١٥١] ، وثم لترتيب الأخبار ، لا لترتيب الزمان ، أي : ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب.

وأما (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) [القمر : ٣] فمبتدأ حذف خبره ، أي : وكل أمر مستقر عند الله واقع ، أو ذكر ، وهو (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [القمر : ٥] ، وما بينهما اعتراض ؛ وقول بعضهم الخبر «مستقر» وخفض على الجوار حمل على ما لم يثبت في الخبر.

وأما (وَفِي مُوسى) [الذاريات : ٣٨] فعطف على «فيها» من (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) [الذاريات : ٣٧].

الثاني : قول بعضهم في (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] : إن الوقف على (فَلا جُناحَ ،) وإنّ ما بعده إغراء ليفيد صريحا مطلوبيّة التطوّف بالصّفا والمروة ، ويردّه أن إغراء الغائب ضعيف ، كقول بعضهم وقد بلغه أن إنسانا يهدّده : «عليه رجلا ليسني» ، أي : ليلزم غيري ، والذي فسّرت به عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، خلاف ذلك ، وقصتها مع عروة بن الزبير ، رضي الله تعالى عنهم ، مسطورة في صحيح البخاري ، ثم

٤٣٤

الإيجاب لا يتوّقف على كون (عَلَيْهِ) إغراء ، بل كلمة على تقتضي ذلك مطلقا.

وأما قول بعضهم في (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الأنعام : ١٥١] : إن الوقف قبل (عَلَيْكُمْ) وإن (عَلَيْكُمْ) إغراء فحسن ، وبه يتخلّص من إشكال ظاهر في الآية محوج للتأويل.

الثالث : قول بعضهم في (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب : ٣٣] إن (أَهْلَ) منصوب على الاختصاص ؛ وهذا ضعيف ، لوقوعه بعد ضمير الخطاب مثل «بك الله نرجو الفضل» ، وإنما الأكثر أن يقع بعد ضمير التكلّم كالحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» والصواب أنه منادى.

الرابع : قول الزمخشريّ في (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] إنه يجوز كون (تَجْعَلُوا) منصوبا في جواب الترجي أعني (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١ ، ١٨٣] على حد النصب في قراءة حفص (فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٧] ، وهذا لا يجيزه بصريّ ؛ ويتأوّلون قراءة حفص : إما على أنه جواب للأمر وهو (ابْنِ لِي صَرْحاً) [غافر : ٣٦] ، أو على العطف على الأسباب ، على حد قوله [من الوافر] :

٧١٢ ـ ولبس عباءة وتقرّ عيني

[أحبّ إليّ من لبس الشّفوف](١)

أو على معنى ما يقع موقع أبلغ ، وهو : أن أبلغ ، على حد قوله :

ولا سابق شيئا»

ثم إن ثبت قول الفرّاء إن جواب الترجّي منصوب كجواب التمني فهو قليل ، فكيف تخرج عليه القراءة المجمع عليها.

وهذا كتخريجه قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] على أن الاستثناء منقطع ، وأنه جاء على البدل الواقع في اللغة التميميّة ، وقد مضى البحث فيها.

ونظير هذا على العكس قول الكرماني في (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] إن «من» نصب على الاستثناء و «نفسه» توكيد ، فحمل قراءة السبعة على النصب في مثل «ما قام أحد إلا زيدا» ، كما حمل الزمخشري قراءتهم على البدل في مثل «ما فيها أحد إلا حمار» ، وإنما تأتي قراءة الجماعة على أفصح الوجهين. ألا ترى

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٣٥

إلى إجماعهم على الرّفع في (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) [النور : ٦] وأن أكثرهم قرأ به في (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] ، وأنه لم يقرأ أحد بالبدل في (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ١٩ ـ ٢٠] لأنه منقطع؟ وقد قيل : إن بعضهم قرأ به في (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧] وإجماع الجماعة على خلافه.

ونظير حمل الكرماني «النفس» على التوكيد في موضع لم يحسن فيه ذلك قول بعضهم في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] إن الباء زائدة ، و «أنفسهن» توكيد للنون ؛ وإنما لغة الأكثرين في توكيد الضمير المرفوع المتّصل بالنفس أو العين أن يكون بعد التوكيد بالمنفصل : نحو : «قمتم أنتم أنفسكم».

الخامس : قول بعضهم في (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزخرف : ١٣] : إن اللام للأمر ، والفعل مجزوم ، والصواب أنها لام العلّة والفعل منصوب ؛ لضعف أمر المخاطب باللام كقوله [من الخفيف] :

٧١٣ ـ لتقم أنت يا ابن خير قريش

فلتقضي حوائج المسلمينا (١)

السادس : قول التبريزي في قراءة يحيى بن يعمر (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام:١٥٤] بالرفع : إن أصله : أحسنوا ، فحذفت الواو اجتزاء عنها بالضمة ، كما قال [من الوافر] :

٧١٤ ـ إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا

ولا يألوهم أحد ضرارا (٢)

واجتماع حذف الواو وإطلاق «الذي» على الجماعة ، كقوله [من الطويل] :

٧١٥ ـ وإنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

[هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد](٣)

ليس بالسّهل ، والأولى قول الجماعة : إنه بتقدير مبتدأ ، أي : هو أحسن ، وقد جاءت منه مواضع ، حتى إن أهل الكوفة يقيسونه ، والاتفاق على أنه قياس مع «أيّ» ، كقوله [من المتقارب] :

٧١٦ ـ [إذا ما لقيت بني مالك]

فسلّم على أيّهم أفضل (٤)

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٥٢٥ ، وتذكرة النحاة ص ٦٦٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٤.

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة من الإنصاف ١ / ٣٨٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٣١ ، الدرر ١ / ١٨٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو للأشهب بن رميلة ، في خزانة الأدب ٦ / ٧ ، ولسان العرب ٢ / ٣٤٩ مادة / فلج / والمقاصد النحوية ١ / ٤٨٢.

(٤) البيت من المتقارب ، وهو لغسان بن وعلة في الدرر ١ / ٢٧٢ ، وشرح التصريح ١ / ١٣٥ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٥٠ ، وتخليص الشواهد ص ١٥٨ ، وشرح الأشموني ١ / ٧٧.

٤٣٦

وأما قول بعضهم في قراءة ابن محيصن (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] : إن الأصل : أن يتمّوا بالجمع فحسن ؛ لأن الجمع على معنى «من» مثل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) [يونس : ٤٢] ولكن أظهر منه قول الجماعة : إنه قد جاء على إهمال «أن» الناصبة حملا على أختها «ما» المصدرية.

السابع : قول بعضهم في قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران : ١٢٠] فيمن قرأ بتشديد الراء وضمّها : إنه على حد قوله [من الرجز] :

٧١٧ ـ [يا أقرع بن حابس يا أقرع]

إنّك إن يصرع أخوك تصرع (١)

فخرج القراءة المتواترة على شيء لا يجوز إلا في الشعر ، والصواب أنه مجزوم ، وأن الضمّة إتباع كالضمّة في قولك : «لم يشدّ» و «لم يردّ» ، وقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥] إذا قدّر (لا يَضُرُّكُمْ) جوابا لاسم الفعل ، فإن قدّر استئنافا فالضمّة إعراب ، بل قد امتنع الزمخشريّ من تخريج التنزيل على رفع الجواب مع مضيّ فعل الشّرط ، فقال في قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ) [آل عمران : ٣٠] : لا يجوز أن تكون «ما» شرطية لرفع «تودّ» ، هذا مع تصريحه في المفصّل بجواز الوجهين في نحو : «إن قام زيد أقوم» ، ولكنه لمّا رأى الرفع مرجوحا لم يستسهل تخريج القراءة المتّفق عليها عليه. يوضح لك هذا أنه جوّز ذلك في قراءة شاذّة مع كون فعل الشرط مضارعا ، وذلك على تأويله بالماضي ، فقال قرىء (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] برفع «يدرك» ؛ فقيل : هو على حذف الفاء ؛ ويجوز أن يقال : إنه محمول على ما يقع موقعه ، وهو : أينما كنتم ، كما حمل «ولا ناعب» في قوله [من الطويل] :

٧١٨ ـ [مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة]

ولا ناعب [إلّا ببين غرابها](٢)

على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» ، وهو : ليسوا بمصلحين ؛ وقد يرى كثير من الناس قول الزمخشري في هذه المواضع متناقضا ، والصواب ما بيّنت لك ، قال : ويجوز أن يتّصل بقوله : (وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٩ ، النساء : ٧٧] ا ه ، وقد مضى ردّه.

الثامن : قول ابن حبيب : إن (بِسْمِ اللهِ) [الفاتحة : ١] خبر ، و (الْحَمْدُ)

__________________

(١) البيت من بحر الرجز ، وفي الجمل في النحو ص ٢١٨ ، وشرح ابن عقيل ٤ / ٣٦.

(٢) تقدم تخريجه.

٤٣٧

[الفاتحة : ٢] متبدأ ، و «لله» حال ، والصواب أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مبتدأ وخبر ، و «بسم الله» على ما تقدّم في إعرابها.

التاسع : قول بعضهم إن أصل «بسم» كسر السين أو ضمّها على لغة من قال : «سمّ» أو «سمّ» ، ثم سكّنت السين ؛ لئلا يتوالى كسرات ، أو لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم ؛ والأولى قول الجماعة : إن السّكون أصل ، وهي لغة الأكثرين ، وهم الذين يبتدئون اسما بهمز الوصل.

العاشر : قول بعضهم في الرحيم من البسملة : إنه وصل بنيّة الوقف ، فالتقى ساكنان : الميم ولام الحمد ، فكسرت الميم لالتقائهما. وممن جوّز ذلك ابن عطية ؛ ونظير هذا قول جماعة منهم المبرد : إن حركة راء «أكبر» من قول المؤذن «الله أكبر ، الله أكبر» فتحة ، وإنه وصل بنيّة الوقف ؛ ثم اختلفوا ، فقيل : هي حركة الساكنين ، وإنما لم يكسروا حفظا لتفخيم اللام كما في (الم (١) اللهُ) [آل عمران : ١ ـ ٢] وقيل : هي حركة الهمزة نقلت. وكلّ هذا خروج عن الظاهر لغير داع ، والصواب أن كسرة الميم إعرابيّة ، وأن حركة الراء ضمة إعرابيّة ، وليس لهمزة الوصل ثبوت في الدّرج فتنقل حركتها إلا في ندور.

الحادي عشر : قول الجماعة في قوله تعالى : (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) [سبأ : ١٤] : إن فيه حذف مضافين ، والمعنى : علمت ضعفاء الجنّ أن لو كان رؤساؤهم ، وهذا معنى حسن ؛ إلا أنّ فيه دعوى حذف مضافين لم يظهر الدليل عليهما ؛ والأولى أنّ (تبين) بمعنى «وضح» ؛ و «أن» وصلتها بدل اشتمال من «الجنّ» ، أي : وضح للناس أن الجن لو كانوا إلخ.

الثاني عشر : قول بعضهم في (عَيْناً فِيها تُسَمَّى) [الإنسان : ١٨] : إن الوقف على (تُسَمَّى) هنا ، أي : عينا مسماة معروفة ، وإن (سَلْسَبِيلاً) جملة أمرية أي : اسأل طريقا موصّلة إليها ؛ ودون هذا في البعد قول آخر : إنه علم مركب كـ «تأبط شرّا» ؛ والأظهر أنه اسم مفرد مبالغة في السلسال ، كما أن السلسال مبالغة في السّلس ؛ ثم يحتمل أنه نكرة ، ويحتمل أنه علم منقول وصرف لأنه اسم لماء ؛ وتقدم ذكر العين لا يوجب تأنيثه ، كما تقول : «هذه واسط» بالصّرف ؛ ويبعد أن يقال : صرف للتناسب كـ (قَوارِيرَا) [الإنسان : ١٥ ـ ١٦] لاتفاقهم على صرفه.

الثالث عشر : قول مكي وغيره في قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ

٤٣٨

أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [طه : ١٣١] : إن «زهرة» حال من الهاء في «به» ، أو من «ما» ، وإن التنوين حذف للساكنين مثل قوله [من المتقارب] :

٧١٩ ـ [فألفيته غير مستعتب]

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

وإن جرّ «الحياة» على أنه بدل من «ما» ، والصّواب أن (زَهْرَةَ) مفعول بتقدير : جعلنا لهم أو آتيناهم ؛ ودليل ذلك ذكر التمتيع ؛ أو بتقدير «أذمّ» ، لأن المقام يقتضيه ؛ أو بتقدير «أعني» بيانا لـ «ما» أو للضمير ، أو بدل من «أزواج» ، إما بتقدير «ذوي زهرة» ، أو على أنهم جعلوا نفس الزهرة مجازا للمبالغة ؛ وقال الفرّاء : هو تمييز لـ «ما» أو للهاء ، وهذا على مذهب الكوفيين في تعريف التمييز ؛ وقيل : بدل من «ما» ، وردّ بأن (لِنَفْتِنَهُمْ) [طه : ١٣١] من صلة (مَتَّعْنا) فيلزم الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي ، وبأن الموصول لا يتبع قبل كمال صلته ، وبأنه لا يقال : «مررت بزيد أخاك» على البدل ، لأن العامل في المبدل منه لا يتوجّه إليه بنفسه ؛ وقيل : من الهاء ، وفيه ما ذكر ، وزيادة الإبدال من العائد ، وبعضهم يمنعه بناء على أن المبدل منه في نيّة الطّرح فيبقى الموصول بلا عائد في التقدير ؛ وقد مرّ أنّ الزمخشري منع في (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة : ١١٧] أن يكون بدلا من الهاء في (أَمَرْتَنِي بِهِ) ورددناه عليه ؛ ولو لزم إعطاء منويّ الطّرح حكم المطروح لزم إعطاء منويّ التأخير حكم المؤخّر ، فكان يمتنع «ضرب زيدا غلامه» ، ويردّ ذلك قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] والإجماع على جوازه.

تنبيه ـ وقد يكون الموضع لا يتخرّج إلّا على وجه مرجوح ، فلا حرج على مخرجه ، كقراءة ابن عامر وعاصم (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨] فقيل : الفعل ماض مبني للمفعول ، وفيه ضعف من جهات : إسكان آخر الماضي ، وإنابة ضمير المصدر مع أنه مفهوم من الفعل ، وإنابة غير المفعول به مع وجوده ؛ وقيل : مضارع أصله : «ننجي» بسكون ثانية ، وفيه ضعف ، لأن النون عند الجميع تخفى ولا تدغم ؛ وقد زعم قول أنها أدغمت فيها قليلا وأن منه «أترجّ» و «إجّاصة» و «إجّانة» ؛ وقيل : مضارع وأصله : «ننجّي» بفتح ثانية وتشديد ثالثة ، ثم حذفت النون الثانية ؛ ويضعفه أنه لا يجوز في مضارع «نبّأت» و «نقّبت» و «نزّلت» ونحوهنّ إذا ابتدأت بالنون أن تحذف النون الثانية إلا في ندور كقراءة بعضهم : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥].

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ٥٤ ، والأغاني ١٢ / ٣١٥ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٢٠٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٧٤ ، والدرر ٦ / ٢٨٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٣٣.

٤٣٩

الجهة الخامسة : أن يترك بعض ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة. ولنورد مسائل من ذلك ليتمرن بها الطالب مرتّبة على الأبواب ليسهل كشفها.

باب المبتدأ

مسألة ـ يجوز في الضّمير المنفصل من نحو : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٢٧ ، وآل عمران : ٣٥] ثلاثة أوجه : الفصل وهو أرجحها : والابتداء وهو أضعفها ، ويختصّ بلغة تميم ، والتوكيد.

مسألة ـ يجوز في الاسم المفتتح به من نحو قولك : «هذا أكرمته» الابتداء والمفعوليّة ، ومثله «كم رجل لقيته» ، و «من أكرمته» ، لكن في هاتين يقدّر الفعل مؤخّرا ، ومثلهما «ربّ رجل صالح لقيته».

مسألة ـ يجوز في المرفوع من نحو : «أفي الله شكّ» ، و «ما في الدّار زيد» ، الابتدائيّة والفاعليّة ، وهي أرجح لأن الأصل عدم التّقديم والتأخير ، ومثله كلمتا (غُرَفٌ) في سورةالزمر ؛ لأن الظرف الأول معتمد على المخبر عنه ، والثاني على الموصوف ؛ إذ «الغرف» الأولى موصوفة بما بعدها. وكذا «نار» في قول الخنساء [من البسيط] :

٧٢٠ ـ [وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به]

كأنّه علم في رأسه نار (١)

ومثله الاسم التالي للوصف في نحو : «زيد قائم أبوه» ، و «أقائم زيد» لما ذكرنا ، ولأن «الأب» إذا قدّر فاعلا كان خبر «زيد» مفردا ، وهو الأصل في الخبر ؛ ومثله (ظُلُماتٌ) من قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ) [البقرة : ١٩] لأنّ الأصل في الصّفة الإفراد ؛ فإن قلت : «أقائم أنت» فكذلك عند البصريين ، وأوجب الكوفيّون في ذلك ، الابتدائيّة ، ووافقهم ابن الحاجب ، ووهم إذ نقل في أماليه الإجماع على ذلك ؛ وحجّتهم أن المضمر المرتفع بالفعل لا يجاوره منفصلا عنه ؛ لا يقال : «قام أنا» ؛ والواجب أنه إنما انفصل مع الوصف لئلّا يجهل معناه ، لأنه يكون معه مستترا ، بخلافه مع الفعل فإنه يكون بارزا كـ «قمت» أو «قمت» ؛ ولأن طلب الوصف لمعموله دون طلب الفعل ؛ فلذلك احتمل معه الفصل ؛ ولأنّ المرفوع بالوصف سدّ في اللفظ مسدّ واجب

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للخنساء في ديوانها ص ٣٨٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٤٨ ، وتاج العروس ١٠ / ٢٩٢ مادة / صخر /.

٤٤٠