خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

الدكتور عفيف دمشقيّة

خطى متعثّرة على طريق تجديد النحو العربي

المؤلف:

الدكتور عفيف دمشقيّة


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣

الاسم مناب الظرف ، الأمر الذي يفضي منطقيا إلى غياب ذلك الظرف. فكيف يغيب الظرف ثم تحلّ محله «الواو» التي هي بمعناه ، والاسم المنصوب في آن واحد؟

ولعل هذا يهون إذا علمنا أن الأخفش الذي كان يتأرجح بين التشبّث بفكرة «العامل» التي ورثها عن أساتذة مدرسته ، ومحاولة التخلص منها والأخذ بالمنهج الوصفي في تعليل الظواهر اللغوية ، وقف حائرا أمام ظاهرة «المفعول معه». فالمفروض ـ حسب نظرية «العامل» ـ أن ينتصب الاسم بالفعل ، وأن يكون ذلك الفعل «متعديا» لينصب. والفعل في الصيغة الوارد فيها المفعول معه لازم دائما. وإذا حدث أن جاء متعديا ـ كما في قولنا مثلا «عاقبت زيدا وعمرا» ـ فالواو تكون «عاطفة» كما هي في أصل الوضع ، لا بمعنى «مع». فما العمل؟

لقد رأى الأخفش معاصره ـ أو أستاذه ـ

ثالثا ـ في القياس :

وقف الأخفش من مسألة «القياس» موقفين متناقضين.

٤١

سيبويه يحتال إلى ذلك بأنه وإن كان الفعل لازما إلّا أن المفعول معه «كالمفعول به في المعنى» ، فلم يرتح إلى رأيه ، وعمد إلى حيلة أخرى وجدها تحفظ له فكرة «العامل» من جهة ، وتحفظ للغة منطقها ، من جهة أخرى : إنه ما دام لا شيء يمنع عمل الفعل النصب في الظرف ، وإن كان هذا الفعل لازما ـ (نمت ليلا ـ خرجت صباحا) الخ ... ـ فليكن معمول الفعل اللازم في «جاء البرد والطيالسة» ظرفا ، وليغب هذا الظرف (الذي حلت محله «الواو» في اللفظ فقط) ، وليحلّ محلّه الاسم المنصوب الواقع بعد «الواو» في وقوع الفعل عليه وكونه معمول الفعل. [خرّج نصب المفعول معه تخريجات عدة ذكرها صاحب الانصاف في المائدة ٣٠]

فبينما نراه أحيانا يتشدّد في ضرورة القياس على المسموع من كلام العرب ، حتى وإن لم يكن فاشيا شائعا أو مما تعتدّ به مدرسته البصرية ، نجده من ناحية أخرى يتساهل فيه إلى درجة السماح به حتى من غير سماع ، أو يمنعه حتى وإن ورد به سماع من عربي فصيح. وهو إذا كان في موقفه الأول

٤٢

أقرب إلى منطق اللغة وطبيعتها ، فإنه أشد تمسكا في موقفه. الثاني بالمنطق الذي طبع الدرس النحوي منذ فجر حياته. وإذا نحن ضربنا صفحا هنا عن الشق الأول من القياس «الأخفشي» لإيماننا بأن اللغة «استعمال» ـ أي سماع ـ قبل أن تكون «منطقا» رياضيا وفلسفيا ، فإنه لا يسعنا السكوت عن الشق الثاني منه ، لما جرّه في رأينا على الدرس النحوي من تعقيدات كان في غنى عنها. وإليك بعض الأمثلة :

* أجاز الأخفش توكيد الفعل بمصدر مؤول من «أن» والفعل ، رغم عدم ورود السماع بذلك. فقد سمح للمتكلم أن يقول مثلا : «ضربت زيدا أن ضربت» ، والتقدير : «ضربت زيدا ضربا».

والحق أننا لا ندري ما الداعي إلى هذا التمحّل ـ ما دام في اللغة مصدر صريح مؤكد للفعل : «ضربا» ـ إلّا أن يكون الأخفش قد طبّق القياس العقلي الذي يعمم الجزء على الكل طردا وعكسا. فبما أنّ «أن ضربت» يسبك بـ «ضرب» ، فلا بدّ أن يفكّك «ضرب» إلى «أن ضربت». وعلى هذا الأساس نحلّ «ضربته أن ضربت» محل «ضربته

٤٣

ضربا» ، وتكون جملة «أن ضربت» مفعولا مطلقا مؤكدا لفعله.

وإذا كان المنطق الرياضي يقبل مثل هذه المعادلة ، فإن منطق اللغة يأباها ولا شك ، وإلّا لكان جرى مثل «ضربته أن ضربت» في الاستعمال ولو مرة ، إذا لم نقل شاع وفشا على لسان كل عربي.

* من إجازات الأخفش تثنية التوكيدين اللفظيين «أجمع» ، و «جمعاء» ، فتقول «جاء الزيدان أجمعان» ، و «جاءت الهندان جمعاوان» ، لا لسبب على ما يبدو سوى أن هذين الاسمين واقعان على وزن (أفعل) و (فعلاء) ، وأن كل (أفعل) و (فعلاء) يثنّى.

وفي اعتقادنا أن الذي دفع الأخفش إلى ركوب هذا الشطط تركه منطق اللغة إلى منطق القياس متغاضيا عن أمور ثلاثة :

١ ـ إن واضع اللغة أعدّ لتوكيد المثنى ثلاثة الفاظ هي : (كلا) و (كلتا) و (أنفسهما) ، ولم ير ضرورة لمزيد.

٤٤

٢ ـ إن لفظتي (أجمع) و (جمعاء) ، وإن كانتا مفردتين في صيغتهما ، إلّا أنهما «جمع» في معناهما ، ومن ثمّ لم يكن من الجائز توكيد الاثنين بلفظ أعدّ لثلاثة فأكثر. ولو كان قياس الأخفش صحيحا لجاز للمتكلم في المقابل أن يقول «جاء زيد أجمع» ، و «جاءت هند جمعاء» ، ما دام يستخدم لفظا مفردا تجوز تثنيته.

٣ ـ إن الاستعمال اللغوي لم يجر مثلا بتثنية لفظة (نفس) المؤكّدة ، وأنما جرى عند التوكيد بجمعها ملحقة بضمير الاثنين ، فيقال «جاء الزيدان أنفسهما» و «جاءت الهندان أنفسهما». ولو كان القياس أصحّ وأقوى من الاستعمال ، لكان واجبا أن يقال «جاء الزيدان ـ أو الهندان ـ نفساهما» ، وهذا ما لم يسمع من عربي على ما نظن.

* أباح الاستعمال اللغوي تعدية فعلين من أفعال القلوب هما (رأى) و (علم) بالهمزة ، فيقال «أريتك الأمر واضحا» ، و «أعلمتك الخبر صحيحا». وذهب الأخفش إلى جواز تعدية جميع أفعال الباب قياسا

٤٥

على (رأى) و (علم) ، بالرغم من انتفاء ذلك في الاستعمال.

وقد أحسن المازني (هو أبو عثمان بكر بن محمد المتوفى عام ٢٣٦ ه‍) حين ردّ قياس الأخفش بقوله إن العرب استغنت عن «أظننت عمرا زيدا عاقلا» بـ «جعلته يظنّه عاقلا» (١) ، تمشّيا منه مع روح اللغة التي تقدّم الاستعمال على كل منطق.

* ورد دخول (ليت) على (أنّ) ومعموليها ، كما في «ليت أنك عندي» ، فذهب النحاة إلى أن الكلام المؤلف من (أنّ) ومعموليها سادّ مسدّ جزئي (ليت) ، أي اسمها وخبرها. وطرد الأخفش القياس على (ليت) في (لعلّ) و (كأنّ) و (لكنّ) ، فيقال «لعلّ أنك منطلق» ، و «كأنّ أنك منطلق» ، و «لكنّ أنك منطلق» ، من غير ما سماع ، الأمر الذي دفع الجرمي (هو ابو عمر صالح بن إسحاق البجلي المتوفى عام ٢٢٥ ه‍) إلى القول بأن «هذا رديء في القياس لأن هذه الحروف إنما تعمل في المبتدأ و (أنّ) لا يبتدأ بها» (٢).

__________________

(١) الخصائص ، ١ / ٢٧١.

(٢) همع الهوامع ، ١ / ١٣٥.

٤٦

ونميل نحن إلى الظن بأنه ليس ما يدعو إلى تقدير معمولين لـ (ليت) في مثل الصيغة المذكورة أعلاه ، وإنما يكتفى بالقول أن (ليت) دخلت على جملة (أنك عندي) لإفادة معنى التمني لأمر يؤكد المتكلم رغبته في تحقيقه ، وهذا ما لا توفره له الصيغة الأخرى ، أي (ليتك عندي) ، التي تقتصر على مجرد تمني الأمر دون إشعار المخاطب بتوكيد ذلك التمني.

وإذا كانت اللغة تبيح مثل تلك الصيغة ، فلأنها تنسجم مع طبيعتها ومنطقها. وأما طرد القياس على (ليت) في (لعلّ) و (كأنّ) و (لكنّ) فيتعارض مع المنطق وتلك الطبيعة للأسباب التالية :

١ ـ تفيد (لعلّ) الترجّي كما هو معلوم. ويقع الترجّي على الأمور المشكوك في تحقّقها. فكيف يعقل والحالة هذه أن يدخلها المتكلم على أمر أكّده بـ (أنّ)؟

٢ ـ تفيد (كأنّ) التشبيه من ناحية والتوهّم من ناحية ثانية ، ولا يعقل أن يكون المتكلم واهما في أمر لجأ إلى تأكيده بنفسه. (لا ننس أن نشير إلى أن (كأن) في مثل «كأن أنك عندي» ـ إن

٤٧

صحت ـ تفيد التوهم لا التشبيه).

٣ ـ المعروف أن المتكلم يستخدم (لكنّ) لإثبات معنى مخالف لمعنى أفاده كلام سابق وتوكيده ، وهو ما يسميه النحاة «الاستدراك». ولا نظن هذا المتكلم بحاجة إلى استخدام مؤكدين ـ (لكنّ) و (أنّ) ـ وهو يقرّر أمرين متناقضين. فهو لا يقول مثلا «زيد غنيّ ، لكنّ أنّ أخاه فقير» ، بل يكتفي بالقول «زيد غني ، لكن أخاه فقير». وإذا ما رغب في إبراز التناقض بين غنى زيد وفقر أخيه ، ولفت انتباه المخاطب إلى هذا التناقض ، فلن يعدم وسيلة تتيحها له اللغة بمعزل عن «القياس» النحوي ، كأن يقول مثلا : «زيد غني ، أما أخوه ففقير» ، أو : «زيد غني ، أما أخوه فإنه فقير» إذا أراد إبراز التناقض بشكل آكد وأصرخ.

* أجاز الأخفش زيادة باء الجر في الكلام الموجب كما تزاد في الكلام المنفي. ومثلما نقول «ليس فلان بأهل لهذا» ، يكون في الإمكان أن نقول «زيد بقائم» (١).

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ١٢٧.

٤٨

ويبدو أنه قال بهذا قياسا على ما في الآية ٢٧ من سورة يونس : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) على أساس أن المبتدأ (جزاء) خبره (مثلها) ، وأنه زيدت فيه (الباء) ، بينما ذهب جمهور النحاة إلى أن الخبر محذوف مقدّر بـ (واقع) ، وأن تأويل الآية (جزاء سيّئة واقع بمثلها) (١) ، أو (جزاء سيئة بمثلها واقع) ، على أن تكون الباء من صلة المصدر (جزاء) (٢).

وأجاز كذلك زيادتها في غير هذا الموضع :

ـ فهي تزاد عنده على خبر (أنّ) ، كما في قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الاحقاف / ٣٣] ، قياسا على زيادتها في فاعل (كفى) ، كما في (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء / ٧٩ و ١٦٦] ، وفي المفعول به ، كما في (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون / ٢٠].

ـ وتزاد في مثل : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة / ١٩٥] ، و (هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٢٧.

(٢) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٦٩.

٤٩

النَّخْلَةِ) [مريم / ٢٥] ، و «ضرب (بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) [الحديد / ١٣] ، وقولهم (زوّجتك بفلانة).

ولا بد قبل مناقشة آراء الأخفش من المسارعة إلى التذكير بأن من منطلقات النحاة الفادحة الخطأ فكرة «الزيادة» في الكلام. فلقد جرّهم إليها في اعتقادنا (ميكانيكية الإعراب) المستندة أولا وأخيرا إلى فكرة «العامل». فـ (ليس) مثلا ترفع اسما وتنصب خبرا. وإذا جاء خبرها مقترنا بالباء فهو ، لا مندوحة ، مجرور لفظا ـ على أساس أن (الباء) من العوامل اللفظية التي لا بد من ظهور عملها في ما بعدها ـ منصوب محلا ـ على أساس عمل (ليس) النصب في الأحوال العادية. وإذ كان محالا في نظرهم أن يجتمع عاملان على معمول واحد ، فلا بد أن يكون أحدهما طارئا أو (زائدا). ولما كان من غير المعقول أن تكون (ليس) هي الزائدة ـ لأن الكلام لا يستقيم بدونها ـ فلتكن الباء هي الزائدة ، بغضّ النظر عما يقول به البلاغيون من زيادة المعنى لزيادة المبنى ، ومن دون إقامة وزن لإرادة المتكلم زيادة (الباء) في خبر (ليس) لغرض إبلاغي هو توكيد نفي صفة معيّنة (لا يفوتنا أن نشير إلى أن ما يعتبره النحاة خبرا لا يخرج عن كونه صفة) عن الاسم

٥٠

الموصوف. فهو حين يقول : «ليس فلان بأهل لهذا» يريد قطع كل احتمال لأهلية الرجل ، وهذا ما لا توفرّه الصيغة التقريرية : «ليس فلان أهلا لهذا».

وبعد ، فإن المرء ليستغرب أن يجنح عقل كعقل الأخفش إلى التغاضي عن ذلك كله فيجيز للمتكلم صيغة لا تخدم أي غرض إبلاغي. إذ ما الذي يدفعه إلى أن يقول «زيد بقائم»؟ إذا كان إرادة التوكيد ، فقد أتاحت له اللغة أكثر من وسيلة إلى ذلك :

ـ لزيد قائم.

ـ إن زيدا قائم.

ـ إن زيدا لقائم.

ـ إنما زيد قائم. الخ ...

وأما قياسه «زيد بقائم» على «جزاء سيئة بمثلها» فبعيد كل البعد ، لأن الباء في الصيغة الأخيرة ملازمة للفعل (جزى) ، ومزيده (جازى) ، لإقامة معادلة بين الجزاء والمجزيّ عليه. فالجزاء على (السيئة) يكون بـ (السيئة) ، وعلى (الحسنة) بـ (الحسنة). وقد جاء في الآية ١٧ من سورة سبأ : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) ، فهل (الباء) فيها زائدة؟ وليس من التجديف على اللغة ، ولا على قدسية الإعراب ، اعتبار

٥١

(بمثلها) خبرا للمبتدأ ، وعدم تقدير خبر ـ مثل (واقع) أو (كائن) ـ كما ذهب إليه الجمهور. هذا إذا صح أن (جزاء سيئة بمثلها) جملة مستقلة جاءت اعتراضا ، كما يقول صاحب «إعراب القرآن» (١). ففي رأينا أن (جزاء) مبتدأ ، ولكنه مبتدأ مؤخر خبره (الذين) في أول الآية بتقدير (وللذين) التي جاءت معطوفة على (للذين) في رأس الآية السابقة ، ونصها : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ودليلنا على ذلك ما في جو الآيتين العام من مقابلة بين الإحسان والإساءة ، علما بأن تمام الآية الأخرى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ومما لا شك فيه أن المعربين وجدوا في الآية الأخيرة ما يصلح لأن يكون خبرا لمبتدأ من مثل : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أو (كأنما أغشيت) أو (أولئك أصحاب) فاعتبروا (جزاء سيئة بمثلها) معترضا بين المبتدأ وخبره ، وذهبوا إلى أن (الذين كسبوا) مبتدأ ، بينما غالى بعضهم الآخر فذهب إلى أن (جزاء سيئة بمثلها)

__________________

(١) اعراب القرآن ، ٢ / ٦٤٣.

٥٢

هو خبر لذلك المبتدأ (١) ، وبقيت المشكلة قائمة على أن (جزاء) مبتدأ يجب البحث عن خبره ، وكان ذلك التشعيب بين أن يكون الخبر مقدرا بـ (واقع) ، أو (كائن) ، أو أن يكون (مثلها) مجرورا لفظا بباء زائدة كما قال الأخفش ، وكلا الأمرين مرّ ، وإن كان ما ذهب إليه هذا الأخير أشدهما مرارة ، لأنه أكثرهما تعقيدا.

وأما فيما يخص زيادة (الباء) في غير هذا الموضع فنقول :

١ ـ دخلت الباء على خبر (أنّ) في الآية ٣٣ من الاحقاف : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ ...) «لما اتصل بالنفي ، ولو لا ذلك لم يجز» (٢) ، أي أن قوله (أَوَلَمْ) ... (بِقادِرٍ) مقابل في معناه لـ «أليس الله بقادر». وعلى هذا الأساس لا تكون (الباء) مزيدة في خبر (أن) ، وإلّا لكان المتكلم بالخيار في زيادتها في كل صيغة مصدرة بهذا «الحرف المشبه بالفعل» ، كما يشتمّ من قياس الأخفش.

__________________

(١) إملاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ١٥.

(٢) نفسه ، ص ١٢٦.

٥٣

٢ ـ إن قياس الأخفش زيادة الباء في خبر (أن) على زيادتها في فاعل (كفى) : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) ، ومفعول (تنبت) : «تنبت بالدهن» ، لا وجه له للأسباب التالية :

أـ إن صيغة «كفى به» يجب أن تسلك في عداد صيغ «التعجب» أو «المدح» من مثل «أكرم به» و «لله دره» وغير ذلك ، بدليل حاجتها إلى منصوب ليتم معناها ، وإلّا لكان تمّ بدونه : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [النساء / ٦ ، الأحزاب / ٣٩] ، (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) [النساء / ٥٥] ، وبدليل قولهم : (مررت برجل كفاك به) و (مررت برجلين كفاك بهما) ، و (مررت برجال كفاك بهم) (١) ، فتبقي الفعل في حال الإفراد ، كما في (أكرم به) و (أكرم بهما) ، و (أكرم بهم). وأما قول سحيم :

عميرة ودع إن تجهزّت غاديا

كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا

__________________

(١) اعراب القرآن ، ٢ / ٦٧٠.

٥٤

الذي يتخذ منه النحاة دليلا على صراحة فاعل (كفى) من غير زيادة الباء ، فليس في رأينا كذلك ، وإنما هو من قبيل حض الشاعر نفسه على الكف عن غزل النساء بسبب شيبه ، من ناحية ، ودخوله الإسلام الذي ينهى المرء عن هذا ، من ناحية أخرى. وهنا يكون المعنى أن الشاعر سمع صوت وجدانه يأمره بتوديع «عميرة» فتساءل : ولم أودّعها ، فأجابه الصوت بأنه يكفيك سببا أن يكون الشيب والإسلام قد نهياك عن غشيانها.

ب ـ إنه يجب درس الفعل (نبت) دراسة دلالية على ضوء الاستعمال ، قبل التقرير بزيادة الباء في مفعوله ، كما فعل الأخفش بالنسبة إلى «تنبت بالدهن» :

ـ يستخدم «نبت» بصيغة الفعل اللازم لتقرير ظهور النبات : (نبت القمح) ، لأن أصل معنى النبات الظهور.

ـ يستخدم بصيغة الفعل المتعدي بالهمزة (أنبت)

٥٥

لتقرير إظهار النبات : (أنبتت الأرض القمح).

يستخدم لازما بصيغة المتعدي بالهمزة : «أنبت المكان» بمعنى ظهر نبتة.

وقد قرئت الآية بصيغتي الفعل ، لازما ومتعديا ، وخرّجت نحويا كما يلي :

أولا ـ بصيغة اللازم الثلاثي (نبت):

ـ تكون (الباء) حالا ، أي «تنبت مدهنة».

ـ تكون مفعولا لأجله ، أي «تنبت بسبب الدهن».

ثانيا ـ بصيغة المتعدي الرباعي (أنبت):

ـ المفعول محذوف ، تقديره : «تنبت ثمرها ـ أو جناها» والباء على هذا حال من المحذوف ، أي «وفيه الدهن».

ـ الباء زائدة فلا مفعول ، بل المفعول (الدهن).

٥٦

ثالثا ـ بصيغة المتعدي بالهمزة بمعنى اللازم (أنبت) ، والوجه فيها كما في صيغة المتعدي الرباعي (١).

وإذا نحن استثنينا الصيغة الأولى ـ صيغة الفعل اللازم ـ لأن ليس فيها وجه لزيادة (الباء) ، ولأن في أول الآية ما يدل على الظهور الذي يفيده الفعل (نبت) الثلاثي ، أو (أنبت) الرباعي اللازم ، وهو قوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) ، ثم استثنينا الصيغة الأخيرة ، صيغة الرباعي اللازم ، لأن تخريج الحالية فيها ـ وهو على غرار (خرج زيد بثيابه) ـ ليس واردا في حساب الأخفش ، لم يبق أمامنا سوى التخريج الثاني من الصيغة الثانية.

بقي أنه لم يقع في حساب الأخفش أن يكون الفعل اللازم (أنبت المكان) مما يميّز بواسطة (الباء) كما في قولنا «امتلأت الخزاتة كتبا ـ أو بالكتب» ، وأنه من الممكن القول «أنبت المكان بالقمح» بدلا من أنبت المكان قمحا» باعتبار (القمح) في هذه الصيغة تمييزا لا مفعولا ، وأن تكون هذه (الباء) دالة على وفرة المحصول ، وهي لطيفة معنوية لا توفرها صيغة التمييز العادية.

__________________

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٨١.

٥٧

وإننا لنميل إلى الاعتقاد بأن هذا ما قصد إليه في (تنبت بالدهن) سواء قرئت بصيغة الثلاثي اللازم أو الرباعي الذي هو في معناه ، وأن (الدهن) و (الصبغ) الذي بعده إنما استعملا مجازا للدلالة على الثمر الذي حفلت به تلك الشجرة ، ويكون تأويل الكلام (وشجرة تخرج من طور سيناء «نابتة» ـ أو «منبتة» ـ [بمعنى مثقلة] بالثمار الحافلة بالخير للآكلين) ، ويكون القول بزيادة (الباء) في المفعول به خطأ قادت إليه ميكانيكية الإعراب.

ج ـ يأتي الفعل (ألقى) متعديا بغير واسطة ، حين يراد به مجرد تقرير الرمي والطرح ، كما في «ألقيت القلم من يدي». أما إذا أراد المتكلم التعبير عن فكرة (التخلّص) من القلم ، لأنه ناءبه لكثرة ما كتب ، أو لأنه عجز عن الاهتداء إلى الفكرة ، فإنه يلجأ إلى تقوية الفعل المتعدي بمعدّ آخر (الباء) ، فيقول : «ألقيت بالقلم». كذلك فإن هذه (الباء) المضافة إلى الفعل (ألقى) قد تفيد معنى الاقتحام ، كما في قولنا «ألقيت بنفسي في خضم كذا ، أو في معمعان كذا». وهنا نشير إلى أن المراد بالآية إلقاء الناس

٥٨

بأنفسهم إلى التهلكة بملء إرادتهم ، تلك الإرادة المتمثلة بقوله «بأيديكم». ولخشية الإثقال الناتج عن تكرار الباء في (أنفسكم) وفي (أيديكم) كان التجاوز عن الأولى التي يعتبر مثولها في ذهن المخاطب دون ذكرها من أعمدة الإيجاز البلاغي إلى الثانية التي شعّت ، إلى جانب إفادتها الاختيار المطلق ، ظلالا من المعاني تتضمّن الجزء المقدّر من العبارة : (بأنفسكم).

وقد لاحظ القدماء شيئا من هذا ، لكنهم ظلوا حبيسي فكرة «العامل» ، إذ قال صاحب «إعراب القرآن» في «باب ما جاء في التنزيل من الحروف الزائدة في تقدير ، وهي غير زائدة في تقدير آخر» :

«ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ،) إن شئت كانت الباء زائدة ، أي : لا تلقوا أيديكم ، وعبّر بالأيدي عن الذوات. وإن شئت كان التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، و «ألقى» فعل متعدّ ، بدليل قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ

٥٩

بِكُمْ) [النحل / ١٥]» (١).

وإذا أمعنّا النظر فيما قلناه أعلاه تبيّن أنه يستحيل أن تكون (الباء) زائدة ، وأنه لا مجال للتأويل الذي ذهب إليه الأخفش وارتضاه النحاة ، ومنهم صاحب «إعراب القرآن» ، ومفاده (لا تلقوا أيديكم) ، بمعنى (لا تلقوا أنفسكم) ، إذ لا ضرورة إبلاغية لاستعمال الجزء في موضع الكل ، ولا شيء يمنع من التصريح بدل التلميح. و (الباء) لصيقة بـ (أيديكم) ، ولا يمكن الاستغناء عنها لأنها تفيد معنى الوساطة من جهة ، أي (بوساطة أيديكم) ، أي (بملء إرادتكم) ، وتتضمن من جهة ثانية تقوية الفعل (ألقى) لإفادة معنى التخلّص.

د ـ جاء في تقدير (الباء) في «وهزي إليك بجذع النخلة» ما يلي :

١ ـ (الباء) زائدة (٢) ، أي (أميلي إليك) (٣).

__________________

(١) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٦٧.

(٢) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٧١.

(٣) إملاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٦٢.

٦٠